Wednesday, February 28, 2007

لا محل للتردد العربي بعد اتفاق مكة

فهمي هويدي ــ الشرق الأوسط
اذا كانت واشنطن تراهن على فشل تشكيل حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية، فلماذا لا يتحرك العالم العربي لإنجاح التجربة، وإذا كانت «الرباعية» تنتظر تشكيل الحكومة لتحدد موقفها منها، فمن واجب العالم العربي الا ينتظر دوره، وإنما يتعين عليه تبني «تسويق» اتفاق مكة، وان يعتبره خطوة ليس فقط باتجاه وقف نزيف الدم الفلسطيني، وإنما ايضا باتجاه رفع الحصار الظالم، على الأقل من جانب الدول العربية.
لم يعد سرا ان واشنطن وتل ابيب تضغطان بشدة على أبو مازن لإفشال حكومة الوحدة الوطنية والتراجع عن اتفاق مكة. وهذا ما عبرت عنه الاذاعة العبرية في بثها يوم 21/2/2007 ، اذ نقلت عن مصادر محيطة بوزيرة الخارجية الامريكية قولها ان السيدة رايس عاقدة العزم على استغلال كل لحظة وكل فرصة من أجل ثني ابو مازن عن تطبيق اتفاق مكة، كذلك لم يعد سرا ان بعض الاطراف الفلسطينية في الداخل لم تكن سعيدة بالاتفاق. وهي ذاتها التي رفضت الاشتراك في الحكومة منذ اللحظات الاولى التي اعقبت ظهور النتائج الاولية للانتخابات في العام الماضي. كما انها ذاتها التي حرصت على افتعال الازمات وتأجيج الفلتان الامني طيلة العام المنصرم، ولكن في حين يئست تلك العناصر الاخيرة من المراهنة على اسقاط الحكومة، الامر الذي دفعها في النهاية الى القبول باتفاق مكة (حتى اشعار آخر على الاقل)، فالشاهد ان الادارة الامريكية ومن ورائها الحكومة الاسرائيلية، نفسهما اطول، وهما لن يكفا عن السعي لإجهاض فكرة حكومة الوحدة الوطنية، او على الاقل لمواصلة حصارها والضغط عليها بكل السبل اذا لم تستجب للطلبات الاسرائيلية، وهنا تبرز أهمية الدور العربي الواجب سواء في مساندة ابو مازن في التزامه بالاتفاق أو في تشجيع الفصائل الفلسطينية على التمسك بالمشاركة في الحكومة الجديدة، أو في اقتناع الرباعية بأهمية التعاون مع تلك الحكومة، او اقتناع واشنطن بواسطة اصدقائها «المعتدلين» في العالم العربي ان لم يكن بالتعامل مع الحكومة الفلسطينية، فبالكف عن ملاحقتها والتحريض عليها والإصرار على حصارها.
لقد حقق الفلسطينيون انجازا مهما. حين وافقوا على اعلان مكة، وفي تصريحات القيادات المختلفة التي سمعناها طيلة الايام الماضية فإنهم لم يكفوا عن التعبير عن الالتزام به والتمسك بحكومة الوحدة الوطنية، كما ادت المملكة العربية السعودية ما عليها، حين وجهت الدعوة الى قادة حركتي فتح وحماس للاجتماع في رحاب مكة المكرمة، واستثمرت علاقاتها القوية مع الجميع، كما استثمرت المرحلة الحرجة التي وصل اليها الطرفان، حيث ادرك كل منهما انه ليس امامه سوى ان يتوصل الى اتفاق مع الآخر، وظفت المملكة هذه العوامل، بتدخل شخصي من الملك عبد الله بن عبد العزيز لصالح إنجاح الوساطة والخروج بالاتفاق الذي فاجأ كثيرين، ومعلوماتي ان الولايات المتحدة ذاتها كانت من بين الذين فوجئوا بالإنجاز الذي تم، حيث كانت المراهنة الامريكية والإسرائيلية معقودة على فشل المحاولة، سواء بسبب التناقض بين المشروع السياسي لكل من فتح وحماس، او بسبب الاحتشاد الامريكي والدولي وراء ابو مازن وجماعته، الذين افترضوا انه يوفر لهم ثقة تشجعهم على التشدد في مواجهة قيادة حماس.
ما المطلوب الآن؟
الانتهاء من عملية تشكيل الحكومة بات ضرورة ملحة، لقطع الطريق على الذين يحلمون بإفشالها، ولكي يوضع الجميع امام الامر الواقع، خصوصا دول الاتحاد الاوروبي، ومعلوماتي في هذا الصدد ان امورا كثيرة حلت في عملية التشكيل، بما فيها منصب نائب رئيس الوزراء، الذي اتفق على ان يكون من الضفة الغربية، واقوى المرشحين حتى الآن هو السيد سلام فياض الذي اختاره ابو مازن ليكون وزيرا للمالية في الحكومة الجديدة، بالتالي فالشائعات التي اطلقت ورددتها بعض الصحف، متحدثة عن ترشيح محمد دحلان لهذا المنصب، لا اساس لها من الصحة، اولا لأن الخلاف حوله كبير حتى داخل فتح نفسها، فضلا عن حماس بطبيعة الحال، وثانيا لانه من غزة وليس من الضفة. أما الموقع الذي لا يزال محل جدل فهو منصب وزير الداخلية، الذي اتفق على ان ترشحه حماس ليوافق عليه ابو مازن، وقد رشحت احد الضباط الذي كان قد امضى حوالي عشر سنوات داخل صفوف فتح، ولكن ابو مازن لم يتحمس له، حسبما نقل مقربوه عنه، ولذلك فإن قيادة حركة حماس تبحث عن بديل عنه. وحسب مصادرها فإن الاتفاق حول شاغل المنصب لن يكون صعبا، لسبب جوهري هو ان ارادة التوافق قائمة على الجانبين، وبهذه الارادة يتم التفاهم الآن حول من يشغل منصب وزير الخارجية، الذي رشح له ابو مازن الدكتور زياد ابو عمرو عضو المجلس التشريعي الذي نجح في غزة بأصوات حماس، وكان اسمه على قائمة «التغيير والإصلاح» التي خاضت بها الحركة الانتخابات، ورغم انها شخصية مقبولة من حماس، الا ان قيادتها رشحت للمنصب الدكتور مصطفى البرغوثي عضو المجلس التشريعي عن كتلة فلسطين المستقلة، ولم يحسم الامر بعد، لكن المفهوم انه ليست هناك مشكلة حول الموضوع، وإنما هو تباين في الآراء فقط.
معلوماتي ايضا ان المشاورات حول التشكيل لم تتأثر برفض الجبهة الشعبية المشاركة في الحكومة، رغم الحرص على ضم ممثليها الى الفريق الحاكم، ولكن تمسك ممثلي الجبهة بالحصول على عدد اكبر من الحقائب، تفوق نسبة تمثيلهم في المجلس التشريعي التي لا تتجاوز 6 اعضاء، هذا الموقف تعذرت الاستجابة له كما قيل لي، فآثروا الانسحاب، الذي قيل في تبريره انه تم «لأسباب سياسية»، ولم يكن ذلك دقيقا، ومن المؤشرات الجيدة في هذا الصدد ان الانسحاب لم يخل بالعلاقات الايجابية لقيادة الجبهة مع قادة حماس وفتح، حيث ظلت جسور التفاهم بين الجميع موصولة، ولم تنقطع بسبب ذلك العارض.
ملف «الشراكة» لا يزال معلقا، ويتم التعامل معه بحذر شديد، اذ المعروف انه بعد اتفاق مكة تم تشكيل لجنة بهذا الاسم تتولى هذه المهمة تضم عضوين من حماس، واثنين آخرين من فتح، لكن مفهوم الشراكة لم يتم الاتفاق عليه بعد. فالاتجاه الغالب في فتح يرى انها مقصورة على التمثيل في الحكومة وفي المجلس التشريعي، في حين ان حماس تعتبرها شراكة في مختلف مؤسسات السلطة. وتتضح اهمية الفرق بين القراءتين اذا تذكرنا ان فتح ظلت تمارس السلطة منفردة منذ كانت، وعلى حد تعبير احد القيادات فإن الخيمة الفلسطينية ظلت طول الوقت معتمدة على «عامود» واحد تمثل في حركة فتح. ولكن نتائج الانتخابات التشريعية كشفت عن ان هذه الحقيقة التاريخية لم تعد قائمة، وان حماس ظهرت كقوة موازية عند الحد الادنى، الامر الذي فرض واقعا جديدا يتعين الاعتراف به، بمقتضاه اصبحت الخيمة الفلسطينية محمولة على عامودين وليس عمودا واحدا، ومصدر الخلاف في هذه المسألة يكمن في ان قيادات فتح تريد استمرار الوضع القديم، في حين ان قيادات حماس ترى ان ذلك الوضع يمثل واقعا تم تجاوزه وانتهى أمره.
تتجلى المشكلة في محيط القيادات الادارية التي جميعها لها مواقفها في تنظيم فتح، لكن المشكلة اكثر تعقيدا فيما يخص الأجهزة الأمنية، المغلقة تقريبا على عناصر التنظيم، الأمر الذي جعل ولاءهم له مقدما على اية ولاءات اخرى. وهو وضع اذا فهم في الماضي، وجرى احتماله لسبب أو آخر، فإن الوضع المستجد لم يعد يحتمله، الامر الذي دفع وزير الداخلية في الحكومة الحالية الى استحداث «قوة تنفيذية» أخرى يمكن ان تأتمر بأمره في حفظ النظام، خصوصا بعدما اثبتت التجربة ان الاجهزة الامنية التقليدية كان لها دورها الاساسي في إشاعة الفلتان الأمني في القطاع، الذي استهدف تعجيز الحكومة وإفشال خطواتها.
هذا الموضوع محل بحث مستفيض الآن بين أعضاء لجنة الشراكة، ويراهن البعض على أن الروح الايجابية التي أوصلت الجميع الى اتفاق مكة، كفيلة بالتعامل مع ملف الشراكة على نحو يوصل الى تفاهم معقول، يخدم الاستقرار ويؤمن مسيرته.
الدور العربي مطلوب في المشهد ايضا على مستويين، مستوى نجاح الاتفاق، ومستوى الدفاع عنه وتسويقه ـ كيف؟
ليس خافيا ان بعض الدول العربية لم تتدخل طوال العام الماضي لإصلاح ذات البين بين الفلسطينيين، وإنما انحازت الى الرئاسة ضد الحكومة، وعبرت عن انحيازها ذاك، اما بالتصريحات السياسية أو بالدعم المالي وأحيانا بتقديم السلاح وتدريب القوات، وهذا الانحياز، الذي تم في بعض الاحيان بالوكالة عن جهات أخرى، كان له أثره السلبي الذي ادى الى تعميق الفجوة بين الحركتين الكبيرتين، حيث انه اعطى انطباعا لبعض قيادات فتح بأن لهم ظهيرا عربيا يساندهم، إضافة الى الاطراف الدولية المعروفة، الأمر الذي ادى الى زيادة التشدد والمعاندة من جانبهم في رفض التفاهم مع حماس، على النحو الذي تابعه الجميع طيلة العام الماضي.
هذا الموقف المساند لأبو مازن في مواجهة حماس جرى اختراقه بنجاح وساطة المملكة السعودية، وهي الدولة التي ترتبط بعلاقة وثيقة مع الولايات المتحدة، الامر الذي يفترض ان يرفع الحرج عن الدول العربية الاخرى التي تصنف امريكيا بأنها «معتدلة». ذلك ان السلوك السعودي ضرب مثلا في ان العلاقة الجيدة مع واشنطن تحتمل تباينا في المواقف معها ازاء موضوع حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية، ماهية هذا الاختراق تكمن في انه يفتح الباب امام بقية العواصم الأخرى «الصديقة» لكي تحتشد وراء اتفاق مكة، وتنتقل من مجرد «الترحيب» بالاتفاق الى مرحلة انهاء المقاطعة، التي كان مجلس الجامعة العربية قد قررها في وقت سابق.
غير اننا لم نشهد التحرك العربي المطلوب، حيث مازالت العواصم التي تتعامل بحذر وترقب مع الحكومة الفلسطينية على موقفها. كما ان الجامعة العربية التزمت بذات الموقف، انتظارا ربما لتشكيل الحكومة الجديدة، في المقابل، فإننا وجدنا وزيرة الخارجية الامريكية في المنطقة تعمل على اجهاض مشروع الحكومة، الامر الذي يسوغ لنا ان نقارن بين التردد العربي الذي فقد مبرره والمبادرة الامريكية بأهدافها المعروفة. ويضاعف من شعورنا بالدهشة والاستياء ان الظروف مواتية الى حد كبير في المرحلة الراهنة لممارسة الضغط العربي لصالح استحقاقات القضية الفلسطينية، خصوصا في ظل ارتباك السياسة الامريكية وضعف موقف الرئيس بوش بعد هزيمة حزبه في الانتخابات النيابية الأخيرة، وفي ظل التراجع المماثل في الموقف الاسرائيلي بعد فشل العدوان على لبنان وتفجر مسلسل الفضائح الداخلية التي كشفت عن مدى هشاشة وضعف الطبقة السياسية الحاكمة هناك.
من أسف ان هذا التردد العربي اصبح يمثل نقطة الضعف الاساسية في الملف الفلسطيني، الامر الذي يدفع البعض الى التعويل على الموقف الاوروبي في حدوث اختراق لعملية المقاطعة.. هل هذا معقول؟

الإخوان ..كبش الفداء


ـ العربي الناصري محمد حماد

كان لابد أن اكتشف أن جماعة الإخوان المحظورة عند الحكومة هى جماعة مصرية لكى أحس بغصة الاكتشاف الجديد وأنا أتابع تحويل قيادات منها إلى المحكمة العسكرية، كان لابد أن أعرف أن الإخوان هم من بلدنا قبل أن تدمع عينى وأنا اقرأ مأساة بيوت اقتلعتها عواصف زوار الفجر التى اجتاحت هدوءها الرتيب المعتاد، كان لابد أن أقنع نفسى أن أطفالهم أطفالنا حتى أحس بكل هذا الوجع فى قلبى وأنا أسمع وأكاد ألمس فزع العيون البريئة وهى تصرخ من الخوف وسط انتشار الرشاشات والأحذية الثقيلة حول سرير صغير يحتوى تلك الأجساد التى لم يغادرها دفء البطاطين أو أمان النوم فى أحضان أمهاتهم، وكان لابد أن أتذكر أنهم بنى آدميين مثلنا حتى تدمع عينى وأنا أتذكر كيف تكون حسرة طفل صغير وهو يرى أباه يخرج لا لصلاة الفجر بل يقتاده زوار الفجر عنوة بلا أية آدمية، كان لابد أن أعيد اكتشاف أن الإخوان قوة وطنية كبرى حتى أفيق على أننا كقوى وطنية نقف موقف المتفرج وبعضنا يقف مواقف المحرضين عليهم من دون أن يرتفع لنا صوت مدو رفضا لإحالة المدنيين إلى المحاكم العسكرية. كان لابد أن أعرف أن خيرت الشاطر ومن معه لم يدخلوا السجن لأنهم إخوان، ولا هم محالون إلى المحاكم العسكرية لأنهم يدعون إلى الإسلام طريقا للحل كما هو شعارهم المزمن، وكان لابد أن أعرف أنهم شرفوا السجون لأن جماعتهم باتت تشكل تهديداً لحكم فقد شرعيته، فهم ما فتئوا يرفعون عقيرتهم بأن الإسلام هو الحل منذ زمن طويل، ولكنهم الآن صاروا أكبر حجما وأكثر ثقلا وأشد تأثيراً من أن يتركوا يكبرون ويكبر معهم التهديد المباشر لنظام الحزب الوطنى الفاشل.! كان لابد أن اضبط نفسى ومعى كل تلك الأسماء والشخصيات العامة والجمعيات والمنظمات المدنية والنقابات المهنية والأحزاب التسعة عشر ولا العشرين لأنى لم أعد أعرف عددهم متلبسين فى حالة تقصير ما كان يجب أن نقع فيها فى ظل ظروف ما نحن فيه، وأقر بتقصيرى الشخصى فى هذا المجال، وأنا من ذاق من قبل مرارة السجن وويلات الاعتقال، وتعهد بينه وبين نفسه ألا يقف مكتوف اليد منزوع اللسان عن أى انتهاك لحقوق الإنسان! ولست أعتذر عن نفسى أو عن آخرين لا أملك حق الاعتذار عنهم، ولكنى إذ أعترف بالتقصير أعلن نيابة عن ضميرى الموجوع ونيابة عن كل صاحب ضمير رفضى المطلق لكل إحالة لمدنيين إلى المحاكم العسكرية أيا كانت التهمة الموجهة إليهم، وأياً كان خلافى أو اتفاقى معهم. ولا شك عندى فى أن المثقف المصرى فى حاجة إلى مراجعة نفسه إذا لم يتألم لظلم يقع على أى من مكونات الحياة السياسية، أفرادا وجماعات، وأرى أن الواجب يقتضى أن يخرج الجميع من ضيق التحزب إلى سعة القيم المشتركة، فلا يقبل بأى انتهاك يتعرض له أى مؤمن بهذه القيم، يتساوى فى ذلك ظلم يتعرض له خيرت الشاطر مع ظلم تتعرض له أية قيادة وطنية ممن أحبوا هذا الوطن، ونذروا أنفسهم لرفعته وإصلاح أموره وأحواله! تعالوا نتفق على أن كل القوى والأحزاب والتيارات بل والمجموعات - الصغيرة قبل الكبيرة- تعيش حالة من الانكفاء على الذات والاكتفاء بالذات، وتضخم الأنا الحزبية على حساب العمل الجماعى المنتج والأكثر تأثيرًا، ودعونا نتفق أيضا على أننا ما نزال - كلٌ بطريقته نتصور أن أفكارنا صواب لا يحتمل الخطأ، وآن أفكار غيرنا خطأ لا يحتمل الصواب، وتلك مصيبة المصائب التى أودت بكل إمكانية للتجمع من أجل صياغة مستقبل أفضل لبلادنا ولمجتمعنا نكون فيه جميعا ولا خاسر بيننا!! لا شك عندى فى أن النخبة مدانة عندما تركت الإخوان يتعرضون لضربات النظام، وأكثر من أدينهم أولئك الذين ملئوا شاشات التلفزة الحكومية نعيقا على الإخوان وهم فى حال لا يجوز أن نقف ضدهم مع نظام يتلذذ الآن بأكل الثور الأبيض ليتفرغ لبقية الثيران.!

آخـر زمن


محمد الخولى

د. جابر عصفور لم يخترع الكهرباء فهو أول من يعرف أنه تم اكتشافها منذ أكثر من 100 سنة، ود. عصفور أستاذ فى علوم اللغة والنقد الأدبى ومن ثم فهو ضليع، بحكم الصنعة على الأقل، فى ضبط المفاهيم وتحرير المصطلحات إلى درجة المطابقة المنضبطة بين المعنى والمصطلح والمفهوم المطروح. وعندما كتب د. جابر عن الدولة الدينية كان يستخدم مصطلحا أصبح متداولا وأقرب إلى الاستقرار فى معجم العلوم السياسية، ولم يكن يمارس سياحة فى بحر التنظير ولا فى سبك العبارات.. كان يحذر على سبيل عبرة التمثيل بالدولة التى أقامتها جماعة طالبان فى أفغانستان، أو الدولة التى حاول أن يقيمها جعفر نميرى فى السودان أو ضياء الحق فى باكستان، أو الدولة الكيان السياسى الذى لا يفتأ يروج له هذا الفصيل الهجين المستجد على ثقافة المجتمع وعلى اهتمامات الناس متمثلا فى الدعاة السوبر بالفضائيات الذين يفرضون وصاية جاهلة على قضايا الواقع الراهن من خلال استيراد تجارب وتنظيرات وتصورات كانت رائجة وفاعلة وصالحة فى عصور سبقت منذ قرون وفى بيئات وظروف انقضت وتحولت إلى سطور فى كتب التاريخ. لسنا نتحدث بداهة عن قدسية العقيدة ولا عن ديمومة تعاليم الدين الحنيف. الحديث هنا عن نماذج محددة تشكلت وتجسدت سواء فى نظم سياسية قامت بالفعل، أو فى دعوات وكتابات انهمرت كسيل الطوفان ولاتزال فكان أن ملأت الدنيا وما برحت تؤرق الناس. من هنا يحذر فريق من مثقفى الأمة، وهو أيضا فريق مؤمن بالله ورسله وآياته ورسالاته من مخاطر ما استقر عليه وما أصبح يشير إليه مصطلح الدولة الدينية فى مقابل الدولة المدنية الحديثة باعتبار الأخيرة هى الكيان السياسى الذى يعرف للإيمان حقه، ولكن يفتح الآفاق رحبة واسعة لاجتهاد الإنسان ولاستنارة المعرفة وللتعامل البشرى مع ما يستجد على الناس من قضايا ومشكلات على أسس القاعدة النبوية الجليلة أنتم أعلم بشئون دنياكم. ولنا فى تاريخ الأمم التى أنجزت مراحل من التقدم الاقتصادى والاستنارة الفكرية والإبداع الفنى والابتكار العلمى لنا فى هذا كله أسوة إيجابية ومفيدة حقا.. وهى بالمصادفة التاريخية دول وأمم فى غربى أوروبا.. والسبب الموضوعى لهذه التحولات التى مازالت الإنسانية قاطبة تنعم بثمارها أن الناس فى غرب أوروبا اكتووا بنار الدولة الدينية فى القرون الوسطى، وكانت هى الكيان السياسى التى قام تحت سطوة الباباوات فى روما، وعانت من وصاية فرضها سلك الكهان فى المؤسسة الكنسية الكاثوليكية على وجه الخصوص. هنالك كانوا يرفعون الكتاب المقدس على أسنّة رماح الإرهاب والتكفير والحرْم الكنسى باسم الدين، والدين بريء.. وكانوا يحتكرون التفكير والتفسير ويصادرون الاجتهاد العلمى.. حتى فى مجال الفيزياء والطبيعيات، وهكذا أحلوا سيف التكفير محل حرية التفكير.. وكان أن دفع الثمن فادحا فى بعض الأحيان علماء ومفكرون ومنظرون من أمثال كوبرنيكوس أو جاليليو أو توماس مور وغيرهم كثير. لكن البشرية جنت من معاناتهم خيرا عميما.. فقد مهدوا الطريق إلى عصور من الاستنارة.. والانفتاح الفكرى وتكريس العقل وحرية الاجتهاد وكسر الاحتكار الذى كان يستأثر به أرباب المؤسسة الرعوية فى روما وفروعها، فكان أن وضعت العقيدة الدينية على اختلاف مصادرها ومنابعها فى الشرق والغرب فى موقعها الصحيح لتظل مصدرا جليلا ونبعا روحانيا فياضا بالمحبة وهاديا للبشر ومرجعا نبيلا يحال إليه فى أمور الدنيا والآخرة، دون أن تكون سيفا مصلتا على اجتهاد العقل البشرى، فما بالنا فى إطار ثقافتنا القومية المعاصرة، ونحن نستظل بدين يكرّس الاجتهاد ويثيب عليه فى حالتى الخطأ الصواب، ويضع نبى الأمة صلوات الله عليه فى موقع المذكّر من التذكير وليس المسيطر فليس له من الأمر شيء ولله الأمر جميعا. وعندنا أن الإمام الأكبر شيخ الأزهر الشريف وله كل الاحترام بحكم الموقع الجليل وبفضل الاجتهاد الفكرى قد أحسن صنعا حين اختار لحواره المنشور مع د. عصفور عنوان المناقشة الهادئة. وتلك فضيلة نرجو أن يتسع نطاقها فى الحوار العلمى المحترم بين الفرقاء فكل يبغى المصلحة ولا أحد يدعى أنه يمتلك الحقيقة بأكملها. ومع ذلك فمازلنا نتصور من منظورنا المتواضع على الأقل أن مقالة الشيخ الجليل الأهرام 21/2 هى فى التحليل الأخير تكميل وتوضيح وتعميق دون أن تكون ردا ولا دحضا ولا تفنيدا لما ذهب إليه د. عصفور.. يقول الشيخ طنطاوى لا وجود للدولة الدينية فى الإسلام هذا تصريح يبعث الاطمئنان فى النفوس الحادبة على مصلحة الوطن، مسلميه وأقباطه على السواء.. لكن د. عصفور كان يحذر من نموذج الدولة الدينية على نحو ما تجسد عمليا عند طالبان أو على نحو ما تحفل به دعوات غير مسئولة أحيانا وغير بريئة أحيانا أو غير مدركة لعواقب الأمور فى أحيان أخرى.. هى دعوات تمارس نوعا مقيتا ومرفوضا من قَصْر الاجتهاد فى الشأن الدينى على خريجى المدارس الدينية، وفى هذا تكريس لكهانة مرفوضة فى الإسلام.. أو على دعوات تبادر إلى سلاح التكفير فى حالة الاختلاف مهما يبلغ الأمر من شطط الاختلاف.. إننا أمة تعتز بانتمائها إلى تراث: وقل الحق من ربكم، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. ونحن أمة رفع فيها علماء الكلام فى نهضة العباسيين اجتهاد البشر إلى ذروة وصفوها بأنها مقام العقل أمة تعرف بيقين إيمانى عميق أن حياة البشر، فى مستواها العقيدى، تميز بين الحق والباطل، ولكنها تدرك، فى مستواها الإنسانى، الفرق بين الخطأ والصواب.. ومناطها فى ذلك قاعدة من أثمن ما يكون اسمها: إعمال العقل وحرية الاجتهاد.

الدولة الإسلامية دولة مدنية


د. حسن حنفى ــ العربي الناصري 25/2/2007

فى لعبة شد الحبل بين الدولة والإخوان فى مصر، يضيع الحق قصدا، ويتم تشويه الإسلام عمدا لصالح الصراع على السلطة. والوصول إلى السلطة حق مشروع لكل التيارات والقوى السياسية فى البلاد عن طريق تداول السلطة، وبالأسلوب الديمقراطى، واللجوء إلى صناديق الاقتراع، والاختيار الحر من الشعب. حزب حاكم فى السلطة على مدى أكثر من نصف قرن عمر الثورة المصرية، وأحزاب معارضة إسلامية وليبرالية وماركسية وقومية تنازعها السلطة. الحزب الحاكم بيده كل شيء، الدولة والجيش والشرطة والإعلام، والمعارضة ليس بيدها أى شيء، مطاردة من أجهزة الأمن، فى السجون والمعتقلات أو سرية تحت الأرض أو مهاجرة خارج البلاد أو ضعيفة مهمشة فى الداخل. ظهر حجمها الحقيقى فى الانتخابات التشريعية الأخيرة عندما لم تحصل فى مجموعها على أكثر من عشرين مقعدا بينما حصد الإخوان ثمانية وثمانين، ومجموعها مائة صوت أقل من ربع المقاعد فى مجلس الشعب الذى تبلغ مقاعده أربعمائة وأربعة وأربعين مقعدا. والخوف على مصر بعد العراق ولبنان وفلسطين والصومال والسودان والتهديد المستمر لسوريا وإيران. الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها. الخوف أن تتكرر مأساة الصدام بين الثورة والإخوان كما حدث فى 1954 فى حادثة المنشية لاغتيال رئيس الجمهورية الأولى، ثم حادث المنصة فى 1981 باغتيال رئيس الجمهورية الثانية، وما قد يقع اليوم من صدام بينهما بدت مؤشراته فى حملة الاعتقالات الأخيرة تحت ذريعة التدريب العسكرى لطلاب الحركة الإسلامية فى جامعة الأزهر ضد الهجمة الاستعمارية الجديدة على الوطن العربى والعالم الإسلامى. وهو ما قامت به الثورة فى بدايتها فى المدن الجامعية، استئنافا لحرب الفدائيين فى القناة عام 1951 ضد قوات الاحتلال البريطانى على ضفاف القناة. وبين كلتا الحادثتين ربع قرن تقريبا. فمتى تتوقف هذه الدائرة المفرغة بين الدولة وخصومها، بين السلطة والمعارضة؟ الذريعة اليوم هى رفض الدولة الدينية التى تدعو إليها الحركة الإسلامية لأن الدولة الحديثة دولة مدنية، ورفض تكوين أحزاب دينية لا يسمح بها الدستور درءا للفتنة الطائفية. والإسلام ليس دولة دينية ولا دولة أمنية بل دولة مدنية يحكمها القانون والدستور كما هو الحال فى الدولة الحديثة. وهو منصوص عليه فى برامج الحركة الإصلاحية فى مصر وسوريا والأردن ولبنان. فلماذا التشويه المتعمد، وتصيد الأخطاء، وابتسار الحقائق، والعودة إلى شعارات الأربعينيات، والاعتماد على ما هو وافد من تاريخ الغرب فى الصراع بين الكنيسة والدولة أو بين السلطة الدينية والسلطة السياسية؟ لماذا تشويه الحقائق ونقل تاريخ الغرب على تاريخنا؟ ليس القصد هو العلم أو الوطن بل إبعاد الحركة الإسلامية عن السلطة فى مرحلة ضعف الدولة وتحويلها إلى دولة قاهرة فاسدة فى الداخل، وتابعة ضعيفة فى الخارج بعد نجاح الحركة الإسلامية فى الاتحادات والنقابات المهنية بالرغم من محاولات التزييف من الحزب الحاكم. لقد تغيرت برامج الحركة الإسلامية على مدى ربع قرن. وتجاوزت مرحلة النشأة الأولى التى رفعت فيها شعارات الحاكمية، تطبيق الشريعة الإسلامية وتحولاتها الحديثة، الإسلام هو الحل، الإسلام هو البديل. لا تعنى الحاكمية حكم علماء الدين بل حكم الشريعة والقانون. ولا يعنى تطبيق الشريعة الإسلامية تطبيق الحدود بل إعطاء الحقوق قبل أداء الواجبات. فحق المسلم فى بيت المال التعليم والعلاج والعمل والسكن والاستقرار العائلى قبل تطبيق الحدود. فالجوع والبطالة مانعان من تطبيق حد السرقة. ولا يعنى شعار الإسلام هو الحل أو الإسلام هو البديل إلا السأم والملل من الأيديولوجيات العلمانية للتحديث، الليبرالية والقومية والماركسية. فقد ضاعت نصف فلسطين فى 1948 فى العصر الليبرالى، وضاع النصف الآخر فى 1967 أثناء الحكم القومى. تطورت الحركة الإسلامية من العشرينيات حتى الآن على مدى أكثر من ثمانين عاما. فلماذا دفعها إلى الوراء لتشويهها وهى تكاد تقترب من مبادئ الدولة المدنية الحديثة، وتقبل بالتعددية السياسية، وحرية الفرد، وديمقراطية الحكم، والانتخابات التشريعية، وتداول السلطة، والمواطنة، والمساواة فى الحقوق والواجبات أمام القانون؟ لقد كبا الإصلاح من الأفغانى إلى محمد عبده بسبب فشل الثورة العرابية، واحتلال مصر فى 1882 وكبا مرة ثانية من محمد عبده إلى رشيد رضا بسبب الثورة الكمالية فى تركيا فى 1923 وكبا مرة ثالثة بالصدام بين الإخوان والثورة فى 1954 وكبا مرة رابعة فى الصدام بين الجماعات الإسلامية والدولة فى 1981 وقد تعلمت الحركة الإسلامية من التاريخ. وبدلا من أن تتجه إلى مزيد من العنف جراء ما حاق بها من ويلات على أيدى النظام السياسى اتجهت إلى السلم والعمل السياسى العلنى. ومازال سيف الحظر مسلطا عليها بالرغم من وجودها فى الشارع وفى المجالس التشريعية والدستورية فى الاتحادات والنقابات المهنية وفى شتى مظاهر الحياة العامة. ومازالت المحافظة الدينية العامة الموروثة منذ ألف عام منذ قضاء الغزالى على العلوم العقلية وتكفير المعارضة وتشريع أخذ الحكم بالشوكة، مازالت حالة فى الوجدان بل وتقوى يوما بعد يوم بسبب الصدام بينها وبين النظم السياسية، وإقصائها من العمل السياسى على مدى أكثر من نصف قرن. ومنها خرجت معظم حركات التحرر الوطنى فى مصر وتونس وليبيا والجزائر والمغرب والسودان واليمن وسوريا ولبنان والعراق وفلسطين. والأخطر من ذلك صب الدولة الزيت على النار باستدعاء باقى أحزاب المعارضة ضد التيار الإسلامى ووقوع بعض أحزاب المعارضة فى الفخ كما استعملت الجمهورية الثانية التيار الإسلامى لتصفية الناصريين، أكلت يوم أكل الثور الأبيض. بل إن بعض الإسلاميين العلمانيين وقعوا فى الفخ يهاجمون الحركة الإسلامية بعدما نشأوا فيها. ودفعهم التجديد إلى الحد الأقصى دون المرور بالمراحل المتوسطة. الدولة الإسلامية ليست دولة دينية يحكمها رجل دين أو ملك أو خليفة بل يحكمها من يبايعه الناس طواعية واختيارا. فتعبير القدماء الإمامة عقد وبيعة واختيار السلطة للشعب، والحاكم منفذ للدستور، والقضاء له الكلمة الأخيرة. وهى دولة الفقراء الذين يشاركون الأغنياء فى أموالهم والذين فى أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم وفيها الملكية العامة لوسائل الإنتاج وللموارد الطبيعية. نظامها يقوم على العدل. فالعدل أساس الملك. وحاكم كافر عادل خير عند الله من حاكم مسلم ظالم. وعلاقاتها الدولية تقوم على السلم والتعاون. فلا إكراه فى الدين. وقد كان النجاشى، ملك الحبشة، حاكما مسلما بالرغم من أنه نصرانى لأنه انتصر للعدل وللحق ضد الظلم والباطل. الإسلام ليس دينا بمعنى الكهنوت ولكنه دين المصالح العامة. والشريعة وضعية كما قال الشاطبى فى الموافقات. تقوم على الدفاع عن الحياة والعقل والقيمة والعرض أى الكرامة والمال أى الثروة الوطنية. والتوحيد ليست مجرد عقيدة دينية بل نظرية فى الوحدة، وحدة الذات الإنسانية ضد النفاق وانفصال القول عن العمل، واللسان عن القلب، والفكر عن الضمير، وضد التفاوت الشديد بين الطبقات، وضد استعلاء دولة على دولة دفاعا عن وحدة البشرية. والنص الدينى إجابة عن أسئلة طرحها الواقع كما هو معروف فى أسباب النزول. الواقع يسأل، والوحى يجيب ويسألونك عن الأهلة، يسألونك عن الأنفال، ويسألونك عن المحيض ويسألونك عن الخمر والتشريع متطور بتطور الزمان وتغير المصالح كما هو معروف من دلالة النسخ ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها بغية التدرج، ومواكبة التشريع لدرجة تطور الواقع كما هو الحال فى تحريم الخمر. لقد نجحت الدولة الإسلامية فى الماضى فى المدينة ودمشق وبغداد والقاهرة واستانبول فى قيام حضارة تقوم على العلم والفن. ومازلنا نزهو بجامعات الأزهر والزيتونة والقرويين وبآثار قصر الحمراء ومدينة الزهراء وبرج أشبيلية بالأندلس، وبمدارس الطب الإسلامى فى باليرمو وبادوا. وقد كانت النهضة الأوروبية فى بدايات العصور الحديثة من آثار الترجمات العبرية واللاتينية للعلوم العربية والثقافة الإسلامية. وكما نجحت الدولة الإسلامية قديما نجحت حديثا فى ماليزيا وإندونيسيا بعد أن تحول الإسلام إلى هوية وطنية وأسهم فى إنشاء الدولة. ونجح فى تركيا المعاصرة بفضل حزب العدالة والتنمية والنهج الاستقلالى. ونجح فى إيران الثورة ومناهضتها للاستعمار والصهيونية. وتحولت الحركات الإسلامية إلى أحزاب سياسية شرعية فى الأردن والكويت واليمن والمغرب ولبنان. تسهم فى البناء الديمقراطى، وتعمل على تداول السلطة. وفى الغرب أحزاب ديموراطية مسيحية واشتراكية مسيحية تصل إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع. ولم يتهمها أحد بالدولة الدينية. وأمامنا عدو صهيونى أنشأ دولته على اليهودية ولم يتهمها أحد بأنها دولة دينية وشرعيتها دينية. وتسمى الدولة اليهودية. وتقدم حزب الوسط وحزب الكرامة وأحزاب أخرى بطلب ترخيص من لجنة الأحزاب بمجلس الشورى فرفضت جميعها وكلها تقول بالدولة المدنية. خطورة حظر العمل الشرعى للحركات الإسلامية فوق الأرض يجعلها تتكون سرا فى إطار لاشرعى تحت الأرض. الخطورة أن تنشأ أجيال جديدة أكثر عنفا من الجيل القديم بعد أن تضيق بها السبل ويتربص بها قانون الطوارئ. فمن يكسر هذه الحلقة المفرغة؟

Thursday, February 22, 2007

محمد صلااح >>>> بيقووول الحق


في الصراحة راحة
بقلم محمد صلاح ــ المصري يوم ٢٢/٢/٢٠٠٧
سألني صديقي السياسي المثقف، عن مصير مقال كان أرسله إلي في مكتب صحيفة «الحياة» اللندنية، وما إذا كان قد نشر أم لا؟ فأجبته الإجابة التقليدية: ألا تقرأ الصحيفة التي بعثت بمقالك إليها لتنشره فيها، لتعرف ما إذا كانت نشرته أم لا؟ فرد علي بكل تلقائية: أنا لا أقرؤها، ولا أقرأ أي صحيفة أخري،
فسألته مندهشاً: كيف؟ ومن أين تحصل علي معلوماتك؟ وعلي أي أساس تكتب مقالاتك؟ كانت فكرتي عن صديقي أنه يقرأ كل ما يقع تحت يديه، وأنه في بعض الأحيان لا يجد وقتاً كافياً لأداء عمله، إذا انشغل بالقراءة، وأنه ينسي الدنيا و«اللي» فيها و«اللي» عليها، إذا ما جلس أمام كومة من الصحف أو المجلات، ناهيك عن الكتب والأبحاث والدراسات.
كانت الفكرة تدور في رأسي، وأنا أستمع إلي إجابته الأخيرة، وهو يؤكد أنه اكتشف أنه لم يخسر شيئاً، وأنه أيقن أن الصحف القومية والحزبية والخاصة والمستقلة، وكذلك المجلات ومعها نشرات الأخبار، لا تضيف إليه كثيراً، وأن المعلومات صارت تنتشر وتتسرب وتتوغل وتصل إليه، دون أن يقرأ صحيفة أو يشاهد نشرة أخبار أو يطالع مجلة،
بل إنه صار أكثر قدرة علي الحكم علي الأشياء، لأنه لم يعد يقع تحت تأثير الإثارة الصحفية أو الانتهازية التليفزيونية أو الركاكة الإعلامية أو الرغبة السياسية في تغييب بعض الحقائق أو لي بعضها الآخر، أو الممارسات الإكروباتية في إلباس الباطل ثوب الحق، وطمس الحق، واعتباره «إثارة للبلبلة». أخبرني صديقي أنه أصبح يستقي معلوماته، ممن يثق بهم من زملائه وأصدقائه، وكذلك المواقع الإلكترونية المحايدة التي تتعاطي مع ما جري دون تزييف،
وتتوقع ما سيجري دون تحيز، بناء علي دراسات علمية دقيقة، وأبحاث أكاديمية سليمة، وقراءات موضوعية للاحتمالات، وفهم واع للواقع وموازين القوي والعناصر المؤثرة في القضية التي تتناولها. أنهيت المكالمة ورميت عيني علي بعض عناوين الصحف، وبعدها تعمدت أن أتنقل بين بعض القنوات التليفزيونية، وبعد ساعات وجدت أن صاحبي لم يخسر كثيراً، بل إنه ربما بالفعل ربح السلامة.
كل الصحف كتبت في الأسابيع الماضية عن برنامج هالة سرحان، الذي شاهده عدة آلاف علي فضائية «روتانا»، فعرف الملايين بعدها ما جري، وضربوا أخماساً في أسداس، وهم يقرأون آراء، تدافع عن الدكتورة وأخري تسعي إلي ذبحها، وسعت فضائيات أخري، وهي تزعم مكافحة برامج الفضائح إلي فضح هالة سرحان وتجريسها، وضاعت الموضوعية وذابت المعايير المهنية، واختزل الأمر: أنت مع هالة ولاَّ ضدها؟
بعدها بأيام كان عشرات من الناس يلتفون حول شجرة تقع علي أحد جانبي طريق القاهرة - الإسماعيلية، يتباركون بها ويدعون الله أمامها ويتمسحون فيها، ويملسون عليها، لاعتقادهم أنها شجرة مباركة، بعدما خدعهم أحدهم وحفر علي جذعها لفظ الجلالة واسم الرسول الكريم، علي الفور أسرع الصحفيون إلي المكان ودارت الكاميرات والعدسات، وكتبت الصحف،
وبثت برامج التليفزيون تقارير وأخباراً عن الشجرة المباركة، التي لم يكن يعرف بأمرها سوي عشرات من المارة، غالبيتهم من السائقين وعفاريت الأسفلت المارين بانتظام علي الطريق،
فانسد الطريق بعد ساعات بجحافل المصدقين، بكل ما ينشر في الصحف والمدمنين علي مشاهدة ما يبث في التليفزيون، الراغبين في التقرب إلي الله عن طريق شجرة في الطريق الصحراوي، مع أن الطريق إلي مرضاة الله معروف ولا يحتاج إلا إلي التزام تعاليمه وأوامره الواردة في القرآن والسنة النبوية الشريفة، وعادت الصحف والقنوات لتزيد معاناة هؤلاء، وتعيد إليهم الإحباط توعيهم وتخبرهم، بأن الشجرة لا هي مباركة ولا يحزنون، وأن النقش علي جذعها بفعل فاعل.
سألت نفسي بعدها: هل تفرق هوجة النشر في الصحف، والكلام في برامج الفضائيات عن الحملة علي الإخوان عن أي حملة أخري علي الجماعة؟ وهل تغير النشر عن الإصلاح السياسي، أو الخناق في الفضائيات علي أسس ذلك الإصلاح، عما يجري منذ سنوات عن نفس الموضوع؟ هل فرقت كثيراً التغطيات التليفزيونية والصحفية للتعديلات الدستورية، عما حدث عند تعديل المادة «٧٦» قبل سنتين؟
هل تعيد الصحف وقنوات التليفزيون إنتاج ما قرأه الناس من قبل؟ ما يضيرك إذا لم تكن قرأت شيئاً عن قضية فتيات الليل، أو الشجرة المباركة، أو حتي الحملة علي الإخوان،
أو الإصلاح السياسي؟ لا شيء، فقط كان يمكنك استثمار وقتك في أشياء أخري مفيدة، دون أن يتشتت عقلك في قضايا معادة ومكررة، ولا طائل منها إلا إذا كنت مثلي تقرأ كثيراً، وتشاهد التليفزيون طويلاً، واهماً أن هذا جزء من عملك، معتقداً أنك بذلك تثقف نفسك وتزيد من معرفتك، بما يدور حولك فتكتشف في النهاية أن صديقك الذي قاطع الصحف وباع جهاز التليفزيون، كان أكثر معرفة ووعياً وثقافة منك، لأنه صارح نفسه دون أن يتجمل، وفي الصراحة راحة.

Wednesday, February 21, 2007


د.سعيد إسماعيل على ــ المصـريون : بتاريخ 21 - 2 - 2007
بداية ، لابد أن نصارح أنفسنا بكل الصدق بأن " التوجه المستقبلى " فى لغة الخطاب الإسلامى فريضة غائبة !أما أنه " فريضة " فلأن كل النصوص الإسلامية فى القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة تؤكد على أن الدنيا " دار فناء " ، وأن الآخرة " دار بقاء " ، ومن ثم وجب على المسلم " التجافى عن دار الغرور " و " الإنابة إلى دار الخلود " والقرآن الكريم نفسه طيلب من كل إنسان ، لا المسلم فقط بأن يتحسب للمستقبل ، فيقول جل شأنه ( ولتنظر نفس ما قدمت لغد ) الحشر / 18 .والترجمة العملية الحقيقية لهذا أن يستهدف المسلم ، المستقبل " الغد " فيما يعمل ، وأن يتعامل مع الحاضر على أنه " سبيله " إليه .وهى " غائبة " لأن واقع العمل الإسلامى فى مسيرته منذ قرون عديدة يعكس سوء فهم لمبدأ " التوكل " على الله ، تصورا أن " الغد " ما دام شأنا من شؤون الله ، فلا ينبغى أن نفكر فيه ، غافلين عن أن " التوكل " مرتبط " بالعزم " " وإذا عزمت فتوكل على الله " ، ولا يتأتى " العزم " إلا باتخاذ الأسباب ، سعيا لتحقيق غاية ليست قائمة ، وإنما هى مسطورة فى صفحات الغد ، ويصبح التوكل مطلوبا حتى لا نأسى على ما فتنا ، ولا نفرح بما أوتينا .ولأن " خطو " المستقبل قد بلغ من السرعة حدا كاد يلغى معه بعدا هاما من أبعاد الزمن وهو " الحاضر " ، إذ يطوى الأعوام بسرعة صاروخية كطى السجل لتصبح " ماضيا " ...ولأن درجة " التغاير " بين خطوات الزمن قد بلغت حدا يمكن أن يصبح فيه " ماض قريب " وكأنه " ماض سحيق " ...يصبح من المحتم على الإنسان أن يتحسب ويتيقظ لبعد المستقبل .وإذا كان التوجه المستقبلى فريضة إسلامية بحكم العقيدة ، فهو أيضا فريضة اجتماعية بحكم المصلحة ، وهذا تلازم منطقى تؤكده العقيدة الإسلامية نفسها من حيث استهدافها صالح الإنسان فردا وجماعة ، ولكننا أردنا إبراز جانب المصلحة الاجتماعية ، لفتا لانتباه جماهير لا تتحرك إلا بهذا النظر المباشر .ولا يستطيع المسلم ، عندما يقف وقفة صدق مع النفس ، إلا أن يعترف بأن حاضره مؤسف ، ومظاهر الأسف فيه تستدعى توجها مستقبليا يمحو هذه المظاهر ، مما يحتم على الخطاب الإسلامى أن يضع عينا على الحاضر ، كشفا عن سيئاته ، وعينا أخرى على المستقبل ، استشرافا لآماله ، وهو ما نحاول أن نقترحه فيما يلى : 1-الأسباب والنتائج ، فكثيرون يستغرقهم التفكير فيما يشاهدونه ، ويعايشونه من أحوال دون بذل جهد واع للتفرقة بين الأسباب والنتائج ، وأبرز الأمثلة على ذلك ، هذا الاحتجاج لدى جماهير إسلامية ، على هذا التدمير الحادث لهذا البلد العزيز ، الذى انفض الكثيرون عن الوقوف بجانبه تاركينه للتدمير، ألا وهو فلسطين ، فتتنادى بضرورة توقفه . ومن المؤكد أن قلب كل عربى مسلم يتمزق وهو يسمع ويشاهد نتائج هذا التدمير ، لكن التصور المستقبلى السليم لن يستقيم إلا إذا أدرك أن التدمير الحادث إنما هو " نتيجة " لسبب معروف ، وهو ما اصبح لليد الأمريكية والصهيونية من قوة وقدرة على السيطرة على الكثرة الغالبة من النظم العربية ، وبالتالى فإن اختفاء السبب هو الذى يمكن أن يؤدى إلى اختفاء النتيجة .ولن ينجح الخطاب الإسلامى فى التعامل مع متغيرات المستقبل ، إلا إذا استقام نهجه على هذا الطريق : التعامل مع المشكلات ، إنما يبدأ من الأسباب ، دون أن يقف الخطاب على أطلال النتائج زارفا عليها الدموع .2- العقلانية / الانفعالية : فالعواطف والانفعالات شحنات وجدانية تشعل الحماس ، وتؤجج المشاعر ، وتبث دفئا فى الفعل الإنسانى ، لكنها كتدفق السيول ، عمياء ، يمكن أن تدمر إذا لم يضبطها تفكير عقلى منطقى علمى ، يقودها هو ، بدلا من أن تقوده هى . إننا كثيرا ما نسمع الآخرين يصفوننا ، وكذلك نردد نحن ، بأننا " عاطفيون " ، والعاطفية ليست تهمة فى حد ذاتها ، ولكنها تصبح كذلك إذا تسيدت العمل الإسلامى ، فضلا عن الخطاب الإسلامى ، ففى ظل سيادتها يسود ضباب يحجب الرؤية ، فينتج تخبطا وخلطا ، قد يصيب مرة ، ولكنه يخطئ مرات .من هنا يصبح " الضبط العقلى " ، القائم على " الإيمان القلبى " لاجما لمثل هذه الطاقة ، موجها إليها فى اتجاه مستقيم .3- الجزئية / الكلية : فالنظر المدقق لكل عنصر من عناصر حياة الأمة فيما حولنا ، يشير إلى حقيقة هذا الترابط العضوى ، سواء على مستوى كل منظومة فرعية ( أسرة ، تعليم ، اقتصاد ، سياسة ) ، أو على مستوى الأمة كلها . بل إننا نذهب إلى ما هو أبعد من ذلك لنشير إلى الكون كله كتنظيم كلى شامل مترابط الأجزاء . ووجود هذا الترابط ، يؤكد " وظيفيته " ، وبالتالى فتناول جزء واحد واعتقال العقل فيه ، يقصر فهم هذا الجزء ، ويشل طاقة العقل عن أن يأتى بنتيجة صحيحة ، وبالتالى ، فالخطاب الإسلامى مطالب بأن يمتد فى نظر جامع شامل لجملة الحياة الإنسانية ، كى يبصرها فى كليتها .وهكذا إذا عدنا إلى مثالنا السابق ننجد أن المسألة لا ينبغى التعامل معها فقط تعاملا عسكريا ، ذلك أن لها ارتباطاتها وأبعادها السياسية والاجتماعية والجغرافية والفكرية ، لا بالنسبة لدول وأفراد الأمة الإسلامية والعربية فقط وإنما بسائر القوى والاتجاهات ذات الفاعلية فى حركة التاريخ العالمى المعاصر .4- أسر الماضى وآفاق المستقبل : فالخطاب الإسلامى متهم من قبل آخرين بأنه خطاب " ماضوى " ، يعيش فى أسر الماضى . والحق أن الماضى جملة " وقائع " و " أحداث " و" أفكار " و " تنظيمات " ، تأخذ مسراها فى مجرى الزمن ، وحركة الزمن تتخذ لها مسارا فى اتجاه واحد ، بحيث لا تتكرر لحظاته ولا تتوقف .و " رسالة الإسلام " ليست مجرد " واقعة " أو " حدثا " أو " فكرة" أو " تنظيما " ، وإنما هى " منهج " ، والمنهج " طاقة تحريك " و " بوصلة توجيه " ، وبالتالى فلا معنى لهذا الإصرار لدى البعض فى خطابه على الوقوع فى أسر الماضى ، وهما منه بأنه التزام بالطريق ، والخطاب الإسلامى يطالبنا بأن نفك أسره لينطلق إلى آفاق المستقبل مستكشفا وبانيا ، بينما أسير الماضى ، لا يستطيع أن يبنى ، كما لا يستطيع أن يستكشف أن هذا لا ينغى بأى حال من الأحوال أن يعنى أن يطرح الخطاب الماضى جانبا ، إنما هو مطالب بأن يتعامل معه تعاملا نقديا ، وهو ما توضحه النقطة التالية .5- الثوابت والمتغيرات : ولعل هذا الجانب يرتبط ارتباطا وثيقا بما قبله مباشرة ، فالخطاب " الماضوى " يعبر عن عملية خلط بين " ثوابت " لابد من الاهتداء والتأسى بها بحيث تحكم مسيرتنا ، وبين " متغيرات " لنا أن نأخذ منها ونترك وفقا لما تقتضيه الثوابت نفسها وتستلزمه حركة الأمة الإسلامية فى حاضرها ومستقبلها ، فرسالة الإسلام فى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ثوابت ، لها الحكم ، وعلينا الاتباع ، وما قاله وفعله هذا وذاك من المفكرين والفقهاء والفلاسفة والعلماء " متغير " ليس له علينا حق الاتباع إلا بعديد من القواعد والضوابط .وهذا يحتم على الخطاب المستقبلى أن يقصر القدسية على كتاب الله وسنة رسوله ، وينزعها عما سواهما ، ليخضعه لمحك العقيدة ودليل العقل واتجاه المصلحة .إن هناك خلطا شديدا متعدد المظاهر فى الخطاب الإسلامى فى هذا الشأن بصفة خاصة ، ومن هذا الخلط تضيع المقاييس وتتبدد المعايير للتمييز بين الصحيح والزائف ، وتدلف إلى العقل الإسلامى كثير من الأفكار التى هى من نبت أصحابها ، يلبسونها زى المقدسات ، فتضيع مصالح الأمة وتستبد بها مصالح مستغلين ، سواء من داخل الأمة نفسها أو من خارجها .6- الذات والآخر : فبعض صور الخطاب الإسلامى المعاصر تعكس تضخيما للذات ، وتصغيرا للآخر. تبرئة النفس ، وتكفيرا للآخر ! إن الثقة بالنفس قاعدة أساسية لابد منها حتى يتم " العزم " على العمل والمضى فيه ، لكن حدوده ، إذا تجاوزناها وأصيب مفهوم الذات بالتضخم ، فإننا نقع فى أسر الوهم ونتصور أن أحلام اليقظة هى وقائع ، ومن ثم تجئ أهمية هذا التمييز الدقيق المطلوب بين التعبير عن الثقة بالذات وبين الغرور الكاذب .إن ضرورة هذا الجانب للخطاب المستقبلى واضحة ، فماذا تجدى كثرة الحديث عن أننا كنا كذا أو كذا ؟ ونحن أصحاب الفضل فى كشف هذا والقول بذاك ؟ إنه ضرورى للتسجيل التاريخى ، وغرس الثقة فى إمكاننا أن نفعل اليوم ما فعلناه بالأمس من عمل عظيم ، لكن الأكثر أهمية ، أن نجيب عن سؤال يقول : وماذا فعلت اليوم ؟ وماذا يمكن أن تفعل مستقبلا ؟ وما برامج لذلك ؟ وما إمكاناتك لعمله ؟ ويقابل هذا ، ضرورة الوعى فى الخطاب الإسلامى بأن الحقيقة ما دامت ملكا لله وحده ، وأننا جميعا مجتهدون على الطريق ، فقد نصيب وقد نخطئ . إذن ، فالرأى الآخر ليس من الضرورى أن نتعامل معه من منطلق أننا " قضاة " دائما ، وهو " متهم " دائما ، وإلا أصبح من حق الآخر أن يتعامل معنا بنفس المنطق ، فماذا تكون النتيجة ؟ 7- الحوار بالرصاص أم بالكلمات ؟ إن غياب الوعى بحق الآخر فى أن يجتهد وأن نعترف له باحتمال صواب اجتهاده ، واحتمال خطأ اجتهادنا ، هو الذى قد يؤدى إلى أن تضيق صدور بعضنا بالبعض بحيث نصل إلى مرحلة من الإفلاس العقلى ونعجز عن عرض فكرنا بحججه وأسانيده الشرعية والعقلية ، وتفنيد الفكر الآخر بروح تتسم بالجدال بالتى هى أحسن والتسامح العقلى ...وعندها لا يصبح أمام المفلس الفكرى إلا أن يضع يده على زناد مسدسه أو بندقيته ليسكت عقل الآخر . ونحن نستطيع أن نؤكد ، من استقراء سنن العمران البشرى على مدى العصور ، أن اغتيال العقل ، إنما هو طلقة رصاص فى قلب الأمة ‍‍!إن الخطاب الإسلامى ، لا نقول فى عصرنا الحاضر وحده ، وإنما نقول ، فى كل عصر ، مطالب بأن يرفع شعارا مؤداه ، أن هذه المقولة الرائعة المأثورة عن الإمام الشافعى والتى تقول أن رأينا صواب يحتمل الخطأ ، ورأى غيرنا خطأ يحتمل الصواب . 8- من العدو ومن الصديق ؟ ليس هذا سؤالا ساذجا كما قد يتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى ، فوسط مظاهر الخلط الشائعة بين الأسباب والنتائج ، بين الثوابت والمتغيرات ، وسيادة النظر الجزئى ، وغلبة الانفعالية ...إلخ ، لابد أن نخطئ الحساب ، فنفتقد القدرة على التمييز بين العدو والصديق ! ولو شئنا أمثلة لهذا من حياة أمتنا لاحتجنا إلى عدد خاص ! ويكفى أن نعود إلى مثالنا الأول : ألسنا نختلف اليوم بالنسبة لطرف بعينه ، ففريق يراه صديقا يعين ، وفريق آخر يراه عدوا يميت ؟ فما الصواب بين هذا الرأى وذاك ؟ ليست مهمة هذا المقال أن يجيب عن مثل هذا السؤال فى هذا الحيز وبسرعة ، لأن رائدنا " رؤية منهجية " تسعى إلى أن تنطلق بمسار التفكير بحيث يملك من المقاييس الدقيقة والمعايير الصحيحة ما يمكن له التمييز بين العدو ، فيناضل ضده ، وبين الصديق فيناضل معه ، فينقذ الحاضر ويضع أسس بناء المستقبل . أما إذا أخطأ هذا التمييز فيفقد الحاضر ويخسر المستقبل معا ، فإذا أنقذ وبنى ، فإنما ينقذ ويبنى لعدو خطير!!وفى يقيننا أن البصر الواعى الدقيق بالمعايير القرآنية والمقاييس النبوية ، تضع الخطاب الإسلامى . إذا صح العزم وصدقت النية ودق الفهم – على طريق مستقبل مشرف لنهضة إسلامية حقيقية .

المدنيين‏..‏ هل تجوز أمام القضاء العسكري؟

بقلم : أحمد حسين ـــ الأهرام 22/2
ثمة تساؤلات عدة حول جواز محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية في الوقت الذي تتجه الدولة فيه إلي تعديلات دستورية تعيد وقوف المواطن أمام قاضية الطبيعي‏.‏ وفي الحقيقة انها ليست المرة الأولي التي يتهم فيها إحالة قضايا لمتهمين مدنيين لنظرها أمام القضاء العسكري‏.‏ففي التسعينيات عندما اندلع الارهاب في مصر صدر قرار الحاكم العسكري باحالة المتهمين في قضايا الارهاب الي المحاكم العسكرية مستهدفا تحقيق الردع وسرعة الفصل حفاظا علي امن مصر من الإرهاب الأسود الذي اجتاح البلاد طوال عامين‏.‏ووقتها طعن المتهمون في قرار الإحالة أمام مجلس الدولة الذي قضي بأحقيتهم في المحاكمة أمام قاضيهم الطبيعي‏(‏ المحاكم العادية‏).‏ ولقد تصدت المحكمة الدستورية العليا لهذا الأمر وهي بصدد قضية رفعت أمامها لتفسير عبارة وردت بالمادة السادسة من قانون الاحكام العسكرية‏,‏ وقالت‏:‏ ان رئيس الجمهورية إذ يقدر احالة جريمة او جرائم بذواتها بعد وقوعها علي ضوء ظروفها ودرجة الخطورة المتصلة بها سواء بالنظر الي موضوعها أو مرتكبيها‏,‏ فانه بذلك يقدر كل حالة علي حدة بما يناسبها ويقرر الإحالةاو يغض بصره عنها علي ضوء مقاييس موضوعية يفترض فيها استهداف المصلحة العامة في درجاتها العليا بما لا يناقض حقوق المواطنين‏..‏ وأصدرت حكمها ان من حق رئيس الجمهورية متي اعلنت حالة الطوارئ ان يحيل الي القضاء العسكري أيا من الجرائم التي يعاقب عليها قانون العقوبات أو اي قانون آخر‏.‏ ومن المعروف ان الأحكام الصادرة في الدعاوي الدستورية لها حجية مطلقة وينصرف أثرها الي الكافة‏,‏ كما تلزم بها جميع جهات القضاء سواء انتهت الأحكام الي عدم دستورية النص التشريعي المطعون فيه او الي دستوريته او رفض الدعوي‏.‏والأصل في حالة الطوارئ ان اعلانها لا يكون الا لمواجهة نذر خطيرة تتهدد معها المصالح القومية وقد تنال من استقرار الدولة وتعرض امنها أو سلامتها لمخاطر داهمة‏,‏ وان حالة الطوارئ بالنظر الي حدتها وطبيعة المخاطر المرتبطة بها لا تلائمها احيانا التدابير التي تتخذها الدولة في الأوضاع المعتادة باعتبار ان طبيعتها ومداها وما تفرض من التدابير الاسثنائية لا تنحصر بالضرورة فيما يكون ضروريا منها لمواجهة الجرائم التي تهدد أمن الدولة الداخلي أو الخارجي‏,‏ بل تتناول في عديد من صورها وتطبيقاتها جرائم اخري تخرج عن هذا النطاق‏.‏ثم إن مجابهة المخاطر التي تعترض السلامة القومية ما كان منها حالا أو وشيكا تمثل إطارا للمصلحة الاجتماعية التي حرص عليها المشرع في قانون الأحكام العسكرية في تخويل رئيس الجمهورية متي اعلنت حالة الطوارئ ان يحيل الي القضاء العسكري ايا من الجرائم‏.‏ والقضاء العسكري ليس قضاء استثنائيا ـ كما يدعون ـ لكنه نظام قضائي استقر في مصر منذ سنوات‏,‏ وهو جزء من النظام القضائي في الدولة بنص الدستور لم يبتدعه المشرع المصري بل اقتبس احكامه من أعرق وأحدث التشريعات في العالم‏,‏ وفي مقدمتها التشريع الفرنسي‏..‏والمحكمة العسكرية تطبق قانون العقوبات شأنها شأن المحاكم الجنائية العامة‏,‏ وتتبع في اجراءاتها ذات القواعد التي ينص عليها قانون الإجراءات الجنائية بصفة عامة‏,‏ وأحكامها لها حجية شأنها شأن الأحكام التي تصدر عن محاكم الجنايات وتنفذ بذات الأسلوب المنصوص عليه في القانون العام‏.‏كما ان جميع الضمانات التي كفلها الدستور والقانون للمتهمين أمام محاكم الجنايات مكفولة أمام القضاء العسكري‏,‏ والإخلال بحق من حقوق الدفاع التي قررها القانون للمتهم يستوجب بطلان الحكم الصادر من المحكمة العسكرية وإلغاءه شأنه شأن الاحكام الصادرة من المحاكم الجنائية الأخري‏..‏ كما ان المحكمة العسكرية تنظر القضايا في جلسات علنية وتندب للمتهم جنائيا محاميا للدفاع عنه ان لم يكن له محام موكل‏,‏ وتتيح له كافة الامكانات الكفيلة بتمكينه من اداء واجبه علي الوجه الذي رسمه الدستور والقانون‏,‏ولا حجر علي حرية المتهم ومحاميه في ابداء او طلب كل ما يراه محققا لمصلحة المتهم‏.‏والحكم الذي يصدر من المحكمة العسكرية لا يصبح باتا إلا باستنفاد كافة طرق الطعن التي كفلها القانون للمتهم وهي طرق مشابهة تماما لطرق الطعن التي تخضع لها الأحكام الصادرة من محاكم الجنايات‏.‏كما أن السرعة التي تتسم بها إجراءات المحاكم العسكرية ليست من قبيل التسرع‏,‏ بل هي سرعة محسوبة تتسم بالدقة والعمق‏,‏ يكفلها تفرغ هذه المحاكم للقضايا التي تنظرها متخطية بذلك ظاهرة التأجيلات الطويلة التي تحتمها ظروف العمل المثقل بآلاف القضايا التي تنظرها محاكم الجنايات العادية‏.‏

مؤامرة الدكتور جلال!


بقلم سليمان جودة المصري يوم ٢١/٢/٢٠٠٧
أدهشني مقال الدكتور جلال أمين، المنشور في «المصري اليوم» صباح أمس، وأعتقد أنه أدهش كثيرين مثلي.. فالدكتور جلال يتبني فيه منطق المؤامرة، في محاولة تفسير ما يجري في مصر الآن،.. ويصل إلي نتيجة مؤداها، أن رئيس الوزراء، ومجموعته في الوزارة، يحملون الفكر الأمريكي،
وجاءوا إلي السلطة، بتخطيط أمريكي، وينفذون، من خلال وجودهم، علي كراسيهم، مخططاً أمريكياً.. والحقيقة أن هذا آخر ما كنت أتوقعه، ويتوقعه غيري، من مفكر في حجم الدكتور جلال، ومن أستاذ جامعي مثله، نفترض فيه أن يفكر بطريقة علمية، منهجية، عليها دلائل وقرائن، وليس بهذا الأسلوب التآمري، الذي لا ينطلي علي أي عقل ولا يتسق مع أي تفكير مستقيم.
يا دكتور جلال.. الأمريكان، منذ كان عبدالناصر يستقبل ممثليهم في مصر، من «كافري» إلي «يوجين بلاك».. ثم السادات، من كيسنجر إلي روكفلر.. وأخيراً مبارك، لا يخططون لوضع رجال في السلطة، بهذا الشكل المباشر، والمرفوض، من أي دولة حتي ولو كانت هذه الدولة هي الصومال!!.. فما بالنا، إذا كانت هذه الدولة، هي مصر؟!..
ولكنهم، أقصد الأمريكان، يروجون لصيغة في الحكم، ثبت نجاحها عندهم، وعند غيرهم، ويتمنون أن يروها مطبقة في الدول التي تريد أن تنهض من عثرتها، ويعرضون أفكارهم، ورؤيتهم، من خلال البنك الدولي، وغيره من المؤسسات.. ثم لا يرغمون أحداً، علي الأخذ بهذه الرؤية، ولا علي أن يتبني تلك الأفكار.. وتقديري، وأعتقد أنه تقدير كل المصريين، أن الدكتور أحمد نظيف، الذي يتصور جلال أمين، أن قوة خفية خارج الحدود، قد جاءت به إلي رئاسة الوزارة..
هذا الرجل، يا دكتور جلال، جاء عن طريق شخص واحد، ووحيد، اسمه حسني مبارك.. وهذا، بالمناسبة، في حد ذاته، عيب، وليس ميزة.. كما أن حسني مبارك، والدكتور جلال يعرف ذلك جيداً، رجل يستعصي علي أي اختراق خارجي، أو داخلي، وليس معروفاً عنه أنه أمريكاني، أو غير أمريكاني،.. وهو كما نعرف جميعاً، لا يستمع للأمريكان، ولا حتي للمصريين!!.. فكيف،
ومن أين جاءتك هذه الفكرة الخيالية،.. إن الرئيس مبارك، إذا قيل له، من الأمريكان، أو من غيرهم، أن يتجه إلي الشمال، فإنه بعناد اشتهر به، يتجه إلي اليمين.. فكيف تتصور أننا يمكن أن نهضم هذه الطريقة في التفكير منك، أو حتي نستوعبها يا دكتور جلال.
لقد أراد جلال أمين، أن يفسر، ويحلل، ويفهم، ما يدور في مصر، فاختار أن يبدأ من المريخ، بدلاً من أن يبتدئ من فوق الأرض.. واختار أن يدور دورة كاملة، وبعيدة للغاية، وغير متصورة، وليست مطلوبة منه، في فهم أوضاع، ليس مطلوباً لفهمها، أن يتعسف المرء، ويلوي طبائع الأمور بعنف، وقسوة علي هذه الصورة الأسطورية!!.. وما يطرحه الدكتور جلال، ليس فقط من الصعب تبريره.. ولكنه من الصعب تلفيقه!!

Tuesday, February 20, 2007

من هم حكام مصر الحقيقيون ؟؟

د.جلال أمين
في محاولة تفسير ما يحدث في مصر الآن، علي الساحة السياسية، من المهم في رأيي أن نبدأ بواقعة، قد يبدو للقارئ لأول وهلة أنه لا علاقة لها بما نبحث عنه، ولكني سأحاول أن أقنع القارئ بوجود هذه العلاقة، هذه الواقعة هي اعتلاء جورج بوش منصب الرئاسة في الولايات المتحدة في يناير ٢٠٠١، أي منذ ست سنوات،
وفي ظروف غريبة وغير معتادة في تاريخ الانتخابات الأمريكية، فهناك دلائل بالغة القوة، بل وحاسمة، علي أن حصول بوش علي عدد من الأصوات أكبر مما حصل عليه منافسه، جاء نتيجة تزوير صارخ، اشترك فيه شقيق بوش، حاكم ولاية فلوريدا في ذلك الوقت، وهي الولاية التي حسمت أصواتها في آخر لحظة نتيجة الانتخابات.إني أذكر هذه الملابسات التي أسفرت عن فوز الرئيس بوش لربطها بأحداث ١١ سبتمبر من نفس العام، أي بعد اعتلاء بوش الرئاسة بتسعة أشهر، وما ترتب علي أحداث سبتمبر من تطورات شديدة الخطورة وبعيدة المدي في العالم ككل، ولكن علي الأخص في الشرق الأوسط.
الذي أريد أن أصل إليه هو أن مخططًا باتخاذ إجراءات بالغة الأهمية تتعلق بالسياسة الخارجية الأمريكية، كان قد تم وضعه قبل اعتلاء الرئيس بوش الحكم وهو مخطط يكون جزءًا مما عرف ببرنامج القرن الأمريكي الجديد «The New American Century»، من بين عناصر هذا المخطط قيام الولايات المتحدة باحتلال العراق لأسباب تتعلق أساسًا بالبترول العراقي ولكن ليس به وحده، وإجراء تغييرات مهمة أخري في منطقة الشرق الأوسط بأكملها تحقيقًا لأهداف تتعلق أساسًا بالبترول وبغيره أيضًا، كما أزعم أن القرار الذي كان قد اتخذ قبل اعتلاء بوش الحكم، ببدء تنفيذ هذا المخطط أو البرنامج، له علاقة وثيقة بالإصرار علي إنجاح بوش في الانتخابات ولو بالتزوير.
معني هذا، أن الشرق الأوسط كان مقررًا له أن يكون في بؤرة الأحداث ابتداء من استلام الرئيس بوش الحكم ، بعد أن احتلت مناطق أخري من العالم في أوروبا وأفريقيا بؤرة الأحداث في العقد السابق، وهو العقد التالي مباشرة لسقوط الاتحاد السوفيتي، كان لابد أن يعاد ترتيب العالم في أعقاب الاختلال الذي حدث بسقوط الكتلة الشيوعية وانتهاء الحرب الباردة، ويبدو أن ترتيب الأولويات جعل دور الشرق الأوسط يأتي في هذا العقد الأول من القرن الجديد.
إني أقرأ أحداث ١١ سبتمبر ٢٠٠١ في ضوء هذا المخطط، كما أقرأ في ضوئه أشياء كثيرة أخري، من أهمها بالطبع الهجوم الأمريكي علي أفغانستان وعلي العراق، والتهديد الأمريكي المستمر لإيران وسوريا، والتضخيم الشديد لما يسمي بالإرهاب، ووصم الإسلام بالفاشية، والهجوم الإسرائيلي الأخير علي لبنان، وظهور التقارير المتتالية من الهيئة المسماة «برنامج الأمم المتحدة الإنمائي» للتنديد بالبلاد العربية والتشهير بالعرب.
ولكني أقرأ أيضًا علي ضوء هذا المخطط، تغير موقف الإدارة الأمريكية من النظام المصري بمجرد وقوع أحداث سبتمبر، إني لا أقصد بالطبع أن موقف الإدارة الأمريكية من النظام المصري تحول من الصداقة إلي المعاداة، أو من سياسة دعم النظام إلي الاستغناء عنه، بل أقصد التغير في طبيعة الخدمات المطلوبة من النظام، وفي الوسائل التي يمكن أن تحقق بها هذه الخدمات.
لقد قيل وكُتب الكثير عما يمكن أن تعنيه عبارة «إعادة ترتيب الشرق الأوسط»، من تحقيق التواجد العسكري الكثيف للولايات المتحدة بجوار أغني آبار البترول وأكبر احتياطي من البترول في العالم، تمكينا للولايات المتحدة من فرض إرادتها علي منافسيها من الأصدقاء والأعداء المحتملين علي السواء، إلي إعادة تقسيم العالم العربي علي نحو ما تم في أعقاب الحرب الأولي طبقًا لاتفاقية سايكس بيكو، بما يحقق فوائد جمة لإسرائيل والولايات المتحدة علي السواء،
ويضع حدًا نهائيا لأي أمل لتحقيق وحدة العرب، إلي تهيئة المنطقة لأن تصبح قادرة ومستعدة لاستقبال رؤوس الأموال والسلع والخدمات الأمريكية والإسرائيلية، أكثر من استقبالها أموال وسلع أي دولة أخري بما يتطلبه هذا من تغيير في مواقف العرب السياسية والنفسية ، ناهيك عن سياساتهم الاقتصادية، وما يتطلبه هذا بدوره من تغييرات في نظم التعليم والإعلام إلي تمكين إسرائيل من وضع نهاية للمشكلة الفلسطينية بما يتفق مع مصالحها، وقد يتطلب هذا ضمّ أراض جديدة في لبنان، ناهيك عن ضم إسرائيل ما تريد ضمه من الضفة الغربية أو غزة، أو حتي تهجير من تريد تهجيره من الفلسطينيين إلي بلاد عربية أخري.
كل هذا في رأيي صحيح، أما الكلام الكثير عن أن الهدف من «إعادة ترتيب الشرق الأوسط» هو مكافحة الإرهاب، أو ترسيخ الديمقراطية، أو إرساء أسس «مجتمع المعرفة»، أو إصلاح نظم التعليم المتردية، أو النهوض بأحوال المرأة، أوضع البلاد العربية علي طريق التنمية السريعة...إلخ، فأقل ما يمكن أن يوصف به هو أنه «كلام فارغ»، وهذا هو بالضبط ما قصدته عندما أشرت إلي الكلام الذي ينشر في الغرب بغرض التضليل، والذي نادرًا ما يسمح للصحف والمجلات الغربية بنشر ما يخالفه، والذي يردده بعض كتابنا من باب الاسترزاق.
فإذا كان ما ذكرناه من أهداف «إعادة ترتيب الشرق الأوسط» هي الأهداف الحقيقية، فلابد أن يحتاج تحقيقها إلي تغيير نوع الحكومات في الدول العربية، أو علي الأقل في الدول العربية «المهمة»، أي تلك التي يمكن أن تساعد أو تعطل تحقيق هذه الأهداف، من هذه الدول العربية المهمة مصر بلاشك، ففضلاً عن الفائدة التي يحققها اشتراك مصر في بعض العمليات الحربية، لا يمكن التقليل من الفائدة الإعلامية للزعم بأن مصر بثقلها المعروف في المنطقة العربية، تؤيد ما يجري عمله لإعادة ترتيب المنطقة، ناهيك عما يحققه التأييد المصري لهذه الأعمال من إزالة الخوف من قلوب حكومات عربية أخري تحتاج دائماً إلي التعلل بأنه «إذا كانت مصر موافقة، فما الذي بيدنا أن نصنعه؟»،
أضف إلي كل ذلك بالطبع الفوائد المباشرة التي يحققها انفتاح مصر، بحجمها السكاني وثروتها البشرية، علي رؤوس الأموال والبضائع الأمريكية والإسرائيلية، إذا سارت مصر بخطي حثيثة نحو بيع القطاع العام، وتهيئة البلاد لاستقبال الاستثمار الأجنبي، أو بعبارة أدق، بيع القطاع العام للأمريكيين والإسرائيليين، واستقبال الاستثمار الأجنبي من هاتين الجهتين، حتي لو تسمت الشركات القادمة ومشترو القطاع العام بأسماء دول أخري، قد يقال «وهل كان النظام المصري يبدي أي اعتراض علي أي شيء من هذا طوال العشرين أو الثلاثين عاماً الماضية؟
هل يمكن أن يطمع الأمريكيون والإسرائيليون في نظام «أفضل» من هذا النظام؟ وهنا نصل إلي التفسير الحقيقي لما حدث في مصر في السنوات الأخيرة من تغييرات مدهشة أقرب إلي الألغاز.
لقد انتهت بحلول حكومة الدكتور أحمد نظيف (في صيف ٢٠٠٤) فترة طويلة ومختلفة تماماً عما جاء بعدها، وهو يدل في رأيي علي شروع الإدارة الأمريكية في تطبيق ذلك الجزء من مخططها المتعلق بالشرق الأوسط، والذي بدأ بهمة بالغة بالاحتلال الأمريكي - البريطاني للعراق في مارس ٢٠٠٣.
لقد استغرق التمهيد لتنفيذ هذا المخطط بعض الوقت (من سبتمبر ٢٠٠١ إلي مارس ٢٠٠٣)، كما أن تنفيذه الذي يجري حالياً تقابله من حين لآخر العثرات والصعوبات التي تتعلق أساساً، ليس بالضبط بضراوة المقاومة العراقية، كما يظن البعض، بل بضراوة الاعتراضات والعقبات التي تضعها دول كبري أخري في وجه انفراد الولايات المتحدة (وبريطانيا) بالجوائز دونها، والتي تجري مفاوضاتها من وراء الكواليس ونادراً ما نسمع عنها شيئاً.
جاءت حكومة د.نظيف بملامح مفاجئة وجديدة تماماً علينا، لم نتعود رؤيتها في حكومات أمثال عاطف عبيد أو الجنزوري أو عاطف صدقي، فهؤلاء الرجال الثلاثة الذين احتلوا مركز رئيس الوزراء لمدة تقرب من عشرين عاماً (١٩٨٦ - ٢٠٠٤) كانت لهم صفة مشتركة لا تتوافر في د.نظيف، وهي أن تاريخهم الوظيفي (والسياسي) قد علقت به بعض آثار العهد الناصري، الذي كان يتطلب الولاء للقطاع العام ولنوع من الاشتراكية وتضييق الفجوة بين الطبقات.
لم يكن أي من هؤلاء الثلاثة اشتراكياً بطبعه (بل ربما كان العكس هو الأقرب إلي الصحة)، ولكنهم عاشوا فترة أطول من اللازم في ظل الاشتراكية، واضطروا في مرحلة أو أخري إلي السير في ركابها (أو التظاهر بهذا علي الأقل) إما بالاشتراك في تأليف كتب تمتدح الاشتراكية العربية، أو في عضوية لجنة من لجان الاتحاد الاشتراكي...إلخ.
إن مثل هذا التاريخ لا يمنع بالضبط من اشتراك رجل من هؤلاء في تحويل النظام من الاشتراكية إلي الرأسمالية، ولكن يبدو أن مجرد الاتصال بشكل ما بالعهد الاشتراكي يجعل التحول الكامل إلي الرأسمالية أمراً صعباً، ويجعل المرء يتردد كثيراً قبل أن يتخذ قراراً مثل إلغاء الدعم أو تخفيضه، أو بيع إحدي مؤسسات القطاع العام إلي شركة أجنبية، ناهيك عن أن رجلاً كهذا إذا أصبح رئيساً للوزراء لابد أن يميل إلي اختيار وزراء من نفس النوع، فيصعب أن يحدث علي أيديهم التحول المطلوب.
الدكتور نظيف ليس من هذا النوع، فهو «نظيف» تماماً من أي شبهة تتعلق بالاشتراكية أو حب القطاع العام، ومن الممكن جداً أن يختار وزراء لا يؤمنون بأي صورة من صور القطاع العام، ويحتقرون أي نوع من أنواع تدخل الدولة، ولو كان لصالح الفقراء، الذين هم في نظرهم، المسؤولون الوحيدون عن فقرهم. إني لا أشك في أن فكرة تعيين د.أحمد نظيف وهذا النوع من الوزراء الذين جاءوا معه، قد نبتت في مكان ما خارج القاهرة، ثم بُلغت بها القاهرة فجري تنفيذها.
ذلك أنه من المفيد جداً أن يتولي رئاسة الوزراء والوزارات وثيقة الصلة بالاقتصاد (كالاقتصاد والتجارة والصناعة والسياحة والنقل والإسكان) رجال يمكن أن يتفهموا تمام الفهم المطالب الأمريكية في المرحلة الجديدة، ويتعاطفوا بطبيعتهم معها، إذ إن طبيعة نشاطهم قبل توليهم الوزارة كانت من نفس هذا النوع المطلوب تشجيعه، ولهم علاقات قديمة ووثيقة بالشركات الأجنبية مما يجعل من السهل عليهم أيضاً أن يتفاهموا مع المستثمرين الأجانب.
أما فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، وموقف مصر من الهجوم الأمريكي علي العراق، ومن الهجوم الإسرائيلي علي لبنان، فهؤلاء الوزراء ورئيسهم ليس من طبعهم أن يشعروا بالضيق الشديد إزاء ما تفعله أمريكا وإسرائيل في العراق ولبنان،
فهؤلاء لم يعانوا في أي وقت من أي شعور بالتعاطف مع بقية العرب، ولديهم ميل طبيعي لتقدير «الكفاءة» الإسرائيلية حتي ولو راح ضحيتها بعض العرب، وهم يرحبون بشدة بأي نوع من السلام يضمن لهم الاستمرار في تحقيق الأرباح من مشروعاتهم الخاصة بصرف النظر عن الخسائر السياسية التي يمكن أن تصاب بها مصر من وراء هذا السلام.
ومع كل هذا فعلينا ألا نعلق أهمية مبالغًا فيها علي دور هؤلاء الوزراء أو حتي علي رئيس الوزراء، فهؤلاء في نهاية الأمر ينفذون سياسات لم يفكروا فيها ابتداء، بل فقط يتعاطفون بطبيعتهم معها، أما الذين «يفكرون» و«يخططون» حقيقة ويطرحون من وقت لآخر فكرة تطوير هذا القطاع أو ذاك، أو تنفيذ هذا المشروع الكبير أو ذاك، أو عقد اتفاقية دولية مهمة «كالكويز مثلا» مع هذه الدولة أو تلك، أو تحديد نوع التغيير المراد إجراؤه علي نظام التعليم في مصر، وطريقة تمويل الدراسات اللازمة له.. إلخ،
هذه الأفكار كلها لابد أن يكون مصدرها مجموعة مهمة من الناس يقيمون عادة في الخارج ويساعدهم علي فهم «المكون» المصري، وما يتطلبه الواقع المصري من تعديلات علي هذه الأفكار لتسهيل تنفيذها، يساعدهم علي هذا مجموعة مهمة أخري من المصريين تقوم بدور الوسيط بين الحكام الحقيقيين في الخارج، والمنفذين المصريين الذين يحتلون مناصب مثل رئاسة مجلس الوزراء أو الوزراء.
من هم أعضاء هذه «المجموعة المهمة» من المصريين الذين يقومون بدور الوسيط بين الإدارة الأمريكية و«المنفذين» المصريين؟ لا أظن أن من الصعب علي القارئ تخمين أسمائهم، وهم قد يزيدون أو ينقصون مع الوقت، ولكن من بينهم نواة صلبة لا تتغير بسهولة، وقد لا تتغير أبدا، بل قد يرجع تاريخها في السياسة المصرية إلي عهد عبدالناصر نفسه، وإن كانوا قد قاموا بأدوار مختلفة في الحقب المختلفة من تطور النظام المصري.
لهؤلاء الأشخاص الذين سوف أسميهم «الوسطاء» بعض الخصائص النفسية التي تسمح لهم بلعب هذا الدور الغريب والمتغير مع تغير العصور، إنهم لسبب أو آخر يكرهون الضوء «أو علي الأقل الضوء الباهر»، ومن ثم فهم ليسوا طلاب شهرة، قد تنشر صورهم بكثرة، ولكن هذا يكاد أن يكون، بالرغم منهم، لكثرة ما يقومون به من مهام في فترة صعبة،
وقد كانوا في الستينيات والسبعينيات، مثلا لا تكاد تري لهم صورة أو يسمع لهم صوت، ذلك أنهم، بالنظر إلي طبيعة العمل الذي يقومون به «عمل الوسيط الذي ينقل الرغبات ويسهل المأموريات ويصوغ أفكار الغير دون أن تكون له أفكار خاصة به» يفضلون أن يتم هذا كله في الظلام، وبأقل قدر ممكن من الضوضاء.
ما المكافأة التي يحصلون عليها إذن؟ المال الوفير ربما، المتع الحسية البسيطة ربما، أو ربما حتي مجرد رضا الرؤساء عنهم.
من الطبيعي أن هذا الصنف من الناس يكثر بين أفراده التنافس وتشتد الأحقاد والغيرة، ومن ثم فهم قد يضمرون لبعضهم البعض كراهيات دفينة، وقد يعيدون ترتيب علاقاتهم، بعضهم ببعض، المرة بعد المرة، وقد يتآمر فريق منهم للإطاحة بواحد منهم يخشي من اتساع نفوذه وصعوده السريع.. إلخ.
هذه المجموعة من الأشخاص هم أقرب أعضاء النظام المصري في الواقع لصفة «الحكام الحقيقيين»، إذا استبعدنا بالطبع أصحاب العقد والربط في واشنطن.
إنهم في رأيي أقرب إلي هذه الصفة من الرئيس مبارك نفسه، وأقرب إليها طبعا من نجل الرئيس، علي الرغم من كل ما ينسب يوميا من آراء وأفكار وقرارات لهذا أو ذاك.
ما مصدر القوة الحقيقية لهذه المجموعة من المصريين، علي الرغم من أن دورهم لا يزيد علي دور الوسيط؟ إن من السهل أن نعرف الإجابة عن هذا السؤال بمجرد أن نتذكر «مديري المكاتب»، ونتساءل عن مصدر قوتهم.. إن مدير مكتب أي وزير أو مسؤول كبير قد لا يحظي إلا بقدر ضئيل جداً من الأبهة التي يحظي بها الوزير والمسؤول،
ولكنه في الحقيقة أقوي من الوزير نفسه، علي الأقل في مجالات كثيرة مهمة، هذه القوة تعود أولاً إلي معرفته الوثيقة بجميع التفاصيل التي لا يمكن أن يتحقق الهدف، أي هدف، بدونها، وهي معرفة تتيح له استخدام سلطة الوزير أو الرئيس لمصلحته الشخصية وهو أثناء نقل الرسائل أو الأوامر من طرف لآخر، يجد من السهل أن يحور ويعدل الرسالة أو الأمر لصالحه أو يفسرها بما يحقق رغباته.
بل إن سعة معرفة هذا الوسيط باتجاهات الناس ورغباتهم الحقيقية قد تسمح له بممارسة درجة عالية من الخداع، سواء خداع رئيسه الذي يعتمد عليه في معرفة ما قد يحميه من غضب الناس، أو حتي خداع متخذي القرارات الأساسية في مقرهم في واشنطن، الذين قد تغيب عنهم بعض التفاصيل المهمة عن أحوال الناس العاديين في مصر.
نعم، هذه الفئة الصغيرة من الناس هم الحكام الحقيقيون في مصر، ما داموا يتصرفون علي نحو لا يتعارض مع القرارات الأساسية التي تأتي من واشنطن، كما أنهم هم المسؤولون عن تلك المؤامرة الكبري التي عرفت باسم «التوريث»، ولكن قضية التوريث هذه تحتاج إلي مقال منفرد.
*نقلا عن جريدة "المصري اليوم" المصرية

العدالة الاجتماعية روح الدستور الديمقراطي

الأهرام 21/2 بقلم‏:‏ صلاح الدين حافظ
لايزال حديث الاصلاح الديمقراطي والتعديل الدستوري صاخبا‏,‏ وبرغم أهميته فإنك لاتجد إلا منطقتنا في هذا العالم الواسع‏,‏ التي تجمع التناقض بكل معانيه‏,‏ فهي الأعلي حديثا عن الديمقراطية‏,‏ وهي في الوقت نفسه الأشد عداء للديمقراطية‏,‏ حيث الفعل يناقض القول‏..‏ورغم ايماننا الثابت بضرورة الإصلاح الديمقراطي والدستوري‏,‏ فإن صخب الحديث عنه‏,‏ دون الفعل‏,‏ أصبح كالسحابة الدخانية السوداء‏,‏ التي تخفي وراءها أهدافا أخري‏,‏ ونظن أنها تخفي الاندفاع في إجراءات اقتصادية وسياسات متسرعة‏,‏ تصيب الكيان الاجتماعي بالتمزق والإفقار‏!‏وفي ظل هذه السياسات‏,‏ أصبحت الخصخصة‏,‏ وبيع ركائز الاقتصاد مهما كانت أهميتها الاستراتيجية‏,‏ كالبنوك والصناعات المهمة ومصادر الثروات الطبيعية‏,‏ نمطا ثابتا لحكوماتنا الرشيدة‏,‏ سواء بسبب حاجتها لموارد عاجلة والتخلص من أعبائها‏,‏ أو بسبب الخضوع للضغوط الأجنبية ونصائح البنك الدولي وصندوق النقد الدولي‏..‏ والنتيجة المؤكدة هي زيادة الأعباء الاقتصادية والاجتماعية علي الفقراء‏,‏ الذين يزدادون كل يوم عددا وفقرا‏,‏ لصالح قلة من الأغنياء يزدادون ثراء ويقلون عددا‏..‏ تلك هي المفارقة القاتلة حقا‏!.‏وبالمقابل‏,‏ فقد أطلقت الأمم المتحدة‏,‏ صيحة مضادة‏,‏ تحذر من اندفاع الدول نحو هذه السياسات الاقتصادية غير المتوازنة‏,‏ واندفاع الشعوب في الغرق في بحور البطالة والفقر والاحباط‏,‏ في ظل نظم حكم استبدادية قهرية‏,‏ وسمت هذه الصيحة بالحكم الصالح الرشيد‏..‏فما هو هذا الحكم الصالح الرشيد‏,‏ وما هي قواعده؟‏!‏الحكم الرشيد ببساطة يقوم علي جناحين‏,‏ أولا جناح الاصلاح الديمقراطي‏,‏ واطلاق الحريات العامة والمساواة وتداول السلطة عبر انتخابات عامة نظيفة ونزيهة‏,‏ وقيام برلمانات وحكومات تلتزم بحكم القانون‏,‏ ويخضع الجميع لقضاء عادل‏,‏ وصحافة حرة مستنيرة تراقب وتسائل وتحاسب‏,‏ وثانيا جناح العدالة الاجتماعية‏,‏ التي تكفل للمواطنين الحاجيات المعيشية الأساسية‏,‏ وفي مقدمتها الغذاء والمسكن والملبس والعلاج والتعليم‏,‏ بل وحق الترفيه‏,‏ بصرف النظر عن طبيعة النظام الاقتصادي‏,‏ سواء كان رأسماليا او غير ذلك‏!‏فإن كان ذلك كذلك‏,‏ فمن الخطأ القاتل والخلل الصريح‏,‏ أن تأخذ حكوماتنا بجزء بسيط من هذه الحزمة السياسية الاقتصادية الاجتماعية‏,‏ وتترك الباقي‏,‏ بحجة التدرج والتمهل والتعقل‏!!‏ معتبرة أن التحول السريع إلي الاقتصاد الحر والليبرالية‏,‏ لا يتحقق إلا ببيع مصادر الثروة لأصحاب المال والقدرة من المواطنين‏,‏ وهم قلائل‏,‏ ومن الأجانب وهم كثرة‏,‏ يمثلون احتكارات عابرة للقارات والجنسيات‏,‏ ثم تنسي وتتجاهل حكوماتنا كل ما يتعلق بالجوهر‏,‏ ونعني الاصلاح الديمقراطي الحقيقي‏,‏ وكفالة العدالة الاجتماعية‏,‏ ومد شبكة الأمان فوق ملايين الفقراء‏!‏وكيف لا وقد أصبحت قوة المال هي مصدر النفوذ‏,‏ في صياغة السياسات الحكومية‏,‏ ووضع التشريعات القانونية وتمريرها عبر البرلمان‏,‏ بل وفي توجيه الصحف والإعلام‏,‏ وفي التحكم في عديد من الأحزاب والنقابات المهنية‏,‏ وربما مراكز البحوث والدراسات والجامعات‏,‏ ولم يبق مستعصيا من التنظيمات سوي النقابات العمالية‏,‏ التي لجأت زخيرا في مصر إلي سلاح الاضراب عن العمل‏,‏ للحصول علي المطالب والحقوق‏,‏ ويكفي أن تعرف أن مصر شهدت خلال النصف الثاني من عام‏2006‏ المنصرم‏,‏ وفق دراسة لمركز الأرض صدرت قبل أيام ـ‏79‏ اعتصاما و‏47‏ إضرابا و‏96‏ مظاهرة وتجمهرا‏!‏‏***‏وقد لفتت ظاهرة تصاعد الاضرابات والاعتصامات العمالية خلال الشهور الأخيرة‏,‏ أنظار الجميع‏,‏ إلي أن الأوضاع الاجتماعية المتردية‏,‏ في ظل السياسات الاقتصادية المتبعة‏,‏ وتحت ضغوط البطالة السافرة والمقنعة وارتفاع الاسعار وتدني الأجور‏,‏ أصبحت تهدد الاستقرار‏,‏ ولم يعد صخب الحديث والقول دون الفعل‏,‏ عن الاصلاح السياسي وتعديلات الدستور‏,‏ يخفي وراء دخانه الكثيف‏,‏ حقيقة أن العدالة الاجتماعية غائبة أو مغيبة‏,‏ مثلما أن الحريات متراجعة‏!‏ولا نظن أن العاكفين علي مناقشة‏,‏ ثم إقرار‏,‏ التعديلات الدستورية المطروحة الآن‏,‏ في‏34‏ مادة‏,‏ سواء في الحزب الحاكم أو في البرلمان بشعبيته‏,‏ مجلس الشعب ومجلس الشوري‏,‏ قد سمعوا واستوعبوا معني تصاعد الاضرابات العمالية‏,‏ واحتمال انتقال عدواها إلي فئات شعبية مطحونة أخري‏,‏ حتي وإن كانوا قد سمعوا واستوعبوا‏,‏ فإنهم في الواقع غير قادرين‏,‏ علي إدخال تعديلات أخري في الدستور‏,‏ تضمن هذه العدالة الاجتماعية‏,‏ بعد أن أصبح ممثلو ونواب قوة المال الأعلي صوتا في الحكومة‏,‏ كما في البرلمان‏!‏ولقد يتصور أحد المتفلسفين من أنصار الرأسمالية الشرسة‏,‏ أننا نأسي علي حذف المصكوكات الاشتراكية التي كانت في الدستور‏,‏ وربما نتمني بقاءها‏,‏ وجوابنا هو النفي‏,‏ إنما نحن نأسي علي مستقبل الوطن وأمنه الاقتصادي وأمانه الاجتماعي‏,‏ إن تركنا مصير دستوره وتشريعاته وسياساته الحكومية‏,‏ في أيدي تلاميذ البنك الدولي وأبناء المتأمركين العرب وحفنة الرأسماليين الجدد‏,‏ بالتعاون مع فرقة ترزية القوانين ضعيفي الصنعة وفاقدي الرؤية الاجتماعية العادلة والسلمية‏!‏ونكرر هنا من باب التذكير‏,‏ أن الدستور ليس كهنوتا غامضا‏,‏ ولا طلسما غيبيا يستعصي علي البشر‏,‏ وهو ليس نصا قانونيا مجردا‏,‏ لكن الدستور هو عقد اجتماعي ووثيقة سياسية قانونية‏,‏ يضع أسس التعاقد بين الحاكم والمحكوم‏,‏ ويصوغ مباديء تنظيم العمل والحياة والتعايش بين البشر‏,‏ ويكفل الحريات ويصون الحقوق‏,‏ للكافة دون تفرقة أو تمييز طبقي أو ديني‏,‏ اجتماعي أو سياسي أو اقتصادي‏.‏أما حين لا يضمن الدستور ذلك كله‏,‏ فتنتفي ضروراته وتسقط شرعيته بين الناس‏,‏ حتي لو أقره البرلمان ورفعه الحاكم سلاحا في وجه المحكومين‏!‏وفي بلد مثل مصر كبيرة المكان والمكانة‏,‏ غزيرة الخصوبة والسكان‏,75‏ مليونا‏,‏ تاريخية الحضارة‏,‏ عرفت البرلمانات والدساتير منذ منتصف القرن التاسع عشر‏,‏ ضمن الموجة الثانية من الحكم الديمقراطي في العالم‏,‏ يصعب الضحك عليها الآن بأي دستور وأي قانون وأي حكومة وأي حديث عن الديمقراطية‏.‏إنما ما تحتاجه مصر الآن‏,‏ وهي في مرحلة انتقال تفور بالمتغيرات وتزدحم بالمشاكل وتغلي بالاحتقان السياسي والغضب الاجتماعي‏,‏ هو اصلاح ديمقراطي حقيقي‏,‏ يلتزم بمباديء الحكم الصالح الرشيد‏,‏ وهو ضمان العدالة الاجتماعية‏,‏ جنبا الي جنب مع ضمان الحرية في ظل دولة القانون والمؤسسات‏,‏ وليس دولة الطواريء ونرجسية الأشخاص‏!‏ولقد عكفت خلال الأيام الماضية‏,‏ علي قراءة عدة دراسات وتقارير مهمة صادرة عن جهات رسمية وأخري عن منظمات للمجتمع المدني‏,‏ تناولت الحالة المحتقنة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا‏,‏ مثل الدراسات المطروحة للتعديلات الدستورية‏,‏ وتقرير التنمية البشرية‏,‏ وتقرير مركز الأرض‏,‏ وتقرير الاتجاهات الاقتصادية الاستراتيجية باشراف الدكتور أحمد النجار والصادر عن مؤسسة الأهرام‏,‏ واستطلاع للرأي أجراه مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء‏,‏ فضلا عن كتاب مهم عنوانه ضحايا العولمة‏,‏ ألفه عالم اقتصاد أمريكي حائز علي جائزة نوبل هو جوزيف ستجليتز‏,‏ لفت نظري اليه المستشار الفاضل حسين عبد الله ابراهيم‏.‏‏***‏كنت أبحث عن مخرج لهذه الحالة المحتقنة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا‏,‏ بصرف النظر عن الضجيج السياسي والصخب الاعلامي‏,‏ المدافع دوما عن السياسات الحكومية‏,‏ وخلاصة ما وصلت إليه‏,‏ وأرجو ألا يكون مبتسرا أو متسرعا‏,‏ هو أننا‏..‏ نحتاج أكثر من أي وقت مضي‏,‏ إلي مزاوجة حتمية‏,‏ بين تنمية دائمة وعادلة‏,‏ وديمقراطية حقيقية‏,‏ تنعكس إيجابا علي جموع الناس‏,‏ ولا تحتكرها قلة من الصفوة المحتكرة لسلطة الحكم وقوة المال علي حساب الضعفاء الفقراء المقهورين‏,‏ قلة تحتمي دائما بشعارات العولمة‏,‏ وأوامر صندوق النقد الدولي وضغوط الحكومات الأجنبية فتطيع صاغرة‏,‏ مقابل أن تبقي في الحكم قابضة علي الثروة‏!‏باختصار شديد‏,‏ يقول تقرير الاتجاهات الاقتصادية الاستراتيجية‏,‏ إن الانحيازات الصارخة للنظام السياسي في مصر‏,‏ إلي الطبقة العليا ومصالحها‏,‏ وسيطرة رأس المال علي السلطة يسهم في زيادة الفوارق بين الطبقات وانعدام العدل والتهميش الشامل‏,‏ فضلا عن انتشار الفساد الذي يؤدي إلي تحويل أموال عامة الي أموال خاصة‏,‏ وبصورة غير مشروعة‏,‏ وهذا كله يسهم بصورة كبيرة في توليد الفقر والاحتقان‏.‏ويضيف ستجليتز حامل نوبل‏,‏ ان التنمية الحقيقية ليست مساعدة حفنة صغيرة من الناس علي الثراء‏,‏ ولا إقامة عدد من الصناعات التي تحظي بحماية حمقاء تستغلها الصفوة‏,‏ ولا تعني جلب السلع الاستهلاكية لأثرياء المدن‏,‏ وترك فقراء الريف في بؤسهم‏,‏ إنما التنمية تعني تغيير المجتمع وتحسين أحوال الفقراء وتوفير الرعاية الصحية والتعليمية‏,‏ والمشاركة الشعبية في وضع السياسات واتخاذ القرار‏.‏وهذا مانريده حقا‏,‏ تنمية تكفل العدالة الاجتماعية للأغلبية الساحقة في المجتمع‏,‏ وديمقراطية تضمن المشاركة الحقيقية في إتخاذ القرار‏.‏وليس أولي من الدستور‏,‏ في تحقيق هذين الهدفين‏,‏ وإلا انتفي سبب وجوده‏,‏ وسقطت شرعية بقائه‏,‏ وأصبح من حق الفقراء والمهمشين والمقهورين البحث عن طريق آخر‏!!‏‏***‏‏**‏ خيرالكلام‏:‏يقول أبوالعلاء المعري‏:‏إذا فعل الفتي ما عنه ينهيفمن جهتين لا جهة أساء

حديث عن المرجعية الديمقراطية

عبد المنعم سعيد ــ الشرق الأوسط 21/2
شاهدت ربما مع ملايين غيري بانتباه واهتمام، ذلك الحوار الذي أجرته قناة الجزيرة في قطر بين العلامة الإسلامي الإيراني «الشيعي» آية الله علي أكبر هاشمي رفسنجاني رئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام في إيران حاليا ورئيس الجمهورية الإيراني سابقا، والعلامة الإسلامي المصري الأصل القطري الإقامة «السني» الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي. وبدون مبالغة فربما لم يحدث في التاريخ الإسلامي كله أن جرى مثل هذا الحوار بين الشيعة والسنة على مرأى من جماهير واسعة ممتدة بامتداد العالم الإسلامي؛ فلم يكن فيما مضى من قرون هذا التطور التكنولوجي، الذي يخرج المواقف الفقهية والسياسية إلى العلن وأمام الناس بمثل ما جرى على الشاشة منذ أيام.
ولم يكن ذلك يعني أنه لم تكن هناك خلافات ومساجلات واتفاقات وتحالفات وحروب فكرية وفعلية من قبل، ولكن الذيوع والانتشار والعلنية لم يسبق أن وصلت إلى هذه الدرجة؛ فقد كان على صاحب الحجة أن يكتبها ثم بعد ذلك يتم نسخها حتى يتم تداولها ونقلها عبر عقود وقرون، أما الآن فقد كان كل ذلك فور حدوثه بين يدي الرأي العام ينظر فيها ما يرى ويحكم.
وببساطة كان بعض من الديمقراطية تتم ممارسته على شاشة الجزيرة، حتى من دون وعى من المشاركين كما سوف نرى بعد قليل؛ ولكن حسبنا هنا القول إن الديمقراطية هي عصر كامل له تكنولوجياته وأدواته وممارساته والتي لم يكن ممكنا حدوثها عندما كانت أدوات المعرفة عقلا وقلما وقرطاسا، وحينما كانت تنعدم العلاقة بين صاحب الفكر والعامة، لأنهم لم يكونوا يعرفون القراءة والكتابة من الأصل. كانت المعرفة واقعة بين يدي قلة القلة، ومن ثم كان الطبيعي أن يكون نظام الحكم قائما على فرد أو جماعة قليلة يمثل لهم أهل العلم نوعا من المستشارين أو الكهنة أو المبررين لأفعال السلطان، ورابطين بينها حقا أو خداعا بقواعد الدين الحنيف. وكان طبيعيا وسط ذلك كله أن يقوم الفكر السياسي على الغلبة والعصبية وتداول السلطة بالانقلاب والثورة والدم، بعيدا عن رغبة «الرعية» كما فصل ابن خلدون في مقدمته الشهيرة.
ولكن ما جمع رفسنجاني وقرضاوي لم يكن الديمقراطية أو لرغبة في توصيل الحقيقة إلى الناس، وإنما أن كل واحد منهما أصولي في مجاله، فالأول واحد من النجوم اللامعة للثورة الإسلامية في إيران، والثاني هو الأكثر شهرة بين كل الدعاة، الذين خرجوا من عباءة الإخوان المسلمين. والأول يمثل الأصولية «الشيعية» بامتياز، فالوصول إلى مراتب آيات الله ومصاحبة الخميني ومرافقة المرتب العليا لأهل الحوزة، لا يكون من دون علم ومعرفة؛ أما الثاني فهو فقيه فقهاء العصر والجماعة «السنية» بما ألفه وحدثه بين إمامة الصلاة وشاشات التليفزيون. كلاهما أصولي على طريقته، ويجمعهما ما يرونه أن أصل الشرور في المنطقة يتجسد في الولايات المتحدة وإسرائيل، وكانت المواجهة معهما في فلسطين والعراق وأخيرا إيران هي الدافعة إلى حوار المذاهب في مؤتمر الدوحة الأخير حول التقريب بين السنة والشيعة، وهي الحافزة على لقاء القطبين الشيعي والسني على شاشات الجزيرة.
ولكن ما جمع رفسنجاني والقرضاوي ـ الأصولية والمواجهة مع أمريكا ـ كانت هي ذاتها في النهاية التي فرقت بينهما عندما اقترب الحديث من السياسة العملية حتى أنك لا تعلم عما إذا كان أهل الشيعة قد صاروا أقرب إلى أهل السنة بعد انتهاء اللقاء عما كان عليه الحال قبله؟ فكلاهما متردد في الإفضاء بالمعلومات الصريحة التي يشكو منها، وكلاهما مكتف بالإشارة عندما وجب التفصيل، وبالسكوت عندما لزم الكلام، وبالتلميح عندما جاء وقت الصراحة. وظهر ذلك جليا عندما أشار كلا منهما إلى أن الآخر «يعلم» ما هو واجب العلم من دون عرض لما هو معلوم لكليهما على الناس، فعندما أصر رفسنجاني على السؤال: من الذي بدأ بالقتل والعدوان في العراق، ظل السؤال معلقا حائرا رغم مركزيته لدى الشيعة على الأقل، ولن يعلم أحد بعدها عما إذا كان ذلك عمليا يعطي مبررا للمجازر والتصفية العرقية الجارية الآن ضد السنة في العراق.
وبالطبع فقد هرب القرضاوي من الحقيقة المرة إلى تسجيل قيام علماء السنة، وهو شخصيا بإدانة العمليات الإرهابية التي قام بها الزرقاوي ورفاقه؛ وهو الأمر الذي فعله رفسنجاني بسهولة ويسر هو الآخر فقد سجل قيام علماء الشيعة بإدانة واستنكار جرائم الجماعات الشيعية مع التأكيد على أنهم لم يكونوا هم البادئين، ومن ثم حمل الحديث إشارة ساكتة إلى أنه على الباغي تدور الدوائر، وأنه لولا التفوق الشيعي ربما لما اهتم علماء السنة كثيرا. فكلاهما ظل مترددا في الإدانة الأخلاقية وحتى الدينية إزاء عمليات العنف مخافة الوقوع في فخ الجريمة الأمريكية بوصم «المقاومة» بالإرهاب، وعندما حاول القرضاوي حل القضية حلا إحصائيا بأن «الإرهابيين» لا يتجاوزوا 5 أو 10% من القائمين بالعنف في العراق، أما الغالبية الساحقة فهم من المعارضين للاحتلال فقد تجاهل الحقيقة المرة، وهي أنه إذا كان ذلك كذلك، فلماذا كان عدد القتلى الأمريكيين من المقاومة، لا يزيد كثيرا عن ثلاثة آلاف قتيل، بينما عدد القتلى من العراقيين يقترب من المليون غالبيتهم من الشيعة.
وعلى أي الأحوال فقد وجد كلاهما ملاذا في الولايات المتحدة للخلاص من المأزق الأصولي، فعندما طرح القرضاوي حقيقة أن هناك قرابة خمسة عشر مليونا من السنة في إيران، لا يوجد منهم وزير واحد في الحكم هرب رفسنجاني إلى أن لديه معلومات يريد أن يقولها، ولكنه يخشى ألا يحقق ذلك هدف اللقاء والحوار وهو الوحدة والتقريب بين السنة والشيعة في المواجهة مع الأمريكيين ومن تحالف معهم. ومن المرجح تماما أن صاحبنا لم يكن لديه معلومات عن إيران يقدمها للقرضاوي وجمهوره، لأنه لن يوجد فيها ما يعيب طهران، ولكن ما كان لديه هو معلومات عن الدول العربية ذات الأغلبية السنية، والتي لا تعطي وزارة ولا سفارة لا لشيعة أو لمسيحيين، فضلا عن سياسات أخرى تعزل الأقليات في العموم عن المناصب العامة. وهكذا وقف الطرفان أمام المرآة مباشرة مع قضية الأقليات في العالم الإسلامي، ولكن عارضيها لم يكونوا على استعداد للاعتراف بها، طالما أن الأصولية هي مرجعيتهم وليست الديمقراطية التي تكفل لجميع الناس، بغض النظر عن الدين والعرق، حقوقا متساوية.
ومن المدهش أن القرضاوي الداعي للمصارحة، كان هو الذي طالب بالحوار في الغرف المغلقة بعيدا عن «الإثارة والغوغائية»، وهي المظاهر الذائعة في الفكر الأصولي عامة عن «الرعية» و«الرعاع» و«العامة». فالقضية هنا ليست «الشفافية» كما تتبناها المرجعية الديمقراطية، كما أنها ليست الاعتدال في القول، والحصافة في التفكير، والكياسة فى العرض، وكلها من الفضائل اللازمة لحياة ديمقراطية صحيحة. أما الفكر الأصولي القائم على «الإثارة» و«التحريض» والتعبئة ونشر الغضب بين المسلمين ـ وهي دعوة قرضاوية مستمرة ـ وبث الحماسة بغض النظر عن معاني القول، فإنه يجد نفسه حينما يجد جد الحديث، بعيدا عن الناس بعقولهم الصغيرة وأحلامهم الغثة. والحقيقة أنه لا يبدو هناك مخرج للطرفين من المسلمين إلا من خلال الشفافية والتقاليد والفضائل الديمقراطية، التي تحض على المساواة والاعتراف بالآخر ومواجهة المشكلات بصراحة.

هل هذا ما يريده المثقف العلماني؟

فهمي هويدي ـ الشرق الأوســط 21/2

كنا جلوسا حول مائدة الطعام، أثناء المؤتمر الذي استضافته أخيرا إحدى الدول الخليجية، واذا بباحث من الإمارات يسأل مثقفا كويتيا عن تفسيره للتحول الذي حدث في منطقة الخليج، بحيث فقدت الكويت ريادتها التقليدية في المجال العمراني والاقتصادي في الأقل، حتى اصبحت دبي هى مركز الاستقطاب والجذب. في رده فاجأنا صاحبنا الكويتي ـ وهو أستاذ جامعي مخضرم له صلة بعلم الاجتماع ـ بما عقد ألسنتنا من الدهشة، اذ قال ان مشكلة الكويت الاولى تكمن في الدور الذي يقوم به الإسلام السياسي، الذي تصاعدت قوته خلال السنوات الأخيرة.
هذه القصة تذكرتها حين قرأت على هذه الصفحة في الأسبوع الماضي مقالة بعنوان «مأزق المناضل الأصولي»، اعتبرت الاصولية هي «الشيطان الاكبر» الذي اصبح مصدرا لكل الشرور التي حلت بالعالم العربي والاسلامي، ومن ثم فإنها تبنت نفس الموقف الذي عبر عنه المثقف الكويتي، بنفس الدرجة من التبسيط والتسطيح، وبذات «النظارة» التي عجزت عن ان ترى في واقعنا كارثة سوى التيار الأصولي، الأمر الذي يكشف عن المدى الذي بلغه عمق الخصومة المتمكنة من بعض عناصر التيار العلماني، الذين نراهم متوازنين وموضوعيين في كثير من مواقفهم، إلا انهم يفقدون توازنهم وموضوعيتهم، ويتبنون خطابا مغايرا تماما حين يتعلق الأمر بالظاهرة الاسلامية، إذ يتراجع العلم والمعرفة، وحتى الحس السياسي السليم، لصالح الهوى المسكون بالمرارة والرغبة الدفينة في الالغاء والاقصاء، الذي يشتط فيه البعض ممن ينقلون معركتهم ضد التيار الإسلامي، ويحولونها الى اشتباك مع الاسلام ذاته. ومن أسف أن ذلك حدث في مصر أخيرا، حين اشتبكت السلطة مع جماعة الإخوان المسلمين، وجاء ذلك متزامنا مع الحوار الداخلي حول تعديل بعض مواد الدستور، فإذا ببعض الأصوات العلمانية تنتهز الفرصة وتطالب بإلغاء النص في الدستور على أن دين الدولة هو الإسلام ومبادئ الشريعة هي المصدر الأساسي للقوانين. حتى الهوية الاسلامية ألحوا على إلغائها!
في النص المنشور، فإن الأصولية الإسلامية ليست مجرد دعوة محافظة تعود للأصول من اجل صلاح أمر الناس في الدنيا والآخرة، وإنما هي حركة سياسية ثورية تقلب دولنا ومجتمعاتنا رأسا على عقب، أو في الأقل وقف تطورها التاريخي، في اتجاه دولة مدنية وعصرية، ثم انها تقف موقف الممانعة إزاء كل المؤثرات الخارجية.. مثل تحقيق السلام في الصراع العربي ـ الاسرائيلي (الصلح مع الكيان الصهيوني) ـ أو إقامة علاقات وثيقة مع دول العالم الليبرالية ـ الديمقراطية في الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة.
بمثل هذه الملاحظات استهل الكاتب مقالته مرتكبا خطأين جسيمين، اولهما انه اعتبر تنظيم «القاعدة» الممثلَ الشرعيَّ الوحيدَ للاصولية الإسلامية، ومن ثم فإنه تجاهل عامدا أو غافلا. كل التمايزات الحاصلة في الساحة الإسلامية ـ وتبنى موقف ومفردات المدرسة التي تعتبر كل ناشط إسلامي أصوليا متشددا، ومن ثم فهو ارهابي وانقلابي. وهذا التبسيط الساذج أدى تلقائيا إلى إغفال أية إشارة إلى تيار إسلامي معتدل ـ هو الاصل في العالم العربي والاسلامي ـ يسعى الى الاصلاح بالوسائل السلمية والديمقراطية، وملتمسا الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
«التهمة» الثانية للاصولية الاسلامية في رأي الكاتب هى انها تقف في صف «الممانعة»، اذ انها تعارض الصلح مع اسرائيل، كما انها ترفض التبعية للغرب أو الانخراط في حركة العولمة. ورغم انه تحدث عن رفضها اقامة «علاقات وثيقة مع الدول الليبرالية والديمقراطية»، إلا ان الكاتب تجاهل تماما ان العالم العربي والاسلامي ليس ضد كل الغرب، وانما هو ضد السياسة الغربية بالدرجة الاولى، إلا اذا كان مصرا على ألا يرى في العالم الاسلامي سوى تنظيم «القاعدة» الداعي الى مواجهة الصليبيين والصهاينة. وذلك إن صح فإنه يعد خطأ منهجيا آخر.
اخطر من ذلك وأسوأ انه اعتبر «الممانعة» تهمة ـ تهكم عليها في اكثر من وضع في النص المنشور ـ وهي ملاحظة أسجلها بلا تعليق، تاركا للقارئ تقييمها، لكني اضيف ان شرف الممانعة ليس مقصورا على الأصوليين وحدهم، ولكنه موقف وطني تتبناه مختلف الفصائل التي لم تتلوث بعد في العالم العربي ـ حتى ان معارضة التطبيع ورفض التبعية لقوى الهيمنة الغربية، اصبحت الارضية المشتركة التي يجتمع عليها الوطنيون الشرفاء في العالم العربي، بمختلف توجهاتهم السياسية والفكرية، وللعلم، فإن مقاومة العولمة لم تعد موقفا أصوليا ولا وطنيا فحسب، وانما اصبحت حركة عالمية لها وجودها في أوروبا وامريكا اللاتينية، فضلا عن دول العالم الثالث في آسيا وأفريقيا.
بهذا المنطق المتهافت، حاكم الكاتب الاصولية الاسلامية، وخلص منه الى ان التجربة الاصولية فشلت في كل تجلياتها. «فما دخلت بلدا إلا قسمته، ودفعت به الى حرب مع طرف او اطراف في العالم» ـ وضرب لذلك مثلا بما حدث في الصومال والسودان وافغانستان وفلسطين ولبنان. ومثلما انه لم يقدم دليلا على ان الاصولية الاسلامية على اطلاقها تهدف الى «قلب دولنا ومجتمعاتنا رأسا على عقب»، فإنه لم يقدم دليلا ايضا على انها المسؤولة عن الحروب التي شهدتها تلك الدول، وبعضها نشب قبل ان تصل الجماعات الاسلامية الى السلطة، كما هو الحال في الصومال والسودان، والبعض الآخر هو من قبيل المقاومة، او الممانعة التي تهكم عليها الكاتب وأدانها، كما هو الحاصل في فلسطين ولبنان وافغانستان.
المدهش ان الكاتب في اصراره على تحميل الاصولية بكل الشرور التي شهدتها المنطقة، اسقط من حسابه التدخلات الخارجية التي اسهمت في تفجير الصراعات وتأجيج الاشتباكات؛ وفي المقدمة منها الاحتلال الاسرائيلي والمخططات الامريكية، ولم يشر بكلمة واحدة الى المأساة المروعة التي ترتبت على الغزو الامريكي للعراق.
بعد محاكمة الاصولية الاسلامية وتلطيخ صفحتها، دون أي تمييز بين الفصائل التي باتت تندرج تحت ذلك العنوان، تحول الكاتب الى ما سماه «المثقف المناضل الاصولي». فاتهمه بالعمل السياسي، الى الحد الذي غيب عن وعيه ادراك «فشل التجربة الاصولية من ألفها الى يائها». فهو مثلا يلقي اللوم على الآخرين في صراع حزب الله مع الحكومة اللبنانية، ويلقي اللوم على عاتق فتح بينما الحكومة بيد حماس، كما أنه يرسم صورة مثالية لمنجزات الجماعة الاصولية بحيث تبدو ايران على رأس دول العالم في التنمية البشرية والانسانية والتكنولوجية... ولم يشغل المناضل الاصولي نفسه بنقد ما جرى وتقييمه، ليس ذلك فحسب، وانما ظل الأصوليون العرب مناصرين لكل نظم وحركات الممانعة، مهما ارتكبت من جرائم ازاء مواطنيها.. الخ.
تلك نماذج مما ورد في صحيفة الادعاء على المثقف الاصولي والاصوليين العرب، التي عبرت عن ذات الأهمية من التسطيح والتبسيط، فهو مصر على ان الفشل المطلق هو نصيب كل تجربة اصولية، وليس مستعدا لأن يرى حزب الله حقق نجاحا في مواجهة اسرائيل، بل عجز عن رؤية ما رآه الاسرائيليون انفسهم من نتائج عدوان الصيف الماضي على لبنان. واعتبر نجاح حركة حماس في الحفاظ على خط المقاومة، ووقف التفريط في حقوق الشعب الفلسطيني، امرا مستهجنا وفشلا سياسيا. وغالط نفسه حين أدان بالمطلق تجربة حماس في الحكم وعمم الفشل عليها، في حين ان الكل يعلمون ان حماس تولت الحكومة حقا، لكن اهم الصلاحيات سحبت منها وأحيلت إلى الرئاسة، بل انه رفض ان يعترف بأن النظام الاصولي في ايران نجح على الاقل في الحفاظ على استقلال قراره السياسي، ثم انه افترض فقدان ذاكرة القارئ حين اطلق حكما آخر ادَّعى فيه أن الأصوليين العرب ناصروا نظم الممانعة، رغم ما ارتكبته بحق شعوبها من جرائم. ليس فقط لأن التعميم يهدم الادعاء من اساسه، ولكن ايضا لأن أي عقل سياسي رشيد لا يمانع في تأييد الموقف الايجابي لأي نظام ازاء قضية ما، في مسألة الممانعة أو غيرها، ثم معارضته او التحفظ على مسلكه في قضية أخرى مثل مصادرته للحريات. وذلك لا ينطبق على الاصولييين وحدهم، لأنه أيضا موقف الوطنيين الشرفاء في الأنظمة التي نعرفها في العالم العربي. بل موقف أي رؤية موضوعية ازاء مختلف التجارب السياسية في العالم.
في مقدمة الطبعة الاولى لكتابي «إيران من الداخل» ـ التي صدرت عام 1987 ـ قلت ما نصه ان التجربة الاسلامية في ايران «ليست هي الإسلام الأوحد، ولا هي بالضرورة النموذج الافضل والامثل.. وانما هي اجتهاد يصيب ويخطئ»، وحذرت من التحيز مع التجربة او ضدها، مشيرا الى انه «ليس من الضروري ان تكون مع الشيء كله او ضده كله، فقد نتفق في جانب ونرفض جانبا آخر». الموقف ذاته عبرت عنه في كتابي اللاحق «طالبان ـ جند الله في المعركة الغلط»، كما التزمت به فيما كتبت عن حكم الجبهة الاسلامية في السودان، ونشر وقتذاك في هذا المكان. مع ذلك، فإن الكاتب اصر طول الوقت على تعميم الاتهام بالعمى السياسي، ملحا على ان المناضل الاصولي في مأزق.
مشكلة هذا النموذج من المثقفين العلمانيين ـ هل نقول مأزقهم؟ ـ ان تعاطفهم مع الجذور الفكرية لقناعاتهم يدفعهم الى قراءة واقعنا بأعين غربية، الامر الذي يحولهم تلقائيا الى مستشرقين، وفي بعض الأحيان الى «محافظين جدد» على النمط الامريكي.
وهذه القراءة تغيب عنهم إدراك تمايزات الظاهرة الاسلامية على النحو الذي سبقت الاشارة اليه قبل قليل. وخطورة هذه الفئة ـ ولا أريد أن أعمم ـ التي ترى في التيارات الاسلامية شرا مطلقا وفشلا وخيبة دائمين، انها بموقفها ذاك تبرر اسلوب سحق الظاهرة، ورفع شعار «الاستئصال هو الحل». اما الأشد خطورة فهو ان هذا الفكر يهيئ تربة مواتية ويزرع بذور نازية جديدة في العالم العربي والاسلامي، تدعو الى ابادة التيارات الاسلامية بدعوى انها ميؤوس منها وضارة بالمجتمع، تماما كما فعل هتلر وصحبه من النازيين الذين دعوا الى ابادة اليهود وبعض الجماعات الاخرى أو تعقيمهم، لأنهم فئات «غير نافعة للمجتمع». وأرادوا بذلك تحقيق «النقاء العرقي»، تماما كما ان اصحابنا هؤلاء يشنون حربهم الشرسة ضد كل فصائل التيار الاسلامي، سعيا الى تحقيق «النقاء الفكري» في العالم العربي والاسلامي.
ـ هل هذا هو المطلوب حقا؟

ما حقيقة الذي يجري بين الإخوان والحكومة؟


بقلم ضياء رشوان المصري يوم ٥/٢/٢٠٠٧
ما حقيقة ومصير الذي يجري هذه الأيام بين الحكومة من جانب وجماعة الإخوان المسلمين من جانب آخر منذ الاستعراض الذي قام به بعض من طلابهم في جامعة الأزهر؟ هذا هو السؤال الذي تطرحه اليوم الغالبية الساحقة من السياسيين والمحللين الذين يتابعون يومياً الفصول والتطورات الجديدة في «الاشتباك» الجاري حالياً بين الطرفين دون توقف.
وفي خلال تلك المتابعة انتشرت مصطلحات عديدة لوصف ما يحدث، أبرزها «التصعيد الأمني» الحكومي ضد الإخوان و«الحزب الديني» الذي يريد الإخوان تأسيسه، وغيرهما من مصطلحات أبرزت في النهاية جوهراً لهذا الاشتباك يبدو - حسب تقديرنا - مختلفاً تماماً عن جوهره الحقيقي.
والأكثر رجحاناً هو أننا اليوم إزاء مرحلة فاصلة في تاريخ العلاقة بين الحكومة والنظام السياسي كله وجماعة الإخوان المسلمين، يحاول فيها كل من الطرفين إعادة صياغة المعادلة التي قامت عليها تلك العلاقة منذ عام ١٩٥٤، فمنذ محاولة بعض أعضاء التنظيم الخاص في الجماعة اغتيال الرئيس جمال عبدالناصر في ذلك العام، استقر لدي النظام السياسي برؤسائه الثلاثة المتعاقبين قرار بعدم الموافقة في أي وقت وأي ظروف علي منح جماعة الإخوان الشرعية القانونية التي ظلت تطمح إليها، بعد أن صدر قرار بحظرها عام ١٩٥٤، بعد محاولة الاغتيال وما أعقبها من صدام مع النظام الجديد.
إلا أنه في نفس الوقت ظلت الدولة المصرية خلال العهود الثلاثة، غير ساعية إلي القيام بتصفية واستئصال الجماعة من المجتمع المصري، بل سمحت لها في معظم الأحيان بالتواجد الواقعي غير الواسع في مساحات مختلفة من المجتمع السياسي والمدني.
وفي المقابل فمن الواضح أن الجماعة قد أدركت تلك المعادلة المركبة من جانب الدولة، وقبلت التعامل معها دون أن تقبل رسمياً ونظرياً نصفها الأول، وهو رفض الاعتراف القانوني بوجود الجماعة، بينما قبلته واقعياً وفي الممارسة، بينما سعت بكل جهودها للاستفادة من نصفها الثاني المتعلق بالسماح بتواجد واقعي للجماعة في المجتمع والساحة السياسية متنوع المساحة من فترة إلي أخري.
وعلي الجانب الآخر التزم الإخوان فكرياً ونظرياً وواقعياً بعدم اللجوء إلي العنف في تحركهم المجتمعي أو عملهم السياسي واستبعاد أي تفكير مغامر بالانقضاض علي الدولة كما فعل قطاع صغير منهم عام ١٩٥٤، وواصلوا نشر فكرتهم وتوسيع جماعتهم في جنبات المجتمع وبعض قطاعات الدولة التي ظلوا يسعون إلي التأثير عليها أو المشاركة فيها أو المنافسة علي حكمها بالوسائل السلمية دون أي لجوء للعنف أو أي شكل للقوة المادية.
هذه المعادلة بمكوناتها الرئيسية هي التي تبدو اليوم محلاً للتعديل من جانب طرفيها الرئيسيين، النظام السياسي وجماعة الإخوان المسلمين، وهو ما جعل من المواجهة الجارية حالياً تبدو بالصورة الحادة الجادة التي نشهدها.
فمن جانب النظام السياسي يبدو واضحاً، أن قدراً كبيراً من التعديلات الدستورية المقدمة من رئيس الجمهورية بهدف وضع قواعد جديدة للنظام السياسي والعمل السياسي في البلاد في المستقبل، يتجه إلي «إقصاء» الإخوان ليس فقط من العمل الحزبي القانوني بمنعهم من تأسيس حزب سياسي بحجة أنه سيكون حزباً دينياً، بل أيضاً جعل التعديل المتوقع للمادة الخامسة من الدستور كقاعدة قانونية ودستورية لمنعهم من النشاط السياسي الواقعي، بحجة أنه مختلط بالنشاط الديني.
ومن جانب النظام السياسي أيضاً، فقد اعتبرت أجنحة مهمة فيه أن استعراض طلاب الإخوان بالأزهر يمثل تراجعاً من الجماعة عما التزمت به ضمن المعادلة القديمة خلال أكثر من خمسين عاماً بعدم اللجوء للعنف، الأمر الذي يبرر للدولة تراجعها عن عدم إقصاء الإخوان من التواجد الواقعي وليس القانوني في المجتمع والمسرح السياسي.
كذلك بالنسبة للإخوان، فهم علي ما يبدو وتحت تأثير عوامل عديدة ـ بعضها أتي من داخل الجماعة وبعضها الآخر من السياق السياسي المحيط بها ـ قد قرروا السعي لأول مرة منذ قيام الجماعة إلي تحويل وجودهم الواقعي المسموح به وفق المعادلة القديمة مع النظام إلي وجود قانوني يتخذ شكل الحزب السياسي وربما إلي جانبه شكل الجمعية الأهلية التي تحتضن أنشطة الجماعة الأخري غير السياسية.
ومن المرجح هنا أن العامل الرئيسي، الذي دفع الجماعة إلي تلك المطالبة بالحزب السياسي، هو شعورها بأن الصياغة الجديدة التي يتم الآن القيام بها للنظام السياسي كله عبر التعديلات الدستورية، تستلزم تشكيل ذلك الحزب وإلا ستواجه الجماعة خطر الإبعاد إن لم يكن الإقصاء عن المجتمع والساحة السياسية.
كذلك فمن الواضح أن نجاح الجماعة في الحصول علي نحو خمس أعضاء مجلس الشعب في الانتخابات الأخيرة، قد شجع المترددين فيها علي الإقدام علي خطوة الإعلان عن تشكيل حزب سياسي قانوني لها.
إن الجوهر الحقيقي لما يجري اليوم بين النظام والإخوان هو سعي كل من الطرفين لصياغة معادلة جديدة للعلاقة بينهما تحل محل القديمة التي استمرت لأكثر من نصف قرن، بحيث يحقق كل طرف منها أقصي مصالحه، ويزيح الطرف الآخر، أو علي الأقل يقلل إلي أبعد حد، من قدرته علي تحقيق أهدافه. والسؤال القائم دوماً في ظل ذلك هو: كيف ستسير الأمور في ظل ذلك التغير الجذري في العلاقة بين الطرفين؟ إلا أن الإجابة قد تستلزم مقالاً آخر.

مقترحات دستورية لن يتم الأخذ بها: المادة (٥)


بقلم ضياء رشوان المصري يوم ١٩/٢/٢٠٠٧
اعتاد الحزب الوطني الديمقراطي وحكوماته المتعاقبة علي نقد المعارضين لسياساته وإجراءاته في مختلف المجالات بأنهم يتوقفون عند حد المعارضة العامة دون تقديم بدائل محددة وتفصيلية لما يطرحه. وعلي الرغم من التكرار المستمر لتلك المقولة،
فالحقيقة كانت دوماً مخالفة لها، فأغلب قوي المعارضة ومختلف فئات المثقفين المصريين كانوا يقدمون بالإضافة للتصورات العامة لحل المشكلات والقضايا الكبري التي تواجه مصر والمصريين بدائل تفصيلية ومحددة لكثير منها في حدود ما يتوافر لهم من معلومات ومعطيات دقيقة تمكنهم من بلورة تلك البدائل.
وقد مد الحزب الحاكم نفس مقولته الخالية من المضمون والعارية من الحقيقة إلي التشريعات القانونية والدستورية التي تنظم مختلف جوانب الحياة المصرية، برغم أن الوقائع التي تثبتها مضابط المجالس النيابية المتعاقبة والصحف والمجلات السيارة والكتب والأبحاث المنشورة خلال ربع القرن الأخير تثبت عكس ذلك تماماً حيث تقدمت قوي المعارضة والكتاب والسياسيون بعدد هائل من المقترحات التشريعية التي رفضت أو استبعدت غالبيتها الساحقة وتم إقرار ما تقدم به الحزب الوطني وحكوماته المتعاقبة.
ولم يشذ الحزب الحاكم عن عادته التاريخية المستمرة في تلك المزايدة العارية من الصحة علي معارضيه ومجمل المثقفين والسياسيين المصريين حتي عندما تعلق الأمر بتعديل الدستور نفسه، كما حدث في العام قبل الماضي فيما يخص المادة ٧٦ أو كما يحدث حالياً حيث يجري تعديل ٣٤ مادة من الدستور. وفي هذا الإطار فقد بدا لنا ضرورياً أن نطرح علانية مقترحات تفصيلية لصياغة بعض المواد التي يجري الآن تعديلها، بهدف إبطال الحجة المكررة، وليس أملاً في أن يأخذ بها الحزب الحاكم، فلم يبلغ بنا بعد الوهم هذا المدي.
والبداية بالمادة الخامسة من الدستور والتي تنص حالياً علي: "يقوم النظام السياسي في جمهورية مصر العربية علي أساس تعدد الأحزاب وذلك في إطار المقومات والمبادئ الأساسية للمجتمع المصري المنصوص عليها في الدستور... وينظم القانون الأحزاب السياسية".
ونقترح هنا النص التالي لصياغة هذه المادة: "يقوم النظام السياسي في جمهورية مصر العربية علي أساس تعدد الأحزاب وذلك في إطار المقومات والمبادئ الأساسية للمجتمع المصري المنصوص عليها في الدستور، وينظم القانون الأحزاب السياسية علي أن تنشأ بمجرد الإخطار، ويحظر قيام أي أحزاب أو ممارسة أي نشاط سياسي أو حزبي بما يميز بين المواطنين علي أساس الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة أو علي أساس امتلاك أو إنشاء تشكيلات عسكرية أو شبه عسكرية".
والمنطق الذي يكمن وراء تلك الصياغة المقترحة يتمثل أولاً في أن يكون مبدأ إباحة قيام الأحزاب في الدستور هو الأصل والذي يحققه قيامها بمجرد الإخطار علي أن ينظم القانون إجراءات اللجوء إلي القضاء الطبيعي التي يمكن لأي شخص أو جهة اتباعها للاعتراض علي قيام أي حزب.
من ناحية ثانية أن يتم النص بوضوح في الدستور علي حظر قيام أي أحزاب أو ممارسة أي نشاط سياسي أو حزبي بما يتناقض مع المساواة التامة بين المواطنين ويميز بينهم علي أي أساس كان، وهو ما يتوافق مع المادة (٤٠) من الدستور التي تنص علي أن: "المواطنون لدي القانون سواء، وهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة".
من ناحية ثالثة أن تضمن المادة حظر النشاط السياسي أو الحزبي الذي يقوم علي ،أو يؤدي إلي، التفرقة بين المواطنين علي الأسس السابقة بما يتسق مع الطبيعة المعقدة للنشاط الديني في مصر وما يمكن أن يندرج تحته ويمثل تداخلاً غير ضار مع النشاط السياسي والحزبي، ويتجنب بتلك الصياغة أي اختلاط قد يقع في تفسير طبيعة ذلك النشاط الديني المتداخل مع النشاط السياسي والحزبي.
ومن ذلك، علي سبيل المثال، أنه إذا حظر النشاط السياسي والحزبي علي أساس ديني فمن الوارد تفسير أي تهنئة من حزب سياسي لجماهيره في مناسبة دينية بأنها تقوم علي أساس ديني، وكذلك الأمر في حالة حضور أي مسؤول حزبي أو تنفيذي لمناسبة ذات طبيعة دينية، وقد يمتد الأمر إلي اختصاصات رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء والوزراء ومجلسي الشعب والشوري في حال إصدارهم أو مناقشتهم قرارات أو قضايا ذات طابع ديني سواء كانت داخلية أو خارجية.
من هنا فإن النص الواضح في المادة علي حظر أي نشاط سياسي أو حزبي يقوم علي التمييز بين المواطنين علي الأسس السابق ذكرها إنما يحقق الغرض المقصود من تلك المادة، وهو منع الاستغلال الضار لتلك الأسس والذي يبث الفرقة في المجتمع ويهدد وحدته الوطنية ويتناقض مع مواد الدستور الأخري المشار إليها.
ومن ناحية أخيرة أن تعديل المادة بالصياغة المقدمة يكفل التكامل بينها وبين المادة الثانية من الدستور التي تنص علي أن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، ويحول دون أي تعارض قد ينشأ عند قيام السلطة التشريعية بسن قوانين أو تشريعات وفق المادة الثانية أو قيام السلطتين التنفيذية والقضائية بإصدار قرارات وفق نفس المادة.

الحكومة الفلسطينية


بقلم د.يحيى الجمل ـ المصري يوم ١٩/٢/٢٠٠٧
وأخيراً يبدو أن هذا المسلسل قد انتهي إلي غايته التي كان يجب أن ينتهي إليها، بتشكيل حكومة وحدة وطنية بين الفصيلين الأساسيين في حركة المقاومة الفلسطينية «حماس» و«فتح» وبعض المستقلين المقبولين من كل الأطراف، وقد كانت أخبار الاتفاق، ثم نقض الاتفاق، ثم الصدام بين فتح وحماس، وسقوط قتلي وجرحي وإلقاء كل فريق اللوم علي الفريق الآخر،
وقد كانت هذه الأخبار عندما أسمعها في الصباح من إذاعة لندن - الـ بي. بي. سي - تشعرني بالمرارة والألم وما يقرب من البؤس والإحباط ثم أسمع أن اتفاقاً حدث ولا ألبث إلا وأسمع أن الاتفاق قد خرق،
ورغم كل الهموم الداخلية فإن الهم العربي وفي قلبه الهم الفلسطيني لم يكن يبارحني قط، وعندما حدث لقاء مكة استبشرت خيراً، وأصابني الفزع عندما نقلت الأخبار بعد يومين أن خلافاً جديداً حول اختيار وزير الداخلية وحول موضوع القوة التنفيذية المرتبطة بحماس قد برز من جديد،
وبالأمس - مساء - سمعت بيان رئيس السلطة الفلسطينية وبيان رئيس الوزراء المكلف واتجهت إلي الله أن تسير المسيرة في طريقها الذي يجب أن تسير فيه نحو إتمام قيام حكومة الوحدة الوطنية وبدء مرحلة جديدة من الكفاح الفلسطيني في سبيل قيام الدولة الفسلطينية وفي سبيل أن يعيش الشعب الفلسطيني حياة طبيعية.
ولم أملك نفسي من التفكير في أمور عديدة كلها تدور حول الشعب الفلسطيني وحول حقوقه المشروعة والضرورية وحول مستقبل قضيته كلها الذي هو جزء من مستقبل هذه الأمة.
ونقطة البدء عندي، هي أنه مع إيماني الشديد بالتعددية السياسية وبحق الاختلاف في الرأي وأنا صاحب المقولة الشهيرة «تعالو نتعلم كيف نختلف» إلا أنني أعتقد أن الاختلاف بين الإخوة الفلسطينيين في هذه المرحلة هو ترف لا يملك أحد حق ممارسته، إن طبيعة المرحلة ومنطقها أن نكون جميعاً كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً، وألا يخرج أحد عن الصف تحت أي ذريعة أو حجة حتي يتم بنيان الدولة الفلسطينية علي الأرض التي احتلت عام ١٩٦٧ ووفقاً لقرارات الشرعية الدولية وأهمها القرار ٢٤٢ والقرار ٣٣٨ وبعد ذلك يجوز لنا أن نختلف، ويجوز لنا أن نزايد علي بعض ويجوز لبعضنا أن يقول هذا كاف وأن يقول آخرون لا، إن هذه مرحلة فقط.
بعد أن نصل إلي هذا الهدف وليس قبله يجوز لنا أن نختلف أما قبل ذلك فإن الاختلاف هو ترف لا تطيقه المرحلة بل هو في الأغلب الأعم خيانة لمنطق المرحلة.
لقد أضحكنا الأعداء علينا في الأيام الماضية ونحن نتقاتل ونهدر الدم الفلسطيني بأيد فلسطينية ثم نقول كلاماً كبيراً ونكتفي بالكلام.
هذه مرحلة لا تحتمل إلا أن نكون جميعاً - وأكرر جميعاً - كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً ولا تشذ فيه طوبة واحدة.
هل من المعقول ألا يكون في يدنا شيء ذو قيمة حتي الآن، ومع ذلك نختلف علي منصب هنا أو علي عرض من الأعراض هناك، يجب أن يكون واضحاً أنه رغم طول مسيرة الكفاح ورغم كثرة المرارات والتضحيات فإننا مازلنا في بداية الطريق لاسترجاع بعض فلسطين وتكوين الدولة الفلسطينية لا يتصورنَّ أحد أوهاماً غير حقيقية، يجب أن ندرك حقيقة أن ما بيدنا حتي الآن هو أقل القليل، وأنه من العبث والخيبة أن نتصارع حول أوهام.
إذا استقر ذلك في ذهننا جميعاً فإننا لن نختلف ولن نعيش في أوهام. إن الاحتلال الإسرائيلي يملك حتي الآن أن يقيد حركتنا جميعاً حتي في الجزء الذي انسحب منه ويملك أن يفرض علينا الحصار جميعاً فهل يجوز لنا أن نختلف علي ألقاب وهمية ومناصب ورقية، لا يجوز ولا يتصور في حركة تحرير وطني أن يحدث ذلك.
معرفة الحقائق هي بداية الطريق الصحيح.
ومن الحقائق التي يجب أن تعرفها المقاومة الفلسطينية - والحكومة الجديدة في مقدمتها - أننا نعيش في عالم متشابك وأن إرادتنا وآمالنا محكومة بقدرتنا علي التوحد من ناحية وبهذا العالم الذي يحيط بنا من ناحية أخري.
وعالمنا تبدأ أولي حلقاته بأمة عربية ممزقة، ومع كل ما تبديه هذه الأمة نحو كم من عواطف ومشاعر فإن تأثيرها الحقيقي محدود بحكم محدودية وزنها في عالم اليوم.
أما العالم علي اتساعه فهناك بعض دوله تتعاطف معكم وتدرك حقكم ولكن الكثرة منها ينطبق عليها المثل القائل «العين بصيرة واليد قصيرة».
وتبقي الولايات المتحدة الأمريكية هي القوة المؤثرة في عالم اليوم وأنا واثق أنها لن تبقي القوة المؤثرة الوحيدة علي المدي الطويل ولكن في المدي القريب علينا أن ندرك هذه الحقيقة التي تتمثل في أن القوة الغالبة في عالم اليوم تقف إلي جوار إسرائيل وتساندها في الحق وفي الباطل ولا تري غير ما تراه.
وعلينا أن ندرك قبل هذا كله وبعد هذا كله أن إسرائيل تعرف ما تريد جيداً وتخطط له جيداً وتحشد له التأييد جيداً بحكم سيطرتها علي أجهزة المال ووسائل الإعلام
هذا هو ما يحيط بنا وهي صورة غير مبهجة، ولكن التاريخ يقول: إن حركات التحرير التي لم تعرف الانقسام والاحتراب والتنازع انتصرت في نهاية المطاف.
لا أريد أن أقف موقف الناصح ولا أريد أن أتصور أن علاقاتي بالقيادات التاريخية للثورة الفلسطينية تعطيني الحق في هذا الموقف، ولكنني أفكر كمواطن عربي بسيط يؤمن بعروبته، ويؤمن بعدالة القضية الفلسطينية، ويؤمن بأن حركات التحرير لابد أن تحدد أهدافها ومراحل هذه الأهداف، إن القفز علي الواقع، وإن حرق المراحل، وإن الإصرار علي أن نحقق كل شيء مرة واحدة ليس هو الطريق الأمثل.
لابد أن يكون واضحاً لنا أن هناك مراحل في طريق الكفاح وأن كل مرحلة تسلم للمرحلة التي بعدها وهذا يجعلنا لا نزايد علي بعض بالكلام والشعارات، إن خطوة عملية مهما كانت قصيرة نحو قيام الدولة الفلسطينية أكثر جدوي ونفعاً من عشرات الشعارات.
وأحب أن أقول إنني استمعت جيداً إلي خطاب التكليف بتشكيل الوزارة الذي وجهه الرئيس الفلسطيني أبومازن لرئيس الوزراء المكلف إسماعيل هنية «أبوالعبد» وتقديري أن الوزارة يجب أن تحرص علي تنفيذ هذا الخطاب بنصه ومضمونه، إن هذا الخطاب يمثل الرؤية في هذه المرحلة، وتقديري أنه يمثلها أفضل تمثيل.
وهناك مسألة حساسة أتوجه بها إلي الإخوة في حماس، وإلي رئيس حكومة الوحدة الوطنية وهي مسألة الاعتراف بإسرائيل.
إن الاعتراف نوعان: الاعتراف الواقعي والاعتراف القانوني، وتقديري أن الاعتراف الواقعي حادث فعلاً ولا يمكن تجنبه أو إنكاره، وفقه القانون الدولي، والعلاقات الدولية يعرف هذا الاعتراف الواقعي وكثير من دول العالم بدأت اعترافها بإسرائيل اعترافاً واقعياً ولا يضير الحكومة الفلسطينية أن تقرر في بعض تصريحاتها هذا الاعتراف الواقعي «de facto recognition».
وعلي أي حال فإن الاعتراف المتبادل بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية قد حدث فعلاً ولا أحد يطالب كل حكومة جديدة بأن تعيد الاعتراف بكل دول العالم من جديد.
هذا من ناحية.
ومن ناحية أخري، فإن توزيع الأدوار بذكاء وباتفاق مسبق هو أحد «التكتيكات» التي اتبعها كثير من حركات التحرير في العالم مع عدم الإخلال بالخط الاستراتيجي معلنا كان ذلك الخط أو مضمراً.
إن توزيع الأدوار أمر بالغ الأهمية في ظروف الحركة الفلسطينية، ولكن توزيع الأدوار شيء والاختلاف، والانقسام والتنابز شيء آخر مختلف تماماً.
إننا في أشد الحاجة إلي اتفاق علي توزيع الأدوار، وإننا في الوقت نفسه في أشد الحاجة إلي البعد عن الفرقة والانقسام والتنابز، ولست أريد هنا أن أتحدث عما تخطط له وتعلنه وتفعله إسرائيل بالمسجد الأقصي إلا من زاوية إبراز مدي الخطر ومدي الإجرام ومدي العنصرية التي تمتلئ بها دولة إسرائيل، ومدي ما يلزمنا به ذلك من تكاتف وتلاحم وإصرار.
هذه كلمة مخلصة وهادئة أوجهها إلي الإخوة في حركة التحرير الفلسطينية بكل فصائلها، فأنا واثق أن الشعب الفلسطيني الذي خاض كفاحاً مراً، ندر أن خاض مثله شعب آخر، قادر علي أن يلهم قياداته إلي الطريق السليم بعون الله.

أحوال الصحافة المصرية


بقلم د. عمار علي حسن ـ المصري اليوم ٢٠/٢/٢٠٠٧
من الحقائق الساطعة كشمس ظهيرة صيف أن الصحافة المصرية تعيش ما هو أكبر من أزمة، أو وعكة طارئة، وتمر بما هو أفدح من مشكلة ديون متراكمة، بفعل النهب المنظم والكسل الإداري والاستسلام لثقافة التكايا، خاصة بعد أن أدخلها بعض المسؤولين عنها في نفق طويل، وراحوا يطفئون الشموع واحدة تلو الأخري،
وآخرها «الفرز العكسي»، الذي يتم بمقتضاه تصعيد ضعاف المواهب، صغار الهمم، قليلي التجارب، ضيقي الصدور، محدودي العقول، ويحط من قدر الكبار في كل شيء، الجديروين بأن ينالوا ما يؤخذ منهم بحدود السرقة والطمع والاستحواذ، وحتي بحد الحياء، أو بتوسل كلمات النفاق المعسولة والنميمة وخسة الطباع، وامتلاك موهبة الدخول من الأبواب الخلفية، والنوافذ الضيقة، والرهان علي السلطان لا علي الناس.
هذا الوضع المقلوب جعل صحافتنا تعيش ثلاث حالات مرة، الأولي هي الصحافة المحنطة، التي تشعر أن من يخطون سطورها جالسون في أقفاص حديدية، أعناقهم متصلبة وعيونهم تنظر في البعيد الفارغ، لا يلتفتون يمينا ولا يسارا، فلا يرون أن العالم تغير، كيفا وكما،
وأن الصحافة المصرية تخطو إلي خارج السباق يوما بعد يوم، لتنزوي هناك في الركن القصي، متحسرة علي أيام الأساتذة الكبار، والصحف الكبيرة، التي كان ينتظرها القراء علي أول الليل ومطلع صبح كل يوم جديد، ومتحسرة كذلك علي الأيام التي كان يجوب فيها صحفيو مصر العالم العربي يعلمون ويدربون ويشيدون علي أكتافهم وبأقلامهم مؤسسات صحفية هنا وهناك، من دون كلل ولا ملل.
أما الحالة الثانية فهي تلك التي تعود بالصحافة إلي أيام طيب الذكر عبدالله النديم، حين كانت الصحيفة من أولها إلي آخرها عبارة عن مقالات رأي، وعلي النقيض من رقي ما كانت تحويه صحافة النديم فإن الصحافة الجديدة هذه تكتب بلغة أقل ما توصف به أنها مبتذلة وانفعالية، وبعضها صادر عن أناس ينظر إليهم البعض بوصفهم مرضي يعانون من متاعب نفسية لا تحصي أقلها البارانويا والعدوانية وسلاطة اللسان.
وهذه صحافة سهلة ركيكة، رغم أن القائمين عليها يحاولون أن يوهموا الناس أنها ليست كذلك، ووجه السهولة هو أنها تجعل بإمكان فرد واحد أن يملأ الجريدة من الأولي المزعجة إلي الأخيرة الباهتة، وبإمكان عشرة أفراد أن يقولوا ما يعن لهم، من دون أدلة ولا معلومات، من دون تعب علي تحصيل حجة ولا تحمل عناء التحقق من صحة كلمة ولا جملة ولا حتي من كل الصفحات، التي تطرح أمام القراء دون احترام عقولهم.
ووجه الركاكة أن مثل هذه الصحافة، تثبت المعني الذي يسود عند البعض، بمن فيهم زملاء المسيرة والمصير، أن الصحافة باتت مهنة من لا مهنة له، وأي شخص «يفك الخط» بوسعه أن يصبح صحفيا كبيرا،
أليس المطلوب منه أن يكون قادرا علي إنتاج عبارات يرددها العوام حين يتحدثون في قضايانا الكبري مثل الفساد والاستبداد والتجبر البيروقراطي والأحزاب الورقية والطبقة الطفيلية.. وهلم جرا.. أليس المطلوب منه أن يقول رأيه أو يفتي في كل ما يجري وهو جالس مكانه، علي مقعد متهالك في مقهي شعبي بحارة ضيقة، ويحاول أن يفرض هذا الرأي علي كل الزبائن.
مأساة القائمين علي هذا النوع من الصحف أنهم يتوهمون أن البسطاء لا يفهمون ما يكتبه هيكل أو فهمي هويدي، وأن من نالوا قسطا معقولا من التعليم لا يفهمون زكي نجيب محمود وحسن حنفي وفؤاد زكريا وهم يعرضون أعقد القضايا وأعمقها بأسلوب سلس بديع، ويتناسي هؤلاء أن البسطاء يفهمون ما يكتبه نجيب محفوظ، وربما يتعثرون كثيرا في فهم رواية «لبن العصفور» التي كتبها يوسف القعيد بالعامية المصرية، وأنهم يحفظون ويفهمون القصائد التي غنتها أم كلثوم وعبد الحليم حافظ.
إن القعيد نفسه لم تسعفه العامية في الدفاع عن روايته هذه، كما لم تسعف من قبل لويس عوض وهو ينافح عن قضيته في إعلاء شأن العامية لتصبح لغتنا الأساسية، وعلي الدرب ذاته نٌصح يحيي حقي حين كٌلف بالكتابة لجريدة «التعاون» ألا يكتب بالعامية لقرائها من العمال والفلاحين، لأن هذا سيجعلهم ينصرفون عنه، شاعرين أنه يحتقرهم، وقيل له وقتها إن العوام يفهمون خطب الرئيس، وهي بالفصحي، ويتابعون البرامج الإذاعية الراقية، وتفاسير القرآن والأحاديث النبوية بألسنة فقهاء فصحاء، ويحيطون بأغلب ما يسمعون.
أما النوع الثالث من الصحافة فهو تلك الغارقة في النميمة والرذيلة، لأنها تتقول علي الناس الشرفاء، ومن بينهم حتي بعض المسؤولين غير الفاسدين، فتتهمهم في ذممهم المالية بلا برهان، وتشهر بأناس لم يرتكبوا جريمة، وتصدر أحكاما علي الماثلين أمام العدالة قبل أن يقول القضاء كلمته، وتدس أنفها في حياتهم الخاصة، ابتداء مما يأكلون ويشربون ووصولا إلي ما يجري في غرف نومهم، بدون واعظ من دين، ولا كابح من ضمير، ولا رادع من قانون.
استثناء من ذلك هناك نضال صحفيين واعين في بعض «المؤسسات القومية»، وهناك تجربة بعض الصحف الحزبية، التي تبدو أفضل نسبيا من حيث المضمون والشكل، وتوجد صحف مستقلة تعزز مكانتها، وترسم خطها الفريد، محاولة أن تستعيد مجد وهيبة الصحافة المصرية، مستندة في مقصدها النبيل هذا علي الكفاية الأخلاقية والكفاءة المهنية، التي لا يمكن لمصر أن تعدمها يوما.
وهذه الصحف تؤمن بأن دفاعها عن مصالح الناس هو الفعل الأبقي والأرقي، ومحتفظة بمسافة مع السلطة، تملؤها بسطور ناصعة من النقد البناء، الذي يستهدف المصلحة العليا للوطن، وليس مصالح فئة أو شريحة أو زمرة ستنتهي يوما، وتصبح نسيا منسيا في تاريخ بلادنا المديد.

المؤرخون الجُدد في مصر


بقلم أحمد المسلماني ـ المصري يوم ٢٠/٢/٢٠٠٧
قالت لي الفنانة الكبيرة فاتن حمامة كلاماً كثيراً وخطيراً حول مصر التي كانت ومصر التي أصبحت. تحدثت عن الوفد والنحاس وعن الثورة وعبدالناصر وعن زمن الانكسار وزمن الانتصار.
وفاجأتني سيدة الشاشة بآراء صادمة وصادقة، وقد نشرتُ جانباً من ذلك اللقاء الطويل في ست عشرة صفحة ضمن دورية «أحوال مصرية» التي يصدرها مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام.
وقد أعاد الأديب يوسف القعيد نشر أجزاء من ذلك الحوار في صحيفة «الحياة» اللندنية، أما الأستاذ إبراهيم عيسي فقد قال لي إنه أعاد نشره في سبع صحف صُودرت في المطابع.. قبل أن تصدر الدستور.
قبل ذلك الحين وأنا أفكر في تأسيس تيار فكري جديد.. الاسم: المؤرخون الجُدد، والهدف إعادة النظر، والغاية: الوطن ولا شيء غير الوطن، وهنا البداية.
قامت ثورة يوليو عام ١٩٥٢ وانتهت عام ١٩٥٤، أو أنها قامت عام ١٩٥٢ وانتهت عام ١٩٥٦.. أو أنها لا تزال قائمة حتي الآن. لقد عادت ثورة يوليو وعهد الرؤساء نجيب وعبدالناصر والسادات إلي الواجهة من جديد، وبعد أن كانت الإشادة بإنجازات الثورة أو الحفر في مخلفاتها حصراً في الفئات المثقفة، بات العوام من جملة من يعيدون النظر فيما مضي وفات.
لقد أصدرت المكتبات المصرية في الآونة الأخيرة كتباً تذكارية وأخري فكرية عن الملك فاروق والرئيس عبدالناصر والرئيس السادات، وقد سألت عن خريطة التوزيع لهذه الكتب، وفوجئت بأن كتب «الملك فاروق» يزيد توزيعها علي أضعاف كتب الرئيسين،
وأن كتب الرئيس السادات تتفوق علي كتب الرئيس عبدالناصر، وهو عكس التوقعات تماماً، إذ حظيت الثورة وقادتها باحترام كبير لعقود طويلة، وأهيل التراب علي الملك فاروق حتي لم يبق ظاهراً منه إلا أحاديث الغواني وحساء الحمام، كما لاقي الرئيس السادات هجوماً صحفياً واسعاً من قوي اليسار التي طالته في كل شيء.
الحاصل إذن أننا إزاء موجة واسعة لإعادة النظر، إعادة النظر في الثورة ذاتها، وفي كل رجالها، في المبادئ والأهداف، في الفكرة والحركة.. في كل الطريق الطويل الذي يعتقد أنصار الثورة أنه أعاد مصر إلي التاريخ، ويعتقد معارضوها أنه أخرج مصر من التاريخ.
ربما يكون مهماً في هذا المقام، أن نوجه الدعوة لعموم المؤرخين والمفكرين والصحفيين..إلي الراضين وإلي الساخطين.. إلي الذين شهدوا أو الذين سمعوا أو الذين قرأوا، أن نبدأ حركة فكرية شاملة عمادها إعادة النظر.
لقد فعلتها إسرائيل في موجة «المؤرخين الجُدد»، وهم جماعة من المعنيين بالتاريخ والسياسة في الحركة الصهيونية الذين أعادوا النظر في تاريخ الصهيونية وتاريخ إسرائيل، وقالوا كلاماً كبيراً وكثيراً.. أحسب أن ظاهره الرحمة وباطنه العذاب، وقد أشرت إلي ذلك تفصيلاً في كتابي «مابعد إسرائيل».
ليكن شأن إسرائيل والحركة الصهيونية ما يكون، أما شأننا نحن فهو أحوج ما يكون إلي المراجعة، إلي حركة «المؤرخين الجدد في مصر»، إلي طرح الأسئلة في كل شيء، دون رغبة في التخوين أو التشفي أو الإحباط أو التسلية، بل الغاية هي الإفادة من طريق طويل.. أزعم أنه كان يحمل من الخطأ أكثر مما يحمل من الصواب.
لقد ساد مثلاً أن عهد ما قبل الثورة هو عهد الملك فاروق، وجري اختصار مصر كلها فيما قبل ١٩٥٢ في ملذات الملك ومغامرات القصر، وهو تقييم قاصر، إذ أنه لا يمثل إقلالاً من شأن الملك وحطاً من قدر القصر، بقدر ما يمثل إقلالاً من شأن الوطن وحطاً من شأن مصر،
فلقد كان ذلك الزمان يشهد دولة مصرية متميزة، نخبة رفيعة وشعباً عظيماً، أسماء شاهقة في كل مكان.. عاصمة تفوق باريس، وفناً وعلماً وأدباً وفكراً يمثل وضعية جيدة في سياق العالم. وإذا كان من تدمير لمجمل ذلك لأجل تدمير صورة الملك الفاسد -وقد كان حقاً تافهاً وفاسداً- فإن التدمير في واقع الحال هو تدمير لجزء من التاريخ، تدمير للآباء والأجداد المباشرين، هو تمزيق جزء من سيرتنا الذاتية أو تمزيق أوراق من عمرنا الإنساني والحضاري.
لم يكن ذلك عصر الملك فاروق بل كان عصر سعد زغلول والنحاس باشا أو عصر طه حسين وطلعت حرب أو هو عصر مصطفي مشرفة وأم كلثوم، لكنه قطعاً لم يكن عصر فاروق.
لقد ساد أيضاً أن الثورة تعاظمت وتأكدت مبادئها بعد حرب السويس ١٩٥٦، التي أسست لأسطورة عبدالناصر، ويعلم أبسط القراء أن ذلك كان بداية الأفول لا بداية الصعود، ففي ١٩٥٨ دخلت مصر وحدة ضعيفة مع سوريا انتهت بفشل ذريع عام ١٩٦١، وفي ١٩٦٢ دخلت مصر حرباً في اليمن كانت حرب استنزاف كبري للموارد والقيم في الجيش المصري، وفي ١٩٦٧ كانت أحداث يوم القيامة، ولولا حرب ١٩٧٣.. لمات هذا الشعب كمداً علي ما كان.
سيقول السفهاء من الناس.. ولماذا نبش القبور الآن؟، وما الهدف من إعادة النظر في الثورة وما قبلها وما بعدها؟ ولماذا نترك العالم يتجه إلي المستقبل علي هذا العجل ونتعثر نحن في ثوب الذكريات؟.. وظني أن الهدف من تدشين حركة «المؤرخين الجدد» لا يتوخي نبش القبور من أجل تمزيق ملابس الأحياء،
كما أنه لا يستهدف شق صف الحركات السياسية «المشقوقة دون عناء».. وإنما الهدف، إحياء علم التاريخ وتعظيم الفائدة في علم السياسة، وتعليم الصغار أن الأشياء تتسع لأكثر من لونين وأكثر من رأيين.. وأن هذا الوطن يحتاج إلي من يدركون شخصيته ويفهمون حركته.. إلي من يقفون فوق الجغرافيا في ثبات وينظرون إلي التاريخ في هدوء.