Thursday, September 04, 2008

متبلدون رغم الكوارث

متبلدون رغم الكوارث

بقلم د. عمرو الشوبكي ٤/٩/٢٠٠٨

حين يكشف المقدم علي رزق، رئيس وحدة الإطفاء في مجلسي الشعب والشوري، أنه أرسل ٥٠ مذكرة تحذيرية لقادة المجلس المحترق، يحذرهم فيها من غياب نظام متطور للإطفاء، ويطالبهم بضرورة رفع كفاءة المباني وإنشاء نظام حديث للإنذار، ولا يتلقي أي رد علي مدار ما يقرب من عام، نصبح أمام مشهد نادر للتبلد وانعدام المسؤولية، عودنا عليه الحكم الحالي منذ عقود وبات يهدد كل شيء.

ومع أن حالة المقدم رزق ليست هي القاعدة داخل أجهزة الدولة المختلفة، إلا أنها بالتأكيد مازالت موجودة، وهناك كثير من العناصر التي تعمل في صمت ونزاهة داخل هذه الأجهزة رغم كل الانهيار الذي أصابها.

والحقيقة أن حالة اللامبالاة، التي أصابت المجتمع المصري مؤخرًا، جعلته في وضع عاجز، ليس فقط عن تحسين أوضاعه إنما أيضا عن مواجهة سلبياته، وصار الخروج من كارثة مجرد ممر للدخول إلي أخري.

وكشفت حالة الشماتة التي أبداها جانب من المصريين تجاه حريق مجلس الشوري عن حالة من الانفصام بين المجتمع والنظام السياسي، شعر فيها قطاع واسع من الناس بغربة شديدة عن الحكم وعن رموزه وصوره، والمفارقة أنه مهما كانت آلام الناس وأحزانهم وحجم كوارثهم فإنهم أصبحوا متأكدين أن الحكم لم يعد قادرا، حتي ولو رغب، في حل أي من هذه المشكلات.

وقد تلقيت علي بريدي الإلكتروني تعليقين مميزين من بين أخري عن «حريق القاهرة الثاني»، ويعكسان بصورة كبيرة حجم الانفصام الذي حدث، ليس فقط بين الشعب والسلطة، إنما أيضا بين قطاع واسع من النخبة والحكم الحالي.

وجاء التعليق الأول من المحامي الدولي الأستاذ نور محمد، المقيم في البلد الذي عشت فيه ٨ سنوات، وأختلف مع فكرته الرئيسية التي تقول إن حريق الشوري كان مدبرا، وجاء فيه:

قرأت مقالك الأخير في «المصري اليوم» بعنوان «حريق القاهرة الثاني»، وما زادني حيرة هو أنك لم تذكر أي شيء عن القلب الصلب للدولة المعارض للتوريث والذي تكلمت عنه من قبل.

(والحقيقة أن الذي تكلم عن موضوع القلب الصلب للدولة هو صديقنا الأستاذ ضياء رشوان، أما بالنسبة لي فأنا أتمني أن يكون موجودا، ولكني من المتشككين في وجود أي كيان صلب داخل ما تبقي من أطلال الدولة المصرية).

واسمح لي بإبداء بعض الملاحظات الهامة، لعلي قد أصيب بعضاً من الحقيقة في تحليلي لحريق القاهرة ٢:

بالنسبة لعنصر الزمان:

إن ما حدث في حريق القاهرة الثاني لم يكن من قبيل العفوية أو الصدفة، ويرجع هذا إلي اختيار الشهر فهذا شهر العطلات الرسمية.

ثم اليوم، فهذا اليوم يكون وجود الناس فيه قليلاً، لأنه ليس بداية أسبوع مثلا.

ثم الساعة، ففي هذه الساعة لا يكون هناك أحد ما في المكان إلا المنوط بهم التواجد الفعلي، وهؤلاء يكونون قلة في هذه الساعة.

ثم أيضا نأتي إلي تحليل عنصر المكان:

لماذا مجلس الشوري علي وجه الخصوص؟

ولماذا لم يكن مجلس الوزراء مثلا؟

ثم لماذا لم يكن مجلس الشعب أيضا؟

ثم لماذا لم يكن أي جهة سيادية في الدولة؟

يمكن القول إن حرق مجلس الشوري كان عن قصد للأسباب الآتية:

- أنه لم يعد ذا قيمة في هذا الوقت.

- أنه يعبر عن ترهل وفساد النظام وأغلبيته المزورة ورقابته غير القانونية علي إنشاء الصحف والأحزاب، الموافقة فقط علي أي حزب يتوافق مع النظام وخططه في التوريث، الذي فشلوا فيه رغم كل مايمتلكه من قمع وقوة وسطوة وقهر.

- أن من حرقه كان يريد أن يوصل رسالة قوية للنظام تفضحه داخليا وخارجيا دون أن يسبب أي تعطيل لمؤسسات الدولة ومصالح المواطنين اليومية، وأعتقد أنها وصلت وفهمت سياسيا أيضا.

- أن من حرقه كان يقصد ألا يتسبب في موتي وإصابات كثيرة وهذا جلي في زمان الحدث ومكانه كما أسلفت آنفا.

- أن من دبره ذو يد طولي في الدولة، لأنه عرف كيف يدخل ويخرج وبعلم تجهيزات المكان واختيار الأدوار العليا، حتي يتسني لمن هم تحت أن ينجوا بأنفسهم وقت الحريق.

- أن من دبره له أيضا سلطة عليا، لأنه تسبب في بعض الإرباك لفرق الإنقاذ عن طريق إصدار أوامر الهدف منها تأخير معالجة الحريق، هذا إلي جانب الإهمال والفساد المستشري أصلا، مما فاقم الأزمة وزاد من فضائح النظام.

- أن من دبره يعتبر مسؤولا أيضا عن أحداث في الشارع المصري لفضح النظام داخليا وخارجيا، وتوريطه من أجل النيل من سمعته الضائعة أصلا لتقليب الشارع من حين لآخر وتجهيزه للحظة حاسمة يختارها هذا المدبر.

- في النهاية، إن هذا المدبر يتمثل في القلب الصلب الشريف والرافض للتوريث والسياسة التخاذلية الانهزامية والفساد المستشري في هذا البلد الطيب.

أما التعليق الثاني فجاء من الأستاذ الباحث أمجد الجباس، وألقي الضوء علي جوانب أغفلتها مقالتي السابقة، وكثير من الكتابات التي تعرضت لحريق «الشوري»، وتضمنت:

إن سبب رغبتي في التعقيب علي مقالكم في «المصري اليوم» هو إزالة اللبس، أو الصورة المغلوطة، التي عمد الجميع إلي نقلها للشعب المصري بأن الحريق خاص بمجلس الشوري فحسب، والحقيقة أن المتضرر الأكبر من الحريق هو مجلس الشعب، وليس مجلس الشوري، ودعني أشرح لك الأمر.

المبني الذي احترق يطلق عليه مبني الري بمسطح يقترب من ثلاثة آلاف متر مربع، ويخص مجلس الشعب ويضم لجان: الزراعة، الشباب، حقوق الإنسان، الدفاع، الإسكان، النقل، العلاقات الخارجية، الإعلام، أي أكثر من نصف لجان المجلس، خاصة أن لجنة الزراعة هي الأكبر من حيث عدد الأعضاء.

كما كان الدور الثالث يضم أيضاً ثلاث قاعات ضخمة للمؤتمرات والاجتماعات هي: الزرقاء، والبنية، والخضراء، وكان يضم عدداً من الإدارات الحيوية مثل: الترجمة، المعاشات، العلاقات العامة، المؤتمرات، البحوث، الحفظ، الإحصاء، والأخيرة هي المعنية بجميع البيانات والإحصاءات الخاصة بنشاط المجلس منذ نشأته، وأعتقد أنه لا توجد لها نسخة بديلة في أي مكان آخر بالمجلس.

ويعمل في الدور الثالث ما لا يقل عن ٤٠٠ موظف ضاع عملهم وجهدهم علي مدي عشرات السنين في غمضة عين، ولا سبيل لاسترجاعه ولو بعد حين.

أما الدور الثاني فيضم هيئات مكاتب الأحزاب الرئيسية كالوطني والوفد والتجمع والمستقلين، فضلا عن إدارة التدريب وإدارة شؤون اللجان ومتحف الحياة النيابية (وهو غير المتحف الرئيسي الملحق بقاعة مجلس الشعب والذي لم يمسسه سوء) والمحفوظات ومكتب للإذاعة ومكتب المعلومات ومكتب لرئيس المجلس ونائب الأمين العام، فضلاً عن قاعة فخمة جداً للاجتماعات اسمها قاعة مبارك.

أما الدور الأرضي فكان يشتمل علي عدد من الإدارات المهمة بالمجلس ومكاتب قياداته الإدارية، ولعل أخطر ما كان يحويه هذا الدور هو مخزن المضابط البرلمانية، الذي كان يحوي نسخاً من المضابط البرلمانية منذ نشأة الحياة البرلمانية في مصر وحتي تاريخه.

لقد تعجبت كثيراً من تركيز وسائل الإعلام علي أن الحريق كان خاصًا بمجلس الشوري، وكأن مفهوم المجلس - أي مجلس - ينصرف بالدرجة الأولي إلي قاعة اجتماعاته «القبة»، وما دامت قبة مجلس الشعب بخير فإن الحريق كان لمجلس الشوري لا الشعب وذاك إخلال خطير بالحقائق علي أرض الواقع.

فالبرلمان، أي برلمان، هو في المقام الأول كيان، هيكل إداري، وثائق، وإذا كان مجلس الشعب قد فقد في هذا الحريق أكثر من نصف لجانه المتخصصة، وعشرات الإدارات الحيوية، وتاريخه من البيانات والوثائق المرجعية التي لا سبيل لتعويض الكثير منها فما فائدة «القبة» إذن؟

لقد عمد مسؤولو مجلس الشعب إلي التهوين من حجم الضرر الذي أصاب مبناهم لمعرفتهم اليقينية أن ثمة خللاً وتقصيراً من جانبهم كانا السبب فيما حدث، وبخاصة أن الحريق بدأ فعلاً من الدور الثالث الخاص بمجلس الشعب، كما أنهم شعروا بالعجز عن مواجهة الرأي العام بفداحة الكارثة، فآثروا التهوين منها علي الرغم من أن المصاب جلل والخسارة فادحة.

elshobaki@ahram.org.e

No comments: