Thursday, September 11, 2008

القبض علي هشام طلعت: شكراً للإمارات

القبض علي هشام طلعت: شكراً للإمارات

بقلم د. عمرو الشوبكي ١١/٩/٢٠٠٨

كان من الصعب علي أكثر المتفائلين بدور الرأسمالية المصرية أن يتصور أن يأتي اليوم الذي يتحول فيه سلوك بعض رجال الأعمال المصريين إلي سلوك عصابات، ويتحول دور الرأسمالية في خلق منظومة قيم تحث علي العمل والجدية والابتكار، إلي سلوكيات مشينة تقدم أسوأ نموذج لعموم المصريين.

والمؤكد أن خطورة حالة هشام طلعت ليست في مناقشتها من زاوية أنها حالة فردية أم لا، إنما في كونها عاكسة لبيئة ونظام صنعها ودعمها حتي آخر لحظة، فالرجل من أركان مجموعة المال والسياسة الحاكمة، وهو قيادي في الحزب الحاكم ومقرب من مجموعة الفكر الجديد،

وبالتالي إذا كان اتهامه بهذه الجريمة أمراً فردياً فإن الظروف التي ساعدته علي الصعود المالي والسياسي لا تجعل جريمته مجرد حالة فردية، إنما هي جريمة نظام بأكمله صارت رموزه الاقتصادية تحمل كل هذا السواد تجاه البشر.

لقد وصلت غطرسة القوة إلي ارتكاب جريمة قتل خارج الحدود ليس فيها أي مهارة في التنفيذ، لأن من قام بها تصور أنه لن يمس وفوق القانون والمحاسبة، ولا يحتاج حتي لإخفاء آثار الجريمة، بل إنه تحدث عنها علنا عبر الهواتف النقالة.

ولأن الجريمة لم تقع علي أرض مصر، ولأن الضحية لم تكن مصرية أيضا، فصعَّب ذلك بالتالي من فرص تجهيز قاتل «مختل عقليا» ليشيل الجريمة، كما هي العادة في بلد لم يعتد محاسبة أي مسؤول كبير، إلا في حال وجود أوراق ضغط خارجية أو رغبة سياسية أو شخصية (لا تخضع لأي حسابات قانونية لمحاسبة هذا الشخص).

والخطورة أن حجم الدعم الحكومي لهؤلاء الناس كان مرعبا، ولولا تواطؤ الدولة معهم لما أصبحوا رأسماليين ولا رجال أعمال، فمواهبهم وكفاءتهم الحقيقية لا تضعهم إلا في مرتبة التجار الفشلة الذين تقف «إبداعاتهم» عند حدود القيام بسرقات صغيرة وفي «خَمّ» الزبائن بوضع ٨٠٠ جرام من السكر أو الطماطم بدلا من كيلو واحد وهكذا.

وعلينا ألا ننسي أن واحداً من مشاريع هشام طلعت الكبري بدأه من خلال المضاربة في أراضي الدولة، التي اشتراها بـ«ملاليم» وباعها بـ «ملايين»، فقد اشتري متر الأرض من الحكومة في مدينة الرحاب بـ١٠ جنيهات فقط، (يقدر حالياً بحوالي ٣٠٠٠ جنيه)، وحين قرر أن يبيع هذه الأرض كان سعرها قد وصل إلي ٢٥٠٠ جنيه، وهو ما حقق لمجموعته الاقتصادية فائض ربح قدَّره زميلنا محمد بصل بأكثر من ٤ مليارات جنيه.

وبعد «نجاح» هشام الاقتصادي أصبح عضوا في مجلس الشوري بدعم مباشر من لجنة السياسات، التي زكته كرئيس لجنة الإسكان بالمجلس، وبدأ صراعه مع رفيقه الآخر في الحزب أحمد عز علي النفوذ المالي والاقتصادي نظرا لاحتكار الأخير للحديد، والانعكاسات السلبية لذلك علي سوق العقار، بصورة اعتبرها طلعت تقلص هامش أرباحه الذي يقدر بالمليارات.

ولولا هذا التواطؤ الحكومي مع هشام طلعت ومع غيره من أبناء هذه الطبقة الجديدة، لما أصبح هؤلاء هم رموز المجتمع بالتحايل والفساد، فهم صنيعة الوضع السياسي الحالي الذي غابت عنه تقاليد مكافأة المبدع والمجتهد، لصالح الإغداق علي الفاسد والمنافق.

وبدأ التعامل المصري مع قضية هشام طلعت بفرض طوق من التعتيم الإعلامي عليها، وبغسل الجريمة تليفزيونيا من خلال البرنامجين الحكوميين «صباح الخير يا مصر» و«البيت بيتك»، اللذين ظهر فيهما هشام طلعت باعتباره داعماً للعفاف والطهارة ونصير الفقراء وأحد صناع نهضة مصر الاقتصادية في مشهد مخز ومخجل لما آل إليه حال الإعلام الحكومي.

ودشن الرجل حملة إعلانية ضخمة تردد أنها كلفته عشرات الملايين من الجنيهات في محاولة لإثبات أنه لا علاقة له بهذه الجريمة، وطالب بتبجُّح ـ نحسده عليه ـ بسن قانون لمكافحة مروجي الشائعات.

ولم يسأل أحد عن رأي من هللوا للرجل ودافعوا عنه بطريقة فجة تفوح منها روائح كريهة عن رأيهم الآن بعد أن دخل «العامل الإماراتي» في القضية وأحيل للمحاكمة.

والمؤكد أن دور الإمارات في محاكمة الرجل واضح، ليس فقط بسبب الأنباء التي تناثرت حول الضغوط الإماراتية (الاقتصادية والسياسية) علي الحكومة المصرية، إنما لأننا لم نعتد مثل هذا النوع من المحاكمات لأي مسؤول كبير، إلا إذا غضب عليه الحكم لأسباب لا علاقة لها بمخالفة القانون أو حتي ارتكاب جرائم.

إن المهنية الشديدة التي تعاملت بها شرطة دبي مع الجريمة تكشف حجم الانهيار الذي حدث في مصر، فالإمارات ليست دولة ديمقراطية، ولا يوجد فيها أحزاب ولا تداول للسلطة، ولكنها دولة قانون، ونخبتها عرفت مبكرا أنه لتحقيق أي نجاح مالي واقتصادي في تلك الإمارة الصغيرة، التي جذبت بنجاح استثمارات من العالم كله، لابد أن يكون هناك قانون،

وأن تكون هناك مهنية وشفافية في إدارة النظامين الاقتصادي والسياسي، علي عكس الحالة المصرية التي فرطت الدولة في تقاليدها العريقة، وحولت دولة القانون إلي دولة مواءمات تحسب موازين القوة والضعف والثراء والفقر، قبل أن تحاسب أي شخص، وتنحاز دائما لكل من يمتلك سطوة مالية أو سياسية أو إدارية حتي لو كان مثلا لا يحتذي في الفساد وعدم النزاهة.

المؤكد أن اتهام هشام طلعت مصطفي بتحريض أحد ضباط الشرطة الفاشلين علي ارتكاب تلك الجريمة، هو اتهام لمجمل الأوضاع الاقتصادية والسياسية التي نما وترعرع فيها الرجل، وأنه لا يمكن أن نتحدث عن رأسمالية حديثة أو رأسماليين إصلاحيين دون تغيير الأوضاع السياسية والاقتصادية،

لتصبح مصر دولة قانون تحاكم من يمتلك السطوة قبل أن تحاكم المواطن الضعيف، وهو أمر من المستحيل تخيله في ظل نظام احترف الفشل وحافظ عليه ببراعة يحسد عليها، علي مدار ما يقرب من ثلاثين عاما،

فالفشل في إطفاء حريق مجلسي الشعب والشوري، والفشل في التعامل مع كارثة الدويقة والفشل في حل مشكلات المرور والمجاري وانقطاع التيار الكهربائي والعشوائيات والمواصلات، وغيرها، لن يستطيع أن يطبق القانون علي مسؤول كبير دون حسبة ما، لا علاقة لها بالقانون والعدالة.

وتعليق

رحل المشير أبوغزالة في صمت، وفقدت مصر واحدا من ألمع وأهم رموز المؤسسة العسكرية الأوفياء، رحل رجل من أبرز عقول مصر الاستراتيجية، قبل أن تتاح له فرصة الحديث عن العهد الحالي بصراحة وشفافية، تاركا لهم الدنيا ليودعوه بصمت وفتور.

دخل أبوغزالة التاريخ حتي لو لم يرض البعض، لأن التاريخ سيقول كلمته حين يتحرر من قيود السلطة، وسيعترف حتما بالرجل كقيمة فكرية واستراتيجية، امتلك حساً سياسياً مرهفاً وطموحاً لإصلاح أحوال هذا الوطن، لايزال الناس يحلمون به ويأملون أن يتحقق يوماً ما. وكما قالت صحيفة «البديل» في وداع أبوغزالة إنه كان «قدر مصر الذي لم يأت».

Friday, September 05, 2008

إبراهيم عيسى ..طلعت والرئيس

طلعت والرئيس PDF تصدير لهيئة طباعة ارسال لصديق

لا أنا ولا أنت ولا أي مخلوق عاقل في مصر، يتصور أن هشام طلعت مصطفي نائب الشوري وعضو أمانة سياسات جمال مبارك وواحد من أهم المقربين للرئيس ونجله والمدلل بامتيازات هائلة في عالم المال والعقار والأراضي، وأبرز المشاركين في حملات التبرع والدعم والتمويل لأنشطة قرينة الرئيس الاجتماعية، تمت إحالته لمحكمة الجنايات بتهمة قتل الفنانة سوزان تميم بدون معرفة مسبقة من الرئيس مبارك شخصياً، فمن المؤكد أنه أول شخص عرف بالقرار وقبل أن يكون قراراً!

لكن هل فجأة أصبحت مصر بلد لا أحد فوق القانون؟

احتمال، جائز، ونتمني وإن كان لا يوجد دليل واحد علي ذلك، فبعض المصادر القريبة من أضلاع الحزب الوطني تقول إن الرجل وقع في فخ؟ وكما أن هناك من يدافع عنه ويستبعد إدانته، فإن هناك من يتصور أن الصخب سوف يهدأ بعد أيام أو شهور، وأن الرجل سيجد البراءة في انتظاره في نهاية الممر كما جري مع سابقيه، ومع ذلك فالسؤال: هل فجأة قرر النظام أن يحارب المتورطين في الجرائم من ذوي النفوذ الاقتصادي والسياسي الضاري؟ وهل استيقظ النظام وقرر مواجهة جرائم رجاله بل أبرز رجاله (هل تتذكر البلاغات التي حفظها منذ أسبوع تقريباً، هل تشعر بالصمت الكتوم علي تورط أحد أصحاب الحصانة الكبار في رشوة في موضوع كبير لا أحد ينطق فيه!!) عموماً دعنا نحترم أن هشام طلعت مصطفي برئ حتي تثبت إدانته، فهذا حقه كاملاً الذي أرجو ألا يغيب عما أكتب ولا عمن يقرأ!

يبدو أن هناك عوامل ثلاثة تضافرت وأدت إلي اتخاذ قرار الموافقة علي إعلان تورط طلعت مصطفي في جريمة القتل البشعة وإحالته للجنايات، والثابت أن هشام مصطفي لم يكن علي علم إطلاقًا بهذه الخطوة، فقد حصل علي إشارات علي أعلي مستوي (أو فهم أنها إشارات) بأن القضية في مسيرها للدفن البطئ، وكانت كل المؤشرات تؤكد له إشاراته، فها هو يظهر في «البيت بيتك» شباك الدولة علي تمرير أوامرها لأجهزة وجهات الدولة ورجالها في جميع المؤسسات، وفي «صباح الخير يامصر»، ويستقبله وزير الإعلام بنفسه ويصحبه إلي مكتبه ثم إلي الاستديو في الدخول والخروج، وتنقل الوكالة الرسمية تصريحاته عن التليفزيون، حيث تحدث عن بنك العفاف (لاحظ العفاف)، ويؤكد أنه ينفذ برنامج الرئيس مبارك الانتخابي (وهو البرنامج الذي لا نعرف مواعيد إذاعته!) ثم حوارات وتصريحات في جميع صحف الحكومة تكاد تضربنا بالنار لأننا فكرنا ونشرنا أسئلة حول ما يثار عن قضية الرجل في دبي ولبنان وقد قاتل مندوبو الداخلية في الصحف الحكومية وميكروفونات الحزب في الإعلام الموالي والمنافق علي نفيها واتهامنا بخيانة الوطن (هكذا مرة واحدة علي اعتبار كشف الجرائم خيانة للوطن، أما دفن الجريمة فمهمة للوطني!!)

إذن لم يكن هشام مصطفي مستعدًا ولا مهيأ لأن يفاجأ قبيل فجر اليوم الأول من شهر رمضان بأن يذهب ضباط الداخلية (الذي طالما كان صديقاً لهم ومصدقاً عندهم) واتفضل معانا يا هشام بيه، الذهول كان هو رد الفعل الأول، ثم الإحساس الرهيب بالخيانة، نعم شعر أن طرفا ًما خانه وقد أعطاه الأمان الكامل، ثم في ضربة مدوية أنزل مطرقة حديد فوق رأسه، ومع غرور المال وغطرسة النفوذ والجهل التام بالسياسة يغشي العمي عيون رجال الأعمال عن توقع خطوات النظام وعن فهم دوافعه، فلم يكن الرجل والمحيطون به يدركون حجم العوامل والعناصر التي تداخلت وتدخلت فدفعت بهشام طلعت مصطفي لمحكمة الجنايات بقرار من النظام متجاوز كل الوعود التي تم قطعها لهشام مصطفي ومجازف بالتأثير الاقتصادي الذي يبدو أنه يقلق الجميع، وكذلك مخاطراً بضربة معنوية سياسية تتلقاها دولة أمانة السياسات.

لكن ما هي تلك العوامل فعلاً؟

1- العامل الخارجي: قضية سوزان تميم لم تكن قضية مصرية صميمة يمكن اللف والدوران حولها أو إخفاؤها أو الصمت عليها والضغط السياسي علي العصب القانوني، سوزان تميم تتداخل في حادثتها عدة دول وجهات وأنظمة عربية من الصعب السيطرة عليها أو كتم غضبها أو احتواء خطواتها، فهناك لبنان حيث جنسية القتيلة، مع مراعاة أن لبنان هي خريطة معقدة من العائلات والطوائف، وسوزان ابنة أحدهم (عائلة ثم طائفة ) والصمت هناك غالي الثمن، عالي الكلفة، ولا تستبعد أطراف لبنانية أن حادث مقتل سوزان تميم كان علي هامش الحوار أثناء زيارة رئيس الوزراء اللبناني لمصر مؤخراً، ثم سفر وزير خارجية مصر للبنان عقب ذلك بأيام، ثم هناك الطرف الأهم والأقوي وهو الشيخ محمد بن راشد ـ حاكم دبي ـ حيث جري القتل، وهي إمارة تعيش علي سياحة الأمن والأمان وصرامة تنفيذ القانون، وإذا عبرت هذه الحادثة وهم يعرفون مدبرها دون حساب ولا عقاب لتحولت دبي بعد ذلك إلي مسرح لعمليات قتل وتصفية حسابات شخصية ودولية علي أرض الإمارة، وهو ما جعل دبي حاضرة في صناعة القرار الأمني في هذه القضية خصوصاً مع العلاقات الوطيدة والمتينة بين حكام الإمارات العربية وقصر العروبة في مصر الجديدة.

2- العامل التنافسي: فهناك شخصيتان في منتهي النفوذ والقوة وكانتا علي درجة متفاوتة من التنافس الذي بلغ حد الصراع بينهما كل علي حدة وبين هشام طلعت مصطفي.

أ - الأمير وليد بن طلال وهو رجل الأعمال الأغني والأشهر والذي يملك في مصر استثمارات تجعله من الأسماء التي تؤثر في صورة مصر الاقتصادية في الخارج وهو في الفترة الأخيرة كان غاضباً علي شريكه وواجهته المصرية هشام طلعت مصطفي، ومن ثم كانت حماية الأخير بمثابة استفزاز للأول وهو ما لا يحتمله الآخرون في مصر.

ب - الملياردير أحمد عز الذي دخل في تلاسن اقتصادي ومالي، معبراً عن صراع معلن وخفي بين عز ومصطفي حول من استفاد من الحزب والحصانة والصداقة للبيت الرئاسي أكثر من الآخر، وبدأ كل طرف يمول حملات ضد الآخر لكشف أرباحه الأسطورية التي تفوق أرباح الآخر، وكان «عز» حريصاً علي إظهار أنه يضحي من أجل الحزب بتلقي الضربات والحملات الصحفية والسياسية بينما لم يكسب أبداً مليارات كما كسب هشام مصطفي الذي لا يهاجمه أحد، ولا يتحمل ما يتحمله المضحي أحمد عز.

وقد كان شبح غضب هذين الاسمين بنفوذهما الطاغي ماثلاً طول الوقت علي أكتاف كل الأطراف.

3- العامل النفسي: فقد خشيت جهات محترمة داخل النظام من رجال الأعمال ومحاربي البزنس ومجاهدي الصفقات ومناضلي البورصة من أن الصمت علي إتهام هشام مصطفي في جريمة قتل قد يشجع غيره من رجال الأعمال علي تصفية الحسابات بالدم وتأجير القتلة فتنفتح في عالم البزنس بوابة جهنم، وتصبح لغة القتل هي الحاسمة لأي صراع علي صفقات، خصوصاً أن 2مليون دولار (قرابة 11 مليون جنيه مصري) تكلفة جريمة قتل سوزان تميم لا تساوي ربح ليلة واحدة من ليالي صفقات القاهرة المفتوحة لتوحش المليونيرات الذين استباحوا أراضي ومصانع وشركات وقطاعاً عاماً وثروات الشعب المصري، وبدلاً من خصخصة القطاع العام خصخصوا مصر ذات نفسها!


إبراهيم عيس

Thursday, September 04, 2008

متبلدون رغم الكوارث

متبلدون رغم الكوارث

بقلم د. عمرو الشوبكي ٤/٩/٢٠٠٨

حين يكشف المقدم علي رزق، رئيس وحدة الإطفاء في مجلسي الشعب والشوري، أنه أرسل ٥٠ مذكرة تحذيرية لقادة المجلس المحترق، يحذرهم فيها من غياب نظام متطور للإطفاء، ويطالبهم بضرورة رفع كفاءة المباني وإنشاء نظام حديث للإنذار، ولا يتلقي أي رد علي مدار ما يقرب من عام، نصبح أمام مشهد نادر للتبلد وانعدام المسؤولية، عودنا عليه الحكم الحالي منذ عقود وبات يهدد كل شيء.

ومع أن حالة المقدم رزق ليست هي القاعدة داخل أجهزة الدولة المختلفة، إلا أنها بالتأكيد مازالت موجودة، وهناك كثير من العناصر التي تعمل في صمت ونزاهة داخل هذه الأجهزة رغم كل الانهيار الذي أصابها.

والحقيقة أن حالة اللامبالاة، التي أصابت المجتمع المصري مؤخرًا، جعلته في وضع عاجز، ليس فقط عن تحسين أوضاعه إنما أيضا عن مواجهة سلبياته، وصار الخروج من كارثة مجرد ممر للدخول إلي أخري.

وكشفت حالة الشماتة التي أبداها جانب من المصريين تجاه حريق مجلس الشوري عن حالة من الانفصام بين المجتمع والنظام السياسي، شعر فيها قطاع واسع من الناس بغربة شديدة عن الحكم وعن رموزه وصوره، والمفارقة أنه مهما كانت آلام الناس وأحزانهم وحجم كوارثهم فإنهم أصبحوا متأكدين أن الحكم لم يعد قادرا، حتي ولو رغب، في حل أي من هذه المشكلات.

وقد تلقيت علي بريدي الإلكتروني تعليقين مميزين من بين أخري عن «حريق القاهرة الثاني»، ويعكسان بصورة كبيرة حجم الانفصام الذي حدث، ليس فقط بين الشعب والسلطة، إنما أيضا بين قطاع واسع من النخبة والحكم الحالي.

وجاء التعليق الأول من المحامي الدولي الأستاذ نور محمد، المقيم في البلد الذي عشت فيه ٨ سنوات، وأختلف مع فكرته الرئيسية التي تقول إن حريق الشوري كان مدبرا، وجاء فيه:

قرأت مقالك الأخير في «المصري اليوم» بعنوان «حريق القاهرة الثاني»، وما زادني حيرة هو أنك لم تذكر أي شيء عن القلب الصلب للدولة المعارض للتوريث والذي تكلمت عنه من قبل.

(والحقيقة أن الذي تكلم عن موضوع القلب الصلب للدولة هو صديقنا الأستاذ ضياء رشوان، أما بالنسبة لي فأنا أتمني أن يكون موجودا، ولكني من المتشككين في وجود أي كيان صلب داخل ما تبقي من أطلال الدولة المصرية).

واسمح لي بإبداء بعض الملاحظات الهامة، لعلي قد أصيب بعضاً من الحقيقة في تحليلي لحريق القاهرة ٢:

بالنسبة لعنصر الزمان:

إن ما حدث في حريق القاهرة الثاني لم يكن من قبيل العفوية أو الصدفة، ويرجع هذا إلي اختيار الشهر فهذا شهر العطلات الرسمية.

ثم اليوم، فهذا اليوم يكون وجود الناس فيه قليلاً، لأنه ليس بداية أسبوع مثلا.

ثم الساعة، ففي هذه الساعة لا يكون هناك أحد ما في المكان إلا المنوط بهم التواجد الفعلي، وهؤلاء يكونون قلة في هذه الساعة.

ثم أيضا نأتي إلي تحليل عنصر المكان:

لماذا مجلس الشوري علي وجه الخصوص؟

ولماذا لم يكن مجلس الوزراء مثلا؟

ثم لماذا لم يكن مجلس الشعب أيضا؟

ثم لماذا لم يكن أي جهة سيادية في الدولة؟

يمكن القول إن حرق مجلس الشوري كان عن قصد للأسباب الآتية:

- أنه لم يعد ذا قيمة في هذا الوقت.

- أنه يعبر عن ترهل وفساد النظام وأغلبيته المزورة ورقابته غير القانونية علي إنشاء الصحف والأحزاب، الموافقة فقط علي أي حزب يتوافق مع النظام وخططه في التوريث، الذي فشلوا فيه رغم كل مايمتلكه من قمع وقوة وسطوة وقهر.

- أن من حرقه كان يريد أن يوصل رسالة قوية للنظام تفضحه داخليا وخارجيا دون أن يسبب أي تعطيل لمؤسسات الدولة ومصالح المواطنين اليومية، وأعتقد أنها وصلت وفهمت سياسيا أيضا.

- أن من حرقه كان يقصد ألا يتسبب في موتي وإصابات كثيرة وهذا جلي في زمان الحدث ومكانه كما أسلفت آنفا.

- أن من دبره ذو يد طولي في الدولة، لأنه عرف كيف يدخل ويخرج وبعلم تجهيزات المكان واختيار الأدوار العليا، حتي يتسني لمن هم تحت أن ينجوا بأنفسهم وقت الحريق.

- أن من دبره له أيضا سلطة عليا، لأنه تسبب في بعض الإرباك لفرق الإنقاذ عن طريق إصدار أوامر الهدف منها تأخير معالجة الحريق، هذا إلي جانب الإهمال والفساد المستشري أصلا، مما فاقم الأزمة وزاد من فضائح النظام.

- أن من دبره يعتبر مسؤولا أيضا عن أحداث في الشارع المصري لفضح النظام داخليا وخارجيا، وتوريطه من أجل النيل من سمعته الضائعة أصلا لتقليب الشارع من حين لآخر وتجهيزه للحظة حاسمة يختارها هذا المدبر.

- في النهاية، إن هذا المدبر يتمثل في القلب الصلب الشريف والرافض للتوريث والسياسة التخاذلية الانهزامية والفساد المستشري في هذا البلد الطيب.

أما التعليق الثاني فجاء من الأستاذ الباحث أمجد الجباس، وألقي الضوء علي جوانب أغفلتها مقالتي السابقة، وكثير من الكتابات التي تعرضت لحريق «الشوري»، وتضمنت:

إن سبب رغبتي في التعقيب علي مقالكم في «المصري اليوم» هو إزالة اللبس، أو الصورة المغلوطة، التي عمد الجميع إلي نقلها للشعب المصري بأن الحريق خاص بمجلس الشوري فحسب، والحقيقة أن المتضرر الأكبر من الحريق هو مجلس الشعب، وليس مجلس الشوري، ودعني أشرح لك الأمر.

المبني الذي احترق يطلق عليه مبني الري بمسطح يقترب من ثلاثة آلاف متر مربع، ويخص مجلس الشعب ويضم لجان: الزراعة، الشباب، حقوق الإنسان، الدفاع، الإسكان، النقل، العلاقات الخارجية، الإعلام، أي أكثر من نصف لجان المجلس، خاصة أن لجنة الزراعة هي الأكبر من حيث عدد الأعضاء.

كما كان الدور الثالث يضم أيضاً ثلاث قاعات ضخمة للمؤتمرات والاجتماعات هي: الزرقاء، والبنية، والخضراء، وكان يضم عدداً من الإدارات الحيوية مثل: الترجمة، المعاشات، العلاقات العامة، المؤتمرات، البحوث، الحفظ، الإحصاء، والأخيرة هي المعنية بجميع البيانات والإحصاءات الخاصة بنشاط المجلس منذ نشأته، وأعتقد أنه لا توجد لها نسخة بديلة في أي مكان آخر بالمجلس.

ويعمل في الدور الثالث ما لا يقل عن ٤٠٠ موظف ضاع عملهم وجهدهم علي مدي عشرات السنين في غمضة عين، ولا سبيل لاسترجاعه ولو بعد حين.

أما الدور الثاني فيضم هيئات مكاتب الأحزاب الرئيسية كالوطني والوفد والتجمع والمستقلين، فضلا عن إدارة التدريب وإدارة شؤون اللجان ومتحف الحياة النيابية (وهو غير المتحف الرئيسي الملحق بقاعة مجلس الشعب والذي لم يمسسه سوء) والمحفوظات ومكتب للإذاعة ومكتب المعلومات ومكتب لرئيس المجلس ونائب الأمين العام، فضلاً عن قاعة فخمة جداً للاجتماعات اسمها قاعة مبارك.

أما الدور الأرضي فكان يشتمل علي عدد من الإدارات المهمة بالمجلس ومكاتب قياداته الإدارية، ولعل أخطر ما كان يحويه هذا الدور هو مخزن المضابط البرلمانية، الذي كان يحوي نسخاً من المضابط البرلمانية منذ نشأة الحياة البرلمانية في مصر وحتي تاريخه.

لقد تعجبت كثيراً من تركيز وسائل الإعلام علي أن الحريق كان خاصًا بمجلس الشوري، وكأن مفهوم المجلس - أي مجلس - ينصرف بالدرجة الأولي إلي قاعة اجتماعاته «القبة»، وما دامت قبة مجلس الشعب بخير فإن الحريق كان لمجلس الشوري لا الشعب وذاك إخلال خطير بالحقائق علي أرض الواقع.

فالبرلمان، أي برلمان، هو في المقام الأول كيان، هيكل إداري، وثائق، وإذا كان مجلس الشعب قد فقد في هذا الحريق أكثر من نصف لجانه المتخصصة، وعشرات الإدارات الحيوية، وتاريخه من البيانات والوثائق المرجعية التي لا سبيل لتعويض الكثير منها فما فائدة «القبة» إذن؟

لقد عمد مسؤولو مجلس الشعب إلي التهوين من حجم الضرر الذي أصاب مبناهم لمعرفتهم اليقينية أن ثمة خللاً وتقصيراً من جانبهم كانا السبب فيما حدث، وبخاصة أن الحريق بدأ فعلاً من الدور الثالث الخاص بمجلس الشعب، كما أنهم شعروا بالعجز عن مواجهة الرأي العام بفداحة الكارثة، فآثروا التهوين منها علي الرغم من أن المصاب جلل والخسارة فادحة.

elshobaki@ahram.org.e

تأديب هشام طلعت مصطفى !

تأديب هشام طلعت مصطفى !

جمال سلطان : المصريون ـ بتاريخ 3 - 9 - 2008

أيا كانت التفسيرات لما حدث في واقعة هشام طلعت مصطفى ، والقرار المفاجئ بإحالته محبوسا إلى محكمة الجنايات متهما بالتحريض على قتل سوزان تميم ، فإن هناك حقيقة واحدة أكيدة ، وهي أن جهة ما في الدولة قررت "تأديب" هشام ، ليس لعلاقته الشائنة مع المغنية اللبنانية ذات السمعة "الحميدة" ، ولا لأنه تواطأ على قتلها في عمل لا يقوم به إلا رجال المافيا والعصابات ، ولكن لسبب جوهري هو الإحراج الشديد الذي سببه للسلطة وللرئيس مبارك نفسه وأسرته ، بكل استهتار وانعدام الإحساس بالمسؤولية وليس فقط ضعفها ، ليس خافيا أن هشام يرتبط بعلاقات خاصة جدا وأسرية جدا مع بيت الرئيس ، وقد دلله الرئيس مبارك نفسه تدليلا زائدا عن الحد وبصورة لافتة ، حتى أنه ذهب بنفسه لكي يفتتح فندق سان استيفانو الذي أنشأه في الاسكندرية في واقعة أثارت استهجان الكثيرين ، لأنه من غير اللائق برئيس دولة في حجم مصر أن يذهب لافتتاح فندق أقامه رجل أعمال أيا كان ، كما أن الرئيس أصدر توجيهاته إلى كافة قطاعات الدولة بفتح أبوابها أمام طموحات هشام وشركته وبيعت له أراضي الدولة بأبخس الأسعار لكي يجني من ورائها المليارات ، كما أن مشروع مدينتي الأخير عندما تعثر في البداية ذهب هشام وقابل الرئيس مبارك في مقابلة خاصة طويلة ، انفرجت بعدها كل الأبواب ووصلت الرسالة إلى الجميع بمن فيهم أحمد نظيف رئيس الوزراء ، كما أن جمال مبارك هو الذي قرر اختيار هشام لعضوية مجلس الشورى وهو الذي وجه بتعيينه وكيلا للجنة الاقتصادية وكان بمثابة ذراعه الأيسر ، وكان هشام مرشحا فوق العادة كوزير للإسكان في أي تعديل وزاري قادم ، وكان الإعلام الرسمي المصري مسخرا بصورة استثنائية لخدمة هشام ، صحيح أنه هو نفسه كان سخيا مع صحفيين وإعلاميين وقنوات فضائية خاصة وعامة ، واشترى ذمم الكثيرين ، لكن الأهم هو الانطباع السائد لدى الجميع بأن هشام "واصل" وسكته سالكه ، كما كان هشام يمثل في نظر القطاع الاقتصادي بكافة أذرعه الرجل الثالث في لجنة السياسات المتحكمة الآن في كافة قطاعات الدولة والحكم باستثناء الوزارات السيادية ، بعد جمال مبارك وأحمد عز ، بل إن النزاع كان قائما حتى الحادثة الأخيرة بين عز وهشام ، على من يكون "الرجل الثاني" ، وبالتالي فعندما فعل هشام فعلته التي كشفت عنها تحقيقات النائب العام ، فقد آذى اليد التي امتدت إليه بالمساعدة ، ولوث سمعة الأسرة التي دللته واعتبرته ابنا من أبنائها ، وتعامل باستهتار بالغ لم يتحسب فيه لأي توابع خطيرة يمكن أن تنتج عن سلوكه في واقعة قتل المغنية اللبنانية ، وبالتالي كان لا بد من معاقبة هشام ومن تأديبه ، والمؤكد أن هشام عندما طلبوا منه العودة إلى مصر كان واثقا من أنه لن يتعرض للتحقيق أو الاعتقال ، وأنه تلقى وعودا بذلك ، والحملة التي تم حشدها له في التليفزيون الرسمي وفي فضائيات خاصة وفي الصحف القومية مع حظر النشر المفصل على مقاس صحف المعارضة كانت تؤكد ذلك ، غير أن حجم الاستهتار الذي كشفت عنه التحقيقات والغضب الذي استبد بأسرة الرئيس كان دافعا أكيدا لتأديب هشام ، وحتى يكون عبرة لغيره ، خاصة وأن الأشهر الماضية كانت هي الأسوأ على مجموعة لجنة السياسات والمنطقة الحساسة المحيطة بالرئيس ، بعد فضيحة أكياس الدم وفضيحة ممدوح إسماعيل وفضائح أحمد عز السياسية والبرلمانية التي وصلت إلى حد بالغ الاستهتار بوجود الدولة ذاتها ، وبالتالي لم تكن أسرة الرئيس لتتحمل المزيد من استهتار المجموعة المحظوظة والمدللة ، لأن الأسرة في النهاية تدفع الثمن أو جزءا منه ، لذلك كان الاتجاه إلى إحالة هشام إلى محكمة الجنايات محبوسا وإلغاء أي سيناريوهات أخرى لتسوية الموضوع أو دفنه ، .. كان تأديبه ضرورة .

Thursday, August 28, 2008

الطريق إلى الحريق ـ د. أحمد دراج

الطريق إلى الحريق ـ د. أحمد دراج

د. أحمد دراج المصريون : بتاريخ 27 - 8 - 2008

مرت مصر عبر تاريخها القديم والحديث بعدة أنواع من الحرائق المادية منها: حرائق الجرد السنوي ( اللصوصية )، وحرائق الفشل السياسي مثل حريق قطار الصعيد، وحريق مسرح بني سويف، أما الحريق الأخير في مجلسي الشعب الشوى الذي دمر مقار 18 لجنة، فهو حريق سياسي بدلالات جديدة تثبت أمرين: أولهما: فشل مؤسسات النظام الحاكم ورسوبها في أسهل اختبار، وثانيهما: سقوط منظومة التلفيق والتلبيس في شر أعمالها.
إذا كان من الممكن التغلب على آثار الحرائق المادية المتكررة بفرض الضرائب والإتاوات على الفقراء ومحدودي الدخل، فإنه من المستحيل إطفاء الحرائق المعنوية المشتعلة في قلوب الشعب المصري بنفس الوسائل، ولم تدرك معظم النخب السياسية والثقافية أن هذه النيران تزداد اشتعالا كل يوم طيلة السنوات والشهور الماضية وتتغذى على ظلم الأبرياء والزج بهم في أتون المعتقلات وأقسام الشرطة ويزيد من أوارها أحكام البراءة في قضايا الرأي العام الكبرى مثل: هيدلينا وضحايا عبارات ممدوح إسماعيل، ثم يحولها حريق الأسعار إلى بركان ثائر تحت الجلد يلتهم أكباد الشعب وثمرات كده وعمله انتظارا ليوم مشهود، يوم ترد فيه المظالم وتنطفيء جذوة الحرائق المادية والمعنوية، ولا يخرج فيه عتاة المجرمين أبرياء مرفوعي الرأس لم يمسسهم سوء، ولا يقدم صغار الموظفين وعابرو السبيل كباش فداء لمماليك اليوم.
وإذ كان المثل الشعبي يقول " إن مصائب قوم عند قوم فوائد " يفهم منه أن هناك مستفيدين من هذه الكارثة التي لحقت بالقاعات التاريخية والمستندات الخطيرة، ولكي نتوصل إلى الجناة الفعليين لابد من التفتيش والبحث عن كبار وصغار المستفيدين الذين يدافعون بالروح والدم عن المستشار الرسمي لنظام التخريب.
والآن، ترى من المستفيد المباشر وغير المباشر من إشعال حريق مجلسي الشعب والشورى الذي جدد منذ شهور قليلة بما يقارب مائة مليون جنيه ؟ أم أن المسألة برمتها إهمال فادح وفشل ذريع لنظام أغلق نوافذ التداول السلمي للسلطة وتفرغ لتصفية حساباته مع الشعب بينما هو عاجز عن إطفاء حريق في مؤسساته التشريعية ؟ وهل هناك خيط يربط بين هذا الحريق المادي والحريق المعنوي المشتعل في قلوب الناس وحياتهم وأرزاقهم جراء الظلم والهوان ؟ وكيف تمكن المستفيدون استمرار إشتعال النار لوقت طويل في الوثائق والمستندات خطيرة في غيبة أو حراسة أمن الدولة ؟ أم أن هذا الحريق غطاء لجريمة أو حريق أكبر ؟ وما العلاقة بين كبار المستفيدين من الخراب وأذنابهم بالمقصرين في أداء واجبهم لحماية المنشآت والملفات والوثائق الحساسة ؟ أما الحديث عن المتضررين فلا أهمية له، لماذا ؟ لأنهم يغطون في السلبية المقيتة مع أنهم الخاسر الأكبر في كل الأحوال فهم يدفعون دائما من عرقهم وكدهم وفقرهم بلا تأوه أو تأفف، لم لا وكل ما يعرفونه عن هذين المجلسين أنهما رموز تزوير إرادتهم ونهب أموالهم وفرض الضرائب عليهم ومحلل بيع المصانع والمؤسسات وثروات الشعب لأعدائه بأبخس الأسعار!!.
إن توجيه الاتهام إلى السيد الماس الكهربائي من وزير الداخلية وكبار المسئولين فور وقوع الحريق لأمر يدعو إلى السخرية والشفقة معا لأن النيران كانت تحت رماد مخلفات الحريق الكبير ولم تستطع الكلاب البوليسية اجتياز المكان المحترق، فكيف عرف الوزير وخبراء وجهابذة التلفيق نتائج عينات ودراسات لم تجر بعد، بل لم يقترب منها أحد بعد ؟! وهل هذا الماس الكهربائي من شهود الزور الواقفين على أهبة الاستعداد لتحمل جرائم الفوضي والإهمال بأنواعه ؟.
هذه التصريحات المتعجلة تصادر على نتائج البحث الجنائي من وزير يسيطر على هذا الجهاز وتؤكد جهل جهات التحقيق وفقدانها للمصداقية لأنها تري في علوم البحث الجنائي الحديثة مجرد واجهة رسمية لإغلاق الملفات إما لعدم كفاية الأدلة أو بتحميل الكارثة لأقرب كبش على طريقة " الماس الكهربائي أو لمختل عقليا ".
ورغم اشتراك هذه الحرائق المادية والمعنوية في المسمى وتخريب وتدمير ثروات هذا البلد وطاقاته الشرية إلا أن الجناة في كل حريق الأمس القريب يمثلون شريحة مختلفة من أصحاب المصالح، فإذا كنا نعرف أن حرائق المخازن في موسم الجرد يشعلها صغار اللصوص في المؤسسات والشركات والمصالح الحكومية للتستر على جرائم السرقة وتبديد المال العام، وأن المتهم الأول في حريق قطار الصعيد ومسرح بني سويف هي إدارة الإهمال والفشل السياسي في مؤسسات الدولة والهيئات التابعة لها، فإلى من توجه أصابع الاتهام في الحريق الكبير لجزء من مجلسي الشعب والشورى وحرائق أسعار السلع والخدمات التي مازالت مشتعلة في جيوب الفقراء ومتوسطي الحال من أبناء الشعب المصري ؟
ياسادة، لقد بدأ الحريق الأكبر منذ سنوات وشهور وما زال مشتعلا في قلوب الفقراء ومعدومي الدخل وامتدت آثار الحريق لتعبر عن نفسها في مواقف متعددة منها تلك التعليقات وردود الأفعال في الشارع ومن المواطنين البسطاء على الحريق في مواقع مختلفة، من هذه التعليقات التي رصدتها ( حريق القاهرة.. عاد من جديد )، و( ياخسارة... النواب كانوا في مارينا ) و ( الحمد لله... بشرة خير ) و( من أعمالكم سلط عليكم ) و( يمهل ولا يهمل ) و( هي دي بلد الأمن والأمان ؟ ) و( اللهم لا شماتة ) وأختتمها بتعليق مصري محروق دمه ( ألف مبروك عقبال الباقي ) " نقلا عن مصراوي "
هذه التعليقات المغلولة تدعو العقلاء إلى مراجعة أنفسهم فما تضمره قلوب ونفوس الشعب المصري تنبيء عن حجم رهيب للدخان المكبوت في إناء يحترق، وهي تقول ببساطة إن الأسوأ قادم، وإذا لم تنطفيء نار الظلم المشتعلة في قلوب كل المظلومين ونار الأسعار الحارقة لآمال الناس وأحلامهم إن لم تستقم المعادلة الوطنية مرة أحرى فإن مصر مرشحة – في القريب العاجل- لأكبر حريق يأتي على الأخضر واليابس ولايعلم مداه ولا نتائجه إلا الله، وهذا الرأي ليس ضربا بالغيب ولكنه استشراف للمستقبل القريب الذي تلوح بوادره في الأفق، وعندها فقط لا ينفع الندم
!!!.

ثقافة الإهمال وثقافة العمل الجاد

ثقافة الإهمال وثقافة العمل الجاد
بقلم : نبيل عبدالفتاح


انكسرت روح الأمة بلا زيادة أو نقصان عندما اشتعلت نيران الاهمال في أروقة مجلس الشوري‏.‏ أحد أبرز المعالم التاريخية والمعمارية والأثرية علي التطور الدستوري والسياسي‏.‏ المباني التاريخية لها قيم معمارية وتاريخية وثقافية ورمزية‏,‏ وتحمل تواريخ وعلامات وأفكارا‏,‏ والمبني يمثل وبكثافة تأسيس الهندسات الدستورية والقانونية والمعمارية ـ الكلاسيكية الجديدة الأوروبية ـ والتي ارتبطت ببناء الدولة الحديثة ومؤسساتها وتنظيمها الاداري‏.‏ النيران حملت معها ذكريات مؤلمة عن حريقي الأوبرا‏,‏ والقلعة ومحمولاتهام الرمزية والقيم التاريخية والمعمارية والأثرية التي تبددت‏,‏ واستدعت معها مظاهر الفوضي واللامبالاة والاهمال وعدم الكفاءة وكراهية العمل والانجاز الذي بات يمثل سمت ثقافة تعيق تطورنا السياسي والاجتماعي الحديث بما يدعم مطالب وضغوط ودعاية بعض القوي السياسية الأكثر محافظة التي توظف سنن الاهمال وعدم الكفاءة المهنية في دعم خطابها السياسي الساعي للوصول الي الدولة والسلطة‏.‏

تشير وقائع الحريق الدامي والملاحظات الميدانية التي رصدها المتابعون للحادث‏,‏ إلي مجموعة من الظواهر والسلوكيات الاجتماعية والمهنية والادارية تشكل نمو واتساع الاهمال والكسل والتراخي‏,‏ ووهن الحيوية‏,‏ وعدم الجدية‏,‏ والتبصر في أداء العمل عموما كظاهرة في حياتنا السياسية والادارية وفي غالبية المرافق العامة‏,‏ وبعض مؤسسات القطاع الخاص‏,‏ والمنظمات غير الحكومية والسؤال الذي نطرحه هنا ما دلالة هذا التسيب والاهمال وضعف الرقابة والمحاسبة‏,‏ وتراخي الاحساس بالمسئولية لدي غالب المواطنين المصريين؟

نستطيع ان نوصف الظواهر الممتدة لتجليات الاهمال وعدم الجدية في أداء العمل ومتابعته الي بروز نمط ثقافي شائع يمكن أن نطلق عليه ثقافة الاهمال وعدم الجدية والمسئولية‏,‏ ونقصد بذلك ما يلي‏:‏ بروز مجموعة من العادات والسلوكيات الوظيفية والمهنية والادارية والأمنية تتمثل في اللامبالاة بأداء العمل المنوط ببعض المهن والأعمال ـ أيا كانت ـ بالكم والنوعية والكفاءة المطلوبة في كل أو بعض مراحل هذا العمل‏.‏ من ناحية ثانية‏:‏ شيوع بعض العادات الذهنية والسلوكية تتمثل في الكسل الذهني والترهل والتراخي والبطء السلوكي في أداء العمل ومتابعته في إطار شروطه ومعاييره‏,‏ ناهيك عن التعود علي عدم التبصر واليقظة في متابعة العمل بعد أدائه‏,‏ وملاحظة مدي قدرة العمل‏,‏ أو الجهاز أو النظم أو العمالة علي الوفاء بالمهام المنوطة بهم‏,‏ وبها‏.‏

الوجه الآخر لثقافة الاهمال وعدم المسئولية والتراخي‏,‏ هو ضعف ثقافة العمل ومحبته والتفاني في أدائه‏,‏ واعتباره قيمة عليا دالة علي الوجود والحضور الانساني الفاعل للفرد ومكانته في المجتمع أيا كانت‏.‏ أن مقارنة بين مصر في بعض مراحل تطورها السياسي والاجتماعي ـ في المرحلة شبه الليبرالية والناصرية وحتي حرب أكتوبر‏1973,‏ وبين المراحل التالية ـ تشير إلي الفارق المائز بين غلبة ثقافة العمل والمسئولية وهيمنة ثقافة الاهمال والكسل وعدم الكفاءة‏.‏ إن ضعف الانتاجية أو حادثا ذا دلالة يؤدي إلي استقالة المسئول الأول عن الحكومة أو عن الوزارة أو المؤسسة في اليابان وقد يدفع للانتحار تعبيرا عن مدي الاحساس بالمسئولية وتبعاتها؟ لكن مصر ليست اليابان‏,‏ ولا الطبقة السياسية هنا‏,‏ كما هناك‏,‏ ولأن المسألة باتت أعقد من مجرد إلقاء اللوم علي السلطة السياسية الحاكمة‏,‏ وإنما نحن إزاء مرض اجتماعي وسياسي عضال يمس المجتمع والدولة معا‏,‏ من هنا لابد من جراحات عميقة تمس أمراضنا السياسية والاجتماعية‏.‏ وتعالجها عند الجذور بنجاعة‏.‏

ثمة تراجع لثقافة العمل كمجموعة من القيم والتقاليد والعادات التي تمثل موقفا ايجابيا من العمل كقيمة فردية واجتماعية ومهنية ووظيفية وقومية‏,‏ من حيث المبادرات‏,‏ وإعادة التأهيل لأداء العمل المطلوب كما ونوعا وفق الشروط والمعايير القياسية المرتبطة بالعمل ومجاله‏,‏ وعلي نحو يتسم بالكفاءة والمهنية‏.‏

من ناحية ثانية‏:‏ تراجعت الدافعية الشخصية علي نحو كبير لدي بعض ـ إن لم نقل غالب ـ المصريين في العمل وأدائه‏,‏ والأهم تراجع الموقف الجمعي الايجابي إزاء تقدير العمل في ذاته ايا كان نوعه ومستواه‏,‏ ومن يقوم بإنجازه لدي بعض المواطنين‏.‏

والسؤال الذي نطرحه كيف تحول الاهمال إلي حالة غالبة في حياة المصريين وممارستهم الأعمال المنوطة بهم؟ ثمة أسباب عديدة أدت إلي بروز الظاهرة يمكن رصدها فيما يلي‏:‏ ـ

أولها‏:‏ انتشار بؤر ودوائر الاهمال في الحكومة ومرافقها العامة‏,‏ وضعف الرقابة الادارية والفنية‏,‏ وشيوع روح التواطؤ المتبادل علي الاهمال والكسل بين غالب الموظفين العموميين وغياب مباديء الثواب والعقاب وتطبيقها‏,‏ وذلك لانتشار ظواهر الفساد الاداري والسياسي‏.‏ من ناحية ثانية‏:‏ شيوع مسوغات وتبريرات للاهمال تتمثل في ضعف الأجور‏,‏ وتزايد تكاليف وأعباء المعيشة‏,‏ ومحاباة غير الأكفاء وتعيينهم وترقيتهم‏,‏ وشيوع المحاباة والمحسوبية والنفاق الاداري علي حساب الجدية والكفاءة والموهبة‏.‏ من ماحية ثالثة‏:‏ شيوع المحاكاة للاهمال وسلوكياته بين غالب العاملين في الحكومة ومؤسساتها وقطاع الدولة‏,‏ والنقابات المهنية والعمالية والجمعيات الأهلية‏.‏ من ناحية رابعة‏:‏ عدم التناسب بين حجم ونوعية العمل‏,‏ والعائد المادي الذي يستخدم كمبرر للتراخي والكسل وعدم الدقة والاهمال‏,‏ في ظل غياب أنظمة ومعايير موضوعية للترقي للوظائف الأعلي تعتمد علي الكفاءة والجدية والتفاني في العمل‏,‏ ولاسيما في ظل غياب أنظمة للتدريب والتأهيل الوظيفي وإعادة التكوين للموظفين والعمال‏.‏

أدي ذلك إلي تحول الاهمال إلي عقاب مضاد في بعض الأحيان للسلطات السياسية والادارية‏..‏ إلخ من قبل غالب العاملين‏,‏ من ناحية أخري يعد الاهمال تعبيرا عن الفجوات بين السلطة السياسية والبيروقراطية وأجهزة الدولة الادارية والخدمية والأمنية‏.‏ وفي هذا الصدد يبدو من ثنايا الاهمال الانفصام النفسي والاجتماعي بين القمة القيادية للهرم الاداري والوظيفي‏,‏ وبين بقية مستوياته‏,‏ وأبرز تجليات ذلك ترهل وعدم فاعلية قانون الدولة في حكم العلاقات القانونية والادارية‏,‏ وهو ما يتجسد في انتشار قوانين الرشوة والفساد‏.‏

إن العوامل السابقة شكلت بيئة إدارية واجتماعية ملائمة لنمو ثقافة الاهمال‏,‏ والحرائق التي مست أماكن وقيما أثرية ومعمارية وسياسية‏,‏ وساعد علي تفاقمها بعض الأسباب نرصدها تمثيلا لا حصرا فيما يلي‏:‏ ـ

*‏ عدم تحديث الأجهزة الادارية من حيث أنظمة العمل ومعاييره‏,‏ وضعف تقنيات مكافحة الحرائق وأجهزة الانذار المبكر التكنولوجية والرقابية في ظل تدني كفاءة وتكوين وتدريب غالبية العاملين في أجهزة المكافحة والدفاع المدني‏,‏ فضلا عن غياب الرقابة الدورية علي الأجهزة والأدوات المستخدمة في المكافحة‏.‏

*‏ضعف الوعي التاريخي والأثري لدي بعض البيروقراطية السياسية‏,‏ ومن ثم لدي الأجهزة الادارية والرقابية‏,‏ ومن ثم يفتقر بعضهم للحس التاريخي والأثري والمعماري في التعامل مع الأبنية والقاعات والوثائق والرموز التي تحملها المباني التاريخية وطرزها المعمارية‏.‏ أدي ذلك إلي ظاهرة الجهل بالقيم المعمارية والسياسية والرمزية‏,‏ ومن ثم إلي تحولها إلي مجرد أبنية قديمة لا تعني شيئا لدي بعض عوام وخاصة البيروقراطية السياسية والإداريين وبعض أعضاء مجلسي الشعب والشوري‏.‏ إن عدم السرعة في التصدي للحريق وغيره من الحرائق يعود إلي ظاهرة الانفجار السكاني واختلال العلاقة بين الحيز والكثافة السكانية‏,‏ ومن ثم التأثير علي حرية وسرعة حركة أجهزة الانقاذ والمكافحة‏.‏

*‏غياب الوعي التاريخي وتخلف أنظمة التوثيق والحفظ العلمية للوثائق الرسمية وغيرها من أماكن مجهزة تقنيا‏,‏ وفق أحدث الأجهزة والمعايير الفنية والعلمية حفاظا علي ذاكرة الأمة المصرية‏,‏ وتاريخها‏.‏

*‏شكلت حرائق الأوبرا‏,‏ والمسافر خانة والقلعة جرحا عميقا وغائرا في الضمير الجمعي لبعض المصريين‏,‏ ومع ذلك لم يؤد ذلك إلي مراجعة لأنظمة مكافحة الحرائق علي نحو جذري ومتطور بين الحين والآخر وفق أحدث الأساليب المستخدمة عالميا‏.‏ ويعود ذلك إلي شيوع ذهنية الاهمال التي تعالج أعراض الأمراض الادارية والسياسية والاجتماعية‏,‏ لاجذورها وأسبابها التكوينية‏.‏ ولاشك أن ذلك يعود إلي ظاهرة عدم الاستقرار الوزاري‏,‏ وكثرة التعديلات أحيانا في عهد الرئيس السادات‏,‏ ثم الجمود الوزاري والسياسي بعدئذ منذ ثمانينيات القرن الماضي وحتي الآن‏.‏ الأمر الذي أدي إلي نزوع بعض الوزراء والحكومات لتعظيم الربحية السياسية والوظيفية من العمل الوزاري أو القيادي‏,‏ والميل إلي إستراتيجية المسكنات لا الحلول الجذرية‏,‏ وذلك حتي لاتقع أخطاء فادحة يتم المحاسبة عليها ولاشك ان هذا الاتجاه السلوكي من الوزراء وكبار الموظفين الاداريين يعكس إحساسا بعدم الأمان والشك في إمكانية الاستمرار في مواقعهم لفترات طويلة‏,‏ وإنما يحاول بعضهم تعظيم مكاسبه وذويه وبطانته في أقل فترة قبل التغيير أو الاقالة‏,‏ أو تعيين آخرين في مواقعهم‏.

لاشك أن ذلك أدي إلي شيوع استراتيجية المسكنات وتخفيف الآلام الناتجة عن أمراض البيروقراطية السياسية والادارية المختصة في أجهزة الدولة المصرية‏.‏ ومن ثم نستطيع أن نقول إن حريق مجلس الشوري يستدعي الألم‏.‏ لا الشماتة لدي بعض العوام والخاصة لأنه يمثل جزءا من مكونات ذاكرة الدولة الحديثة‏,‏ وقيمة معمارية وأثرية تشكل جزءا من تاريخنا ورموزه‏.‏ ومن ثم لابد من مواجهة جذور الحادث وتغدو محاسبة المسئولين عنه واجبة‏,‏ حتي ولو كان ذلك أحد نواتج ثقافة الاهمال التي تنتشر مرضيا في خلايانا وأعصابنا الحساسة‏,‏ والمسألة أخطر من مجرد حريق لأثر سياسي ومعماري وتاريخي‏.‏






حريق القاهرة: من يطفئ النار؟

حريق القاهرة: من يطفئ النار؟

الأربعاء 27 أغسطس الاتحاد الاماراتية

وحيد عبد المجيد

كثيرة هي التباينات بين الحريق الذي دمر مبنى مجلس الشورى المصري قبل أيام، وذلك الذي اشتهر باسم حريق القاهرة في 26 يناير 1952. وفضلاً عن أن الأخير لم يحدث بفعل فاعل بخلاف الأول، فالزمن الذي يفصلهما يباعد بينهما من حيث الظروف المحيطة والسياق العام لكل منهما. ومع ذلك، تظل المقارنة بينهما واجبة من حيث دلالتهما على تدهور الأداء العام والعجز عن إصلاح اختلالات تضعف هذا الأداء، وتجعل النار قابلة للاشتعال في المجتمع.
ففي الوضع الراهن، كما كان في يناير 1952، شعور متزايد بعدم الرضا في أوساط قطاعات يُعتد بها في المجتمع، على نحو يخلق توتراً واحتقاناً يصعب إخفاؤهما. لذلك فإذا كان قطاع من المصريين قد رأى في الحريق القديم نتيجة أُعتُبرت ضرورية لجمود نظام الحكم، وانغلاقه اجتماعياً، فقد نظرت فئات منهم إلى الحريق الجديد باعتباره دليلاً على ضعف أداء النظام السياسي وعجزه عن الاضطلاع بمهماته.
وفي الحالتين، اعتبرت فئات يُعتد بها في المجتمع ما حدث حرقاً لرموز سلطة انفصلت عن بسطاء الناس، رغم أن أياً من الحريقين لم يطَل مواقع ذات دلالة رمزية على سلطة الحكم أو التنفيذ، وخصوصاً تلك التي تصبح موضعاً للنقمة في حالة انتشار عدم الرضا العام مثل المراكز الأمنية، أو حتى المقار الحكومية الرسمية.
ثمة قاسم مشترك بين حريقي 1952 و2008، خصوصاً من حيث مغزى كل منهما بالنسبة للعلاقة بين السلطة وفئات واسعة من المجتمع!
ولا تخفى دلالة النظرإلى أحد مجلسي البرلمان باعتباره رمزاً لسلطة الحكم، وعدم إدراك أنه يتولى سلطة تشريعية ورقابية يفترض أنه ينوب فيها عن الشعب.

والمغزى، هنا، هو أن فئات المجتمع التي فقدت الثقة في البرلمان منذ زمن، وامتنعت عن المشاركة في انتخابه، باتت تنظر إليه ليس فقط بصفته تعبيراً غير صادق عن إرادتها، وإنما امتداد لسلطة الحكم التي تستخدمه لتمرير تشريعات يشيع الاعتقاد في أنها من أسباب تدني مستوى حياة الفئات الدنيا وجزء كبير من الفئات الوسطى.
وعندما تنتشر، عبر بعض المدونات و"اليوتيوب" و"الفيس بوك" و"اس.ام.اس" وغيرها، تعليقات ورسائل تقول: "خليها تولع من الظلم" و"الظلم له نهاية" و"ربك منتقم جبار" و"من عمايل أهاليهم النار ولعت فيهم"... ومصحوبة بصور منتقاة للحريق تدل على التشفي، فهذا مؤشر يدق جرس إنذار جديد لكنه أقوى من ذي قبل.
ولا يختلف مغزى رد الفعل المجتمعي هذا، في جوهره وبغض النظر عن حجمه، عن ذلك الذي حدث إزاء حريق يناير 1952 رغم الاختلاف البيّن في سياق وتفاصيل كل منهما. فقد اعتبرت فئات واسعة من المجتمع حريق يناير 1952 حرقاً لرموز سلطوية رغم أن كل ما أُشعلت فيه النار كان أملاكاً خاصة وليست عامة.
ولكن شدة الاحتقان الاجتماعي وقتها دفعت قطاعات في الفئات الفقيرة التي كان غضبها يتصاعد إلى الربط بين ممتلكات فردية وسلطة حكم شاع الاعتقاد في أنها تعمل في خدمة أصحاب تلك الممتلكات وغيرها من المصالح الخاصة وليست المصلحة العامة. ويمكن أن نجد، هنا، قاسماً مشتركاً بين نظرة قطاعات واسعة في المجتمع إلى نظام الحكم في يناير 1952 وأغسطس 2008. لذلك يصعب إغفال أوجه الشبه المهمة بين الحدثين الجللين، خصوصاً من حيث مغزى كل منهما بالنسبة للعلاقة بين نظام الحكم وفئات واسعة في المجتمع.
ولا يقلل الاختلاف بينهما من أهمية هذا التشابه في المغزى، وما يفترض أن يؤدي إليه إذا أحسن نظام الحكم الحالي في مصر قراءته واستوعب الرسالة المتضمنة في ردة فعل قطاع واسع من المجتمع على حريق 2008. كما أنه في هذا الاختلاف ما يدعم الاعتقاد في أن حريق 2008 يبرز مدى عمق أزمة نظام الحكم الحالي في مصر، مثلما دل حريق 1952 على حدة أزمة النظام الذي كان قائماً حينئذ.
وإذا كان حرق وسط القاهرة 1952 في عمل تخريبي دليلاً على عجز النظام عن حماية البلاد، فقد قدم اشتعال النار تلقائياً في مجلس الشورى لأكثر من 15 ساعة، دليلاً جديداً على تدهور أداء أجهزة الدولة ومرافقها العامة، فقد كانت محاولة إطفاء النار ومحاصرة ألسنة اللهب اختباراً جديداً لأحد المرافق العامة الرئيسية أخفق في اجتيازه وفشل في عبوره، فانكشف قصوره الشديد الذي ظهر أيضاً في مواقف عدة خلال السنوات الأخيرة.
وقد نتج ذلك عن إهمال تطوير وتحديث الكثير من المرافق العامة بعد ثورة 1952 التي توسعت في الإنفاق على عملية التغيير الاجتماعي لخلق قاعدة مجتمعية تستند إليها من ناحية، وعلى دور مصر الخارجي الذي ابتلع موارد كبيرة من ناحية أخرى.
وجاء ذلك على حساب المرافق العامة، التي تسلمها قادة ثورة 1952 في حالة جيدة، لكن في حدود مجتمع لا يزيد سكانه على 20 مليوناً. فكان طبيعياً أن يؤدي ازدياد السكان إلى تدهورها تباعاً، بدءاً بمرفق الاتصالات الذي أصابه الشلل مبكراً.
وفيما جرى إصلاح هذا المرفق وتطويره وتحديثه، ضمن جهود إقامة بنية أساسية ضرورية للاستثمار الخاص اعتباراً من ثمانينيات القرن الماضي، ظل معظم المرافق الأخرى خارج نطاق الاهتمام رغم سوء حالة بعضها. لكن هذا الإدراك بقي غائباً في ظل سياسة ذات بُعد واحد ركزت على الاهتمام بما هو ضروري للاستثمار الاقتصادي قبل كل شيء.
وأدت السياسة الاجتماعية ضيقة الأفق، والتي ركزت على الكم أكثر من الكيف وتوسعت في الإنفاق العام بشكل عشوائي، إلى استمرار تدهور معظم المرافق العامة ذات البعد الاجتماعي، بينما تم التركيز منذ الثمانينيات على إصلاح تلك المتعلقة بالاستثمار الاقتصادي دون غيره.
وإذا كان ضعف الاهتمام بكثير من المرافق الأساسية ذات البعد الاجتماعي، على هذا النحو، كافياً لتدهور الأداء العام، فقد اشتد هذا التدهور نتيجة انعكاس الجمود السياسي الذي شهدته مصر منذ منتصف الثمانينيات على ذلك الأداء.
ففي ظل هذا الجمود، لم يحدث تغيير في قيادة أغلب أجهزة وهيئات الدولة، مما حرمها من دماء جديدة لم يكن ثمة ما يغني عنها. لقد حدث ذلك في كثير من المواقع في مصر، خلال ربع القرن الأخير، أي في الوقت الذي كانت فيه عواقب إهمال المرافق العامة تتراكم. وتزامن ذلك، أيضاً، مع تراجع مستوى التعليم، وانحسار التفاؤل بالمستقبل وانعكاسه على المجتمع فقداناً للحماس وغياباً للروح المعنوية. وحين يحدث مثل ذلك، في أي مجتمع، لابد أن تضعف قدرة أفراده على أداء الأعمال التي يقومون بها، مهما كانت بساطتها، لأنهم لم يتلقوا تعليماً أو تدريباً معقولاً، ولا يحصلون على أجر يضمن لهم حداً أدنى من الحياة الكريمة، وهم بالتالي يفتقدون الروح التي تدفع إلى السعي لإتقان العمل.
وقد رأينا ما دل على ذلك في عملية إطفاء حريق مجلس الشورى، إذ بدا كما لو أنها تعتمد على جهود متطوعين وليسوا محترفين يؤدون عملاً يعرفونه ويفترض أنهم يجيدونه. ومن أخطر ما كشفه هذا الحريق، غياب الروح والحماس، مما حال دون الاقتحام الضروري لمواجهته من داخل المبني وليس من خارجه، في بداية العملية وليس في نهايتها. ولو كان هذا الاقتحام حدث في الوقت المناسب، لأمكنت السيطرة على النار قبل أن تمتد وتنتشر. وكان هذا أحد أهم مصادر ضعف الأداء في عملية الإطفاء، إلي جانب مصادره الأخرى، وفي مقدمتها غياب التدريب الكافي وضعف الإلمام بطابع هذا الحريق الذي لا يفيد فيه استخدام الطائرات، بخلاف الحرائق التي تحدث في أماكن مفتوحة.
لذلك كله، لا يصح فهم حريق 2008، من حيث مغزاه ودلالته على الحالة الراهنة في مصر، باعتباره مجرد حادث مؤلم وقع بسبب تماس كهربائى أو غيره. فهو جرس إنذار جديد ينبّه إلى أن في مصر اليوم من الاختلالات، ما يوجب معالجة عاجلة لإطفاء نيران كامنة في ثنايا الوضع الناجم عن العلاقة الراهنة بين الدولة والمجتمع وازدياد التوتر الاجتماعي وتدهور الأداء العام.

احتراق مبني وتاريخ.. أم احتراق نظام؟

كمال مغيث ـ المصري يوم 28/8


عن طريق البث المباشر، شهد العالم كله علي الهواء، احتراق أقدم مؤسسة نيابية عربية، مجلس شوري النواب، والذي صدر المرسوم الخديوي بإنشائه في نوفمبر سنة ١٨٦٦،

قبل أن يخرج إلي الوجود أصلاً، العديد من الدول العربية والأوروبية ـ بأسمائها التي عرفت بها فيما بعد ـ، وكانت لائحة المجلس الأول تتكون من ثماني عشرة مادة تتضمن طريقة تشكيله والشروط القانونية الواجب توافرها في العضو،

وحقوق الأعضاء وواجباتهم، وفترات انعقاد المجلس الذي كانت مدة دورته البرلمانية ثلاث سنوات، وكان أعضاؤه الخمسة والسبعون ينتخبون لأول مرة في البلاد من أعيان وعمد المديريات المصرية المختلفة.

وقد سرت حول ذلك البرلمان الأول قصة «سخيفة مفادها أن الخديو إسماعيل، منشئ البرلمان، طلب إلي الأعضاء أن ترتب مقاعد البرلمان، بحيث يبين من منهم المعارضون له ومن المؤيدون ـ كبرلمانات أوروبا ـ فجلس جميع الأعضاء في مقاعد المؤيدين للخديو،

فلما قيل لهم إن وجود معارضين أمر يطلبه الخديو، فجلس جميع الأعضاء في مقاعد المعارضين». هكذا حاول بعض المستبدين تشويه قصة أول برلمان مصري، وقد سألت عن صحة تلك القصة المرحومين الثقات، يونان لبيب رزق، ورؤوف عباس، فأكدا أنها مختلقة لا ظل لها من الحقيقة.

ولعله من عبقرية الاستقبال والتمثل المصري، أن ذلك البرلمان ـ المحدود ـ الذي أنشأه الخديو إسماعيل بإرادته المنفردة في إطار سياسته جعل مصر قطعة من أوروبا، هو نفسه البرلمان الذي وقف زعيم الشعب أحمد عرابي، في مظاهرة عابدين الثانية ـ ٩ سبتمبر سنة ١٨٨١ ـ مطالبا الخديو توفيق، بأن يكون له جميع الصلاحيات التي تتمتع بها البرلمانات الأوروبية من مراقبة الميزانية، ومساءلة الوزارة، وسحب الثقة عنها إن لزم الأمر.

هذه هي لمحة من تاريخ البرلمان الذي احترق، لعلها تكون قد غابت عن رؤساء التحرير، الذين راحوا يبشروننا بأن الحريق «فأل طيب»، وأنه فرصة ممتازة لإعادة تخطيط ميدان التحرير، أو عن النواب الذين راحوا يتبرعون بالأموال لبناء مجلس علي الطراز الحديث، بدلا من المجلس الذي عفا عليه الزمان وصار «دقة قديمة» أو عن رئيسه الذي أعلن تصميمه علي عقد جلساته في موعدها حتي ولو كان ذلك علي قهوة «علي بابا» القريبة، مع السحلب والشيشة.

ومع كل هذا فقد رحت أسأل نفسي: لماذا لم يحزن الناس علي برلمانهم وتاريخهم بالشكل اللائق، والذي يناسب أقدم برلمانات الشرق، وقد كتب بعض الكتاب، بل بعض المشاهدين، أن الأمر لم يكن يخلو من شماتة.

وأغلب الظن أن الناس لم تجد مبرراً للإيمان بأن مبني المجلس وتاريخه وتقاليده تمثل ركنا أساسيا للنظام الحاكم، ببساطة شديدة، لأن كل الشواهد تؤكد أن هذا النظام الحاكم قد احترق من زمان.

احترق، لأنه لم يجد لرئاسة المجلسين النيابيين سوي شيوخ عجائز، أكلوا علي كل الموائد وخدموا كل الأنظمة، تجاوزوا الثمانين من أعمارهم وانتهي عمرهم الافتراضي منذ أمد بعيد.

واحترق النظام عندما غرقت عبارة الموت، وترك ركابها المواطنين يصارعون الموت ووحوش البحر لساعات طويلة، ثم يخرج الصهر والشريك حاملا أمواله المنهوبة من قاعة كبار الزوار، ويشرب رجاله نخب البراءة، من قتل أكثر من ألف مواطن عبر فساد الحكم وفساد الإحالة.

ثقافة العجز

ثقافة العجز

بقلم حلمي النمنم ٢٨/٨/٢٠٠٨

وقُدر للناقد الراحل د. علي الراعي أن يكون شاهد عيان علي حريق دار الأوبرا المصرية سنة ١٩٧١، ورأي يومها عموم المواطنين من العتبة والأزبكية تجمعوا وراحوا يرقبون النار بحسرة وألم وبعضهم بكي مما يحدث، واندفع البعض الآخر للمساهمة في معاونة رجال الإطفاء،

وكانت ملاحظة الناقد أن هؤلاء المواطنين لم يدخل أحدهم الأوبرا يومًا ولا شاهد عرضًا من عروضها، ولو استمرت الأوبرا فإن أحدًا منهم لم يكن يسعي أو يتطلع لدخولها والاستمتاع بما تقدمه، وفسر حزنهم علي احتراقها بأنه وعي المصري البسيط بأهمية وقيمة الثقافة الرفيعة، حتي لو لم يتح له التعرف علي تفاصيلها وتذوق إبداعاتها،

ويمكن أن نضيف إلي استنتاج أستاذنا معني آخر، وهو أن المصري يدرك بخبرته أن الحريق يعني الخراب والدمار.. لذا ففي الثقافة العامة لدي المصريين الاندفاع التلقائي لإطفاء أي حريق مشتعل.. لذا لا أميل إلي تفسير تعليقات المواطنين علي حريق مجلس الشوري بأنه نوع من الشماتة أو السعادة بالحريق.. فإذا حللنا جيدًا مضمون العبارات وما حدث ليلة الحريق لا يمكن أن نعتبرها شماتة، بل هي شيء آخر تمامًا.

حين وقع الحريق، وذكر شهود العيان أن رجال الإطفاء تباطأوا في البداية، فهمها هؤلاء الشهود علي أنها حالة من الإهمال أو التقاعس، وفسرها رجال الإطفاء بأنهم كانوا متخوفين علي المبني من المياه،

وفرض رجال الأمن كردونًا يمنع المواطنين من الاقتراب، وتعامل بعضهم مع هؤلاء المواطنين بقدر من الغلظة، حدث شيء من هذا مع الصحفيين، فما بالنا بما يمكن أن يكون وقع مع المواطنين العاديين؟

وبعد ذلك كله لم يوفق رجال الأمن في التعامل مع الحريق، وفرضوا علي الجمهور أن يكونوا متفرجين فقط، لذا فإن جانبًا من التعليقات عكس السخرية المريرة من عجز رجال الإطفاء وليس شماتة، رجال الإطفاء في هذه اللحظة هم رمز الدولة ويحب المصري أن يشعر بقوة الدولة وقت الأزمة، لا أن يراها مرتبكة وعاجزة!!

جزء آخر من التعليقات يعكس غضبًا شديدًا من الحكومة ورجالها، وهذه التعليقات كانت أقرب إلي الأمنية لو أن الحريق تم والاجتماعات مستمرة، وهذه التعليقات صدرت من شبان وشيوخ.. نساء ورجال..

فقراء وأغنياء، وهذا يعكس حالة من الرفض لسياسات الحكومة ومسلك رجالها، ولا يجب أن نفهمها بالمعني الحرفي، وهو أن يحترق رجال الحكومة، لكنها حالة من الغضب الشديد، وهو غضب تستحقه الحكومة، ذلك أنها حكومة تحمل من اللحظة الأولي خطابًا من الاستعلاء علي المواطنين،

وأحيانًا يكون خطابًا مهينًا بالمعني المباشر، كانت الحكومات السابقة تواجه أزمات ولا تحقق للمواطن أحلامه، لكن كان الخطاب المعتاد لتلك الحكومات «أن العين بصيرة والإيد قصيرة»، أي أن المواطن يعاني ونحن نعرف ذلك، ولا نتمكن من رفع المعاناة عنه، لكننا نبذل الجهد، إلي أن جاءت الحكومة الحالية لتبدأ عملية «المن» علي المواطن برغيف العيش، والسخرية من ذلك المواطن

ومطالبه من الحكومة، ولنتذكر العبارة السخيفة «الحكومة ماما وبابا وتيته و...» ثم اتجهت الحكومة إلي سياسة البيع، معلنة علي الملأ أنه لا قدسية ولا قيمة لأي شيء، حتي لو كانت قناة السويس، كله مطروح للبيع أو محتمل بيعه، ولا شيء يعود فعليا علي المواطن، وهكذا اختزن المواطن المرارة والكراهية تجاه الحكومة ومن أحاط بها أو ارتبط بها، وكان الحريق فرصة للتعبير وإبداء المشاعر بلا مواربة تجاه هؤلاء المسؤولين.

هذه التعليقات تكشف جانبًا من ثقافة العجز لدي المواطن، ثقافة اللافعل، أقصي ما يستطيعه أن يطلق بضع كلمات قاسية، وهي ثقافة ترسخت في السنوات الأخيرة بلا مبرر حقيقي، لا يخرج المواطن إلي الانتخابات ويقدم اختياره ويدافع عنه، وهو كذلك ليس مستعدًا أن يدخل في احتجاج سلمي واسع ضد سياسات الحكومة أو حتي إسقاطها..

وحينما غضب من الحكومة وشعر بالامتهان، انتظر حريقًا ساقه القدر، كي يعبر عن رأيه وغضبه علي جميع المسؤولين، ليست شماتة، ولكنها حالة العجز التي أصيب بها المواطن.. لا يحب الحكومة ولا يقبل بسياساتها، وليس مستعدًا أن يناضل سلميا ضدها لانتزاع حقوقه.. حتي لو صح أنه شعور بالشماتة، فالشماتة نفسيا هي شعور العاجز تمامًا، والضعيف إلي أقصي درجة، وافتقاد الفعل والمبادرة.

ثقافة العجز، هي التي تكشفت ليلة الحريق وما بعدها، والقضية الآن كيف نواجه تلك الثقافة ونحد منها.

كشف الحريق ثقافة العجز وحالة العجز التي عليها الجميع، وعلينا أن نعمل علي تخطي تلك الحالة.. وإلا فإن الحريق لن ينطفئ.

حريق القـاهرة الثاني ...

عمرو الشوبكي ـ المصري يوم 28/8

لا يمكن مقارنة حريق مجلس الشوري بحريق القاهرة من حيث الحجم والخسائر، ولكن يمكن مقارنتهما من حيث الدلالات والنتائج، التي جعلت المقارنة بين حريق «نهايات عهد» في ٢٦ يناير ١٩٥٢، وبين نظيره الذي جري بعد ظهر الأربعاء ٢١ أغسطس ٢٠٠٨ أمراً وارداً.

وإذا عدنا بالمشهد إلي يناير١٩٥٢، فسنجد أن حريق القاهرة الأول كان هائلاً والتهم في ساعات قلائل نحو ٧٠٠ محل وسينما وكازينو وفندق ومكتب ونادٍ في شوارع وميادين وسط المدينة.

بينها أكبر وأشهر المحال التجارية في مصر، و٣٠ مكتبًا لشركات كبري، و١١٧ مكتب أعمال وشققا سكنية، و١٣ فندقًا كبيرًا منها: شبرد ومتروبوليتان وفيكتوريا، و٤٠ دار سينما بينها ريفولي وراديو ومترو وديانا وميامي،

و٨ محال ومعارض كبري للسيارات، و١٠ متاجر للسلاح، و٧٣ مقهي ومطعمًا وصالة منها «جروبي» و«الأمريكيين»، و٩٢ حانة، و١٦ ناديا. وقد أسفرت حوادث ذلك اليوم عن مقتل ٢٦ شخصًا، وبلغ عدد المصابين بالحروق والكسور ٥٥٢ شخصًا.

وأدي حريق القاهرة الأول إلي تشريد آلاف من العاملين في المنشآت، وأجمعت المصادر الرسمية وشهود العيان علي أن الحادث كان مدبرًا، وأن المجموعات التي قامت بتنفيذه كانت علي مستوي عالٍ من التدريب والمهارة،

فقد اتضح أنهم كانوا علي معرفة جيدة بأسرع الوسائل لإشعال الحرائق، وأنهم كانوا علي درجة عالية من الدقة والسرعة في تنفيذ العمليات التي كلفوا بها، كما كانوا يحملون معهم أدوات لفتح الأبواب المغلقة ومواقد لصهر الحواجز الصلبة علي النوافذ والأبواب،

واستخدموا نحو ٣٠ سيارة لتنفيذ عملياتهم في وقت قياسي، كما أن اختيار التوقيت يعد دليلاً آخر علي مدي دقة التنظيم والتخطيط لتلك العمليات، فقد اختارت هذه العناصر بعد ظهر يوم السبت، حيث تكون المكاتب والمحال الكبري مغلقة بمناسبة عطلة نهاية الأسبوع، وتكون دور السينما مغلقة بعد الحفلة الصباحية.

هذه في الحقيقة واحدة من أهم التعليقات التي رصدت حريق القاهرة الأول، ونلحظ أنه كان مدبراً وقامت به عناصر مدربة، اختلف المؤرخون حول انتماءاتهم السياسية، وهوية من حركهم (القصر، الاحتلال البريطاني)، وأن نجاحهم في حرق كل هذه الأماكن دل علي قدرتهم التنظيمية المرتفعة وبداية نهاية النظام السياسي القائم.

ومن المؤكد أن أوزان التنظيمات السياسية والجماعات السرية كانت كبيرة مقارنة بالوضع الحالي الذي اختفت منه تقريبا هذه الجماعات، وبالتالي فإن الخطر قبل ثورة يوليو كان من جماعات وتنظيمات سياسية واجهت النظام القائم في السر والعلن، أما في العصر الحالي فإن «جماعات» الفوضي والعشوائية وسوء الأداء هي التي تهدد النظام القائم.

والحقيقة أن وصف الخسائر التي حدثت في يناير ١٩٥٢، وشكل القوي والجماعات المنظمة التي وقفت وراء حريق القاهرة، يكشف كيف أن الأخطار التي واجهت المجتمع المصري كانت من جماعات شديدة التنظيم والكفاءة، أما ما جري في حرائق القاهرة الثانية، فكان من «جماعات الفوضي العشوائية» التي هيمنت علي الدولة والمجتمع والنظام السياسي، وأظهرت «قدرتها» العالية في التعامل مع حريق مجلس الشوري،

فلم نجد جهازاً واحداً قام بالحد الأدني من واجبه أثناء الحريق أو في التعامل معه، ولا توجد جهة واحدة حوسبت علي الإهمال الجسيم الذي أدي إلي احتراق واحد من أهم وأعرق المباني التاريخية في مصر، ولولا «ستر الله» (وليس كفاءة أجهزة الإطفاء) لكان هذا الحريق انتشر في منطقة قلب القاهرة بأكملها.

والمؤكد أن مصر واجهت تحديات كبيرة قبل ثورة يوليو تتمثل في عجز النظام السياسي القائم علي تلبية احتياجات وطموحات عموم المصريين، فكان تأثير القوي والجماعات غير الشرعية أكبر بكثير من تأثير القوي الشرعية، وكان حريق القاهرة التعبير الأخير عن انفلات قوي الاحتجاج والتمرد من عقال الشرعية القانونية والدستورية إلي عقال الحرق والتخريب.

والمفارقة أن مصر بعد ٥٦ عاماً علي حريق القاهرة لم تعد فيها قوي سياسية شرعية أو غير شرعية قادرة علي تهديد النظام، وأن الخلل الأكبر جاء من داخل النظام الذي أصبح «عدو نفسه» في كثير من الأحيان، وصار ضعفه ناتجاً عن فشله الداخلي وخيبة أدائه.

لقد أدي البقاء الطويل في السلطة إلي الجمود والتكلس، والعجز عن محاسبة أي تقصير أو انحراف، وأصبح أداء الحكم العشوائي هو مصدر التهديد الرئيسي له، علي عكس ما كان عليه الحال قبل الثورة، حين كان ضعف النظام راجعاً لقوة معارضيه، أما الآن فصار بسبب ضعفه هو وليس قوة معارضيه.

فالأداء العام في السنوات الأخيرة عنوانه الفشل الكامل، فحوادث القطارات هي نتاج العشوائية والاستهانة بأهم خدمة عامة تقدم للمصريين، وحوادث الطرق تجاوزت المعدلات العالمية، ومواجهتها كانت بقانون فاشل للمرور، عكس تغلغل «جماعات الجباية» وهيمنتها علي عقل الحكم في مصر، وليس «جماعات» تطبيق القانون،

أما حوادث البحر، التي كان آخرها ضحايا العبارة وراح ضحيتها ١٠٣٥ مواطناً مصرياً بسبب تأخر فرق الإنقاذ ١٤ ساعة، فلم تحاسب الدولة جهة واحدة عن هذه الكارثة، ولا يمكن أن ينصلح حال هذا البلد، إلا إذا جاء اليوم الذي يصحو فيه ضمير بعض المصريين ليفتحوا بجرأة وشفافية ملف جريمة العبارة.

بالتأكيد لم يكن وراء كل تلك «الحرائق» أي تنظيمات أو جماعات مدربة، كتلك التي قامت بحريق القاهرة الأول، فليس هناك تنظيم وراء أزمة الخبز، أو خلط مياه الشرب بمياه الصرف الصحي، ولا في انهيار العمارات علي رؤوس أصحابها كل صباح، ولا في تقدم السودان والبحرين علينا في أوليمبياد بكين، إنما بالتأكيد هناك جماعات الفشل داخل الحكم المتكلس بفعل البقاء الطويل في السلطة، بعد أن فشلت الجماعات المنظمة في التأثير في النظام العشوائي.

من المؤكد أن طريقة تعامل الدولة مع حريق مجلس الشوري ليست منفصلة عن طريقة تعاملها مع باقي الملفات والأزمات، فالفشل كان شعارها، وأن انهيار مستوي أدائها في بلد اقترب من الـ ٨٠ مليون نسمة بات يهدد بكارثة حقيقية،

وأن حريق القاهرة الأول كانت وراءه قوي منظمة وأخري مدربة، أما حرائق القاهرة الجديدة فكان وراءها عشوائية النظام وكل «القوي» غير المدربة التي نجح الحكم، ببراعة نحسده عليها، في استقطابها لتقود مؤسسات الدولة، وتصبح هي المسؤولة عن الكوارث السابقة والقادمة.