حريق القاهرة: من يطفئ النار؟
الأربعاء 27 أغسطس الاتحاد الاماراتية
وحيد عبد المجيد
كثيرة هي التباينات بين الحريق الذي دمر مبنى مجلس الشورى المصري قبل أيام، وذلك الذي اشتهر باسم حريق القاهرة في 26 يناير 1952. وفضلاً عن أن الأخير لم يحدث بفعل فاعل بخلاف الأول، فالزمن الذي يفصلهما يباعد بينهما من حيث الظروف المحيطة والسياق العام لكل منهما. ومع ذلك، تظل المقارنة بينهما واجبة من حيث دلالتهما على تدهور الأداء العام والعجز عن إصلاح اختلالات تضعف هذا الأداء، وتجعل النار قابلة للاشتعال في المجتمع.
ففي الوضع الراهن، كما كان في يناير 1952، شعور متزايد بعدم الرضا في أوساط قطاعات يُعتد بها في المجتمع، على نحو يخلق توتراً واحتقاناً يصعب إخفاؤهما. لذلك فإذا كان قطاع من المصريين قد رأى في الحريق القديم نتيجة أُعتُبرت ضرورية لجمود نظام الحكم، وانغلاقه اجتماعياً، فقد نظرت فئات منهم إلى الحريق الجديد باعتباره دليلاً على ضعف أداء النظام السياسي وعجزه عن الاضطلاع بمهماته.
وفي الحالتين، اعتبرت فئات يُعتد بها في المجتمع ما حدث حرقاً لرموز سلطة انفصلت عن بسطاء الناس، رغم أن أياً من الحريقين لم يطَل مواقع ذات دلالة رمزية على سلطة الحكم أو التنفيذ، وخصوصاً تلك التي تصبح موضعاً للنقمة في حالة انتشار عدم الرضا العام مثل المراكز الأمنية، أو حتى المقار الحكومية الرسمية.
ثمة قاسم مشترك بين حريقي 1952 و2008، خصوصاً من حيث مغزى كل منهما بالنسبة للعلاقة بين السلطة وفئات واسعة من المجتمع!
ولا تخفى دلالة النظرإلى أحد مجلسي البرلمان باعتباره رمزاً لسلطة الحكم، وعدم إدراك أنه يتولى سلطة تشريعية ورقابية يفترض أنه ينوب فيها عن الشعب.
والمغزى، هنا، هو أن فئات المجتمع التي فقدت الثقة في البرلمان منذ زمن، وامتنعت عن المشاركة في انتخابه، باتت تنظر إليه ليس فقط بصفته تعبيراً غير صادق عن إرادتها، وإنما امتداد لسلطة الحكم التي تستخدمه لتمرير تشريعات يشيع الاعتقاد في أنها من أسباب تدني مستوى حياة الفئات الدنيا وجزء كبير من الفئات الوسطى.
وعندما تنتشر، عبر بعض المدونات و"اليوتيوب" و"الفيس بوك" و"اس.ام.اس" وغيرها، تعليقات ورسائل تقول: "خليها تولع من الظلم" و"الظلم له نهاية" و"ربك منتقم جبار" و"من عمايل أهاليهم النار ولعت فيهم"... ومصحوبة بصور منتقاة للحريق تدل على التشفي، فهذا مؤشر يدق جرس إنذار جديد لكنه أقوى من ذي قبل.
ولا يختلف مغزى رد الفعل المجتمعي هذا، في جوهره وبغض النظر عن حجمه، عن ذلك الذي حدث إزاء حريق يناير 1952 رغم الاختلاف البيّن في سياق وتفاصيل كل منهما. فقد اعتبرت فئات واسعة من المجتمع حريق يناير 1952 حرقاً لرموز سلطوية رغم أن كل ما أُشعلت فيه النار كان أملاكاً خاصة وليست عامة.
ولكن شدة الاحتقان الاجتماعي وقتها دفعت قطاعات في الفئات الفقيرة التي كان غضبها يتصاعد إلى الربط بين ممتلكات فردية وسلطة حكم شاع الاعتقاد في أنها تعمل في خدمة أصحاب تلك الممتلكات وغيرها من المصالح الخاصة وليست المصلحة العامة. ويمكن أن نجد، هنا، قاسماً مشتركاً بين نظرة قطاعات واسعة في المجتمع إلى نظام الحكم في يناير 1952 وأغسطس 2008. لذلك يصعب إغفال أوجه الشبه المهمة بين الحدثين الجللين، خصوصاً من حيث مغزى كل منهما بالنسبة للعلاقة بين نظام الحكم وفئات واسعة في المجتمع.
ولا يقلل الاختلاف بينهما من أهمية هذا التشابه في المغزى، وما يفترض أن يؤدي إليه إذا أحسن نظام الحكم الحالي في مصر قراءته واستوعب الرسالة المتضمنة في ردة فعل قطاع واسع من المجتمع على حريق 2008. كما أنه في هذا الاختلاف ما يدعم الاعتقاد في أن حريق 2008 يبرز مدى عمق أزمة نظام الحكم الحالي في مصر، مثلما دل حريق 1952 على حدة أزمة النظام الذي كان قائماً حينئذ.
وإذا كان حرق وسط القاهرة 1952 في عمل تخريبي دليلاً على عجز النظام عن حماية البلاد، فقد قدم اشتعال النار تلقائياً في مجلس الشورى لأكثر من 15 ساعة، دليلاً جديداً على تدهور أداء أجهزة الدولة ومرافقها العامة، فقد كانت محاولة إطفاء النار ومحاصرة ألسنة اللهب اختباراً جديداً لأحد المرافق العامة الرئيسية أخفق في اجتيازه وفشل في عبوره، فانكشف قصوره الشديد الذي ظهر أيضاً في مواقف عدة خلال السنوات الأخيرة.
وقد نتج ذلك عن إهمال تطوير وتحديث الكثير من المرافق العامة بعد ثورة 1952 التي توسعت في الإنفاق على عملية التغيير الاجتماعي لخلق قاعدة مجتمعية تستند إليها من ناحية، وعلى دور مصر الخارجي الذي ابتلع موارد كبيرة من ناحية أخرى.
وجاء ذلك على حساب المرافق العامة، التي تسلمها قادة ثورة 1952 في حالة جيدة، لكن في حدود مجتمع لا يزيد سكانه على 20 مليوناً. فكان طبيعياً أن يؤدي ازدياد السكان إلى تدهورها تباعاً، بدءاً بمرفق الاتصالات الذي أصابه الشلل مبكراً.
وفيما جرى إصلاح هذا المرفق وتطويره وتحديثه، ضمن جهود إقامة بنية أساسية ضرورية للاستثمار الخاص اعتباراً من ثمانينيات القرن الماضي، ظل معظم المرافق الأخرى خارج نطاق الاهتمام رغم سوء حالة بعضها. لكن هذا الإدراك بقي غائباً في ظل سياسة ذات بُعد واحد ركزت على الاهتمام بما هو ضروري للاستثمار الاقتصادي قبل كل شيء.
وأدت السياسة الاجتماعية ضيقة الأفق، والتي ركزت على الكم أكثر من الكيف وتوسعت في الإنفاق العام بشكل عشوائي، إلى استمرار تدهور معظم المرافق العامة ذات البعد الاجتماعي، بينما تم التركيز منذ الثمانينيات على إصلاح تلك المتعلقة بالاستثمار الاقتصادي دون غيره.
وإذا كان ضعف الاهتمام بكثير من المرافق الأساسية ذات البعد الاجتماعي، على هذا النحو، كافياً لتدهور الأداء العام، فقد اشتد هذا التدهور نتيجة انعكاس الجمود السياسي الذي شهدته مصر منذ منتصف الثمانينيات على ذلك الأداء.
ففي ظل هذا الجمود، لم يحدث تغيير في قيادة أغلب أجهزة وهيئات الدولة، مما حرمها من دماء جديدة لم يكن ثمة ما يغني عنها. لقد حدث ذلك في كثير من المواقع في مصر، خلال ربع القرن الأخير، أي في الوقت الذي كانت فيه عواقب إهمال المرافق العامة تتراكم. وتزامن ذلك، أيضاً، مع تراجع مستوى التعليم، وانحسار التفاؤل بالمستقبل وانعكاسه على المجتمع فقداناً للحماس وغياباً للروح المعنوية. وحين يحدث مثل ذلك، في أي مجتمع، لابد أن تضعف قدرة أفراده على أداء الأعمال التي يقومون بها، مهما كانت بساطتها، لأنهم لم يتلقوا تعليماً أو تدريباً معقولاً، ولا يحصلون على أجر يضمن لهم حداً أدنى من الحياة الكريمة، وهم بالتالي يفتقدون الروح التي تدفع إلى السعي لإتقان العمل.
وقد رأينا ما دل على ذلك في عملية إطفاء حريق مجلس الشورى، إذ بدا كما لو أنها تعتمد على جهود متطوعين وليسوا محترفين يؤدون عملاً يعرفونه ويفترض أنهم يجيدونه. ومن أخطر ما كشفه هذا الحريق، غياب الروح والحماس، مما حال دون الاقتحام الضروري لمواجهته من داخل المبني وليس من خارجه، في بداية العملية وليس في نهايتها. ولو كان هذا الاقتحام حدث في الوقت المناسب، لأمكنت السيطرة على النار قبل أن تمتد وتنتشر. وكان هذا أحد أهم مصادر ضعف الأداء في عملية الإطفاء، إلي جانب مصادره الأخرى، وفي مقدمتها غياب التدريب الكافي وضعف الإلمام بطابع هذا الحريق الذي لا يفيد فيه استخدام الطائرات، بخلاف الحرائق التي تحدث في أماكن مفتوحة.
لذلك كله، لا يصح فهم حريق 2008، من حيث مغزاه ودلالته على الحالة الراهنة في مصر، باعتباره مجرد حادث مؤلم وقع بسبب تماس كهربائى أو غيره. فهو جرس إنذار جديد ينبّه إلى أن في مصر اليوم من الاختلالات، ما يوجب معالجة عاجلة لإطفاء نيران كامنة في ثنايا الوضع الناجم عن العلاقة الراهنة بين الدولة والمجتمع وازدياد التوتر الاجتماعي وتدهور الأداء العام.
No comments:
Post a Comment