27/08/2008
أحمد بهاء الدين شعبان ـــ البديل
لبعض الأحداث دلالات تتجاوز الوقائع المادية للحدث نفسه، وتكتسي أحياناً أهمية أكبر، وتعكس أعماقاً أبعد غوراً. ومن هذه الأحداث، علي سبيل المثال حدث غرق عبارة الموت: «السلام 98» وملابساته، والنتائج المترتبة علي تداعياته، والتفسيرات التي تكمن خلفها وفي فترة أسبق فإن وقائع «حريق القاهرة»، (يوم 26 يناير 1952)، يصبح أن يوضع علي طاولة البحث لدلالاته بالغة الأهمية، ولأنه كان عنواناً لمرحلة فاصلة من تاريخ مصر، كان لها «ما قبل وما بعد»، و «ما بعد» هنا كان سقوط النظام برمته، وتقدم نظام جديد للحكم، علي أنقاض ما أصبح يطلق عليه «العهد البائد!»، أي عهد الملكية الذي دام لأسرة محمد علي، منذ ولي الحكم عام 1805، وحتي صباح 23 يوليو 1952، الذي كان إيذاناً بأفول عصر ورحيل نظام.
ولعلي لا أبالغ أو أخطئ في التقدير حين أقول إنني أقرأ دلالات حدث احتراق مجلس الشوري كواحد من أهم الأحداث التي تقف علي مستوي الأهمية مع حريق القاهرة عام 1952، إن لم يكن في مستوي أعلي، لأن الحريق هنا لا يطال محلات وكباريهات ودور سينما وما شابه، وإنما يتجاوزها إلي صلب النظام ذاته، وفي قلب «مجمع السلطة» الذي يضم مؤسسات السيادة: السلطة التشريعية والتنفيذية، وفي «سرة العاصمة» وعلي مرأي ومسمع من العالم بأسره!
وليست واقعة الحريق في حد ذاتها هي المشكلة، فكل مواقع الدنيا ومبانيها قابلة لأن تمر بهذه التجربة، المشكلة كانت في مستوي أداء جهاز الدولة، وهو يتعامل مع أحد أهم هيئات النظام ورموزه، بدءاً من رداءة نظم التأمين لقاعات تحتوي كماً كبيراً من أهم وثائق الدولة وتاريخ المجتمع (وفي الحقيقة، الأصح: انعدامها!!)، ومروراً بالفشل الذريع في محاصرة النيران، ومنعها من التهام هذه القطعة النادرة من تاريخ الوطن ومن ذاكرته، بالرغم من كل مزاعم «التطوير» و «التحديث».. وخلافه، وبدأ عجز أجهزة «الأمن المدني»، وفي مقدمتها جهاز الإطفاء ومكافحة الحرائق، فادحاً إن لم يكن فاضحاً، بالرغم من الجهد المخلص الذي بذله المنتسبون لهذا الجهاز، وتضحياتهم التي وصلت لاستشهاد بعضهم وإصابة آخرين، لكن ماذا تفعل بطولة الأفراد في مواجهة هذه النيران الضاربة، مع فقر الإمكانات، وبؤس الاستعداد، وبيروقراطية التنظيم؟!
وجوهر المأساة، أو الكارثة، في تصوري، أن «الأمن السياسي» بمفهومه السطحي، أي حماية نظام الحكم، والذي تقلص - في النهاية- إلي حماية رمز الحكم، أي رئيس الدولة، استنزف جميع جهد وإمكانات سلطة الدولة، بحيث لم يعد يتبقي إلا النزر اليسير من الطاقة والإمكانيات لحماية وجود وحياة وأمن نحو ثمانين مليون مصري، منتشرين بطول وعرض أرض المحروسة، ولم تتوقف المأساة عند هذا الحد، بل إن النظام الحاكم لجأ إلي أسوأ الخيارات في إدارة الدولة، ومن أجل إحكام السيطرة علي إيقاع الحركة منها: «الخيار الأمني»، الذي يصدر جهاز الأمن لحل كل مشكلات المجتمع والدولة ويهمش دور «السياسة» و «الكياسة» في عمليات التفاوض الاجتماعي دفاعاً عن مصالح الفئات والطبقات.. فرأينا «القبضة الأمنية» هي التي تتعامل مع الفرقاء السياسيين، حتي مع الأحزاب (الرسمية!) الصادرة بقرار من السلطة ذاتها، وهي التي تواجه كل أشكال الاحتجاج الاجتماعي والتململ الطبقي، وغضب الأقباط وأهل سيناء، واعتراضات المهنيين والفلاحين، وتدخل في صراع دام مع القوي السياسية والحركات ودوائر المثقفين والأكاديميين.. إلخ، ومن هنا فليس صدفة أن يتورم جهاز «الأمن المركزي» ليبلغ مليوناً وأربعمائة ألف فرد، كما نشر في الصحف مؤخراً، وأن تبلغ موازنة وزارة الداخلية 11 مليار جنيه (مطلوب زيادتها لمواجهة تزايد الدور وأعبائه!).
وفي المقابل كان من الطبيعي، أن تتراخي قبضة «الأمن المجتمعي» فسادت البلطجة وانتشرت الفوضي في الشارع المصري، وغاب الأمان، وتضاعفت الجرائم، وأصبح أمراً عادياً أن يستأجر (الكبار) والأغنياء (Body Guards)، «قبضايات» أو «فتوات» لتأمين الحماية الشخصية، ولعب الفساد دوراً مهماً في «تزييت» تروس آلة «التخريب الوطني»، أي ذلك الحلف الجهنمي الذي يربط بين المال والسلطة في رباط مدنس، كان له أكبر الأثر في تدمير «المناعة العامة»، وإشاعة روح الإحباط واللامبالاة في المجتمع.
ولذلك كان منطقياً أنه في كل اختبار تتعرض له السلطة أو يواجهه النظام، تنكشف عوراته، وتظهر نقائصه.. (احتراق قطار الصعيد- احتراق قصر ثقافة بني سويف- كارثة العبارة- سقوط العمارات في القاهرة والإسكندرية- حوادث الطرق.. إلخ)، وتتبدي مظاهر ترهل جهاز الدولة، وشيخوخة الحكم:الشيخوخة بمعناها المباشر والمجازي!
ولذلك فمن الواجب أن نري إلي ما حدث في «مجلس شوري النظام»، ليس باعتباره مجرد حريق عابر لمبني قديم يمكن استعواضه، وبناء أحدث منه بسرعة الصاروخ حتي يتسني له أن يشهد افتتاح الدورة القادمة للمجلس في نوفمبر القادم (!)، وإنما بكونه دلالة علي أفول عهد وغروب نظام ونهاية سلطة، إنه ليس حريقاً لمبني متهالك، وإنما احتراق لنظام حكم، يقدم لنا كل يوم تأكيداً علي أنه بلغ سن الاستيداع، ووصل إلي أوان الأفول
No comments:
Post a Comment