بقلم حلمي النمنم ٢٨/٨/٢٠٠٨
وقُدر للناقد الراحل د. علي الراعي أن يكون شاهد عيان علي حريق دار الأوبرا المصرية سنة ١٩٧١، ورأي يومها عموم المواطنين من العتبة والأزبكية تجمعوا وراحوا يرقبون النار بحسرة وألم وبعضهم بكي مما يحدث، واندفع البعض الآخر للمساهمة في معاونة رجال الإطفاء،
وكانت ملاحظة الناقد أن هؤلاء المواطنين لم يدخل أحدهم الأوبرا يومًا ولا شاهد عرضًا من عروضها، ولو استمرت الأوبرا فإن أحدًا منهم لم يكن يسعي أو يتطلع لدخولها والاستمتاع بما تقدمه، وفسر حزنهم علي احتراقها بأنه وعي المصري البسيط بأهمية وقيمة الثقافة الرفيعة، حتي لو لم يتح له التعرف علي تفاصيلها وتذوق إبداعاتها،
ويمكن أن نضيف إلي استنتاج أستاذنا معني آخر، وهو أن المصري يدرك بخبرته أن الحريق يعني الخراب والدمار.. لذا ففي الثقافة العامة لدي المصريين الاندفاع التلقائي لإطفاء أي حريق مشتعل.. لذا لا أميل إلي تفسير تعليقات المواطنين علي حريق مجلس الشوري بأنه نوع من الشماتة أو السعادة بالحريق.. فإذا حللنا جيدًا مضمون العبارات وما حدث ليلة الحريق لا يمكن أن نعتبرها شماتة، بل هي شيء آخر تمامًا.
حين وقع الحريق، وذكر شهود العيان أن رجال الإطفاء تباطأوا في البداية، فهمها هؤلاء الشهود علي أنها حالة من الإهمال أو التقاعس، وفسرها رجال الإطفاء بأنهم كانوا متخوفين علي المبني من المياه،
وفرض رجال الأمن كردونًا يمنع المواطنين من الاقتراب، وتعامل بعضهم مع هؤلاء المواطنين بقدر من الغلظة، حدث شيء من هذا مع الصحفيين، فما بالنا بما يمكن أن يكون وقع مع المواطنين العاديين؟
وبعد ذلك كله لم يوفق رجال الأمن في التعامل مع الحريق، وفرضوا علي الجمهور أن يكونوا متفرجين فقط، لذا فإن جانبًا من التعليقات عكس السخرية المريرة من عجز رجال الإطفاء وليس شماتة، رجال الإطفاء في هذه اللحظة هم رمز الدولة ويحب المصري أن يشعر بقوة الدولة وقت الأزمة، لا أن يراها مرتبكة وعاجزة!!
جزء آخر من التعليقات يعكس غضبًا شديدًا من الحكومة ورجالها، وهذه التعليقات كانت أقرب إلي الأمنية لو أن الحريق تم والاجتماعات مستمرة، وهذه التعليقات صدرت من شبان وشيوخ.. نساء ورجال..
فقراء وأغنياء، وهذا يعكس حالة من الرفض لسياسات الحكومة ومسلك رجالها، ولا يجب أن نفهمها بالمعني الحرفي، وهو أن يحترق رجال الحكومة، لكنها حالة من الغضب الشديد، وهو غضب تستحقه الحكومة، ذلك أنها حكومة تحمل من اللحظة الأولي خطابًا من الاستعلاء علي المواطنين،
وأحيانًا يكون خطابًا مهينًا بالمعني المباشر، كانت الحكومات السابقة تواجه أزمات ولا تحقق للمواطن أحلامه، لكن كان الخطاب المعتاد لتلك الحكومات «أن العين بصيرة والإيد قصيرة»، أي أن المواطن يعاني ونحن نعرف ذلك، ولا نتمكن من رفع المعاناة عنه، لكننا نبذل الجهد، إلي أن جاءت الحكومة الحالية لتبدأ عملية «المن» علي المواطن برغيف العيش، والسخرية من ذلك المواطن
ومطالبه من الحكومة، ولنتذكر العبارة السخيفة «الحكومة ماما وبابا وتيته و...» ثم اتجهت الحكومة إلي سياسة البيع، معلنة علي الملأ أنه لا قدسية ولا قيمة لأي شيء، حتي لو كانت قناة السويس، كله مطروح للبيع أو محتمل بيعه، ولا شيء يعود فعليا علي المواطن، وهكذا اختزن المواطن المرارة والكراهية تجاه الحكومة ومن أحاط بها أو ارتبط بها، وكان الحريق فرصة للتعبير وإبداء المشاعر بلا مواربة تجاه هؤلاء المسؤولين.
هذه التعليقات تكشف جانبًا من ثقافة العجز لدي المواطن، ثقافة اللافعل، أقصي ما يستطيعه أن يطلق بضع كلمات قاسية، وهي ثقافة ترسخت في السنوات الأخيرة بلا مبرر حقيقي، لا يخرج المواطن إلي الانتخابات ويقدم اختياره ويدافع عنه، وهو كذلك ليس مستعدًا أن يدخل في احتجاج سلمي واسع ضد سياسات الحكومة أو حتي إسقاطها..
وحينما غضب من الحكومة وشعر بالامتهان، انتظر حريقًا ساقه القدر، كي يعبر عن رأيه وغضبه علي جميع المسؤولين، ليست شماتة، ولكنها حالة العجز التي أصيب بها المواطن.. لا يحب الحكومة ولا يقبل بسياساتها، وليس مستعدًا أن يناضل سلميا ضدها لانتزاع حقوقه.. حتي لو صح أنه شعور بالشماتة، فالشماتة نفسيا هي شعور العاجز تمامًا، والضعيف إلي أقصي درجة، وافتقاد الفعل والمبادرة.
ثقافة العجز، هي التي تكشفت ليلة الحريق وما بعدها، والقضية الآن كيف نواجه تلك الثقافة ونحد منها.
كشف الحريق ثقافة العجز وحالة العجز التي عليها الجميع، وعلينا أن نعمل علي تخطي تلك الحالة.. وإلا فإن الحريق لن ينطفئ.
No comments:
Post a Comment