Thursday, August 28, 2008

احتراق مبني وتاريخ.. أم احتراق نظام؟

كمال مغيث ـ المصري يوم 28/8


عن طريق البث المباشر، شهد العالم كله علي الهواء، احتراق أقدم مؤسسة نيابية عربية، مجلس شوري النواب، والذي صدر المرسوم الخديوي بإنشائه في نوفمبر سنة ١٨٦٦،

قبل أن يخرج إلي الوجود أصلاً، العديد من الدول العربية والأوروبية ـ بأسمائها التي عرفت بها فيما بعد ـ، وكانت لائحة المجلس الأول تتكون من ثماني عشرة مادة تتضمن طريقة تشكيله والشروط القانونية الواجب توافرها في العضو،

وحقوق الأعضاء وواجباتهم، وفترات انعقاد المجلس الذي كانت مدة دورته البرلمانية ثلاث سنوات، وكان أعضاؤه الخمسة والسبعون ينتخبون لأول مرة في البلاد من أعيان وعمد المديريات المصرية المختلفة.

وقد سرت حول ذلك البرلمان الأول قصة «سخيفة مفادها أن الخديو إسماعيل، منشئ البرلمان، طلب إلي الأعضاء أن ترتب مقاعد البرلمان، بحيث يبين من منهم المعارضون له ومن المؤيدون ـ كبرلمانات أوروبا ـ فجلس جميع الأعضاء في مقاعد المؤيدين للخديو،

فلما قيل لهم إن وجود معارضين أمر يطلبه الخديو، فجلس جميع الأعضاء في مقاعد المعارضين». هكذا حاول بعض المستبدين تشويه قصة أول برلمان مصري، وقد سألت عن صحة تلك القصة المرحومين الثقات، يونان لبيب رزق، ورؤوف عباس، فأكدا أنها مختلقة لا ظل لها من الحقيقة.

ولعله من عبقرية الاستقبال والتمثل المصري، أن ذلك البرلمان ـ المحدود ـ الذي أنشأه الخديو إسماعيل بإرادته المنفردة في إطار سياسته جعل مصر قطعة من أوروبا، هو نفسه البرلمان الذي وقف زعيم الشعب أحمد عرابي، في مظاهرة عابدين الثانية ـ ٩ سبتمبر سنة ١٨٨١ ـ مطالبا الخديو توفيق، بأن يكون له جميع الصلاحيات التي تتمتع بها البرلمانات الأوروبية من مراقبة الميزانية، ومساءلة الوزارة، وسحب الثقة عنها إن لزم الأمر.

هذه هي لمحة من تاريخ البرلمان الذي احترق، لعلها تكون قد غابت عن رؤساء التحرير، الذين راحوا يبشروننا بأن الحريق «فأل طيب»، وأنه فرصة ممتازة لإعادة تخطيط ميدان التحرير، أو عن النواب الذين راحوا يتبرعون بالأموال لبناء مجلس علي الطراز الحديث، بدلا من المجلس الذي عفا عليه الزمان وصار «دقة قديمة» أو عن رئيسه الذي أعلن تصميمه علي عقد جلساته في موعدها حتي ولو كان ذلك علي قهوة «علي بابا» القريبة، مع السحلب والشيشة.

ومع كل هذا فقد رحت أسأل نفسي: لماذا لم يحزن الناس علي برلمانهم وتاريخهم بالشكل اللائق، والذي يناسب أقدم برلمانات الشرق، وقد كتب بعض الكتاب، بل بعض المشاهدين، أن الأمر لم يكن يخلو من شماتة.

وأغلب الظن أن الناس لم تجد مبرراً للإيمان بأن مبني المجلس وتاريخه وتقاليده تمثل ركنا أساسيا للنظام الحاكم، ببساطة شديدة، لأن كل الشواهد تؤكد أن هذا النظام الحاكم قد احترق من زمان.

احترق، لأنه لم يجد لرئاسة المجلسين النيابيين سوي شيوخ عجائز، أكلوا علي كل الموائد وخدموا كل الأنظمة، تجاوزوا الثمانين من أعمارهم وانتهي عمرهم الافتراضي منذ أمد بعيد.

واحترق النظام عندما غرقت عبارة الموت، وترك ركابها المواطنين يصارعون الموت ووحوش البحر لساعات طويلة، ثم يخرج الصهر والشريك حاملا أمواله المنهوبة من قاعة كبار الزوار، ويشرب رجاله نخب البراءة، من قتل أكثر من ألف مواطن عبر فساد الحكم وفساد الإحالة.

No comments: