تغريد خارج السرب
GMT 22:15:00 2008 إثنين 25 أغسطس
الوطن الكويتية
فهمي هويدي
لا اعرف الى اى مدى يحتل المزاج العربي دعوة لاحداث نقلة نوعية في الوجهة السياسية، تستهدف توثيق العرب مع الاتراك والايرانيين، لكني على يقين من ان ذلك يعد تغريدا خارج السرب.
(1)
في حين يحظى مسلسل «نور» التلفزيوني التركي بمتابعة غير عادية في انحاء العالم العربي، ازعم انها احدثت انقلابا في رؤية العرب لتركيا، فان المراصد السياسية باتت مشدودة الى الدور التركي الصاعد الذي يتحرك بجدية على مستويات عدة، من القمة التركية الافريقية، الى استقبال الرئيس الايراني احمدي نجاد في استنبول وقبله استقبال الرئيس السوري بشار الاسد، وزيارة اردوغان لبغداد، ودخوله على الخط بين روسيا وجورجيا، وتحركه لتطبيع العلاقات مع خصومه التاريخيين في ارمينيا واليونان، وتوسط حكومته بين سورية واسرائيل. كل ذلك خلال الاشهر القليلة الماضية.
في وقت متزامن، كانت ايران تطور علاقاتها مع روسيا باتفاق على التعاون في مجال الفضاء بعدما قطعت شوطا في تعاونها معها في بناء مفاعلها النووي في بوشهر. وتمد جسورَ مع الجزائر اثناء زيارة الرئيس بوتفليقة لطهران، وتستقبل رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي. واثارت الانتباه في هذا السياق، الزيارة التي قام بها الرئيس احمدي نجاد لاستنبول، والتي غادرها متجها الى دمشق. ثم زيارة امير قطر الشيخ حمد بن خليفة راعي اتفاق الفصائل اللبنانية في الدولة لطهران.
هذا القدر المعلن من الاتصالات دفع بعض المحللين الى الحديث عن ظهور نظام اقليمي جديد في المنطقة، تلعب فيه ايران وتركيا الدور الاساسي، كما دفعتهم الى مقارنة هذه التحركات بالسكون المخيم على العالم العربي، واستغراقه اما في الخلافات بين دوله او في مشاكلها الداخلية، التي استصحبت حالة من الانكفاء القطري اذهلت العواصم على ما يجري في الساحتين الاقليمية والدولية.
(2)
ما هو جديد في هذه التحركات انها تتم بين دول لها مشاكلها ومراراتها فيما بينها، لكنها انطلقت من رؤية استراتيجية تجاوزت بها عقد الحاضر فضلا عن اوزارالتاريخ. ان شئت فقل ان هذه الدول طوت صفحة التاريخ واستعلت فوق المشاكل الادنى لكي تحقق المصالح العليا.
فتركيا وايران على طرف نقيض على صعيد التحالفات السياسية. فالاولى لها ارتباطاتها مع الولايات المتحدة واسرائيل، وهما الخصمان اللدودان لايرانـ وممثلو النظام الاسلامي في طهران يرفضون في زياراتهم الرسمية زيارة قبر اتاتورك مؤسس الجمهورية العلمانية في تركيا كما يقضي البروتوكول. ولذلك فان زيارة احمدي نجاد ولقاءاته تمت في استنبول وكان الاتراك هم الذين رتبوا العملية، ولم يعتبروا ذلك اهانة لمؤسسة الجمهورية، لان هناك مصالح اكبر من البروتوكول. وفي الذاكرة التركية ان ايران اقامت علاقة مع حزب العمال الكردستاني في التسعينيات للضغط على انقرة. كما ان الصراع المرير بين الدولتين الصفوية والعثمانية لا يزال له مكانة في ذاكرة الاتراك، وفي الوقت ذاته فان انقرة قلقة من التمدد الايراني في العراق، وتعتبره اخلالا بالتوازن المفترض بين قوى الجناح الشرقي للمنطقة.
وتركيا التي تتمتع الان بعلاقات ممتازة مع سورية حتى تجاوز حجم التبادل التجاري بين البلدين 900 مليون دولار سنة 2007 ـ وهو يزيد على اربعة اضعاف التبادل التجاري بين تركيا ومصر (200 مليون) ـ كانت على وشك الدخول في حرب مع سورية وهددت بغزو دمشق عام 1998، بسبب دعمها لحزب العمال الكردستاني وايواء زعيمه عبد الله اوجلان. وبين البلدين تاريخ مسكون بالعداء والتوتر، منذ عام 1939، عشية الحرب العالمية الثانية حين اقتطعت فرنسا لواء الاسكندرون من سورية ومنحته لتركيا. وبعد ذلك حين اقامت تركيا مجموعة من السدود التي اثرت على حصة سورية من المياه. ذلك غير اعتراف طهران باسرائيل في وقت مبكر (عام 1948) الامر الذي صنفها ضمن المعسكر المعادي لسورية. وهو ما تغير الان 180 درجة، بحيث اصبحت انقرة وسيطا في المحادثات بين سورية واسرائيل.
(3)
ليست هذه معلومات مما نطالعه في الصحف ونحن نتثاءب، ثم نتحول عنها لنتسلى باخبار العالم الاخر. لان هذه التحركات تتم في شمال العالم العربي وشرقه، وبالتالي فانها تدخل بامتياز في اطار منظومة الامن العربي التي اصبح وجودها محل تساؤل وشك، في ظل غياب الرؤية الاستراتيجية لمصالح المنطقة، على النحو الذي سبقت الاشارة اليه. وللاسف فان ذلك الغياب سمح باطلاق العنان لاسرائيل لكي تتمدد وتعبث في جنوب العالم العربي ما بين وادي النيل والبحر الاحمر.
ان تركيا وايران مع العالم العربي (مصر بوجه اخص) يشكلون «مثلث القوة» في منطقة الشرق الاوسط، الذي تحدث عنه الدكتور جمال حمدان، عالم الجغرافيا السياسية المرموق، في كتابه «استراتيجية الاستعمار والتحرير». ولان الامر كذلك فاننا نخطئ كثيرا حين نعتبر تركيا وايران مجرد «جيران» فرضتهما ظروف الجغرافيا، وتشاركنا معهما في التاريخ زمنا، ثم ذهب كل الى حال سبيله بعد ذلك، ذلك ان الدولة العباسية التي ورثت الخلافة الاموية قامت على اكتاف العناصر الفارسية، وفي زمانها تأسست اعظم المراكز الحضارية الاسلامية على قاعدة التفاعل بين الفرس والعرب، وبعد اقل من قرنين اصبحت العناصر التركية تلعب دورا بارزا في تاريخ المنطقة خصوصا تحت مظلة الدولة العثمانية. ولكن دار الاسلام المشرقية انقسمت منذ القرن السادس عشر بين الصفويين في ايران والعثمانيين في تركيا. وقدر لذلك الفصام النكد ان يمهد لتجزئة المشرق الى اقطار شتى في اعقاب الحرب العالمية الاولى، حين اتفق المنتصرون في الحرب على تمزيق المنطقة وتقطيع اوصالها في ظل اتفاقية سايكس ـبيكو (عام 1916).
لم يبق من ذلك التاريخ الذي تراجع في الواقع وحفظته الكتب، سوى رابطة العقيدة، وبعض آثار التداخل بين الشعوب التي تمثلت في انتشار الحرف العربي في ايران وتركيا (كمال اتاتورك استبدله بالحروف اللاتينية في العشرينيات) وفي تسرب الكلمات العربية الى اللغات المحلية باعتبارها مفردات لغة القرآن، حتى اصبحت تمثل %40 على الاقل من مفردات اللغتين الفارسية والتركية. كما انتشرت الكلمات الفارسية والتركية في المجتمعات العربية التي عرفت الكباب والكفتة والمسقعة والكشك والكحك والبقلاوة والخشاف والشوربة والطرشي والبقسمات والسميط، وهي كلمات فارسية وتركية. وتداولت ألسنة الناس كلمات فارسية اخرى مثل البيجامة والدوبارة والفوطة والبراوز والجنزير والدبوس والدورق والشمعدان والكاسة والشاكوش والكباية والكنكة والكوز والدرابزين.. ولا تزال كثير من الاسماء الشائعة ورتب العساكر محتفظة باصولها التركية مثل نشأت وعصمت وو دولت وعفت وعزت، ومثل اومباشي وشاويش ويوزباشي وبكباشي وكراكون و ياور وباشا. كما اننا ما زلنا نتداول في بيوتنا كلمات تركية مثل الاودة والسفرة والبطانية والشنطة والشراب والجزمةـ ونينة وابيه وابلة (الاخ والاخت الكبيران). ولاساتذة اللغات الشرقية المصريين جهد طيب في هذا المجال استفدت منه، خصوصا ابحاث الدكتور حسين مجيب المصري والدكتور محمد نور الدين عبد المنعم والدكتورة ماجدة مخلوف.
هذه البصمات الباهتة للتاريخ لا تكاد تقارن بالحضور القوي لحقائق الجغرافيا، التي لم تتغير بفعل الزمن، وانما اصبحت اكثر رسوخا واهمية.
(4)
لا يزال العرب والايرانيون والاتراك يمثلون كتلة جغرافية متماسكة، تقع في خاصرة العالم وتمثل شريحة افقية تمتد من المغرب في اقصى الغرب حتى مشهد في ايران شرقا. ومن تركيا في الشمال وحتى اليمن في الجنوب. وهي في موقعها المتمدد في افريقيا وآسيا وجزء من اوروبا، تسيطر على اخطر الممرات البحرية في العالم، مضائق هرمز وباب المندب والبسفور والدردانيل وقناة السويس. كما انها تملك اكبر احتياطي عالمي في النفط، الى جانب احتياطات هائلة من الغاز تكاد تحتل المرتبة الاولى في العالم. وتمر عبرها شبكة انابيب النفط والغاز الذي يغذي العالم الصناعي بأسره. ولا يزال القاسم المشترك الاعظم بين شعوب المنطقة انها في اغلبيتها الساحقة يشدها رابط العقيدة الاسلامية.
هذه الخلفية التي توفر فرصة ممتازة لاقامة كتلة بشرية حية تغني حاضر الامة ومستقبلها لا تبدو حاضرة في الاستراتيجية العربية، وفي غياب تلك الاستراتيجية فقد العالم العربي «بوصلته» الهادية. ولم يكن مفاجئا بعد ذلك ان يضل طريقه وتتخبط مسيرته، فيتمزق صفه تارة ولا يعرف حلفاءه من اعدائه تارة اخرى، وان يستدرج للانخراط في مخططات الاخرين واستراتيجياتهم في حين ثالثة، الامر الذي فرض على الواقع العربي مجموعة من المفارقات بينها ما يلي:
ان العلاقات الامريكية العربية اصبحت اوثق وامتن من العلاقات العربية العربية.
ان الولايات المتحدة اصبحت لها كلمة في خرائط المنطقة، وفرت لها فرصة تقسيمها الى معتدلين ومتطرفين، بل وفرت لها جرأة التدخل في صياغة اوضاعها الاقتصادية والثقافية، اضافة الى سياساتها الخارجية.
ان بعض الدول العربية تصالحت مع اسرائيل في حين خاصمت دولا عربية اخرى، كما خاصمت ايران.
ان البعض اصبح يرى ان ايران هي العدو الاول للعرب وليس اسرائيل.
ان اسرائيل اصبحت لاعبا مهما في تركيا وايران (قبل الثورة) في حين ظل العالم العربي غائبا عن البلدين الجارين.
ان اسرائيل اصبحت تمثل في بعض الاجتماعات الامنية المهمة التي تعقدها دول ما سمي بمعسكر الاعتدال العربي، في حين استهجن بعض العرب حضور ايران اجتماع مجلس التعاون الخليجي، واستنكر آخرون طلب تركيا الانضمام كمراقب الى الجامعة العربية.
ان بعض المثقفين المنتسبين الى التفكير الاستراتيجي اسقطوا تركيا وايران من دوائر الانتماء الثقافي والحضاري، وتحدثوا عن اضافة الدائرة الامريكية كمجال لحركة مصر والعالم العربي.
كيف يستعيد مثلث القوة عافيته؟ نحاول الاجابة على السؤال في الاسبوع القادم باذن الل
No comments:
Post a Comment