Tuesday, January 23, 2007

العراق: الإقصاء السياسي يفاقم المشكلة ولا يحلها

فهمي هويدي ـ الشرق الأوسط ـ 24/1
من مفارقات هذا الزمان، أنه في حين ينزلق العراق باتجاه حرب عبثية بين الشيعة والسنة، وتتواتر التقارير مشيرة الى أن ثمة إصطفافا عربيا مطروحا، يقيم تحالفا سنيا في مواجهة ما سمي بالهلال الشيعي، وترشح مصر لتكون أحد أعمدة التحالف السني المفترض، فإن مصر «السنية» تنزلق باتجاه حرب عبثية أخرى ضد الاسلام السياسي، ممثلا في حركة الإخوان المسلمين، وكأننا إزاء معركتين، إحداهما شيعية سنية ذات طابع مذهبي، والثانية سنية سنية طابعها سياسي بالدرجة الاولى.
هذه الحرب الثانية انطلقت شرارتها الأولى منذ حصد الإخوان 88 مقعدا في انتخابات مجلس الشعب المصري، التي جرت في عام 2005، وتحقق لهم ذلك رغم الضغوط والجهود التي بذلت لحصارهم، الأمر الذي لم يخل من تدخل في حساب أصوات الفرز وتغيير النتائج لصالح مرشحي الحزب الوطني الحاكم في بعض الدوائر، كما أثبتت المحاضر والتحقيقات في ما بعد.
هذا الحضور بدا مثيرا للانتباه ومقلقا، ما أثار الانتباه الى أن الجماعة، التي تم حظرها قانونا منذ عام 1954، وتعرضت خلال العقود الخمسة التي خلت، لملاحقات ومحاكمات وكم لا حصر له من عمليات القهر والترويع، تبين أنها ما زالت تحتفظ بحضورها القوي في المجتمع. آية ذلك أنها ـ وهي محظورة ـ حصلت على مقاعد في المجلس النيابي توازي عشرة أضعاف ما حصلت عليه أحزاب المعارضة المعترف بها قانونا. أما القلق فنابع من أن تمثيل الاخوان في المجلس النيابي بما يعادل خمس (5/1) الأعضاء ثبت أنه مرشح للزيادة إذا ما تمت الانتخابات في ظروف عادية، الأمر الذي يعني إمكانية حصولهم على نسبة الثلث من المقاعد أو أكثر، وهي نسبة خطرة من وجهة نظر الحزب الحاكم، لأنها يمكن أن تؤثر على قرارات المجلس التي تريد الحكومة تمريرها، والتعديلات الدستورية المطروحة حاليا مثال لذلك. بكلام آخر، فإن نسبة الخمس يمكن احتمالها من الناحية العملية، أما إن زادت على ذلك ووصلت الى الثلث مثلا، فذلك خط أحمر من وجهة نظر الحزب الحاكم.
ولم يخف رئيس الوزراء المصري الحالي، الدكتور أحمد نظيف، مشاعر القلق هذه، فقال في أحد تصريحاته المنشورة، إن دخول الإخوان إلى المجلس بالنسبة الموجودة حاليا كان «غلطة» ولن تتكرر!
فمنذ أن دخل الاخوان الى المجلس النيابي توالت الضربات الامنية التي وجهت اليهم. وحسب تقدير مصادر الجماعة فإنه تم اعتقال 850 شخصا أثناء الانتخابات وبسببها. وخلال الفترة اللاحقة، من ديسمبر 2005 وحتى شهر يناير 2007، وصل الذين تم اعتقالهم في جولات مختلفة الى حوالي 2500 شخص. وكانت أحدث جولة من ذلك القبيل، في أعقاب ما سمي بأحداث جامعة الازهر، التي وصفتها في مقالة سابقة بأنها «زوبعة في فنجان». وقد تبين لاحقا انها أصبحت إعصارا وليس مجرد زوبعة. لأن العرض الرياضي، الذي قدمه بعض طلاب جامعة الازهر في سياق اعتصامهم أمام مكتب مدير الجامعة، احتجاجا على فصل بعض زملائهم، صور آنذاك بأنه «عرض عسكري»، رغم أنه لم يثبت أن أحدا من الطلاب حمل معه موس حلاقة أو حتى عصا خشبية، ووصف الإعلام أولئك الطلاب بأنهم «ميليشيا»، خصوصا أنهم، وهم يمارسون لعبة الكاراتيه غطوا وجوههم وارتدوا ثيابا سوداء، تشبها بعناصر المقاومة التي تظهر في الصور. حينها أثار الموضوع ضجة واسعة في وسائل الاعلام، التي ألحت على مسألتي «الميليشيا» و«العرض العسكري»، فإن الإخوان أصدروا بيانا استنكروا فيه سلوك الطلاب ومظهرهم داخل حرم الجامعة، كما أصدر الطلاب بيانا آخر اعتذروا فيه عما بدر منهم وأسيء فهمه، فأساء اليهم والى جامعتهم. لكن الاعلام تجاهل الاستنكار والاعتذار واستمر في التعبئة المضادة، التي استهدفت تخويف الناس وترويعهم، إنطلاقا من مشهد جامعة الازهر، الذي صور وكأنه تمهيد لإحداث انقلاب في المجتمع بواسطة الميليشيات العسكرية.
في ظل هذا التصعيد سارعت أجهزة الأمن الى إلقاء القبض على عشرات الطلاب، ووسعت الأجهزة من حملتها فألقت القبض على آخرين ممن وصفوا بأنهم قادة الجماعة، مرة بتهمة التمويل الحالي، ومرة باسم الانتماء الى جماعة محظورة تهدد الامن والنظام العام، وحتى هذه اللحظة بلغ عدد الذين اعتقلوا على ذمة الحملة الأخيرة 270 شخصا، يفترض أن يقدموا الى المحاكمة بتهم جاهزة متعارف عليها.
الى هنا ولا جديد في المشهد، لان مثل هذه الضربات الأمنية ليست مفاجئة، وإن ذهبت الى أبعد هذه المرة، حين لم تكتف أجهزة الأمن بالتحفظ على عناصر الإخوان، وإنما لجأت الى إغلاق مشروعاتهم التجارية، ومصادرة أموالهم، واعتقال العاملين لديهم. فاقترن الاعتقال بقطع الأرزاق وتعسير الحياة على الأسر والعائلات، وتصفية الأنشطة الاقتصادية التي يمارسها المنتسبون الى الإخوان.
مع ذلك، فما بدا جديدا تماما هذه المرة أن الضربة الأمنية اقترنت بعملية تشهير سياسية غير مسبوقة، تمثلت في تصريحات رسمية اتهمت الإخوان بأنهم يريدون إقامة حكومة دينية في البلاد مماثلة للنموذج الذي طبقته حركة طالبان في أفغانستان. وانهم يهددون قيمة المواطنة، الأمر الذي يؤجج الفتنة ويضرب الوحدة الوطنية، الأمر الذي سيكون عنصرا طاردا لرأس المال الاجنبي، بما يهدد بشل حركة الاقتصاد في البلد، الى غير ذلك من الادعاءات التي أريد بها تصفية الاخوان سياسيا وإغلاق الباب تماما أمامهم، على نحو يستبعد أي أمل في إمكانية استيعابهم ضمن إطار الشرعية القانونية في مصر. وإذا كان هذا الكلام قد قيل على ألسنة كبار المسؤولين في البلد، فلك أن تتصور كيفية تفاعل الإعلام الرسمي معه، الذي اعتاد أن يهول في الظروف العادية، الى حين تلقف هذا الكلام الساخن، فإنه حوله الى مادة لحريق كبير أريد به استئصال كل ما هو منسوب الى ما يسمى بالاسلام السياسي، واذا استمرت حملة التعبئة المضادة على هذا النهج لمدة ثلاثة أسابيع، فإنها رفعت من مستوى التوتر والفزع في المجتمع، وسربت قلقا لا يستهان به في أوساط الأقباط ورجال الأعمال، ومن أسوأ ما أسفرت عنه الحملة أنها لم تثر خوفا من الإخوان فحسب، وإنما أثارت الخوف من الإسلام ذاته، الذي بات مقترنا بالدولة الدينية وباضطهاد غير المسلمين، خاصة العالم الخارجي وكأن حركة طالبان هو الممثل الشرعي الوحيد للتطبيق الاسلامي.
هناك لغط كثير حول دوافع هذه الحملة. فهناك من يقول بأنها أطلقت لإشاعة جو من الخوف يسمح بتبرير التعديلات الدستورية، التي تضمنت مزيدا من القيود على الحريات العامة، وأضعافا لإشراف القضاء على الانتخابات، ومصادرة لأي نشاط على أساس من الدين (قانون الاحزاب الراهن يمنع تأسيسها على أساس من الدين ولكن التعديل الدستوري المقترح أضاف حظر القيام بأي نشاط موصول بالدين).
هناك رأي آخر يقول بأن توجيه مثل هذه الضربات للإخوان هدفه إضعافهم في مرحلة ترتيب الأوضاع، التي تمهد لانتقال السلطة في مصر، بعد انتهاء الولاية الخامسة للرئيس مبارك في سنة 2010، وهناك من يقول بأن هدف الحملة هو توصيل رسالة الى الإخوان تذكرهم بأنهم لا يزالون مرفوضين من قبل النظام السياسي، وأن حظر نشاطهم لا يزال قائما، رغم صعودهم في أكثر من مجال، ويبدو أن توصيل هذه الرسالة كان مطلوبا لكبح مشاعر الانتعاش التي سرت في أوساط الاخوان بعد فوز حماس في فلسطين، ونجاح حزب الله في تحدي العدوان الاسرائيلي، وبعد دخول ممثلي التيار الاسلامي الى البرلمانات في أكثر من بلد عربي. ثمة سيناريو ثالث يقول إن الترويج «لفزاعة» الاخوان، أريد به دفع الناس الى الانحياز لأي بديل آخر مرشح للمستقبل، باعتبار أنه سيكون أفضل منهم. وهذه التفسيرات تظل في إطار الظنون والتخمينات، لكن المقطوع به أمران:
الاول، أن الباب بات مغلقا أمام الإخوان للمشاركة في الحياة السياسية بمصر، حتى إشعار آخر على الاقل، والثاني أن الحرب الأهلية، التي تشهدها البلاد منذ نصف قرن على الأقل، والتي يقف فيها النظام مؤيدا ببعض العلمانيين من جانب، في حين يقف الاسلاميون في المربع المضاد، هذه الحرب أصبحت مفتوحة وممتدة لأجل لا يعلمه الا الله. وهاتان نتيجتان بائستان لا تحققان أية مصلحة عليا للبلد.
وقبل ان اشرح تعليقي على هاتين النتيجتين، ألفت الانتباه إلى أن أكثر ما يهمني في المشهد ليس حركة الاخوان ومالأتها، وإنما مصير الحريات العامة في مصر، ومنطق تعامل النظام مع القوى السياسية المعارضة. ذلك أن أسلوب المصادرة والإقصاء والقمع عفا عليها الزمن، فضلا عن أنه أثبت فشله في حالة الاخوان، الذين خدمهم ذلك المنهج الذي طبق بحقهم طيلة نصف قرن، حيث زاد من تعاطف الناس معهم، باعتبارهم ضحايا موعودين بالمحن والابتلاء في كل وقت. ليس ذلك فحسب، وإنما من شأن الإقصاء أن يحرم البلاد من الأمان من طاقة وطنية إيمانية متوفرة في المجتمع، يمكن أن تضيف الكثير الى مسيرة العمل الوطني، إذا أحسن توظيفها. تقاس كفاءة العمل السياسي في كل بلد بمدى قدرة نظامه على احتواء مختلف القوى الحية في المجتمع، واستثمار طاقاتها لتحقيق مصالحه العليا. من ثم فإن حشد تلك القوى يعد نجاحا سياسيا وخطوة الى الامام، في حين أن إقصاء بعضها يعد خطوة الى الوراء، إذ هو من قبيل التعامي عن الواقع ودفن الرأس في الرمال، الأمر الذي يؤدي مفاقمة المشكلة وليس حلها.عند الأصوليين نجد أن المفتي الحقيقي ليس من يسارع الى تحريم ما يحتار في أمره من المحدثات، ولكنه من يستوعب المشكلة ويجد لها حلا شرعيا مناسبا. وهو موقف يسري أيضا على الموقف الذي نحن بصدده، لأن استمرار خطر التحريم لا يحل مشكلة قوى سياسية نامية عمرها حوالي 80 عاما، تريد أن تعمل في ظل القانون وحمايته. خصوصا في زمن يعتبر «قبول الآخر» من عناوينه المهمة، وهو ما دفعني الى القول في مقام آخر بأنني غير مصدق أن يكون تطبيع العلاقات مع إسرائيل أيسر من تطبيقها مع الإخوان. في هذا الصدد فإنني أتفق في الرأي ـ في مرة نادرة ـ مع الأستاذ عبد الرحمن الراشد في ما كتبه في «الشرق الاوسط» (يوم 16/1) حين خطأ موقف إلغاء الإخوان

منظومة للاستقرار والتنمية في الشرق الأوسط

عبد المنعم سعـيـد ـ الشرق الأوسط ــ 24/1
لا يتكرر التاريخ أبدا بحذافيره، ودائما هناك جديد تحت الشمس، ولا تجرى نفس المياه في النهر مرتين، ولكن المشابهة التاريخية كثيرا ما تعطينا ليس فقط الدروس، وإنما تعطينا أيضا القدرة على فهم ما يجرى في منطقتنا من أحداث. وما يشاهده الشرق الأوسط حاليا من قلاقل وفوضى ليس جديدا، فقد عرفته أوروبا خلال القرن التاسع عشر وفي أعقاب الثورة الفرنسية وخلال القرن العشرين حتى ما بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، كما عرفته منطقة شرق آسيا في أعقاب الحرب الفيتنامية، وبشكل ما عرفته أمريكا الجنوبية والوسطى طوال القرن العشرين، ولا زالت أفريقيا تعيش فيه منذ الاستقلال حتى الآن.
وبينما اختلفت الأسباب والأساليب في كل حالة فإن خيوطا رفيعة كانت تربط بين كل هذه الحالات مجتمعة، فهي دائما تواجه لحظة «ثورية» بمعنى أنها تحتوى على قلب للأوضاع الاجتماعية والسياسية القائمة رأسا على عقب، وبمعنى أنها بسبب عنفوان الرغبة في التغيير يعاد توزيع عناصر القوة من جديد بين طبقات وجماعات ودول. وهي من ناحية أخرى تخلق حالة ملتهبة وعنيفة ترتفع فيها العواطف والهواجس إلى عنان السماء، وينزل فيها ستار كثيف على العقل فلا يبقي إلا الجموح بعيدا عن مقتضيات الحكمة. وفي كل الحالات السابقة كان الفيصل في عودة الأمور إلى مجاريها، واستئناف تطورها الطبيعي، هو نجاح مجموعة من أهل العقل والحكمة في تكوين منظومة للتفكير والسياسة تكون مهمتها وضع كابح على التطرف والمزايدة والثورة في العموم بوسائل سلمية أو عنيفة إذا اقتضى الأمر؛ ومن ناحية أخرى الدفع فى سبل التطور السلمي بحيث لا يكون الاستقرار غطاء للجمود، وإنما شرط للإصلاح والتطور.
ولعل أشهر الأمثلة التاريخية كانت ما جرى في أوروبا خلال القرن التاسع عشر، عندما نجح ما عرف بالمنظومة الأوروبية Concert of Europe ليس فقط أن تهزم الثورة الفرنسية، ولكن الأهم أن تقيم نظاما للتطور والتغيير يدفع أوروبا كلها إلى الأمام سياسيا وتكنولوجيا في ظل استقرار استمر حتى نشوب الحرب العالمية الأولى. وربما ـ وبدون تجاوز كبير ـ يمكن القول إن تكوين الجماعة الأوروبية وارتكازها على المحور الألماني ـ الفرنسي ثم انضمام بريطانيا لهما يشكل صيغة أخرى من نفس المنظومة، ولكن أكثر تقدما وحداثة وملاءمة لعالم انتقل من عصر البخار إلى عصر الفضاء.
مثل هذه الحالة مطلوبة ومرغوبة في الشرق الأوسط خاصة بعد أن تجمعت ثلاثة مصادر لتهديد الاستقرار فى المنطقة جاء أولها من الفشل الذي عانته نظم الاستقلال العربية في صيغتها الثورية أو المحافظة، سواء في حماية التكامل الإقليمي لبلادها، أو في تحقيق معدلات عالية للنمو الداخلي فدخل عليها القرن الواحد والعشرون وبعضها أراضيه محتلة وكلها لا تزال لا تعرف كيف تبقى «الاشتراكية» بعد سقوط كل دولها الرئيسية في العالم. وثانيها أن فشل الدولة العربية المستقلة خلق فراغا سياسيا وأيديولوجيا ما لبث أن ملأه اتجاه عربي راديكالي، أخذ مفردات دولة الاستقلال الثورية وصبها صبا في إطار دينى، راح يعيد تشكيل المجتمع في قوالب لا يعرفها العصر، ويحاول جاهدا إرجاع الحداثة كلها إلى الوراء، وفي النهاية كان لديه اعتقاد مطلق في صحة الأفكار إلى الدرجة التي حولها إلى عنف محلي وإقليمي وعالمي. وثالثها أن العالم بات لا يصبر كثيرا على الدول المتباطئة، وراح يضغط عليها بالعولمة أحيانا وبالضغوط السياسية أحيانا أخرى، وفي أحيان ثالثة كان اللجوء إلى القوة المسلحة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر.
هذه التيارات الثلاث خلقت حالة كبيرة من عدم الاستقرار في الشرق الأوسط، وعندما اختلطت بقضايا مزمنة مثل الصراع العربي ـ الإسرائيلي، والتناقضات التاريخية مثل تلك التي عرفت بين العرب والفرس، وبين الشيعة والسنة، وصراعات المسيحية والإسلام، والشرق والغرب، فإنها حولت الرياح إلى عواصف، والأمطار إلى سيول، وأمواج البحر إلى تسونامي يهز المنطقة كلها، ويرج بلدانها، ويطيح نظما للحكم فيها؛ ولم تكن النتيجة النهائية تغييرا ثوريا يطيح نظاما ويحل آخر مكانه، وإنما حالة من الفوضى التي لا يعلم أحد إلى أين تقود. وفي التاريخ الإنساني عموما، فإن أخطر اللحظات التي يتعرض لها هي تلك اللحظة المتسمة بالسيولة، والتدفق اللا نهائي لعناصر التدمير والعنف إلى الدرجة التي لا تفهم فيها أبدا لماذا يقتل عشرات الألوف من العراقيين إذا كانت المعركة تجري مع الاحتلال الأمريكي، ولماذا يقتل عشرات الألوف من الصوماليين طوال عقد ونصف من دون سبب معروف، ولماذا يتواجد جماعة من اللبنانيين يرفعون شعارات حزب الله في ساحة رياض الصلح وكلهم إصرار على إسقاط الحكومة؟
مثل هذه الحالة لا تبقى على حالها أبدا، وإنما يواجهها احتمالان، إما أن تستمر في التمدد حتى تصل إلى بلدان لم تصل لها من قبل، أو ترتفع فيها مستويات العنف إلى مستويات عالية حتى يأكل الحريق نفسه أو لا تجد الفيضانات مصادر أخرى للمياه؛ وإما أن تتكون منظومة سياسية من دول المنطقة المعنية لكي تعيد تنظيم الأمور سواء تلك المتعلقة بمصادر التهديد أو تلك المتعلقة باتجاهات المستقبل التي يتم فيها تنظيم الطاقات وتحقيق التغيير المنظم والآمن. وبشكل ما فإن شيئا من هذا حدث في منطقتنا خلال العقود الأربعة الماضية، حينما تشكلت جبهة مصرية ـ سعودية لكي تواجه حالة الانقلاب في أحوال المنطقة في أعقاب تحول إسرائيل إلى إمبراطورية عظمى بعد نصرها في حرب يونيو 1967، وحالة الثورة والفورة الهائلة التي أعقبت الثورة «الإسلامية» في إيران وتصورت أن بمقدورها ليس فقط «تصدير الثورة»، وإنما أيضا إطاحة نظم الحكم فيها. وفي الحقيقة فإن الإمام الخميني، وليس جورج بوش، كان أول من طالب برأس الرئيس العراقي صدام حسين، الذي قام بغزو إيران هو الآخر وضربها بالغازات السامة، وبعد فشله على الجبهة الإيرانية تصور أن قلب المنطقة رأسا على عقب يمكن حدوثه من خلال غزو الكويت. ومرة أخرى كانت الجبهة المصرية ـ السعودية، هي التي أحبطت أحلام الخميني وصدام معا، ولم يكن ذلك نتيجة جهودهما وقدراتهما فقط، وإنما نتيجة قدراتهما على بناء التحالفات الدولية والإقليمية المناسبة.
هذه المرة فإن الحالة أكثر خطورة من كل الأوقات السابقة التى ارتبطت فيها «الثورة» بدولة أو بشخص أو بحزب واتجاه أيديولوجي لأنها مرتبطة بفوضى لا يعلم أحد بدايتها أو نهايتها، وبحركات أفقية تخترق المجتمعات طولا وعرضا، وفوق ذلك كله فإن النظام الدولي بات يقع على رأسه دولة ـ الولايات المتحدة الأمريكية ـ لا يداني حماقتها تحت إدارة جورج بوش قدر عدم كفاءتها. كل ذلك يعطى للجبهة السعودية ـ المصرية ومعهما دول مجلس التعاون الخليجي والأردن أهمية قصوى، ليس فقط لكي تتعامل مع معركة بغداد المقبلة ونتائجها، وإنما لإعادة النظر في أوضاع المنطقة كلها. ولو بقيت الولايات المتحدة في العراق طويلا، فإنها سوف تسبب مشكلات ومعضلات لا قبل لأحد بها، أما إذا خرجت من دون بديل استراتيجي فإنها سوف تسبب كوارث لا نهاية لها. فالسؤال المطروح هو كيف تأخذ هذه المنطقة مقدراتها بأياديها، ولا تتركها فريسة قوى الفوضى أو القوى الخارجية التي تأتي لكي تقاوم الفوضى فتعطينا فوضى إضافية؟!

من أوراق رئيس!


بقلم سليمان جودة ـ المصري يوم ٢٣/١/٢٠٠٧
في أبريل المقبل، سوف يخرج الرئيس الفرنسي جاك شيراك، من قصر الرئاسة، إلي غير رجعة.. وسوف يلحق به «توني بلير» رئيس وزراء بريطانيا، في آخر هذا العام.. وسوف يكون الاثنان موضع حسد كل مشتغل بالكتابة في مصر،
وربما في العالم العربي.. ولا نقول موضع حقد.. فالمؤكد أن شيراك سوف يجلس ليكتب مذكراته، ويفتش في أوراقه، ويروي وقائع حياته، مع الرئاسة، ومع غيرها، علي مدي ١٢ عاماً قضاها في السلطة،.. ثم علي مدي سنوات عمره كلها، وهو الآن رجل في السبعين أو ما حولها..
وسوف يفعل توني بلير الشيء نفسه.. وليس هناك شك في أن كل واحد منهما، قد صنع فرصته، ولم تصنعه الفرصة.. صنع الحدث بيديه، وأفكاره، وعقله، ولم يصنعه الحدث.. وكل واحد من الرجلين وراءه تاريخ من الهزائم، والانكسارات، والانتصارات..
وكما جاء إلي كرسي الحكم، بإرادة الشعب، فهو يغادره بالإرادة نفسها، وليس بالقوة أو الغصب.. ولم يجادل كلاهما في رغبة الجماهير الواعية، التي جاءت بهما، ذات يوم، إلي مواقع التأثير، والأضواء، في العالم، ثم تقول لهما: مع السلامة!!
أما دواعي الحسد، فهي الثروة التي سوف تهبط علي كل واحد من الرجلين، من وراء المذكرات السياسية.. وربما تكون المفارقة الحقيقية هنا.. هي أنهما لا يعملان بالكتابة، ولا بالصحافة، ولا يحترفان الأدب، ورغم ذلك فإن الثروة الحقيقية لأي منهما سوف تهبط عليه من وراء الكتابة، وليس من وراء السياسة،.. وسوف توزِّع مذكرات توني بلير، مثلاً، أكثر مما وزعت كُتب نجيب محفوظ علي طول سنوات حياته كلها في ٢٢ دولة عربية..
وسوف تكون الفلوس التي تجلبها مذكرات شيراك له، أضعاف أضعاف ثروات الأدباء والكُتاب والصحفيين العرب مجتمعين، مع ملاحظة أن عدد سكان فرنسا، يكاد يقترب من عدد سكان مصر، وكذلك الحال في بريطانيا، فعدد السكان ليس مؤشراً علي عدد القراء.. ولا نزال نذكر، أن الكتاب الذي كتبته هيلاري كلينتون، بعد خروج زوجها من البيت الأبيض، منذ ست سنوات، جلب لها ثمانية ملايين دولار، في أسبوع!!
ولايزال الكتاب السياسي، في العواصم الثلاث، خصوصاً إذا كان كتاباً لشخصيات من هذا الوزن، وهذا العيار، موضع إقبال غير مسبوق.. ولايزال كل سياسي كبير هناك، يراهن علي تحقيق ثروته الفعلية، بعد خروجه، من خلال كتابة مذكراته، وليس في أثناء وجوده علي الكرسي.. ولابد أن دور النشر تتسابق الآن، في توقيع العقود علي بياض مع شيراك،
ومع توني بلير في وقت واحد، وتدفع لهما ما يريدان، ولا تناقشهما فيما يطلبان من الملايين.. فالتوزيع مضمون ومؤكد وعلي نطاق واسع.. والشهرة موجودة، ومتوافرة بما يكفي.. والتجربة عريضة، وعميقة، ومثيرة أيضاً.. والثروة، بعد ذلك، قادمة إلي جيب كل واحد منهما، من غير تفكير.. وليس هناك كاتب عربي إلا وقد بدأ حياته، وهو يعيش ليكتب، فانتهي به الحال إلي أنه يكتب ليعيش!!..
ولذلك فسوف يكون عائد مذكرات بلير وشيراك، مناسبة ملائمة، لتقليب المواجع علينا، وجلب المزيد من الحسرة، والحزن، والأسي، والألم..
فإذا تجاوزنا مؤقتاً، أصحاب القلم، وأهل الكتابة بيننا، فلن نجد رئيساً عربياً واحداً، كتب مذكراته ونشرها في حياته علي الناس.. وباستثناء «البحث عن الذات» للسادات، و«ذاكرة ملك» للحسن الثاني،
ثم كتاب «بورقيبه» عن الزعيم التونسي الراحل، فليس هناك رئيس عربي، له مذكرات ذات قيمة واعتبار.. وحتي هذه المذكرات الرئاسية الثلاث، خرجت إلي النور في حياة أصحابها، ثم، وهذا هو الأهم، في أثناء وجودهم في السلطة،
ولذلك افتقدت المذاق الخاص، الذي تكتسبه أي أوراق يكتبها صاحبها، بعد مغادرة الحكم، وليس وهو رابض فوق الكرسي وملتصق به، ولا يريد أن يفارقه!!!.. فلماذا لا نجد بيننا مذكرات من نوعية مذكرات شيراك، وتوني بلير.. وأيضاً جيمي كارتر، الذي أصدرها مؤخراً.. لماذا؟!..
لأن الرؤساء العرب، لا يحبون أن يتركوا السلطة، وهم علي قيد الحياة!!.. وإذا حان أجل الواحد منهم، فإنه يذهب ومعه أوراقه، وأشياؤه،.. ويغلِّق من ورائه الباب

مغزى الحملة على الإخوان


ممدوح اسماعيل ـ المصريون : بتاريخ 22 - 1 - 2007
جماعة الإخوان المسلمين منذ أن تأسست فى مصر عام 1928 على يد الإمام المرشد الشهيد نحسبه كذلك ولانزكى على الله أحدا حسن البنا رحمه الله وهى فى صراع دائم مع السلطة والحكومات وقد تعرضت لظلم كبير لم يتوقف حتى الآن سواء أيام الحكم الملكى فى مصر او الفترة الناصرية وحتى ايام السادات التى شهدت انفراجا كان اخرها انقلابا من السادات على كل الإسلاميين و المعارضين فيما عرف بقرارات التحفظ التى لم يمض عليها شهر الا وقتل الرئيس السادات فى يوم العرض العسكرى فى 6 أكتوبر على يد تنظيم الجهاد وشهدت فترة الثمانينات تطورا نوعيا للإخوان فى دخولهم البرلمان ليشهد المجتمع المصرى صعودا لقوة التنظيم السياسى للإخوان وفى التسعينات أثناء حملة الدولة المصرية على تنظيم الجهاد والجماعة الإسلامية لم تترك الدولة الإخوان فتعرضوا لمحنة المحاكم العسكرية و تعرض الإخوان لموجات اعتقالات أحيانا تكون كرذاذ المطر واحيانا تكون كالسيل و ودلالة قوتها وضعفها على قدر تخوفات الحكومة من الاخوان سياسيا فى كل مرحلة ووقت 0000 وقد خاض الإخوان الانتخابات البرلمانية عدة مرات نجح البعض منهم فى دخول البرلمان ومنعوا مرات من الدخول حتى جاءت الانتخابات البرلمانية الأخيرة فى2005 الذى نجح الإخوان فيها فى الفوز ب88 مقعد ا ومنعوا من الفوز بمقاعد أخري وخاضوا فى هذه الانتخابات معارك عنيفة سالت فيها الدماء وقتل فيها البعض وكأنهم فى تورابورا لكن المحصلة ان الإخوان نجحوا رغم كل المعوقات والحرب الإعلامية فى اختراق البرلمان بهذا العدد الكبير وفرضوا أنفسهم كتنظيم وقوة سياسية لا يستهان بها خاصة فى ظل غياب كل الجماعات الإسلامية التى غيبت عن المسرح السياسى لاسباب مختلفة ومن هنا ظهر على السطح زمرة من الحاقدين الذين اعتبروا الإخوان وحشا كاسرا ينبغى محاربته وقتله وليس خصما سياسيا ولكن الغالبية من المراقبين والسياسيين اعتبروا ما حدث كاشفا لامر واقع ألا وهو قوة الإخوان فى الشارع المصرى او قوتهم كتنظيم سياسى قادر على منازلة فساد واستبداد الحزب الوطنى الحاكم فى ظل ضعف كل الأحزاب الموجودة فى الشارع المصرى صحيح انه سبق دخول الإخوان البرلمان الأخير أشكال متعددة لمظاهر قوة تنظيم الإخوان ولكن نجاحهم البرلمانى بدا وكأنه الحد الفاصل عند فئة من الحاقدين على التيار الإسلامي و الإخوان فى الحكومة حتى اعتبروه بداية الحرب الحقيقية وتعالت صيحات البعض من هؤلاء مطالبين بحل البرلمان لان الإخوان نجحوا فى اختراقه بهذا العدد 88 عضو وكأن الإخوان دخلوا بالدبابات مجلس الشعب ولم يدخلوه عبر صناديق الاقتراع فى انتخابات مفروض انها ديمقراطية00000 وعلى رغم ماهو معروف من تحفظاتى على بعض سياسة الإخوان إلا انه كانت لدى تخوفات عليهم فهم إخواني مهما كان الخلاف لان أعداء الإسلام والحرية المستبدين صوتهم عال وايديهم الملوثة تبطش بكل الإسلاميين ولاتفرق وهم لا يملون من إطلاق نفير الحرب على كل من يخالفهم خاصة إذا كان من الإسلاميين وفى خلال هذه السنة البرلمانية كان الإخوان والحكومة فى حرب خفية ،كانا في ظاهرها كانهما لاعبان على طاولة بلياردو وباطنها بطش و اعتقالات لرموز اخوانية وحرب تكتيكية إعلامية ظاهرها طعن الإخوان وباطنها طعن فى الإسلام ومحاصرة سياسية حتى وقعت واقعة ما أطلق عليه اعلاميا مليشيا الإخوان فى جامعة الأزهر وكان من الممكن ان يمر الحدث بدون اى ضجيج فهو صغير وبسيط ولكن لان الأصابع على الزناد كانت جاهزة وقد تعبت من المناورات الحربية فقد أعلن فريق أعداء الإخوان الحرب وقبض على عدد كبير من الطلبة وقيادات الإخوان واحيلوا إلى نيابة امن الدولة وتوالت الاعتقالات حتى شملت رموزا مهمة من الجماعة على رأسهم خيرت الشاطر ومحمد على بشر عضوا مكتب الإرشاد والأخ الحبيب صاحب الخلق عصام حشيش الأستاذ الدكتور بكلية الهندسة وهو للعلم كان رفيق زنزانة معى عام 1981 والعجيب ان يتم القبض على الشرفاء بتهمة غسيل الأموال فى الوقت الذى يرتع فيه المفسدون جهارا نهارا فى مصر بأموالهم القذرة والمنهوبة من أموال الشعب المصرى بلا رقيب ولاحسيب وحسبنا الله ونعم الوكيل فما أسباب هذا التصعيد الذى بلغ ذروته بتصريح غريب لرئيس الجمهورية ان الإخوان خطر على مصر 00 الأسباب أراها كالآتي أولا ان الحرب على الإسلاميين منذ 11 سبتمبر متصاعدة وان كان الإخوان حاولوا تفاديها بالإنكار على القاعدة والتمسك بالخيار السياسى السلمى الا ان قادة الحرب على الإسلام لا يريدون ذلك فقط بل يريدون التنازل عن كل الثوابت اى التنازل عن الاسلام وهو ما لم ولن يفعله الإخوان ثانيا قوة الاخوان فى مصر تنامت والحزب الوطنى فاسد وضعيف فلابد من ضرب القوى الا وهو جماعة الإخوان ليظهر الضعيف ثالثا النظام المصرى يرسل بحربه على الاخوان رسالة للأمريكان انه هو الأقوى وهوالباقى لهم خاصة وأن الضربات الامنية جاءت فى ظل زيارة رايس للمنطقة والتى بدأتها بتقوية عباس فى حربه ضد حماس فى فلسطين رابعا - التعديلات الدستورية الاخيرة وما جاء فيها من مشروع إعطاء رئيس الجمهورية سلطة حل البرلمان بدون رجوع للشعب وتحجيم الإشراف القضائى على الانتخابات وتغليب علمانية الدولة فى التعديلات الجديدة وهو اخطر ما يجرى فى الساحة الداخلية ولها تفصيلاتها سوف ارجع لها فى مقال قادم ولكن كل ذلك دشن حربا على الاخوان المسلمين على أساس انها جماعة غير مشروعة قانونا والطريف ان من بيده ظلما الشرعية القانونية ولا تأييد شعبي له يعتبر نفسه "مشروعا" ومن له تأييد شعبى هو من يحرم من الشرعية القانونية حقا عجبا فى مصر ولكن الإخوان المسلمين أعلنوا على الفور عزمهم على إنشاء حزب سياسى مدنى ذي مرجعية إسلامية سيعلن برنامجه للراى العام ولكن لن يقدموه للجنة الأحزاب لعلمهم المسبق برفضه وهنا تبقى تساؤلات: اولا هل ينجح الإخوان فى الإفلات من القبضات القانونية التى يتم تفصيلها ضد الإسلاميين ثانيا هل ستثمر الحرب على الإخوان فى تقليص عددهم فى البرلمان او منعهم ثالثا هل ينجح الاستبداد فى قمع وقهر الاخوان بعد وأد الجماعة الاسلامية والجهاد وتجميد السلفيين رابعا هل ستنجح الحرب على الإخوان فى صعود التيار الليبرالي المعادى للإسلام بآي طريقة خامسا شعارات الديمقراطية عند الحكومة المصرية مثل المهلبية سهلة الآكل والبلع خاصة مع الإسلاميين ويبقى ان ما يحدث فى مصر ليس بعيدا عما يحدث للإسلاميين فى كل مكان فى العالم ولقد وضحت الرسالة واستوعبها الأمريكان وهى ان دعم استقرار المستبدين افضل للأمريكان من حكم الإسلاميين ولايبقى غير ان أسأل الله ان يفرج كرب المأسورين جميعا من المسلمين وان يثبت الإخوان ولا يتراجعوا تحت اى ضغط فهى أيام محنة لها ما بعدها فإني استشعر أن خطر الاستبداد سيقوى فى الأيام القادمة على الإسلام والمسلمين فقط واخيرا هل تتعظ فصائل التيار الإسلامي من السلفيين والجماعات الإسلامية والإخوان ويعلموا ان الحرب على الاسلام وليست على الاخوان فقط وهل يتواصل الجميع بالتراحم مع الاعتراف بالخلافات ام يظلوا متنافرين حتى يجرفهم طغيان الاستبداد والظلم واحدا تلو الاخر
محام وكاتبelsharia5@hotmail.com

مشروعُنا الإسلاميّ باتَ ضرورةَ مَصير



د. محمد بسام يوسف ـ المصريون : بتاريخ 22 - 1 - 2007
لم تمرّ على الإنسانية حقبة تاريخية تمكّن فيها الظالمون بباطلهم.. أشدّ من الزمن الذي نعيشه، فالعالَم أصبح أشبه ما يكون بغابةٍ متخمةٍ بالضواري، التي لا ترويها أنهار الدم النازف هنا وهناك في هذه الأرض.. عالَمٌ تتسلّط على رقابه حفنة من المجرمين الموتورين، امتلكت قوةً هائلة، لم تجد مجالاً لاستخدامها إلا في التدمير والتخريب وإشاعة الظلم والقهر والفوضى، فجعلت من جبروت القوة وسيلةً للابتزاز والإذلال وارتكاب ما يحلو لها من الانتهاكات والجرائم بحق الإنسانية، وأصبحت القوة هي الأمر الوحيد الذي يحتكم إليه طغاة العصر، فضاعت القِيَمَ الإنسانية، وضاعت الأخلاق السويّة التي من المفترض أن تتحكم بالنفس البشرية، لتتصدّى للمهمة الأساس التي أوكلها الله عز وجل إليها وهي : عِمارة الأرض، وإحقاق الحق، وإزهاق الباطل، ونشر العدل والقسط بين الناس!.. (.. هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ) (هود: من الآية 61).عقيدة القوة الطاغية الباغية، اعتنقتها حفنة من المهووسين المجانين، بعد أن شعروا أنهم امتلكوا عواملها ومفاتيحها، فاجتمع جنون النفس البشرية وتجرّدها من كل خُلُقٍ إنسانيٍ سويّ.. مع القوّة المارقة الشريرة، فكانت النتيجة بطشاً وظلماً وجبروتاً وطغياناً وتدميراً واستعباداً ونزفاً للدم في كل مكان!.. وكان في المحصّلة النهائية انقلاب مريع في المفاهيم الإنسانية وأسس التعامل بين البشر، فظهر العالَم وكأنه يسير على رأسه وليس على قدميه، وانقلبت مع ذلك أسس الروح الإنسانية، فأصبح (الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف) هو أصل العلاقات بين الشعوب والأمم.. تلك العلاقات التي نسجت خيوطها حفنة القراصنة الطغاة القابعة في البيت الأبيض الأميركي، ولم تعد خافيةً على عاقلٍ في هذه الدنيا تلكم الأصابع الخفيّة التي تُحرِّك حفنة القراصنة أولئك: الأصابع الصهيونية اليهودية، التي التقت مصالح أصحابها الفاجرين المجرمين، مع مصالح المصابين بجنون التطرف والتسلط والعَظَمَة في أميركة والغرب.. فكانت هجمة الوحوش الضارية الشرسة موجهةً توجيهاً دقيقاً، نحو الإسلام دِيناً وعقيدةً ومنهج حياة.. ونحو العالَم الإسلاميّ أرضاً ومهداً للإسلام.. ونحو المسلمين إنساناً وأداةً لمقاومة الظلم والعبودية لغير الله عزّ وجلّ!..لقد سقطت -مع إسقاط كل القِيَمِ الإنسانية من قِبَلِ العصابات القابعة في أميركة وإسرائيل والغرب- كل الدعاوى العِراض، التي استطاعت تزييف الحقائق على مدى قرنٍ كامل، فسقطت -مثلاً- مزاعم تحقيق الحرية وحقوق الإنسان والديمقراطية واحترام استقلال الدول وما يسمى بالشرعية الدولية.. وغير ذلك!.. وظهر أولئك الطغاة على حقيقتهم تماماً، وتبين أنهم ليسوا سوى حفنةٍ من السفّاحين الساديّين مصّاصي الدماء، الساعين إلى ابتزاز الشعوب المستضعَفَة واحتلال أوطانها، واستغلالها وإذلالها وقهرها، محَمَّلين بكل أدوات الاستكبار والاستبداد ونهب الأوطان وانتهاك حُرُماتها!..هكذا سقط العالَم بين أيدي القُرصان الأكبر: أميركة، والقراصنة الكبار المتواطئين في الغرب، والمحرّك لكل هؤلاء: القُرصان الصهيونيّ اليهوديّ!.. وكانت الرهينة والضحية لكل ذلك، هي العالَم العربيّ والإسلاميّ، الذي يرزح تحت نِيـر التجزئة والتشتّت واستبداد الأنظمة القطرية، المتواطئة مع كل مؤامرةٍ يحوكها القراصنة، مقابل احتفاظها بكراسيّها التي تدير منها مؤامرات التسلط والاستبداد والاستعباد بحق شعوبها المسلمة، فتمنعها من الوحدة والتحرر والسير نحو الحياة العزيزة الكريمة!.. أي أنها (أي الأنظمة) تقوم بمهمة الناطور الذي يحرس مصالح القرصان الأكبر، والقراصنة الآخرين على اختلاف أنواعهم وجنسياتهم!..ضمن هذا الواقع المشحون المريب، الذي صنعه وما يزال يصنعه طغاة أميركة ومشروع إدارتها المبرمَج للسيطرة على العالَم والهيمنة على شعوبنا وأوطاننا.. يبرز أصحاب المشروع الصفويّ الفارسيّ الأشد ريبةً، لينموَ ويشتدَّ عُودُهُ في حضن المشروع الأميركيّ العدوانيّ.. فبدل أن تجدَ الأمة العربية والإسلامية في إيران سنداً ودعماً وحمايةً للمسلمين وأوطانهم.. أطلّ الفُرسُ وأذنابهم من الحضن الأميركيّ كالأفعى الضالّة التي تنقضّ على الأمة، لتقتنصَ فرصةً تاريخيةً طالما حلمت بها منذ مئات السنين، محمَّلةً بكل الحقد الخرافيّ التاريخيّ على أمتنا، وبكل أساطير المراجع الشيعية السردابية، وبكل اللؤم وبواعث التآمر والثأر للباطل، تواطؤاً لعدو الأمة وممالأةً له على احتلال أوطان المسلمين، ومِعْوَلاً يهدم كل أركان الأمة: عقيدةً وكرامةً ومنهجاً ووحدةً ووجوداً وحضارةً ومعالم حياة، لتعودَ إلى الأذهان كل حادثات الطعن بأمتنا والغدر بها، التي اقترفها (ابن سبأ) و(ابن العلقميّ) و(الحشاشون) و(الطوسيون) و(القرامطة).. وأمثالهم من الخونة أصحاب الأهداف الأنانية المريضة.. وليثبتَ هؤلاء بالصوت والصورة، بأنهم بعيدون عن الإسلام ومصالح أهله بُعدَ المشرقَيْن أو أكثر!..وكما لم تمرّ على الإنسانية حقبة تاريخية كهذه، التي تمكّن فيها الظالمون بباطلهم.. فإنه كذلك، لم تمرّ حقبة تاريخية كان فيها الإسلام والمسلمون جهةً مستهدفةً وحيدةً بكل هذه الشراسة.. كالحقبة التي نمرّ بها، فأصبحت المعادلة الدقيقة منسوجةً على الشكل التالي: أميركة والصهيونية والفُرس بظلمهم وطغيانهم وباطلهم وغطرستهم.. في طرفٍ ضد الأمة الإسلامية ومصالحها، والإسلام والمسلمون والعالَم الإسلاميّ.. في الطرف الآخر، هدفاً وحيداً للطرف الأول الذي يتنافس أهله على ذبحنا وإذلالنا!.. ولعلّ هذا الترتيب الإلهيّ لطرفي المعادلة، هو الخطوة الأولى لإعادة الأمور إلى نصابها، وإعادة الإنسانية إلى إنسانيتها، وإعادة العالَم إلى طبيعته في السير على قدميه لا على رأسه، وإعادة الحقيقة الربانية الخالدة للأمة المسلمة المؤمنة: (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).. إلى سابق عهدها!..لقد جرّبت البشرية خلال عقود ضياعها، كل المناهج الممكنة لتحقيق العدل والمساواة والسعادة والرفاهية.. من أقصى يسار الاشتراكية والشيوعية، إلى أقصى يمين الرأسمالية وما يسمى بالليبرالية.. ثم إلى عقيدة الثورة الصفوية الفارسية الشيعية الإيرانية.. فكانت النتيجة مذهلةً مروّعة: مزيداً من الجَوْر والشقاء والعبودية لغير الله!.. وظهرت هذه الحقيقة بأجلى صورها، خلال السنوات التي بدأت بتحكّم القطب الواحد الأميركي بالعالَمْ.. هذا العالَم الذي لم يحصد في هذه السنوات الأميركية العجاف، إلا مزيداً من الجَوْر والشقاء والخوف والفاقة والتدمير والقتل والفوضى!.. ولعلّه لم يَبْقَ لخروج البشرية من مأزقها الخطير الحاليّ بعد سقوط المناهج الوضعية، إلا المنهج الربانيّ: الإسلام، ومنهجه العادل الصالح لكل زمانٍ ومكان.. الإسلام الحقيقيّ لا المزيّف المبتَدَع، مُنقِذاً في أول الأمر، ثم ناظماً لحياة البشر وحاكماً لهم، يُرخي عليهم ظلال العدل والمساواة والسعادة والرفاهية والأمن، واحترام إنسانية الإنسان وحقوقه، واحترام الكرامة والمروءة الإنسانية، وإحياء الروح الإنسانية الحقة، بكل ما تختزنه من رحمةٍ وقِيَمٍ خلاّقةٍ كريمةٍ عزيزة!.. ولهذا كان قولنا: إنّ كَوْنَ الإسلام والمسلمين والعالَم الإسلاميّ أحد شِقّي المعادلة الآنفة الذكر، هو الخطوة الأولى لإحقاق الحق وإزهاق الباطل، وإعادة الأمور إلى طبيعتها الإنسانية الكريمة!..لا يَغرّنّكم ظهور الباطل وسطوته وقوّته الهائلة، ولا غياب الحق وضعفه وقوّته المُغَيَّبة، ولا انتفاش المنافقين من أصحاب الأهداف الضيقة الشرّيرة!.. فأساليب القهر والظلم والمكر، والاستفزاز المتواصل للعالَم العربيّ والإسلاميّ، وللإنسان المسلم.. ستكون عاملاً حاسماً في إيقاظه من غفوته، للبحث بجدٍ عن نفسه ودعوته وهويّته وإسلامه، وتفجير عوامل قوّته الهائلة المخزونة المعطّلة.. ومَن يبحث عن أمرٍ فيه نجاته وتحرّره وتحقيق كرامته وعزّته.. سيجده لا ريب في ذلك، وحين سيجده.. لن يحصدَ الباطل وقراصنته وعملاؤه وأشراره إلا المقاومة والدفع والانقضاض المشروع، الذي سيأتي بالإسلام منهجاً شاملاً وحيداً لحياة الناس، بعد أن يتهاوى الباطل وجنده ومنهجه في كل مكان، ويأتي اليوم الذي تعيش فيه الإنسانية بلا شرٍّ، أي: بلا كيانٍ صهيونيٍ ولا قرصانٍ أميركيٍ ولا قراصنةٍ أذنابٍ مجرمين، من أولئك الذين خانوا المبادئ الإنسانية التي وضعوها بأيديهم، أو من أولئكَ الذين يحتالون على المسلمين باسم الإسلام!.. (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ) (الأنعام:44).عندها، ستعيش البشرية عدلاً إسلامياً، ورحمةً ربانيةً، ورخاءً محاطاً بمنظومةٍ متكاملةٍ من الأخلاق السليمة والقِيَم الإنسانية النبيلة!.. ولا يَغُرَّننا اشتداد سُعار الباطل وطغاته الذي نشهده هذه الأيام، فالطاغوت يكون أشرس ما يكون وأكثر حُمقاً ورعونةً وساديّة، حين تبدأ أركان قوّته وأسس وجوده بالانهيار، في طريقها إلى الزوال والاضمحلال، يوم ينسفها الله جلّت قدرته نسفاً، كأنها لم تكن بالأمس!..(.. وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً) (طـه: من الآية 97).الإسلام بات ضرورةَ مصيرٍ لأمتنا، بعدله ورحمته ووسطيّته وتسامحه واحترامه لحقوق الناس وكرامتهم، فقد أفلست كل المناهج الوضعية إفلاساً مروّعاً، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وانكشف أصحابُ (التقية) ومَراجعُ تحريف ديننا الحنيف على حقيقتهم التآمرية الحاقدة الغادرة، ولا بد للأمة أن تُبرِزَ مشروعَها الأصيل النقيّ، لتواجه به المشروعَيْن المشبوهَيْن الغادرَيْن: الأميركيّ الصهيونيّ، والفارسيّ الصفويّ الشعوبيّ، فلا بد من العمل الحثيث.. والقضية قضية مصيرٍ ووجود، فأين المسلمون؟!..

الدين في مرمى الصراع


د. رفيق حبيب ـ المصريون : بتاريخ 22 - 1 - 2007
الصعود الواضح للتيار الإسلامي في العديد من الدول العربية والإسلامية، جعل النخب الحاكمة والتي تحتكر السلطة، تحاول منع هذا التيار، ليس فقط من الوصول للسلطة ولكن أيضا من ممارسة العمل السياسي. ولأن مصر تمثل قلب العالمين العربي والإسلامي، فإن ما يحدث فيها يمثل حدثا مهما في التاريخ العربي والإسلامي. وأهمية الحدث الراهن أن النخب الحاكمة في مصر وضعت الدين عن قصد في مرمى الصراع السياسي بين النظام الحاكم والتيارات الإسلامية، وأصبح صراعها مع تلك التيارات يؤثر بالضرورة على دور الدين في حياة الجماعة المصرية. والغريب أن النظام فتح المعركة بدون تحفظات وعلى نطاق واسع، رغم أنه كان يتجنب الوصول لمرحلة تحديد دور الدين في الحياة العامة والحياة السياسية، وبالتالي دور الدين في التشريع.ولكن يبدو أن النظام المصري الحاكم يرى أن اللحظة الراهنة مناسبة، فهي لحظة الحرب على الإرهاب، والتي تحولت إلى حرب على كل التيارات الإسلامية، خاصة التيارات المعتدلة، فالتيارات المعتدلة تمثل البديل المنافس للأنظمة الحاكمة وهي القادرة على الوصول للسلطة من خلال الانتخابات، وهي القادرة على حشد الجماهير معها، ولهذا أصبحت تمثل خطرا على بقاء الأنظمة الحالية الموالية للحلف الأمريكي. لهذا تتمدد الحرب على الإرهاب خارج نطاق الجماعات المسلحة، لتصل إلى حركات المقاومة، ومنها تصل إلى الحركات السياسية المعتدلة. والجانب الأمريكي يرى أن المشروع السياسي الحضاري الإسلامي، هو من المشاريع المعادية لمصالحة في المنطقة، والمقصود بالطبع أنه من المشاريع التي لا يمكنها التحالف مع الحلف الأمريكي ضد مصالح الأمة. والنخب الحاكمة العربية في الغالب منها، متحالفة مع الإدارة الأمريكية، وتمرر السياسات الأمريكية في المنطقة، ولهذا فهي حليف قوي للغرب عامة والإدارة الأمريكية خاصة، وهي مدعومة من الغرب، وتحت حمايته الفعلية، وربما تحت حماية قواته العسكرية أيضا.هذه اللحظة التاريخية، والتي تشهد أكبر توسع للهيمنة الأمريكية على المنطقة، والتي تمتد إلى العديد من البلاد العربية والإسلامية، والتي تتحقق بالقوة العسكرية كما في أفغانستان والعراق والصومال، والتدخلات السافرة في لبنان والسودان وغيرها، والاحتلال الصهيوني في فلسطين، هي اللحظة التي ظنت النخب الحاكمة، ومنها النخبة الحاكمة المصرية، أنها اللحظة المناسبة لتأسيس احتكارها للسلطة، واختيار من يكون معارضا، وتحديد القوى التي تمنع من ممارسة العمل السياسي، والمقصود بها القوى الإسلامية، ولهذا أصبح الدين في مرمى الصراع.لهذا نرى أننا أمام موقف صدام حقيقي، لأنه يدور حول دور الدين في حياة الجماعة المصرية، ودوره في حياة الأمة العربية والإسلامية، ومن لا يعرف يقول أن دور الدين في حياتنا محوري وأساسي، وأن الحضارة العربية الإسلامية، وفي كل المراحل التاريخية السابقة عليها، وحتى في المرحلة الفرعونية، كانت حضارة تقوم على مقدس مركزي هو الدين. فعبر كل تاريخنا كان الدين هو الإطار العام الذي يقوم عليه النظام السياسي والاجتماعي، كان بمثابة الحكم الأعلى لكل الأنظمة والقواعد، وبالتالي الحكم الأعلى للدولة نفسها. فالدين هو القيمة المركزية في الحضارة العربية الإسلامية، وعليه فإن الدين يمثل القاعدة الأعلى في حياتنا، والتي لا يمكن الخروج عليها سواء في النظام الاجتماعي أو النظام السياسي. وهذا الوضع الراسخ للدين في حضارتنا، يجعل القيم الأساسية للحضارة مستمدة من الدين. وهنا علينا التأكيد على أن القيم الأساسية في كل الحضارات هي قيم مقدسة، أي أنها تمثل القيم الأساسية الحاكمة، والتي يقوم عليها الاجتماع البشري، ويقوم عليها النظام السياسي. ففي كل الحضارات توجد قيم لا يجوز الخروج عليها، وتوجد قواعد ومبادئ يتأسس عليها الدستور والنظام السياسي والدولة.والنظام المصري الحاكم يحاول جعل دور الدين في السياسة سلبيا، بمعنى أن وجود دور للدين في السياسة يؤدي إلى استخدام سلبي للدين، وعليه يجب عزل الدين عن السياسة. وهذا المعنى المغلوط، يعني أن المحافظة على الدين تستلزم تحييد الدين وعزله عن المجال العام، وعندما يعزل الدين عن المجال العام وعن الدستور والقوانين والعمل السياسي والسلطة التشريعية والتنفيذية، فإن الدين هنا لا يبقى القاعدة الحاكمة للحضارة، بل يتم جعله قيمة فرعية وليس قيمة أساسية، وتصبح هناك قيما أعلى منه تحكمه، تحت مسمى النظام المدني والدولة المدنية. وهذه الحالة ليست إلا العلمانية وهي في التعبير الدقيق الدنيوية، وهي تفترض وجود قيم عليا للنظام ولكن هذه القيم لا تنبع من الدين وأحكامه، بل هي قيم يتفق عليها الناس خارج إطار العقيدة والقواعد الدينية. بهذا تصبح معركة النظام المصري الحاكم هي تغيير دور الدين في حياة المصريين، وبالتالي تغيير القواعد والأسس التي قامت عليها الجماعة المصرية والتي قامت عليها حضارة هذه الجماعة، سواء في المرحلة الفرعونية أو المرحلة القبطية أو المرحلة العربية الإسلامية. وهذا التغيير ليس أمرا هينا، ولكنه في الواقع أمر خطير، وسيجعل الصراع السياسي الدائر، يتحول إلى صراع ثقافي وصراع حضاري شامل. ومن المهم التأكيد على أن عملية تحييد الدين بدأت مع ثورة يوليو، ولها جذور قبلها، ولكن وجه الخطورة الآن يكمن في تأسيس هذا التحييد للدين عن الحياة العامة، بعد أن كان يقوم بدور في الحياة العامة ولكن مع سيطرة النظام الحاكم على المجال الديني وتأثيراته على الحياة العامة. ونحن الآن أمام خطرين، خطر احتكار الدين من قبل السلطة، أو خطر تحييد الدين

دولة الديمقراطية أم الدولة المدنية؟

بقلم: د‏.‏ وحيد عبد المجيد
التوافق الوطني علي مقومات الدولة هو غاية أي حوار دستوري‏,‏ بل هو شرط لاغني عنه لأي نظام ديمقراطي‏,‏ فهذا النظام هو الوحيد‏,‏ من بين الأنماط المختلفة للنظم السياسية‏,‏ الذي لايمكن بناؤه بالقهر أو الإرغام سواء من أعلي أو من أسفل‏.‏ويمكن تشبيه أهمية مقومات الدولة بالنسبة للنظام الديمقراطي بالأساس الذي يحمل أي مبني أو بناية‏.‏ فعند الشروع في بناء مبني ما‏,‏ يمكن الاختلاف علي كل شيء فيه ماعدا الأساس الذي يقام تحت الأرض‏,‏ يمكن الاختلاف علي تصميم المبني وعدد الطوابق ومساحات كل وحدة فيه وكل مافي داخل هذه الوحدة‏.‏ ولكن مالايجوز أن يكون موضع خلاف هو حجم المواد اللازمة لرمي الأساس من حديد وأسمنت وغيرها فالخلاف عليها‏,‏ مثله مثل التلاعب فيها‏,‏ ينذر بانهيار المبني فور الانتهاء منه‏.‏وفي النظام الديمقراطي‏,‏ كذلك‏,‏ لاسقف للخلاف علي السياسات والبرامج والمواقف التي يتبناها نظام الحكم‏,‏ لأنها قابلة للتغيير بموجب نتائج الانتخابات‏,‏ ولكن إذا امتد الخلاف إلي المقومات التي تقوم عليها الدولة‏,‏ لايمكن حينئذ بناء نظام ديمقراطي‏,‏ ويتعذر استمراره إذا أقيم بالفعل‏.‏ومرد ذلك إلي التمييز الواجب بين الدولة التي تجمع الجميع بكل اختلافاتهم‏,‏ الحكومة التي تعبر عن بعض هذا الجميع‏,‏ فالحكومة هي التي تتغير‏,‏ وليست الدولة ومقوماتها‏.‏ولعل مشكلتنا الأهم في مصر الآن‏,‏ ونحن نتطلع إلي دعم التطور الديمقراطي‏,‏ هي عدم وجود التوافق الضروري علي مقومات الدولة التي ينبغي أن نتفق عليها ونلتزم بها جميعا‏,‏ فلا يسعي بعضنا إلي تغيير بشكل منفرد حتي إذا فاز في الانتخابات بزعم أن هذا الفوز يمنحه تفويضا مطلقا‏,‏ فالتفويض الانتخابي الديمقراطي هو تفويض محدود سواء زمنيا حتي موعد الانتخابات التالية‏,‏ أو موضوعيا لأنه مقيد بالمقومات التي تم التوافق عليها بين الأحزاب والقوي السياسية كلها‏.‏ومن أهم الأسباب التي تحول دون إيجاد التوافق الضروري علي مقومات الدولة أننا‏,‏ في مصر والعالم العربي عموما‏,‏ لم نحسم قضية العلاقة بين الدولة والدين‏,‏ وبالتالي بين السياسة والدين‏,‏ علي مدي نحو قرنين منذ أن دخلنا مرحلة الدولة شبه الحديثة في عصر محمد علي‏.‏بقيت تلك العلاقة موضع خلاف يتسع حينا ويضيق حينا آخر إلي أن تنامي الإسلام السياسي وجماعاته مؤديا إلي ازدياد هذا الخلاف وتحويله إلي عقدة يصعب المضي قدما في التطور الديمقراطي بدون فكها‏.‏ ففي ظل هذه العقدة التي استحكمت في الفترة الأخيرة‏,‏ أصبح الخلاف علي طبيعة الدولة وليس فقط علي مقوماتها‏.‏ويصل هذا الخلاف إلي حد أن بعض أنصار الدولة العلمانية‏(‏ التي تفصل تماما بين الدولة والدين‏)‏ اتهموا الرئيس الراحل أنور السادات بأنه أقام دولة شبه دينية منذ أن استخدم الدين في مواجهة خصومه اليساريين ورفع شعار‏(‏ دولة العلم والإيمان‏)‏ وصولا إلي تعديل المادة الثانية في الدستور لتنص علي أن مباديء الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي وليس فقط مصدرا رئيسيا للتشريع‏.‏غير أنه ربما يكون المظهر الأهم للخلاف علي طبيعة الدولة‏,‏ وليس فقط علي مقوماتها‏,‏ الآن هو شيوع استخدام مفهوم الدولة المدنية دون تعريف له أو تحديد لمدلوله ونطاقه‏,‏ فليس هناك تأصيل لما يسمي الدولة المدنية في النظرية السياسية المعاصرة‏,‏ ولا في الفكر السياسي‏,‏ اللهم إلا شذرات متناثرة لاتحمل معني محددا‏.‏ ففي الأدبيات السياسية والاجتماعية في العالم مفهوم محدد للمجتمع المدني‏,‏ ومفهوم معين للثقافة المدنية‏,‏ ولكن ليس هناك مايسمي دولة مدنية‏.‏وبدون تأصيل لما تعنيه هذه الدولة فلا مبرر لمطالبة بعضنا بالنص عليها في الدستور‏,‏ خصوصا أن المعني الشائع لكلمة مدني لدي معظم الناس هو أنها تقابل كلمة عسكري‏.‏ أما المعني التاريخي لكلمة مدني في الثقافة الغربية فقد تأثر بالثورة الصناعية والتغيير الذي أحدثته في حياة الأوروبيين‏.‏ وكان أحد أهم جوانب هذا التغيير هو الانتقال من المجتمع الزراعي الريفي إلي المجتمع الصناعي الحضري‏,‏ واكتسبت كلمة مدني مدلولها الأساسي في الثقافة والمجتمع من التحول التاريخي الذي ترتب علي ذلك التطور‏.‏ولذلك فإذا كان استخدام تعبير الدولة المدنية ضروريا‏,‏ فلابد من تأصيله وتحديد مدلوله ونطاقه ومقوماته بوضوح‏,‏ بحيث لايبقي تعريفه بالسلب فقط‏.‏ فالاستخدام الشائع لتعبير الدولة المدنية لايفيد سوي أنها ليست الدولة الدينية التي يرفضها مستخدموه‏.‏وكان هذا هو الدافع الأساسي وراء استخدام تعبير الدولة المدنية‏,‏ حين شعر البعض بأن مفهوم الدولة العلمانية لم يعد مقبولا‏,‏ وأن هناك سوء فهم شائعا له جعله سييء السمعة‏.‏ صحيح أن هناك من لايعتبرون تعبير الدولة المدنية مجرد صياغة أفضل من الدولة العلمانية‏,‏ ولكنهم لم يبلوروه نظريا‏,‏ ولم يبحثوا عن مرجعية له‏,‏ لأن الاكتفاء بالإحالة إلي دولة محمد علي لايفيد في ذلك‏.‏ فنظام هذه الدولة‏,‏ مثله مثل اتجاه بارز في الفكر العربي انتشر لفترة طويلة في القرنين الماضيين‏,‏ كان أقرب إلي التلفيق‏(‏ بين الدولة والدين‏)‏ منه إلي التوفيق الخلاق الذي يقوم علي حوار في العمق يقود إلي توافق علي العلاقة بينهما‏.‏ولأننا مازلنا في إطار فكر التلفيق‏,‏ وليس التوفيق والتوافق‏,‏ فقد وجد بعض دعاة الدولة الدينية الأمر سهلا للغاية فلجأوا بدورهم إلي تعبير الدولة المدنية علي أن تكون لها مرجعية إسلامية‏.‏ومثلهم مثل من استخدموا هذا التعبير بدون ربطه بمرجعية معينة‏,‏ ولكن فهم أن مرجعيتهم علمانية أو شبه علمانية‏,‏ لم يبذل الذين لجأوا إليه كبديل عن تعبير الدولة الدينية جهدا لبلورته أو تقديم أي تأصيل له‏.‏ولذلك تظل الأسئلة الأساسية التي يثيرها الحديث عن دولة مدنية ذات مرجعية إسلامية بلا إجابة‏.‏ ومنها‏,‏علي سبيل المثال لا الحصر‏,‏ كيف يتم تجسيد المرجعية عمليا ونظاميا‏,‏ ومن يعبر عنها وكيف‏.‏وهل ستجسد في هيئة مابعينها‏,‏ وأي صورة ستكون عليها‏,‏ وكيف يتم اختيار أعضائها‏,‏ وأي علاقة ستقام بين هذه المرجعية والأزهر الشريف‏,‏ وما موقع هذه الجامعة الإسلامية العريقة أصلا في الدولة المدنية ذات المرجعية الدينية؟ فهذه الأسئلة‏,‏ وغيرها كثير‏,‏ تكشف أن الحديث عن دولة مدنية ذات مرجعية إسلامية هو مجرد شعار فضفاض مثله مثل الكلام عن دولة مدنية بلا مرجعية‏.‏وسواء قدم أصحاب تعبير الدولة المدنية‏,‏ سواء هذه أو تلك‏,‏ تأصيلا للمقصود بها واضحا ومحددا‏,‏ أو لم يقدموا‏,‏ فعلينا أن نعمل من أجل بناء توافق وطني علي مقومات الدولة الديمقراطية انطلاقا من مفاهيم أساسية مثل المواطنة والتعددية واحترام الآخر وحكم القانون في إطار المباديء العامة للإسلام والخبرات المتراكمة للممارسة الديمقراطية في العالم والاتجاهات الرئيسة في الشرعية الدولية لحقوق الإنسان‏,‏ فإذا توافقنا علي ذلك‏,‏ فلن نكون في حاجة إلي أن نسمي الدولة الديمقراطية المعبرة عن هذا التوافق دولة مدنية‏.‏ يكفي أن تكون دولة ديمقراطية‏.‏

السلطــــة والتيـار الإسلامي

ســــــباحـة مؤقتــة ضـــد التيـــــــارــ أهرام الثلاثاء 23/1
بقلم‏:‏ فهمـي هـويـــدي
ما رأيكم دام فضلكم في وقفة لالتقاط الانفاس نحاول فيها اختبار قدرتنا علي احتمال الرأي الآخر في مسألة علاقة السلطة بتيار الاسلام السياسي بما يدفعنا إلي تفكير آخر ينطلق من الحرص علي احلال السلام والوئام محل الفتنة والضغينة والخصام‏(1)‏ أدري أن هذه دعوة للسباحة ضد التيار فنحن في زمن اذكاء نار الغضب واستعراض فنون التحريض والتشهير والهجاء‏.‏ حتي يبدو أن المطلوب هو تأجيج الحرائق وليس اطفاؤها واثارة المخاوف وليس تهدئة الخواطــر‏.‏ ولأننا صرنا بصدد معركة اعتبـرها البعض فاصـلة وحاسمــة ولأنه لا ينبغي أن يعلو صوت فوق صوت المعركة فإن هذا الذي ادعو إليه يغدو انفصالا عن الركب وتغريدا خارج السرب‏.‏ وفي أحسن فروضه فإنه يعد من قبيل الأذان في مالطة‏!‏ليت الأمر يقف عند هذا الحد لأن عاقبة الأذان في مالطة تظل محتملة في أسوأ حالاتها إذ لن تتجاوز حدود انصراف السامعين واستغرابهم للضجيج الذي يحدثه المؤذن‏.‏ ولكن العواقب مختلفة في الحالة التي نحن بصددها بوجه أخص‏.‏ لأن‏'‏ المؤذن‏'‏ إذا ما رفع صوته بمثل الدعوة التي أشرت اليها فأنه سيكون كمن وضع إصبعه في عش الزنابير‏.‏ وسيصبح ضحية للسعات كل الزنابير التي سوف يستثيرها ذلك‏'‏ العدوان‏'.‏ أعني أنه سيصبح هدفا لسيل الاتهامات التي لن تحفظ له حرمة ولن ترعي فيه إلا ولا ذمة باعتبار أن الكلام عن تهدئة الخواطر في خضم معركة من ذلك القبيل انتظرها البعض طويلا وتنافس كثيرون في الاحتشاد والاستنفار والتعبئة لأجلها واعتاش آخرون من تسويقها علي مر الأزمنة في مختلف دوائر القرار‏.‏ مثل هذه الدعوة سوف تعد في نظرهم جريمة لا تغتفر‏.‏في إعلامنا الآن‏'‏ مكارثية‏'‏ جديدة علي حد قول زميلنا خيري رمضان ـ تصم كل من يختلف في الرأي أما بأنه‏'‏ أخواني‏'‏ أو أمن‏.‏ والهدف من ذلك هو أثاره حالة من الفزع تكمم الأفواه ولا تجعلنا نسمع إلا صوتا واحدا‏.‏ هذه العبارة ليست من عندي ولكنها وردت في تعليق كتبه زميلنا الاستاذ خيري رمضان‏_‏ وهو أحد الناقدين للإخوان‏_‏ في صحيفة‏'‏ مصر اليوم‏'_(‏ عدد‏16/1)‏ وقد خلص إليها بعد أن روي القصة التالية‏:‏ ذات يوم نشرت إحدي الصحف تصريحات مثيرة وصادمة لنائب مرشد الأخوان الدكتور محمد حبيب حول الأقباط واستنساخ التجربة الإيرانية في مصر‏.‏لكنه نفي تلك التصريحات في برنامج تليفزيوني‏.‏ وفي يوم تال استضاف التليفزيون المصري رئيس تحرير الصحيفة المذكورة ومحرره ادعت أن الكلام الذي تم نفيه مسجل علي شريط لديها‏.‏ وحين تمت إذاعة بعض مقاطع م التسجيل‏_‏ والكلام لخيري رمضان‏_‏ كانت المفاجأة أن الرجل لم يقل الكلام الذي نسب إليه وبدا حريصا جدا في تصريحاته‏.‏ المفاجأة الأكبر‏_‏ أضاف زميلنا‏_‏ أن الجميع تجاهلوا ما جاء علي لسان الرجل‏.‏ وتعاملوا مع ما نشر علي أنه الحقيقة الكاملة‏.‏ أما الأغرب فأن المشاركين في البرنامج لم يتوقفوا و استمروا في الهجوم علي آراء الدكتور حبيب التي لم يقلها‏!‏‏(2)‏ لا أعرف كيف يمكن للمرء وسط حملة التعبئة المضادة أن يقنع المتلقي بأنه لا يدافع عن الإخوان علي وجه التخصيص وإنما يدافع عن استقرار الوطن وسلامه الاجتماعي من خلال الدفاع عن حق تيار أصيل فيه لممارسة حريته في التعبير والمشاركة في إطار القانون وحمايته‏.‏ وهو دفاع موصول في جوهره بقضية إطلاق الحريات العامة في المجتمع التي تهدد بتقليصها التعديلات المقترحة للدستور علي النحو الذي أفاض فيه بعض الكتاب الشرفاء‏.‏قبل نحو عشرين شهرا‏_‏ في‏24/5/2005_‏ نشرت مقالة في هذا المكان تحت عنوان‏'‏ التدرج هو الحل‏'‏ قلت فيها ما نصه‏:‏ أن ثمة شواهد عدة توحي بأنه تم تجاوز السؤال‏'‏ هل‏'‏ يستوعب التيار‏(‏ الاسلامي ضمن الخريطة السياسية‏)‏ أم لا واستبدل باسئلة مغايرة في اتجاه آخر من قبيل كيف ومن ومتي‏.‏ ذلك أن تجربة نصف قرن في مصر دلت علي أن ثمة حقيقة يتعذر تجاهلها وهو أن ذلك التيار موجود علي خريطــة الواقع وأن التعامل معــه في اطــار الشرعية اقل كلفة بكثير من المغامرة بابقائه خارجها‏.‏حين قلت هذا الكلام لم أكن متفائلا بالمستقبل وحسن الظن به فحسب ولكني كنت مدركا أن مثل ذلك الاحتواء ممكن في ظل الدستور استنادا إلي ما قرره فقهاء القانون وما قضت به هيئة مفوضي مجلس الدولة في تقرير شهير لها أعد في عام‏91.‏ وهذا التقرير له قصة خلاصتها أن أحد الدعاة‏(‏ السيد يوسف البدري‏)‏ تقدم لتأسيس حزب باسم‏'‏ الصحوة‏'‏ ولكن لجنة الأحزاب رفضت طلبه‏.‏ فطعن في القرار أمام مجلس الدولة عام‏89.‏ وحين عرض الموضوع علي هيئة المفوضين التي كان يرأسها وقتذاك نائب رئيس المجلس المستشار طارق البشري فانها خلصت من بحثه إلي ما يلي‏:‏أن الباب الأول من الدستور المصري أورد مجموعة من المواد التقريرية والتوجيهية في مقدمتها النص علي أن الاسلام دين الدولة وأن مبادئ الشريعة الاسلامية تمثل المصدر الرئيسي للتشريع‏.‏ وثمة نصوص اخري تعلقت بطبيعة نظام الدولة وأشارت إلي ممارسة الشعب لسيادته وحمايته وصونه للوحدة الوطنية‏..‏إلخ‏.‏في الفقه القانوني فإن الأحكام التقريرية والتوجيهية للدستور‏.‏ لا يراد بها فقط تثبيت الملامح القائمة ولكنها ايضا ترسم سياقا وحركة لمستقبل نشاط مؤسسات الدولة والمجتمع بأسرها‏.‏ كما أنها تجدد المقاصد العامة لأصول الشرعية التي تقوم عليها الدولة والمجتمع‏.‏لما كان من المسلم به أن المشرع متنزه عن التناقض والعبث في صياغته لمواد الدستور فينبغي أن نسلم بناء علي ذلك بأنه عندما يورد واجبين فإن الضدية مرفوعة بينهما‏.‏ بمعني أن الدستور حين أورد في صميم أحكامه التوجيهية أن الاسلام دين الدولة وأن الشريعة المصدر الرئيسي للتشريع و أورد كذلك أن الوحدة الوطنية أمر يتعين تأكيده وصيانته وابعاد ما يهدده فذلك مما له مغزاه بالغ الأهمية‏.‏ إذ أنه يقودنا إلي القول بأنه لا منافاة ولا تعارض بين الإسلام والشريعة الاسلامية من جانب وبين الوحدة الوطنية‏(‏ أو حق المواطنة‏)‏ من جانب آخر‏.‏إن الدستور حين يقر في صدر احكامه بإسلامية الدولة ويقر بالشريعة الإسلامية كأصل للشرعية ـ كما ذكر في تقرير المفوضين ـ فلا يصح في الافهام القول بأن الدستور ينظم وضعا طائفيا لأن الدستور هو أول تعبير تشريعي عن الأصول المرجعية للمجتمع‏.‏ واذا كانت الاسلامية لا تعبر في الدستــور عن وضع طائفي فإن ما ورد في قانون الأحزاب من حظــر قيام الحزب علي اساس طائفي‏(‏ أو غيره‏).‏ لا يشكل حظرا متعلقا بالدعوة الإسلامية المجتمع أو الدولة المنصوص عليه والمقرر بالدستور ذلك أنه لا يصح باي معيار أن يمنع قانــون الأحزاب ما أوصت به وارشدت أحكام الدستور‏.‏أن قانون الأحزاب الذي حظر قيامها علي اسس طائفية أو طبقية نص ايضا‏(‏ في مادته الرابعة‏)‏ علي ألا تعارض مبادئ الحزب واهدافه مبادئ الشريعة الاسلامية التي هي المصدر الرئيسي للتشريع‏.‏ و لا يصح في العقول أن يحظر القانون الأمر ونقيضه‏.‏ فيحظر التعارض مع الشريعة الإسلامية ويحظر الدعوة إلي نظم يستخلص منها أو يحظر الدعوة إلي تطبيقها‏.‏‏(3) ‏هذه القراءة القانونية تزيل التباسا شائعا لدي كثيرين يتعلق بموقف الدستور والقانون من شرعية استيعاب تيار الاسلام السياسي ضمن الخرائط الراهنة‏.‏ ليس ذلك فحسب وإنما تكشف تلك القراءة عن مدي غرابة أحد التعديلات المقترحة للدستور ذلك الذي يدعو إلي اضافة فقرة في مادته الخامسة تقرر حظر أي نشاط سياسي أو حزبي او قيام الاحزاب علي أساس الدين أو الجنس أو الاصل‏.‏ الامر الذي يعني مصادرة أي نشاط سياسي أو حزبي يدعم المقومات والمبادئ الاساسية للمجتمع المصري المنصوص عليها في الدستور‏.‏ بدءا من مادته الثانية التي تنص علي أن الاسلام دين الدولة ومبادئ الشريعة المصدر الاساسي للتشريع وانتهاء بالمادة التي تنص علي المساواة بين الرجل والمرأة دون اخلال باحكام الشريعة الاسلامية والمادة‏19‏ التي تنص علي أن التربية الدينية مادة اساسية في مناهج التعليم العام‏.‏ بل ان احد النشطاء سألني بعد قراءة الاضافة المقترحة عما اذا كانت تحظر استخدام النصوص القرآنية في التعبئة لمقاومة اسرائيل أو التصدي للاحتلال باعتبار ذلك‏'‏ نشاطا سياسيا‏'‏ علي اساس من الدين‏.‏أننا اذا اخذنا الأمور علي محمل الجد وفحصنا خلفيات الحظر بنزاهة وموضوعية فسنجد أن خلفيات الحظر المفروض وثيقة الصلة بالحسابات والملاءمات السياسية ولا سند قوي لها من الاعتبارات الدستورية والقانونية‏.‏وإذا جاز لنا أن نسمي الأمور بمسمياتها الحقيقية فلا مفر من الاعتراف بأن ثمة تراكما استمر عدة عقود أفرز حالة من التخوف وأزمة الثقة بين السلطة وتيار الإسلام السياسي‏.‏ ومن جراء هذه الأزمة ظل المجتمع المصري يعاني من التوتر وعدم الاستقرار طيلة نصف القرن الأخير علي الأقل‏.‏ وليس هناك عاقل مخلص لهذا البلد يؤيد استمرار هذه الحرب وتأبيدها الأمر الذي يفر ضرورة البحث عن مخرج من هذه الأزمة التي تبين أن نهج السحق والاستئصال لا يجدي فيها و إنما يوسع من دائرة التعاطف مع التيار الاسلامي‏.‏هذه الثقة المنشودة لا بد لها من ارادة اولا ثم سعي من الجانبين ثانيا يبادر اليه تيار الاسلام السياسي باثبات حسن النية وسلامة القصد‏.‏ في هذا الصدد فأن استمرار محاكمة ذلك التيار بسبب اخطاء وقعت قبل‏60‏ أو‏50‏ عاما تم تجاوزها بعد ذلك تظل من قبيل التنطع الذي يضمر سوء النية ويسعي الي تعميق الأزمة وليس الي تجاوزها‏.‏ واستحي أن اقول أن تطبيع العلاقات مع اسرائيل لا ينبغي له باي حال أن يكون ايسر من تطبيع العلاقات فيما بين السلطة والتيار الاسلامي‏.‏‏(4)‏ بقيت عندي كلمتان اختم بهمــا الأولي أنني غير مصدق أن بلدا بحجم مصر وثقلها وبقوة سلطة الدولة فيها تستبد به المخاوف في التعامل مع ذلك الملف في حين تجاوزت العقدة دول اخري كثيرة حولنا احتوت التيار الاسلامي ولم تر فيه‏'‏ الفزاعة‏'‏ التي يصر البعض علي تخويف الناس بها‏.‏ وهو ما نجحت فيه دول مثل المغرب والجزائر وموريتانيا والكويت واليمن والأردن ولبنان إلي جانب تركيا وباكستان وماليزيا وإندونيسيا‏.‏ وهو ما يدعو إلي التساؤل ماذا عندهم اكثر منا وافضل بحيث نجحوا فيما فشلنا فيهالكلمة الثانية تتعلق بسيل الدراسات والحوارات التي تجريها الدوائر البحثية الغربية حول الموضوع واحدثها ندوة دعا اليها معهد واشنطون قبل شهرين‏(‏ في نوفمبر الماضي‏)‏ وكان عنوانها‏'‏ الوسائل البديلة لمواجهة الاسلاميين عبر صناديق الاقتراع‏'.‏ بلا استثناء فإن هذه الدراسات لم تعبر عن اي سعادة بوجود ظاهرة الاسلام السياسي ناهيك عن تنامي حضوره لكنها انطلقت من استحالة استئصاله والقضاء عليه ودعت جميعها الي احتوائه ومحاولة اضعافه بوسائل شتي منها تقوية منافسيه واستمالة عناصره الجديدة‏.‏ ولم يكن لدي تفسير لهذا الموقف سوي أن هؤلاء يحاولون استخدام عقولهم دون هراواتهم ويجعلون السياسة حاكمة للأمن وليس العكس‏.‏

Monday, January 22, 2007

التعديلات الدستورية: «جهاز مدعي عام الإرهاب»


بقلم ضياء رشوان ـ المصري اليوم ــ ٢٢/١/٢٠٠٧
لا تتوقف المخاطر السياسية والدستورية التي سوف تتسبب فيها التعديلات الدستورية المقترحة من رئيس الجمهورية ورئيس الحزب الوطني الحاكم عندما ذكرناه في المقالات الثلاثة السابقة، من إيجاد تعارضات جذرية بين بعضها وبين مواد أخري قائمة في الدستور، وتمهيد الطريق «دستورياً» أمام اغتصاب السلطتين التنفيذية والتشريعية بتزوير الانتخابات وتوريث مقعد الرئاسة،
وتخريب الحياة الحزبية وإفسادها بعقد صفقات أقل ما توصف به أنها "غير مبدئية" بين الحزب الحاكم وبعض أحزاب المعارضة الرئيسية من أجل تمرير تلك التعديلات، بل إن تلك المخاطر تمتد إلي تهديد حرية وأمن كل المواطنين المصريين بما تقترحه من نص دستوري جديد يختص بمكافحة الإرهاب.
فقد ورد في رسالة الرئيس للبرلمان حرفياً: إن إقامة نظام قانوني يختص بمكافحة الإرهاب وتجفيف منابعه ليكون بديلا تشريعيا لمكافحة هذا الخطر دون حاجة لتطبيق قانون الطوارئ، تتطلب حماية دستورية تستظل بها الإجراءات التي يتطلبها ذلك النظام،
وهو ما يقوم سبباً لكي يتضمن الدستور بين مواده ما يسمح للمشروع بفرض إجراءات خاصة بمكافحة الإرهاب علي نحو يسترشد بما استقرت عليه دول العالم في قوانين أفردتها لذلك. ولذلك أطالب بوضع عنوان بديل للفصل السادس وبإحلال نص جديد بدلا من نص المادة ١٧٩ التي طلبت إلغاءها، يسمح للمشرع بفرض الأحكام الكفيلة بحماية المجتمع من الإرهاب،
وبحيث لا تحول الأحكام الواردة في المواد ٤١ الفقرة الأولي و ٤٤ و٤٥ الفقرة الثانية، دون قدرة إجراءات مكافحة الإرهاب علي التصدي لأخطاره وآثاره الجسيمة، مع التأكيد علي أن يكفل القانون تحديد رقابة قضائية علي تلك الإجراءات وذلك بما يضمن التصدي بحزم لخطر الإرهاب ويدفع أي عدوان أو مساس غير مبرر بحقوق الإنسان، مع إتاحة سبيل لسرعة الفصل في قضايا الإرهاب.
ويبدو واضحاً من تلك الرسالة أن ذلك التعديل يستهدف، من حيث المبدأ، الإطاحة لصالح مادة مكافحة الإرهاب المقترحة ببعض من أبرز الحريات الأساسية القائمة للمواطن اليوم في المواد الثلاث المشار إليها، والذي يعطي المادة الجديدة المقترحة الأولوية عليها. وحتي لا يتحول الأمر إلي مجرد اجتهاد أو تأويل في تفسير النصوص، فإن تلك المواد المراد إيقاف العمل بها لصالح المادة الجديدة تنص علي التالي:
أولاً الفقرة الأولي من المادة ٤١: «الحرية الشخصية حق طبيعي وهي مصونة لا تمس، وفيما عدا حالة التلبس لا يجوز القبض علي أحد أو تفتيشه أو حبسه أو تقييد حريته بأي قيد أو منعه من التنقل إلا بأمر تستلزمه ضرورة التحقيق وصيانة أمن المجتمع، ويصدر هذا الأمر من القاضي المختص أو النيابة العامة،
وذلك وفقا لأحكام القانون». أما المادة ٤٤ فتنص علي أن: «للمساكن حرمة فلا يجوز دخولها ولا تفتيشها إلا بأمر قضائي مسبب وفقا لأحكام القانون». وتنص الفقرة الثانية من المادة ٤٥ علي أن: «للمراسلات البريدية والبرقية والمحادثات التليفونية وغيرها من وسائل الاتصال حرمة وسريتها مكفولة، ولا تجوز مصادرتها أو الاطلاع عليها أو رقابتها إلا بأمر قضائي مسبب ولمدة محددة ووفقا لأحكام القانون».
ولا يتوقف الخطر عند تلك الإطاحة بكل هذه الحقوق الإنسانية والدستورية الأساسية لعموم المصريين، بل يمتد لأبعد من ذلك حسب نصوص رسالة الرئيس إلي «إقامة نظام قانوني يختص بمكافحة الإرهاب وتجفيف منابعه»، يحمل عنواناً بديلاً للفصل السادس من الباب الخامس للدستور بدلاً من عنوانه الحالي المدعي العام الاشتراكي، بما يضمن إتاحة سبيل لسرعة الفصل في قضايا الإرهاب.
وتؤدي تلك المؤشرات الواضحة إلي الاستنتاج بأن النية تتجه إلي إقامة نظام قانوني كامل قد يحمل في الدستور عنوان «مدعي عام الإرهاب» ويمهد نص المادة المقترحة له لتشريع قانوني يصدر بعد ذلك، لينشئ جهازاً قضائياً كاملاً علي غرار جهاز المدعي العام الاشتراكي بما في ذلك جهات التحقيق والمحاكم الخاصة اللتان تضمنان حسب كلمات الرئيس «سرعة الفصل في قضايا الإرهاب».
أي ببساطة سنكون أمام نظام قانوني استثنائي كامل مواز للنظم القانونية الطبيعة القائمة بما يعصف بصورة دائمة بالحق المقرر في المادة ٦٨ من الدستور التي تنص علي أن: «لكل مواطن حق الالتجاء إلي قاضيه الطبيعي»، ويخلق تعارضاً إضافياً بين المواد المقترحة والمواد القائمة في الدستور.
وقبل أن يطرح الحزب الحاكم حججه في شأن نص المادة ١٧٩ وتفاصيل ذلك الجهاز القضائي الاستثنائي، نبادر منذ الآن بالقول إن أبرز تلك الحجج سيكون القول بأن فرنسا وبعض الدول الغربية تعرف نظام القاضي المختص بالتحقيق في قضايا الإرهاب، متناسية أن الأمر هناك يقتصر علي التحقيق في حين تتم جميع إجراءات ومراحل المحاكمة والتقاضي أمام القضاء الطبيعي المنوط به حسب اختصاصه، النظر في الدعاوي المختلفة المرتبطة بالاتهام بالإرهاب.
ولن تقف المخاطر والمآسي عند ذلك، فسوف يظل قانون الطوارئ الصادر عام ١٩٥٨ قائماً إلي جانب قانون الإرهاب وجهازه القضائي الجديد، ينتظر أي قرار من أي رئيس للجمهورية أو من أي مجلس للشعب بإعلان حالة الطوارئ وتطبيقها إلي جانب قانون الإرهاب، وعندها سيكون للسلطة التنفيذية أن تختار المحاكم التي تحيل إليها المواطنين في أي اتهام: محاكم الإرهاب أو محاكم أمن الدولة أو المحاكم العسكرية. فأبشروا يا أبناء مصر بهذه الحرية الواسعة في اختيار قاضيكم!!!

تقييم مقارن لديكتاتوريتي «صدام» والإدارة الأمريكية


بقلم د.محمد رؤوف حامد ( المصري اليوم) ٢٢/١/٢٠٠٧
إذا كانت مفاجأة إعدام صدام حسين، قبل صلاة عيد الأضحي بدقائق، قد أصابت ملايين العرب والمسلمين بصدمة، فضلاً عن عدم رضا الاتحاد الأوروبي والعديد من القيادات الرسمية والشعبية في جميع أنحاء العالم، رغم الاختلاف في خلفياتهم وأسبابهم، فإن التقييم الاستراتيجي لهذا الحدث (بمعني ما يعكسه وينميه من مفاهيم ورؤي، وما تنتج عنه من تداعيات محلية وإقليمية وعالمية، قصيرة وطويلة الأجل)، هو في تقديرنا أكثر أهمية وخطورة بكثير عما وقع من صدمة عميقة وليس مجرد إعدام ديكتاتور.
رغم أن هذا الحدث يبدو من الناحية المادية المحضة، كأنه مجرد إعدام ديكتاتور كان رئيساً سابقاً لدولة، فإنه يعتبر - من وجهة نظرنا - من أكثر ممارسات الإدارة الأمريكية شراسة منذ قنبلتي هيروشيما ونجازاكي، أي علي مدي أكثر من ستين عاماً.
وقبل التطرق إلي التحليل التقييمي للموضوع، نجذب انتباه القارئ إلي أمرين:
الأمر الأول: أن ثلاثة عوامل «أو حقائق» رئيسية تشكل الإطار المرجعي لهذا التحليل:
(أ) وضوح الهيمنة العليا والكاملة للإدارة الأمريكية، فيما يتعلق بظروف ومسارات المحاكمة وقرار الإعدام وتوقيت التنفيذ.
(ب) ما ظهر علي «ومن» صدام من سلوكيات، أثناء المحاكمة (من حيث المظهر أو القول أو الفعل)، وهو ما تأكد بعد ذلك، مما نقل بواسطة شهود العيان عن سلوكه، أثناء تنفيذ عملية الإعدام (نقصد - مؤقتاً - ثباته).
(جـ) تسارع حدة وإيقاع التدهور في أوضاع الشارع العراقي، وبدء مظاهر دخوله في حرب أهلية.
وعن الأمر الثاني، فهو أن موقفنا تجاه صدام، لم يكن في صفه مطلقاً، نظراً لديكتاتوريته، وقد كانت هناك إشارة وحيدة تعرضنا فيها لسلوكه، جاءت في إطار تحليلنا لجدلية الفكر والقوة، حيث أشرنا إلي نموذج صدام كأحد النماذج الشارحة للتحليل (المستقبل بين الفكر والقوة - المكتبة الأكاديمية - ٢٠٠٦). كان ذلك في عبارة واحدة وهي «صدام حسين العراق: كان تسارعه إلي فكر القوة أعلي من معدل اقترابه من مجال قوة الفكر، فحدث ما حدث».
أما عن الأهداف والرغبات الرئيسية وراء القرار الأمريكي (بخصوص مسار المحاكمة والإعدام والتوقيت) فتتمثل في تقديرنا فما يلي:
١ - رفع الحدة وزيادة العمق للعداء بين المسلمين وبعضهم (سنة وشيعة) إلي أقصي حد ممكن (في العراق وفي الشرق الأوسط وفي العالم أينما وجدوا)، بحيث تنتج عن ذلك حرب طائفية قاسية وقاصمة.
٢ - تحقيق مصالح كبري للإدارة الأمريكية، من جراء الحرب الطائفية، وعلي رأسها تعويم الصراع العربي - الإسرائيلي، وتعظيم الوجود الشرعي لإسرائيل، ودورها في المنطقة، وإتمام فرض الهيمنة علي ثروات المنطقة (من بترول وإمكانات جغرافية وسياسية).
٣ - تحدي (وتصغير حجم) القوي العظمي الأخري الممكنة في العالم (الكتلة الأوروبية - روسيا - اليابان - الصين)، بحيث ينجم عن ذلك تكبير مساحة حركة الإدارة الأمريكية، في اتجاه زيادة تشويه وتعقيد العلاقات الدولية لصالحها.
٤ - من خلال إنجاز الهدفين السابقين، فإن الإدارة الأمريكية تخلق ترتيبات جديدة، تكون من شأنها تقوية قدراتها علي القيام بعمليات تحريض وفتنة وإرهاب، تعرقل بها الصحوة التنموية المتسارعة داخل أمريكا اللاتينية، وتزيد بها من إمكانات السياقات المقلقة لروسيا والصين.
وهكذا، أحسنت الإدارة الأمريكية الاستفادة إلي أقصي حد من الخاصية التي أشرنا إليها من قبل عن صدام حسين، التي تتمثل في أن «تسارعه إلي فكر القوة كان أعلي من معدل اقترابه من مجال قوة الفكر».
الجدير بالانتباه هنا فيما يتعلق بالخاصية المشار إليها، أنه بعد هزيمة الجيش العراقي، وإلقاء القبض علي صدام، فإن وضعية جديدة في شخصية هذا الديكتاتور قد طرأت.
لقد نزعت عن الرجل جميع عناصر القوة، التي كان يحكم من خلالها (الحرس الجمهوري - الحزب - الرئاسة - الجيش... إلخ)، وأصبح أسيراً ومتهماً.. نتيجة لذلك زال فكر القوة عنه، وفي الوقت نفسه حدث بالتوازي (أي بعد سقوطه ثم أثناء محبسه) أن بدأ ينمو لديه الفكر الموضوعي، بعيداً عن السلطة التي كان فيها، وبعيداً (بل في مواجهة) المناورات الدبلوماسية الأمريكية التي كانت قد ساهمت في تأجيج دكتاتوريته.
وهكذا، بنمو الفكر الموضوعي لديه في محبسه، فإن قوة الفكر فيه «والمعاكسة لفكر القوة» أصبحت متاحة للبزوغ والتشكل، لقد نمت لديه قوة الفكر، بعد أن تلاشت عنده قوة النفوذ والسلطة.
المسألة إذن أن صدام حسين في محبسه وبعد تجاربه مع الإدارة الأمريكية قد تحول إلي فكر موضوعي ناقد.
إن إعادة تقييم صورة وأحوال صدام حسين فترة المحاكمة من حيث المظهر (التماسك ـ عدم الانهيار ـ الحرص علي القرب من كتاب القرآن الكريم)، ومن حيث القول، خاصة اتهاماته للإدارة الأمريكية وللمحكمة، ومطالبته الشعب العراقي بمحاربة العدو الأمريكي وبتجنب الطائفية»، وكذلك من حيث الفعل، «خاصة نظام حياته داخل المحبس، وممارسة الرياضة، وحكمته في قوله للشاب الذي جذبه بقوة وعنف أثناء اقتياده إلي حجرة الإعدام: سامحك الله يابني، ذلك في نفس وقت مواجهته عملية الإعدام بشجاعة منقطعة، ورفضه تغطية وجهه أثناء الشنق، وكذلك إصراره وتركيزه علي أن تكون آخر كلماته ـ بينما الحبل حو رقبته ـ الهتاف من أجل حرية الشعب العراقي وضد العدوان الأمريكي، ثم ذكر الشهادة».
هذا، وربما يجدر هنا أن نقارن بين السلوك الشجاع الأخير لهذا الديكتاتور السابق وسلوك بعض حكام أوروبا الشرقية لحظة سقوطهم.
ربما في معرض كل ذلك يمكن استنتاج ما يلي:
أولاً: أن شراسة الهيمنة الأمريكية وما يتبعها من سلسلة تتابعات التفرقة والفتنة والعسكرة في شتي بقاع العالم، تفوق بكثير جداً شراسة الممارسات الديكتاتورية لصدام حسين ولأي ديكتاتور معاصر آخر، ذلك لأنها الشراسة الناجمة عن أكبر رأسمال مهيمن في العالم.
ثانياً: يمكن التخوف من أن يكون رد الفعل الحادث عند الحكام في البلدان العربية والنامية في اتجاه الدخول (أو المزيد من الدخول) إلي بيت الطاعة الأمريكي.
ثالثاً: من الواضح أن صدام حسين كان صاحب رسالة، غير أن ممارسته لرسالته قامت علي فردية في الحكم، مما أدي إلي محوه فكر الآخرين، ومحو الفكر الموضوعي لديه بوجه عام، وهكذا، بحيث تقلص ذهنه في مجرد فكر القوة (فكر صادر عن سلطة ونفوذ)، الأمر الذي قاده إلي ضيق أفق وممارسات ديكتاتورية صرفة، وفي المقابل، في المرحلة الأخيرة من حياته (السقوط والمحاكمة)، لم يبق لدي الرجل من قوة النفوذ نسبياً وبدأ يكتسب منه قوة، الأمر الذي وضح في مظهره وأقواله وأفعاله أثناء محاكمته، كما تجلي في شجاعته لحظات إعدامه.
لقد اكتسب صدام حسين قوة الفكر، لكن بعد فوات الأوان!!.

هوامش سريعة


بقلم أكمل قرطام ـ المصري اليوم ... ٢٢/١/٢٠٠٧
.. إذا لم يكن للمواطنين رأي في الشأن السياسي، فلا ننتظر خيرا من المجتمع، فالتعديلات الدستورية ما هي إلا مادة خام لصناعة الإصلاح السياسي، فإذا غاب رأي المواطنين عنها فإن الصناعة الرديئة هي التي سوف تنتشر، وإنني أتمني علي المواطنين في كل ربوع مصر أن يدلوا بدلوهم ويعبروا عن رأيهم في هذه التعديلات عند خروجها للاستفتاء، فالتاريخ الذي تصنعه أمة هو أقدر علي الاستمرار من تاريخ تصنعه حفنة قليلة منها.
.. إذا ما أخذ الدستور بإشراف هيئة مستقلة علي الانتخابات فلابد أن يضمن كفالة الاستقلال التام لها وللقائمين عليها، وأن يتم تعيينهم أو فصلهم أو مكافأتهم المادية، دون تدخل أو علاقة بالسلطة التنفيذية، ويتعين أن يحدد الدستور كيفية اختيار أعضاء هذه الهيئة كأن يكون عدد من قضاة المحكمة الدستورية وعدد من قضاة محكمة النقض وعدد من القضاة ـ حاليين أو سابقين ـ يتم انتخابهم بمعرفة الجمعية العمومية للسلطة القضائية.
.. المواطنة لا تفرق بين مسلم وقبطي، والشريعة الإسلامية تضمن للأقباط حقوقهم كما تضمنها للمسلمين لا تفرق بينهم، فلماذا يري البعض أن هناك تصادما بين النص الحالي الذي يقول: إن الإسلام هو الدين الرسمي للدولة ومصدر التشريع فيها.. وحقوق المواطنة؟ فهل منعت هذه المادة الإخوة الأقباط من التمتع بحقوق المواطنة يوما ما؟ سؤال يجيب عنه التاريخ، تجيب عنه ثورة ١٩١٩ وتجيب عنه حرب ١٩٧٣، ويجيب عنه قبل هذا وذاك طبيعة المجتمع المصري وسماحته.
.. المناقشة هي أفضل وسيلة لإعداد المسائل العامة وتنفيذها، وتحديد أفضل الوسائل أو أحسن النظم لا يمكن أن يتولد إلا عن جهد مشترك لأشخاص عديدين من اتجاهات مختلفة، والقسوة المتطرفة والأنانية المسرفة إذا تميز بهما الصراع الحزبي فإنه يؤدي إلي إعلاء كل فئة مصلحتها الخاصة فوق مصلحة الدولة نفسها.. فتصبح المناقشة مجلبة للضرر.
.. قوام حرية المواطن هو حقه الكامل في الإقناع والاقتناع، والحرية علي هذه الصورة تتضمن احترام القانون، فليس هناك إنسان مطلق الحرية، ولكنْ هناك فارق دقيق بين قيد يفرضه عليه غيره بطريقة تحكمية، وقيد آخر يأخذ هو به، لإحساسه بأن القانون عندما نص عليه إنما تضمن أمرا خليقا بالاحترام والطاعة، فالحرية تضمن حتما احترام القانون.
.. لعل أهم منطق يجب أن يسيطر علي التعديلات الدستورية الراهنة هو توسيع رقعة الحرية للمواطنين، وعلي المشرّع أن يتنبه لهذه الحقيقة من خلال العمل علي إطلاقها في الدستور نفسه، وألا يحيلها إلي قوانين منظمة، فالتجربة الماضية أسفرت عن أن القوانين غالبا ما تقيد الحريات إلي الحد الذي يفقدها مضمونها الأساسي الوارد في الدستور.
.. أخذت الدساتير المعاصرة بفكرة حرمة مبادئ الحرية واستقصائها علي التقييد من خلال القوانين، فالحريات من لوازم الصفات الأساسية للإنسان التي لا يستطيع تنظيمها إلا الدستور نفسه، ونتمني ألا نري في التعديلات الدستورية عبارة «علي أن ينظم القانون هذه الحريات» حتي لا يتخلي الدستور عن مكانته كقانون اسمي لصالح القوانين الأدني.
.. نشرت إحدي الصحف الحكومية مؤخرا دراسة مهمة قامت بها عدة جهات دولية عن مشكلات الشباب المصري وأظهرت الدراسة أن:
٧٢% من الشباب المصري لا يرون أملا في التطور السياسي في مصر، ٦٩% من الشباب غير مهتم أساسا بمتابعة الأحداث السياسية، ٧٧% من الشباب مهتم فقط بمتابعة الأحداث الفنية والرياضية، ٨٢% منهم لا يفكر إلا في الزواج وزيادة دخله المادي، ٦٧% منهم لا يزال يبحث عن فرصة عمل،٨٤% لا يفهم معني للنقاش الدائر حول التعديلات الدستورية الراهنة.
إن هذه النتائج الخطيرة تمثل الحالة التي وصل إليها شباب مصر والتي تستدعي تحركاً حكومياً عاجلاً فالشباب هم القوة الدافعة لحركة التطور في مصر، ومسؤوليته لا تقع في رقبة المجلس القومي للشباب فقط، وإنما تقع علي كاهل كل سلطات الدولة ومؤسساتها ووزاراتها أيضا.
.. انتفضت المنظمات غير الحكومية المعنية بالمرأة وعقدت العديد من الندوات والحلقات النقاشية، وورش العمل، حول وضع المرأة في التعديلات الدستورية الجديدة، وقدموا مئات المقترحات، والأفكار، حول كيفية ضمان حد أدني من المقاعد للمرأة في البرلمان (كوتا)، سواء كان ذلك في نطاق الدستور، أو القانون،
أو إلزام الأحزاب السياسية بتبني هذه «الكوتا» عند اختيار مرشحيها في الانتخابات، وحتي لا تتعارض هذه الأفكار مع بعضها، فلماذا لا يتم التنسيق من خلال المجلس القومي للمرأة، بحيث يخلص إلي ورقة عمل واحدة يقوم بتقديمها إلي مجلس الشعب حتي تأتي التعديلات الدستورية معبرة بحق عن مكانة المرأة في المجتمع المصري، فهن أقدر علي طرح رؤيتهن بدلا من أن تفرض التعديلات الدستورية عليهن وضعا قد لا يحقق طموحهن.
.. إخلاص القيادة السياسية للتعديلات الدستورية ليس محل شك، ولكن الكتابات الصحفية في الجرائد الحكومية والتي خرجت علينا مؤخرا تحاول أن تفسر لنا أهداف التعديلات الدستورية، وتروج في معرض تحليلها إلي أفكار لا يقبلها المواطن العادي ـ مثل تأبيد السلطة، وخضوع السلطة القضائية للسلطة التنفيذية،
وتسفيه الأفكار والآراء الأخري ـ تؤدي إلي الإضرار بالدولة وبأهداف التعديلات الدستورية المطروحة، لذا أعتقد أنه قد يكون من الضروري أن يصدر بيان رئاسي حول أهداف التعديلات الدستورية والمرامي التي تبتغي تحقيقها علي صعيد التنمية والديمقراطية من أجل إسكات هذه الأبواق الإعلامية التي تعبث في كل خطوة إيجابية تقوم بها الدولة تجاه المواطنين، وتؤدي إلي تشكك قطاعات منهم في إيجابية تلك التعديلات.. وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
.. الدستور هو وحي التشريعات التي تصدر لتنظم المجتمع، فإذا تفاعل الناس معه، وأدركوا أن تعليماته لخيرهم، يصبح ركيزة المجتمع التي لا غني عنها، وإذا أدركوا أو شعروا أنه لا يعبر عنهم أو عن مصالحهم فإنهم لا يتفاعلون معه وينصرفون عنه.. فيموت.. ويصبح إكرام الميت دفنه.

باخــتــصـــار !!


باختصار بقلم جيلان جبر ( المصري اليوم) ٢٢/١/٢٠٠٧
إسماعيل هنية، حسن نصرالله، مقتدي الصدر، والوجه الجديد شريف الشيخ أحمد «زعيم اتحاد المحاكم الإسلامية في الصومال»، بالإضافة طبعا لأحمدي نجاد رئيس إيران، وبشار الأسد رئيس سوريا، هؤلاء هم زعماء وشخصيات سياسية وقيادات تتحكم في المشهد السياسي من حولنا، بالإضافة إلي بعض المنظمات والتيارات المحظورة التي تنتظر أدوارها، ومنها عدد من الإخوان المسلمين، ومنهم المتطرفون سياسيا أو دينيا.
هناك من استطاع أن يثبت وجوده ويصنع شعبيته في المحافل والمنابر الشرعية، وذلك لا يعود للجودة السياسية التي يقدمها، ولكن يعود إلي ضعف التيارات المعتدلة الأخري وانعدام الأحزاب التي تحظي بقناعة وشعبية لتضاهي بها الجماعات المحظورة والشخصيات الموتورة، فمثلا هناك أحزاب تملك المال والقرار والحكومة، ولكنها تفتقد الشعبية لعدم التواصل مع المواطن البسيط، لذلك نجد القوي السياسية الشرعية هي المسؤول الأساسي لتوسيع دائرة الفشل في ظل ما تقوم به من أدوار سلبية للتعامل مع مشاكل احتياجات المواطنين والتخفيف عن أعبائهم بوعود لا تصل إلي تحقيق رغباتهم،
وبعد التدهور الكبير في السياسة الخارجية والمواقف الداخلية وجدنا الآن تحولات واضحة لاتجاه قلب التحالفات وتغيير قواعد اللعب، بداية من أمريكا وخطتها الجديدة، وجولة وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس التي تسعي بها لتأمين غطاء سني لاستراتيجيتها الحديثة في العراق بمشاركة أهل الخليج وعدد من العرب المعتدلين، فهذا التحالف في العراق يهدف إلي التخلص من مقتدي الصدر قائد جيش المهدي، ونوري المالكي رئيس الوزراء العراقي، والضغط من خلالهم علي حزب الله في لبنان وعلي حماس في فلسطين، وبدأنا نسمع الانتقادات وتراشقا بالكلمات بين رئيس الوزراء العراقي والرئيس الأمريكي جورج بوش لتطفو الشائعات علي السطح من تغييرات مطلوبة من المالكي بعد أن كانت ولايته سببا في زيادة ويلات بوش،
فخطة أمريكا القديمة هي تصعيد دور الشيعة وإحباط الدور السني، وقد كان جميع المهاجمين في ١١ سبتمبر من هذه الطائفة، وكانت إيران هنا بالمرصاد واستخدمت تحركات أمريكا لتنتقم من أعدائها من أفغانستان إلي العراق، حتي وصلت إلي الثأر من صدام، وبذلك تكون قد انتقمت من أعدائها الأمريكان أمام شعبها، كما استعرضت أجنحتها النووية لتحصل علي مكانتها الإقليمية حتي صدرت القرارات الدولية بالعقوبات، ونقلت السفن والأسلحة وحاملات الطائرات لمنطقة الخليج استعدادا لأي تحركات، فاكتشفت إيران أنه آن الأوان لتغيير الأوضاع وظهور النوايا الجديدة بداية برسالة ينقلها لاريجاني الرجل الثاني في النظام الإيراني، ويقدم إلي السعودية طلبا للتهدئة والوساطة وفتح صفحة للتسوية والتفاهم وإبداء التعاون،
ولتكملة الصورة، هناك شائعات إيرانية بوجود استياء واعتراضات داخلية، مما يؤدي لتغيير وزير الخارجية منوشهر متقي وعتاب لأحمدي نجاد في شكل إعلامي وبرلماني، إشارة لزيادة التضخم والبطالة وهبوط مؤشر سوق الأوراق المالية الإيرانية والتأخر عن إعلان الميزانية وانخفاض في الاستثمارات مع تخاذل واضح لروسيا والصين للدفاع عن إيران في العديد من المحافل الدولية، مع أنهما أقرب حلفائها، فجاءت الفرصة لكم يا عرب الآن لاحتواء إيران مقابل أن تقدم التهدئة في جميع الملفات التي تتحكم بها إن كانت حماس أو حزب الله أو في غيرهما من السودان إلي الصومال،
خصوصا أن سوريا مشغولة في البحث عن مخارج لها إما بالانتقال بين المواقف أو الانتقال في المواقع بين التشدد والتفاوض مع إسرائيل علي الجولان وإحياء عملية السلام مقابل اللعب علي أمن واستقرار المنطقة، لتؤكد أنها مازالت تملك مفتاح التهدئة مع الجيران إن كان في العراق أو لبنان، فاستقبلت أبومازن ومهدت له اللقاء مع خالد مشعل، وكثفت تشاورها مع العراق وقادة طهران، في المقابل مطلوب من الآخرين تمهيد العودة لها في الصف العربي قبل القمة العربية للعودة إلي المجتمع الدولي بعد القمة،
وإلا قد تجعل الوضع قابلا للتصعيد فالمساومة علي إطالة عمر النظام مطلوبة، والمحكمة الدولية مرفوضة حتي لو كان الثمن هو التدهور الكامل في الأوضاع، وباختصار فعلينا إدراك أن هناك الكثير من الشخصيات والأحزاب داخل وخارج النظام تحمل انتماءات غير مخلصة وولاءات متعددة والانتصار الشخصي يغلب علي المعتقدات الوطنية، كما أن البعض منهم يسعي لأن يزيل عزلته لاقتناص شرعيته حتي علي حساب أن يكون البؤس مصير كل مواطن والموت قدره الأساسي، وبالتالي وبسببهم فإن التوتر والإحباط يوزع علينا مجانا.

Sunday, January 21, 2007

اللجنة‏..‏ الهندية

أهرام 22/1
بقلم‏: د‏.‏ محمد السيد سعيد‏
تشتمل التعديلات الدستورية التي يبحثها مجلس الشعب علي فكرة إقامة لجنة تشرف علي الانتخابات العامة‏.‏وينسب أنصار التعديلات فكرة اللجنة الانتخابية إلي التجربة الهندية الناجحة‏.‏ وبالمقابل يخشي القضاة وبعض قادة الرأي في أن ينطوي تأسيس لجنة للانتخابات علي إلغاء أو تغيير طبيعة الاشراف القضائي المنصوص عليه في المادة‏88.‏ وأعتقد ان هذا القلق سيختفي تماما تقريبا لو أخذت التعديلات الدستورية المصرية بجوهر التجربة الهندية‏.‏فمما لاشك فيه أن ثمة حجية قوية للتجربة الهندية في إدارة الانتخابات العامة‏.‏ فالهند كما هو معروف اكبر ديمقراطية في العالم‏,‏ وهي قريبة منا باعتبارها دولة قائدة في العالم الثالث‏.‏ ويمثل استلهام التجربة الديمقراطية الهندية في الواقع الدستوري والمؤسسي في مصر حدثا ضخما بل وتحولا جذريا أن حدث واخذنا فعلا بمضمون الدور الذي تلعبه اللجنة الهندية للانتخابات وليس باسمها وحده‏.‏ لنبدأ بعرض هذا الدور لنعرف طبيعة ومضمون التجربة الهندية‏.‏سلطات اللجنةنشأت لجنة الانتخابات في‏25‏ يناير‏1950‏ تطبيقا لنص المادة‏324‏ من الدستور الهندي وخلال هذه الفترة الطويلة إدارت اللجنة اضخم عمليات انتخابية في العالم بقدر كبير ومتزايد من الأقتدار والنزاهة‏.‏ ويكفي أن نعلم أن عدد المصوتين في الانتخابات الأخيرة للبرلمان المركزي في الهند وصل إلي أكثر من‏670‏ مليون مواطن‏.‏ واحتاجت اللجنة إلي تشغيل خمسة ملايين موظف عام للاشراف علي عملية التصويت بقيادة‏300‏ موظف يعملون بصورة دائمة في أمانتها العامة‏.‏ ورغم ضخامة هذا الجهاز تعقد اللجنة الانتخابات العامة في عدد من الأيام في مختلف الدوائر وليس في يوم واحد كما تشير الاقتراحات المصرية الخاصة بالتعديلات الدستورية‏.‏ولكن هذا ليس الفارق الوحيد ولا الأهم‏.‏فاللجنة الهندية للانتخابات تتمتع وفقا للدستور بالولاية العامة علي الانتخابات البرلمانية في المستوي الوطني ومستوي الولايات فضلا عن انتخابات الرئيس ونائب الرئيس وهو مايعني بالتحديد الاشراف والتوجيه والسيطرة علي جميع أوجه عملية إدارة الانتخابات‏.‏ وتشمل هذه الولاية العامة والشاملة والكاملة أن تعد اللجنة وتحتفظ وتحدث الجداول الانتخابية وتشرف علي تسمية المرشحين وتسجل الأحزاب السياسية وتراقب الحملات الانتخابية بما في ذلك التمويل الانتخابي‏.‏ ومثل هذا الاشراف الشامل علي العملية الانتخابية بجميع أوجهها من جانب القضاء المصري أحد المطالب التاريخية للقوي الديمقراطية في مصر‏.‏ وليس عندي شك في أن المعارضة المصرية بمختلف تياراتها سوف تقبل بحماس صياغة معدلة للدستور إذا مكنت لجنة الانتخابات المقترحة في مصر من التمتع بهذه السلطات المتكاملة‏.‏ ويعني هذا التمكين اننا نحتاج لما يشبه الثورة في الفكر الانتخابي في مصر لو قررنا الأخذ بالتجربة الهندية‏.‏وعلي سبيل المثال فان اللجنة الهندية هي التي تسجل الأحزاب السياسية بينما يفوض قانون الأحزاب السياسية في مصر لجنة إدارية أخري تماما بالترخيص للأحزاب‏.‏ ويعني الأخذ بالتجربة الهندية الغاء لجنة الأحزاب ونقل اختصاصاتها للجنة الانتخابات‏.‏ثم أن لجنة الانتخابات الهندية تتمتع بالاستقلال التام عن الجهاز التنفيذي للدولة‏.‏ ولايجترح هذا الاستقلال في شئ أن رئيس الدولة في الهند هو الذي يعين المفوض العام‏(‏ أو الأساسي‏)‏ الذي يرأس اللجنة‏.‏ ذلك ان رئيس الدولة وفقا للدستور الهندي هو القائم علي وظائف السيادة وليس له علاقة بوظائف الحكم الا في الحالات الاستثنائية التي يطبق فيها قانون الطوارئ وفقا لنص المادة‏356‏ من الدستور‏.‏ حيث تقوم الحكومة المنتخبة بوظيفة السلطة التنفيذية وادارة الجهاز الاداري للدولة‏,‏ ولذلك يصبح المطلوب هو أن تقوم اللجنة بالتأكد ان الحزب الحاكم الذي يعبر عن الأغلبية في الانتخابات السابقة لن يؤثر أو يتلاعب بالانتخابات المقبلة لتشكيل حكومة جديدة‏.‏ أما في الدستور المصري فالرئيس يقوم بوظائف الحكم والسيادة معا ويتمتع بسلطات مطلقة تقريبا وتقوم الحكومة القائمة بالدور الفعلي في الاشراف علي الانتخابات العامة‏.‏وفضلا عن ذلك فان مفوضي اللجنة الهندية يتمتعون بنفس مكانة اعضاء المحكمة الدستورية من حصانات وامتيازات ضرورية لأداء وظائفهم بحياد ونزاهة‏.‏ كما أن توصياتهم وآراءهم تعد ملزمة دستوريا للرئيس الهندي‏.‏ ومقابل هذه السلطات الهائلة والضرورية لضمان النزاهة والحيادية فان هؤلاء المفوضين يمكن محاكمتهم من جانب البرلمان المركزي‏.‏التقاليد الانتخابيةووفقا للدستور الهندي تترجم اللجنة الانتخابية استقلالها وولايتها العامة علي الانتخابات العامة في أهم اجراء تتخذه علي الاطلاق وهو الاشراف علي جميع اجهزة الادارة والحكومة اثناء عقد الانتخابات العامة‏.‏ وأهم مايعنيه ذلك هو أن تسيطر اللجنة تماما علي جميع القوات شبه العسكرية وقوات البوليس فضلا عن جميع أملاك الحكومة وموظفيها‏.‏ ويشكل هذا الاجراء الفريد اعظم ضمانة ممكنة لنزاهة الانتخابات العامة علي ضوء التجربة المصرية‏.‏ وليس عندي أدني شك في أن جميع القوي الديمقراطية في وطننا سوف تقبل بحماس فكرة اللجنة الانتخابية لو أنها حصلت علي نفس السلطات التي تتمتع بها اللجنة الهندية خاصة تبعية البوليس لها أثناء عقد الانتخابات‏.‏ حيث شكلت ادارة الشرطة الفعلية للعملية الانتخابية أهم مصادر القلق حول سلامة العملية الانتخابية في مصر‏.‏وفضلا عن ذلك فان اللجنة تعمل أيضا كجهاز قضائي فيما يتعلق بالمنازعات الانتخابية‏.‏ ويعني ذلك انها هي التي تحسم في النهاية تسميه أعضاء البرلمان‏.‏ أما في التجربة المصرية فان العادة جرت علي أن يوظف مجلس الشعب صفة أخري في الدستور وهو أنه سيد قراره لانتزاع هذه السلطة من القضاء وهو ماألقي بظلال كثيفة علي مصداقية العملية الانتخابية التي يديرها فعليا الجهاز التنفيذي‏.‏ومع ان اللجنة تقوم بتسوية المنازعات الانتخابية وتقوم بتسمية الفائزين فان الدستور لايحصنها ضد المنازعة القضائية كما فعل نص المادة‏76‏ المعدلة فيما يتعلق بالانتخابات الرئاسية‏.‏ وبينما يمكن للمرشحين الطعن في أحكام اللجنة أمام الدوائر القضائية المتخصصة في الانتخابات فانه يخشي أن يصاغ التعديل الدستوري في مصر بتحصين أحكام اللجنة المقترحة من الطعن أمام القضاء المصري‏.‏وعلي نفس الدرجة من الأهمية فان الولاية العامة للجنة الانتخابية في الهند مكنتها من تطوير خبرة عريضة وثرية للغاية فيما يتعلق بالتقاليد الانتخابية والتصويتية‏.‏ اذ تنشر اللجنة تعليمات غاية في الدقة والتفصيل حول الأداء الفعلي لعملية التصويت وواجبات المرشحين وآداب المنافسة الانتخابية‏.‏ وبالمناسبة فان الدستور الهندي يسمح للمستقلين بالترشيح في الانتخابات العامة علي جميع المستويات وإن كان غالبية الفائزين في الانتخابات الهندية هم أعضاء الأحزاب التي تعد من أقوي الأحزاب في العالم وأكثرها نفوذا ومهابة‏.‏ ومعني ذلك أن الأحزاب يمكن أن تتقوي كثيرا بدون ان تنفرد بامتياز تشريعي كما يجري التفكير في التعديلات الدستورية في مصر‏.‏ كما يخشي أن تؤدي التعديلات الدستورية في مصر إلي سلب المستقلين هذا الحق الأصيل أو تخفضه كثيرا‏.‏ومن الطريف أيضا أن الهند هي أول دولة في العالم تمكنت فعلا من الوصول بضمانات التصويت العادل إلي مستوي قريب من الكمال من خلال بطاقات الهوية المصورة فضلا عن إكمال عملية التصويت الاليكتروني رغم ماهو معروف عنها من فقر في الموارد والامكانيات‏.‏خلاصة القول هو أن الحكم النهائي علي صياغه التعديلات الدستورية لايتعلق بالتسميات والمصطلحات بل بالضمانات والصلاحيات والسلطات والاجراءات التي تحمي فعلا نزاهة الانتخابات‏,‏ ولا يقل عن ذلك أهمية توافر حسن النية فيما يتعلق بالانتقال الديمقراطي‏.‏ فإذا توافر حسن النية يمكننا أن نلحق بالهند كدولة ديمقراطية تتمتع باحترام الشعب أولا والعالم ثانيا‏.‏

معـــركة بغـــداد الفاصـــلة

أهرام 22/1 بقلم د‏.‏ عبد المنعم سعيد
للتاريخ طريقته الخاصة في التدفق حيث تتضافر قوي الطبيعة وطبيعة البشر لكي تنتج في النهاية مشاهد كبري فاصلة تختلف الدنيا بعدها عما قبلها ويصبح الانطلاق إلي آفاق وآمال جديدة واجبا علي جماعة من بني الإنسان‏,‏ بينما يصبح علي الجماعة الأخري أن تلملم الأشلاء وتجمع الحطام ناظرة إلي الغد بالخوف وعلي الأمس بالحسرة‏.‏ شيئ من هذا يجري هذه الأيام حيث تتجمع حاملات الطائرات الأمريكية في مياه الخليج ويتدفق‏21‏ ألف جندي أمريكي جديد إلي العراق ومن المؤكد أنه خلف هذه الخطوة وتلك توجد حركات مكثفة لجماعات المخابرات لاستكشاف الخطوط الخلفية والأمامية لمعركة مرتقبة‏.‏ولكن المشهد التاريخي لا يكتمل ما لم نذهب إلي زيارة كوندواليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية‏-‏ إلي المنطقة واجتماعها بثمانية وزراء خارجية عرب في الكويت‏,‏ حرص كل منهم بطريقته الخاصة علي القول باتفاقه مع الخطة الأمريكية الجديدة‏.‏ وقبل أن ينفض العقد في الكويت كانت المنطقة كلها معرضة لهجوم دبلوماسي أوروبي شامل وموضوعه هذه المرة تحقيق التسوية العربية‏-‏ الإسرائيلية الشاملة وكما قال خافيير سولانا ممثل السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي ـ أنه إما أن نصل إلي‏'‏ نهاية الطريق‏'‏ في القضية المركزية الآن أو سوف ننتظر أعواما أخري حتي تأتي إدارة أمريكية جديدة‏.‏ وبينما كان ذلك يجري هنا وهناك كانت الأوضاع كلها يجري ترتيبها في منطقة القرن الافريقي ووفق تفهم مصري واضح للتحركات الإثيوبية‏,‏ بينما اختفت تماما القصة اللبنانية من الصورة ولو إلي حين‏,‏ لكن المؤكد أن إلحاح حزب الله علي إسقاط الحكومة صار ناعما للغاية‏.‏وببساطة كان الساسة يتحركون كما يتحرك العسكر وكانت الصورة التاريخية مركبة من عناصر محلية وعوامل إقليمية ومفردات كونية ووسط ذلك كله تظهر نجوم لامعة تبقي علي لمعانها لفترة‏,‏ أو لا تلبث أن تمضي شهبا إلي حيث لا يعلم أحد‏.‏ إنه التاريخ بكل تعقيداته وتركيباته ولكنه‏,‏ علي اتساع جغرافيته لكي تشمل الشرق الأوسط كله وعلي عمق تاريخه الذي يعود أحيانا إلي بداية التاريخ وأحيانا أخري إلي يوم ضربت الأبراج المشيدة في نيويورك في مطلع القرن‏,‏ فإن ترجمته الراهنة هي خطة وبؤرة‏.‏ والخطة أنتجها العقل الأمريكي بعد مناقشات ومداولات ومشاكسات شارك فيها الكونجرس بمجلسيه وكل الطامحين إلي الرئاسة الأمريكية وكل مراكز البحوث والرأي وبالطبع لم يتفق كل هؤلاء علي رأي‏,‏ وإنما تراوحوا كما هي العادة ـ بين من يريدون انسحابا أمريكيا فوريا من العراق وهؤلاء الذين لا يريدون انسحابا علي الإطلاق‏,‏ومن يريد الحوار مع إيران ومن يرغب في الحرب معها ومن يريدون البحث عن تسوية للقضية الفلسطينية ـ الإسرائيلية ومن يريدون بقاءها إلي الأبد‏.‏ وهكذا كان جوهر النقاش الأمريكي والذي ظهر في الحوار الذي جري حول تقرير بيكر‏-‏ هاملتون عما إذا كان الشرق الأوسط منطقة استراتيجية متشابكة أم أنه يتكون من مسارح استراتيجية وعملياتية مختلفة وعما إذا كانت المهمة المطروحة هي تنظيم عملية الانسحاب الأمريكي من الشرق الأوسط كله أو مواصلة الهجوم الأمريكي والغربي وخلق قوة دفع جديدة‏!.‏وكما هي العادة في المجتمعات الديمقراطية فإن الخطط تكون نتيجة الحوار وقد كانت نتيجة ما جري خلال الأشهر والأسابيع القليلة الماضية هي ما عرف بخطة جورج بوش الجديدة والتي عرف منها شقها العسكري الخاص باستئناف الهجوم‏,‏ أما شقها السياسي فقد اختلف مع تقرير بيكر في الحوار مع إيران وسوريا ولكنه اتفق معه بأن الحركة علي طريق التسوية للصراع العربي‏-‏ الإسرائيلي مسألة ضرورية لتوفير البيئة المناسبة للحركة في العراق‏,‏ كما اتفق معه أيضا في أن‏'‏ مسيرة الديمقراطية‏'‏ كانت سببا في خلق فجوة بين واشنطن وعواصم عربية متنوعة أثرت سلبا علي القدرة الأمريكية‏.‏وبشكل ما فإن المرحلة السابقة كانت مرحلة تقييم وإعادة استعداد وتحضير سياسي ودبلوماسي وعسكري وكلها اتفقت في النهاية علي أن بؤرة ومركز الأحداث والتحولات الاستراتيجية سوف يكون حول معركة بغداد القادمة‏.‏ فبقدر ما كان الدخول الأمريكي إلي العاصمة العراقية إيذانا بالإعلان عن عصر أمريكي جديد في الشرق الأوسط تصورت الولايات المتحدة أنها يمكنها هندسته وتصنيعه وتغليفه بالديمقراطية والعولمة وبقدر ما كان العجز الأمريكي عن السيطرة علي بغداد ومن بعدها العراق كله إشهارا بسقوط دولة واستراتيجية وحصارها في‏'‏ المنطقة الخضراء‏'‏ وظهور مد أصولي يهز مكانة الغرب في المنطقة كلها ويهز معها دولا ونظما فإن المعركة القادمة سوف تكون هي المعركة الفاصلة التي ستحدد مسار الشرق الأوسط لسنوات مقبلة‏.‏ومن الناحية العسكرية البحتة فإن الولايات المتحدة تريد أن تحقق في معركة بغداد ما لم تحققه منذ احتلالها للعراق وهو تحقيق ما يكفي من الاستقرار الذي يجعلها تقيم بلدا حليفا من ناحية ومن ناحية أخري تستطيع الانسحاب‏.‏ فقد بات واضحا للقادة العسكريين الأمريكيين أن الاستراتيجية التي وضعها وزير الدفاع الأمريكي السابق دونالد رامسفيلد القائمة علي استخدام قوات عسكرية محدودة ـ لا تزيد علي‏130‏ ألف جندي ـ لتحقيق أهداف استراتيجية كبري ـ غزو العراق ومن بعده إعادة تشكيل الشرق الأوسط‏-‏ لم تكن إلا أضغاث أحلام انتهت مع اليقظة علي الرمال الحارة في بلاد الرافدين‏.‏ كما بات واضحا أنه لم يعد هناك مجال لتطبيق الاستراتيجية التي اقترحها كولين باول‏-‏ رئيس هيئة الأركان الأمريكية ووزير الخارجية السابق‏-‏ التي قالت علي العكس‏-‏ بضرورة الاستخدام الكثيف للقوة العسكرية بحيث لا يقل حجم القوات عن نصف المليون مع إنفاق تريليون دولار خلال العام الأول للاحتلال‏.‏ لقد فات الوقت علي هذه الاستراتيجية أيضا لأنه لم يعد هناك أحد في واشنطن علي استعداد لرفع عدد القوات بشكل جذري أو للإنفاق إلي ما لا نهاية علي حرب لم يعد أحد متأكدا من إمكانية كسبها‏.‏وهكذا ولدت الخطة الجديدة وقوامها تحديد المهمة بأن تكون إخضاع بغداد وحدها نحو ثلاثين كيلو مترا مربعا‏-‏ لأنها من ناحية تحتوي علي قرابة ربع سكان العراق‏,‏ كما أن فيها كل الجماعات العرقية والدينية فإذا ما صلح الحال فيها واستتب الأمن فإن الدولة كلها سيمكن إنقاذها‏.‏ ومع تخفيض الهدف من السيطرة علي العراق إلي السيطرة علي بغداد فقد أصبح ممكنا حشد‏21‏ ألف جندي إضافي فقط للقيام بالمهمة ومعهم قوات عراقية منتقاة سنية وكردية وشيعية لكيلا يتم فقط طرد جماعات‏'‏ المقاومة‏'‏ و‏'‏ الإرهاب‏'‏ المختلفة وإنما أيضا إبقاء المناطق‏'‏ المحررة‏'‏ نظيفة من هذه العناصر ومن ثم تستطيع الحكومة المركزية القيام بمهمتها في تحقيق المصالحة الوطنية واستئناف عملية التنمية‏.‏معركة بغداد بعد ذلك لها شقان سياسيان‏:‏ أولهما داخل العراق نفسها حيث تطلب الولايات المتحدة وحلفاؤها من الساسة العراقيين الحفاظ علي وحدة العراق من خلال التوزيع العادل للثروة‏,‏ فيكون البترول للجميع‏,‏ والتوزيع العادل للسلطة من خلال إعادة النظر في الدستور‏.‏ وثانيهما خارج العراق حيث يتم حشد الأصدقاء والحلفاء بعد إزالة الجفاء ورفع الحرج ودفع المصالح المشتركة القائمة علي الاستقرار من خلال تسوية للصراع العربي‏-‏ الإسرائيلي وحيث يتم وضع الخصوم موقع الدفاع أو التراجع فتعزل إيران من خلال مجلس الأمن وتوقع الهزيمة بالمحاكم الشرعية في الصومال ووضع سوريا وحزب الله وحماس موضع الانتظار والترقب وببساطة العجز عن المبادأة‏.‏فهل تنجح الخطة الأمريكية الجديدة فيما فشلت فيه الخطط السابقة؟ هو سؤال مفتوح لمن يستطيع الإجابة ولا يعلم أحد إلا الخبراء بالطبع كيف يمكن لواحد وعشرين ألف جندي تحقيق ما لم يحققه مائة وثلاثون ولكن المؤكد من السوابق أن المعارك لا تكون أبدا في اتجاه واحد‏.‏ وربما كان الفارق بين الولايات المتحدة وخصومها هو أن النظام الأمريكي يعلن عن خططه الفاشلة والناجحة‏,‏ أما النظم السياسية لخصوم أمريكا فإن خططها لا تعلم إلا بعد وضعها موضع التطبيق‏.‏ وفي معركة بغداد فإن الفيصل في السيطرة علي المدينة سوف يكون موقف السكان المحليين ومدي تعاطفهم مع جماعات‏'‏ المقاومة‏'‏ أما إذا خذلوها فإنه من المرجح أن يخرج‏'‏ المقاومون‏'‏ ويشنوا الحرب من مناطق أخري‏.‏الخلاصة أن العراق سوف يدخل في مرحلة حرجة تدور فيها معارك فاصلة بالمعني التاريخي للكلمة وفي مثل هذه الحالات فإن الأمر يحتاج تحديدا دقيقا للمصالح المصرية العليا فنحن نريد جلاء أمريكيا عن العراق‏,‏ ولكننا من جانب آخر نريد عراقا موحدا لا يكون مصدر إرهاب وعدم استقرار للمنطقة كلها وفي الوقت نفسه الذي لا نريد فيه هيمنة أمريكية علي أقدار المنطقة فإننا نرغب في حل للصراع العربي الإسرائيلي لا يكون إلا بمساعدة أمريكية وفي الوقت الذي نريد فيه أن نبيع بترولنا بأعلي الأسعار‏,‏ فإننا نريد المشتري الذي هو علي استعداد للشراء بهذا السعر‏.‏ هذه المصالح المختلفة ليست منسجمة بالضرورة مع بعضها بعضا وفي داخلها توجد تناقضات شتي والمعضلة أنه في وقت المعارك الفاصلة فإنه لا توجد دائما فرصة كافية للتفكير وعلي أي الأحوال فقد دقت طبول المعركة‏,‏ فتعالوا نراقب مشاهد القتال فربما يكون هو الذي يقرر مصيرنا لسنوات قادمة‏!!‏

اللي اختشوا ..مــاتوا !!


عن حكامنا وأحوالنا..
اللى اختشوا ماتوا
كتب محمد أبو الغار ـ العربي الناصري ـ 20/1
سمعت بأذنى فى الإذاعة المصرية مساء الاثنين تصريحاً للرئيس مبارك بأن القرار الأخير للإدارة الأمريكية بإرسال أكثر من عشرين ألف جندى هو قرار صائب وسليم، وفى صباح الثلاثاء تصدر مانشيت الأهرام تصريح بنفس المعنى لوزير الخارجية أبو الغيط. وفى مقارنة سريعة لتصريح مبارك بالتصريحات الصادرة من الولايات المتحدة من الحزب الديمقراطى وعدد من رجال الحزب الجمهورى، نجد أن أغلبية الكونجرس الأمريكى تعارض هذا القرار وذلك بالطبع حرصاً على المصالح الأمريكية وحقناً لدماء الجنود الأمريكيين فى حرب يعتقدون أنها خاسرة. وكان هجوم الصحافة الأمريكية المؤثرة وبالتحديد النيويورك تايمز والواشنطن بوست ولوس أنجلوس بوست والكريستيان ساينس مونيتور شديداً على قرار الرئيس بوش. وكان التعجب الفرنسى والألمانى والأوروبى بصفة عامة شديداً من قرار الرئيس بوش. ولذا كان تصريح مبارك وحكومته غريباً من ناحية وصادماً من ناحية أخرى. لقد كان وجه الغرابة أن مبارك انحاز إلى تكريس الاحتلال لدولة عربية وأيد بطريقة غير مباشرة تفتيت العراق إلى ثلاث دويلات. لكن الصدمة جاءت من الجرأة فى إعلان ذلك بدون وضع أية اعتبارات داخلية أو عربية أو دولية أو حتى نفسية لمثل هذا التصريح. نعلم أن مصر دولة خاضعة بالكامل للنفوذ الأمريكى سواء فى سياستها الخارجية أو الداخلية، ونعلم أن النظام فى مصر يستمد قوته من الدعم الأمريكى وأنه لا بد أن ينصاع للأوامر، لكن الجديد فى الأمر أن الموضوع أصبح على عينك يا تاجر وأن ما يقوله الكثيرون من أن ذلك هو ثمن صفقة توريث الحكم فى مصر يبدو مقنعاً للرأى العام. وأنا أود أن أقول إن المتغطى بأمريكا عريان لأن الدول العظمى تاريخياً يمكن أن تتخلى فى لحظة عن أى حليف أو عميل أو تابع صغير. وأنا أريد أن أذكر أصحاب القرار السياسى فى مصر بما حدث لشاه إيران الذى كان الحليف الأكبر والذى كانت علاقته بالولايات المتحدة كما قال الطرفان مثل الزواج الكاثوليكى، ولكن أمريكا تخلت فى لحظة عن حبيب العمر والحليف الاستراتيجى فى الشرق الأوسط والصديق العزيز لإسرائيل وصاحب خط الدفاع الأول أمام الاتحاد السوفيتى. لم تطرف عين الرئيس الأمريكى كارتر وهو يأخذ القرار بالتخلى عن شاه إيران وحتى رفض طلب إنسانى باللجوء إلى أمريكا ولا حتى العلاج الطبى هناك. ولنتذكر أن من اتخذ ذلك القرار هو رئيس حاول فى عرف الكثيرين أن تكون قراراته أخلاقية وإنسانية قدر المستطاع مقارنة برؤساء آخرين منهم الرئيس الحالى. أنا أعلم أن كل رجال السياسة فى العالم يفكرون فى مصالحهم الشخصية ومستقبلهم السياسى عند اتخاذ القرارات المهمة ولكننى أزعم أن زعماء أوروبا وأمريكا يضعون مصلحة الوطن قبل أو مع المصلحة الشخصية. وللأسف الشديد أن منطقة الشرق الأوسط بأكملها يضع المسئولين فيها ملوكاً ورؤساء جمهوريات مصالحهم ومستقبلهم السياسى ومستقبل أولادهم وربما أحفادهم فى المقام الأول والثانى والثالث وتأتى مصلحة الوطن فى مرحلة متأخرة. وفعلاً إللى اختشوا ماتوا. أمريكا والديمقراطية مما لا شك فيه أن من أهم الأسباب فى تقدم الغرب هى الديمقراطية الراسخة فى قلب كل مواطن. وما يحيرنى فعلاً هو موقف الولايات المتحدة من الديمقراطية، فنحن نعلم أن الشعب الأمريكى قادر عن طريق صندوق الانتخاب وعن طريق ممثليه فى الكونجرس ومجلس النواب على تغيير أى نظام، ونعلم أن الصحف الأمريكية الكبرى نفوذها طاغٍ وقدراتها فائقة ولا يمكن أن ننسى أن صحفيا صغيرا فى الواشنطن بوست استطاع بنشر خبر صغير أن يعزل الرئيس الأمريكى نيكسون وهو واحد من أقوى رؤساء أمريكا فى القرن العشرين، ونعلم أيضاً أن هناك انتكاسات فى الديمقراطية الأمريكية إحداها كانت فى الخمسينيات فى عصر الوزير مكارثى الذى قام بإرهاب الشعب الأمريكى، وذلك لمنع الخطر الشيوعى على حد تصوره. ولكن الشعب الأمريكى استطاع أن ينحى مكارثى ويبعده عن السلطة. والمرة الثانية كانت بعد حادثة ضرب برجى مركز التجارة الدولى فى نيويورك وذلك بسن قانون الباتريوت آكت الذى أعطى للشرطة صلاحيات واسعة للقبض على المشتبه فيهم من الإرهابيين أو من يساعدهم، وهذا الأمر فى تقديرى عارض وطارئ وسوف يقوم الشعب الأمريكى بإصلاح قوانينه مرة أخرى بعد فترة من الزمن. وصحيح أيضاً أن أقل من واحد بالمائة من الشعب الأمريكى هم الذين يقودون الفكر والسياسة والاقتصاد ولكن فى النهاية عند حدوث أزمات مثل حرب العراق استطاع الشعب إسقاط الجمهوريين فى ظل مد يمينى عالمى. ومنذ عامين وبعد انتخاب بوش للمرة الثانية خلص تفكير اليمينيين الجدد أن الخلاص من توالد الإرهاب فى الشرق الأوسط ومناطق أخرى هو بالضغط على الدول الدكتاتورية فى الشرق الأوسط وخاصة مصر والسعودية للتغيير والانفتاح الديمقراطى وكان التصور وهذا صحيح أن الديمقراطية هى الحل الأمثل لمنع الإرهاب لأن الإرهاب يتولد من الإحباط وعدم القدرة على التعبير، وهذه الطاقات وخاصة من الشباب ممكن أن تؤدى لأفكار متطرفة ينتج عنها الإرهاب. والحبس بدون مبرر وسند قانونى هو أكبر حافز لتحويل شخص عادى إلى إرهابى يريد الانتقام. وبالطبع رضخت حكومتا مصر والسعودية جزئياً لهذا الضغط، إلا أن نجاح حماس فى انتخابات فلسطين والنكسة الأمريكية الكبرى فى العراق نتج عنها تغيير فى سياسة من المفروض أن تكون طويلة الأمد لتأتى بنتائج، وتركت الباب مفتوحاً على مصراعيه لاستبداد دول الشرق الأوسط بمواطنيها ونسوا أو تناسوا الحديث عن الديمقراطية. إنه شيء مذهل أن تكرس الدولة العظمى فى العالم مبادئ الدكتاتورية مخالفة لتقاليدها وقوانينها. إنه مستنقع السياسة القذر الذى سوف يؤدى بالمنطقة إلى الهلاك والتطرف والإرهاب وفى النهاية ربما يؤدى إلى إقامة دولة دينية تعود بنا إلى الخلف قروناً طويلة. أيها السياسيون الأمريكيون والعرب، لن ينصلح حال الشرق الأوسط ويتوقف التطرف والإرهاب إلا بالديمقراطية. أكياس نقل الدم الفاسدة هل لا بد أن تحدث كارثة جديدة كل عام فى مصر وهل لا بد أن تكون الكوارث نابعة من أعضاء الحزب الوطنى، وهل لا بد أن يكون رجال الأعمال من الحزب العظيم هم أبطال كل الفضائح والكوارث. تأتى فضيحة أكياس الدم والتى هى بين يدى النيابة الآن لتقول شيئاً واحداً إن الفساد فى مصر كلها أصبح فعلاً كما قال أحد أعمدة النظام د. زكريا عزمى وهو يصف الفساد فى الحكم المحلى بأنه للرُكب ولكن الوصف حقيقة ينطبق على مصر كلها ويتركز الفساد حول السلطة المتحالفة مع رجال الأعمال. أنا لن أدخل فى تفاصيل أكياس الدم ولكن الحقيقة الواضحة أن صاحب المصنع عضو مهم فى الحزب الوطنى وله سلطات واسعة النفوذ، حيث أصبح المسيطر والمتحكم فى اللجان المرتبطة بأعماله فى وزارة الصحة منذ فترة طويلة كما قالت الصحف. كيف يورد عضو فى مجلس الشعب منتجه إلى الوزارة بينما هو ممثل الجهة الرقابية، ويكون بذلك مخالفاً للقانون والعرف والقواعد؟ طبعاً ليس هو الوحيد الذى يقوم بذلك وإنما كل مافيا البيزنس تقوم بذلك وكل واحد منهم يتحكم بالكامل فى الوزارة التى يورد لها منتجه وسلطاتهم جميعاً واسعة وكلهم يستطيعون إبعاد وكيل وزارة أو مدير عام عن مكانه حتى تسير الأمور على ما يرام وفى بعض الأحيان يمكن أيضاً أن يطير وزير من منصبه بسبب نفوذ رجل أعمال. هل هناك فساد أكبر من ذلك؟ لقد سمعت هذا المثل من حارس المنزل أصلهم خربوها وقعدوا على تلّها. د. عصام درويش إنساناً وأستاذاً عظيماً رحل عن عالمنا إثر حادث مرور عشوائى الدكتور عصام درويش الأستاذ بكلية العلوم بجامعة القاهرة. وربما لم يسمع الكثيرون عن عصام درويش ولكن داخل كلية العلوم كان الجميع يعرفون عصام درويش الأستاذ والباحث المدقق ولكنه يعرف جيداً معنى كلمة الأستاذ والتى فهمها عصام وطبقها فى علاقاته مع الطلبة الذين كان لهم صديقاً وزميلاً وأباً، ولقد صافحت البعض منهم فى عزاء عصام واستمعت إلى أحاديث زملائه الذين سردوا حكايات كثيرة عنه منذ أن كان طالباً ثائراً فى السبعينيات وحين أصبح مدافعاً عن حقوق الطلبة، وذكروا أنه عند غزو العراق تظاهر طلبة الجامعة احتجاجاً فخاف عصام على طلبته فى كلية العلوم وقرر أن يبقى داخل الحرم الجامعى حتى المساء وبعد أن يخرج آخر طالب من الجامعة وقال لزملائه إنه قرر أن يربط نفسه بسلاسل حديدية أمام باب كلية العلوم لو حدث اعتداء من الأمن على طلبته. وأذكر جيداً حين تظاهرت جماعة 9 مارس لاستقلال الجامعة عدة مرات دفاعاً عن طالب كان الأول على دفعته باستمرار ورفض الأمن تعيينه فى وظيفة معيد لأنه حدث بينه وبين أحد الضباط احتكاك أثناء تلك المظاهرات، كان عصام حاضراً بصفة مستمرة يدافع عن تلميذه حتى تم تسلمه العمل. وعلى الجانب الشخصى عرفت عصام درويش منذ بضع سنوات فى منتدى ثقافى شهرى يقوم به مجموعة من الأصدقاء فكان دائماً مثال الإنسان الملتزم دمث الخلق والذى كان يقول رأيه الصادق العميق والبسيط أيضاً بدون تكلف ولا حذلقة ولا نفاق. لقد كان مثقفاً جميلاً وأستاذاً عظيماً وقبل كل ذلك كان إنساناً رائعاً. محافظ الجيزة شيء مذهل حدث فى محافظة الجيزة، أخبرنى مواطن بسيط أنه طلب مقابلة المحافظ بسبب مشكلة فحدد له موعد فى اليوم التالى مباشرة وعندما علمت بذلك قلت له لا يمكن أن يقابل المحافظ مواطن بسيط بدون واسطة فى اليوم التالى مباشرة، وقد ذهلت عندما اتصل بى هذا المواطن وأخبرنى أنه قابل المحافظ فعلا فى الموعد المحدد واستمع إليه، واتصل على الفور لحل المشكلة، شيء غريب ولكنه عظيم، تحية لمحافظ الجيزة د. فتحى سعد

الانزلاق.. إلى المجهول!


كتب عبد الله السنـاوي ـ العربي : 20/1
خفايا ما يجرى فى كواليس السلطة العليا
فريق جديد ل التوريث يعمل على ثلاثة ملفات: الإخوان والأحزاب والصحافة.
تحريض على اعتقال مذيع محطة الجزيرة أحمد منصور فى قضية شركات الإخوان.
أسرار تحقيق أجرته جهة سيادية مع عالم نووى مصرى التقى جمال مبارك لساعتين على إنفراد.


ما يحدث -الآن- فى كواليس السلطة العليا من اجتماعات سرية ومناورات سياسية مستندة الى تصورات محددة لنقل الحكم الى نجل الرئيس فى أقرب وقت ممكن أخطر مما قد يبدو على سطح الأحداث الساخنة. وتنذر التوجهات الجديدة، بما تحمله من صيغ أكثر احكاماً مما بدت عليه السيناريوهات السابقة للتوريث، بدخول البلاد الى مرحلة جديدة مفعمة بالمخاطر، وتقلبات دراماتيكية فى مواقف بعض الأطراف التى قد تستهويها لعبة البيع والشراء والصفقات الصغيرة. من فضلك لا تقرأ الأحداث منفصلة عن سياقها العام، فالترابط بين الملفات يخضع -الآن- لتخطيط يقوم به فريق جديد للتوريث، الذى يبدو ان ساعته اقتربت. بدت سيناريوهات التوريث فى السنوات الأخيرة أقرب الى انزلاق خشن، أو هبوط عنيف على المسارح السياسية، وفيما يبدو انه تطور جديد فإن هذا الانزلاق بات يبحث لنفسه عن أرضية جديدة يسقط عليها، واثقا من أن الأرض تحته تحتمل، والأجواء من حوله تسمح بالمرور بأقل تكلفة سياسية. من شواهد ما يجرى فى الملفات الداخلية الساخنة يبدو أن فريقا جديدا، متضمنا قيادات فى أجهزة الدولة، أخذ يعمل على تهيئة الأرضية السياسية لقبول تولى نجل الرئيس السلطة العليا فى البلاد بعد والده. وهناك ما يؤكد أن الرئيس نفسه يتدخل بنفوذه الاستثنائى فى الإشراف والمتابعة، وإصدار التعليمات لاتخاذ مواقف محددة فى ملف الإخوان والأحزاب والصحافة، بل يراجع بعض الاتصالات ويطلب خروج أطراف من اللعبة ودخول أطراف أخرى فيها لضمان كفاءة التنفيذ. وبدا أن هناك ثلاثة ملفات أمام الفريق الجديد عليه أن يضع فوقها علامات حاسمة للتصرف وفق أهداف نقل السلطة من الأب الى الابن، بأقل تكلفة ممكنة تضمن توسيع قاعدة التأييد وسلاسة انتقال السلطة. الملف الأهم، تحجيم دور الإخوان المسلمين فى السياسة المصرية، أو تهميش وزنهم السياسى والتنظيمى عند نقل السلطة. وكانت الأجواء العامة -قبل شهور- لا تستبعد عقد صفقة ما مع الجماعة، وكانت بعض الأطراف فى الجماعة تميل إلى هذا التصور، بظن أنه قد يمكنها مستقبلا من لعب دور أكبر فى الحياة السياسية، وربما فى صناعة القرار. غير أن التعقيدات الدموية فى المنطقة، وبخاصة فى العراق، وفشل السياسة الأمريكية فى السيطرة عليها، وتراجع الإدارة الأمريكية عن ادعاءاتها بنشر الديمقراطية والكف عن تقويض النظم الحليفة فى المنطقة، أدى الى استبعاد تيارات الإسلام السياسى من فوق الأجندات الغربية، وبات الرهان على قوى الاعتدال فيها خارج الحسابات الراهنة، فالديمقراطية بانتخابات نزيهة، فى أحوال الاحتقان والاحباط واليأس التى تسود المنطقة العربية وتطعن فى هويتها، قد تصعد بقوى تناهض الولايات المتحدة فى خياراتها ومواقفها، وكان ذلك تطورا حاسما فى إبعاد منطق الصفقة مع الإخوان المسلمين. ثم بدا أن الإخوان المسلمين يتمددون فى الفراغ السياسى، وبدا أن انكشاف الحزب الوطنى والحياة الحزبية كلها مما يمكن قوى توصف بأنها خارج الشرعية من ملء الفراغ السياسى القاتل وطرح نفسها كبديل كامل لنظام الحكم الحالى. وأخذ هذا يزعج رئاسة الدولة ويهدد فرص سيناريو التوريث، ويحرض على صدام مكشوف بين الدولة وجماعة الإخوان المسلمين. ثم قدمت الجماعة للدولة مبررات ضربها فى اذرعها المالية وقدراتها التنظيمية باستعراض شبه عسكرى فى جامعة الأزهر الشريف. قد لا تكون -هناك- جريمة بالمعنى الجنائى فيما حدث، غير أن دلالاته الثقافية والفكرية بدت مرعبة، وبعض تصريحات قادة الإخوان زكت المخاوف، وبدا أن هناك تياراً عريضاً فى الإسلام السياسى أعلن تأييده للإصلاح السياسى والدستورى، وشارك فى الحراك السياسى، ثم جاءت بعض مواقفه لتثير المخاوف من أن ينقلب مستقبلا على الديمقراطية. وبدا ان الخلفية الفكرية لبعض قيادات الإخوان متحكمة فيها إلى حد إصدار تصريحات عن الخلافة فيما كانت بيانات رسمية تدعو الى اعلان حزب مدنى. خسر الإخوان المعركة قبل أن تبدأ عندما خسروا قطاعاً فاعلاً فى المجتمع المدنى والسياسى. دعونا نصدق اعتذار قادة الإخوان عما جرى فى جامعة الأزهر، ووصفه بأنه لعب عيال، أو تمثيلية لإزجاء وقت الفراغ أثناء الاحتجاج على تدخل الإدارة والأمن فى الانتخابات الطلابية واعتقال بعض طلاب الإخوان، غير أن الأجواء السياسية، وبعض التصريحات التى صاحبتها، مثل تعبير أحد قيادات التنظيم الدولى للإخوان المسلمين: أمال كانوا عاوزنا نعمل حفلة رقص أدت إلى نزع جانب كبير من الغطاء الثقافى والمدنى من فوق جماعة الإخوان المسلمين، وبدا أن هناك فجوة ثقة أخذت فى الاتساع بين جماعات المثقفين وجماعة الإخوان، وبدا ان ذلك كله يوفر فرصة أمام الدولة وأجهزتها لتوجيه ضربات موجعة لهذه الجماعة، تضرب فى عصبها المالى، وتضعها فى موقع دفاع، وتشل قدرة جهازها التنظيمى على الحشد والتعبئة، وترهب وسائل الإعلام المتضامنة معها، داخل مصر وخارجها، على النحو الذى كشفت عنه بعض التقارير الأمنية من اتجاه لتوجيه اتهامات جنائية لمذيع قناة الجزيرة المعروف أحمد منصور، أو المبالغة فى التنكيل بمعدة الجزيرة هويدا طه لإعدادها مشاهد تمثيلية عن التعذيب فى مصر. وفيما بدا أن جهاز أمن الدولة هو صاحب الدور الأول فى حملة اعتقالات الإخوان المسلمين وضرب أذرعها المالية، أخذت مصادر مطلعة من قلب حركة الإخوان المسلمين تروى أن بعض القيادات العليا فى جهاز أمن الدولة اعترضوا على حملة الاعتقالات، وأن الأجواء السياسية والاجتماعية الحالية قد لا تكون فى صالح التوسع فى هذه الاعتقالات وضرب المراكز المالية للإخوان بصورة شاملة، وقد كان الاستنتاج الرئيسى لقيادات نافذة فى الإخوان المسلمين أن قرار الاعتقالات، على النحو الذى جرت به، يتجاوز أمن الدولة إلى جهات أعلى، والمؤكد أن هذه الجهات العليا بدت فى تصميمها على القرار والتوسع فيه ماضية إلى نزع أظافر الإخوان وقص ريشهم تمهيدا للأرضية العامة لقبول سيناريو التوريث دون ممانعة كبيرة - مجرد خطوة من ضمن خطوات أخرى، أو حسم ملف من ضمن ملفات أخرى، والمثير أن حسن مالك وهو أحد قيادات الإخوان المسلمين من رجال الأعمال، الذين جرى اعتقالهم والاستيلاء على أموال كثيرة فى حوزة شركاتهم التى يقال إنها من مصادر تمويل الجماعة وأحد أذرعتها المالية، قد التقى وزير الصناعة رشيد محمد رشيد قبل يومين أو ثلاثة من اعتقاله، وجرى الحديث موسعاً فى هذا الاجتماع عن إنشاء مصنع للأثاث فى العاشر من رمضان يوفر 20 الف فرصة عمل استنادا الى خبرة شركة إستقبال التركية للأثاث، وبدت القصة مفارقة لما جرى بعدها من اعتقالات، وبدا ان وزراء كبارا من ضمن الفريق المقرب من جمال مبارك لم يكن لديهم علم مسبق عن الخطوط العريضة لتوجه الدولة الجديد فى التعاطى مع ملف الإخوان، غير أن رجال أعمال من داخل لجنة السياسات ومقربين من جمال مبارك، أخذوا يتصلون سراً برجال أعمال الإخوان المسلمين، وأبلغوهم -وهذا كلام مؤكد- بأن عام 2007 سوف يشهد وباضطراد ضربات أمنية تستهدف أموالهم، وبنص الرسالة: خدوا بالكم من أنفسكم ومالكم وعيالكم. وكانت تلك علاقات مصالح وتبادل منافع تتجاوز لجنة السياسات والإخوان المسلمين معاً. والسؤال الجوهرى الآن: إلى أى مدى سوف تمضى ضربات الأمن.. والى أى مدى تحتمل الجماعة هذه الضربات الموجعة دون رد فعل؟. أكثر الإجابات إثارة للتأمل أن جماعة الإخوان المسلمين لن تقدم على أى رد فعل. وبدا ان قيادات جهازها التنظيمى منتعشة بما يجرى باعتبار أن المحن تقوى الدعوة، وهذا تعبير منقول عن رجل التنظيم القوى محمود عزت. والمعنى المؤكد أن جماعة الإخوان المسلمين لا ترغب الآن فى صدام ولا تسعى اليه منتظرة المدى الذى يمكن ان تصل اليه الضربات الآمنية لإعادة تقييم الموقف. قد توجه رسائل للمجتمع برغبتها فى حزب سياسى مدنى، وهى تأخذ الفكرة على محمل الجد، لاستعادة ثقته فيها وتبديد مخاوفه منها. لكن ذلك سوف يأخذ وقتا طويلا. وفيما يبدو أن هناك جدلا ساخناً داخل مكتب الارشاد يحمل قيادته مسئولية تصريحات أضرت بالجماعة، ووفرت الفرص للدولة لتوجيه ضربات، دون أن يتحرك أحد من القوى السياسية الأخرى لإبداء التضامن مع الإخوان. ومما هو مثير على هامش ما يجرى من صدام أن اتحاد الأطباء العرب، وللإخوان كلمة نافذة فيه، وجه دعوة حوار للعالم النووى محمد النشائى، قبلها على الفور وكان له طلب واحد: وهو دعوة جمال مبارك للمشاركة فيها، وكان قد التقاه على انفراد من قبل. ارسلت الدعوة الى جمال فعلاً، ولكنه اعتذر عن قبولها فى اتصال هاتفى أجراه الدكتور على الدين هلال. والأكثر إثارة أن جهازا سياديا فى الدولة استدعى الدكتور النشائى ليستفسر منه عن دواعيه للمشاركة فى هذا الحوار، وكانت اجابته بسيطة ومقبولة أنه شارك فى جهة نقابية وعند أطراف لها شرعيتها، وتحدث علناً فيما أراد التحدث فيه، بل انه طلب مشاركة جمال مبارك. بدت القصة ملتبسة فى بعض جوانبها ولكنها كاشفة عن موقف جديد من المنظمات والنقابات التى لها صلة بالجماعة التى توصف فى الخطاب الرسمى بانها محظورة. فى ملف الإخوان بدا أن الخشونة سيدة الموقف، غيرأن الملفين المصاحبين تغلبت فيهما لغة الصفقات الصغيرة. ونقصد ملف الأحزاب المعارضة وملف الصحافة التى تناهض التوريث. فى ملف الأحزاب السياسية مطلوب الآن تدجينها بالكامل مع الإيحاء بأن هناك دوراً ينتظرها فى تركيبة مجلس الشعب المقبل. أو بمعنى آخر تهيئة هذه الأحزاب للعب دور الكومبارس أمام ترشح محتمل لنجل الرئيس فى انتخابات رئاسية مقبلة. وقد بدا أن قيادات أحزاب رئيسية ضحت بأدوار أحزابها ومواريثها السياسية الداعية للديمقراطية والانتقال السلمى للسلطة مقابل وعود بمقاعد برلمانية فى انتخابات مقبلة وفق قانون يعد للانتخاب بالقوائم النسبية. وبدا أن موافقة بعض الأحزاب الرئيسية على التعديلات الدستورية من ضمن تهيئة البيئة السياسية لتوريث الحكم، وهناك ايضا صفقات أخرى بدأت تلوح فى الأفق شواهدها. وحتى الآن يتحرج جمال مبارك من الإعلان عن اجتماعاته مع بعض المعارضين، ولا عيب فى الحوار بشرط أن يجرى فى العلن وأن تكشف كل الأطراف مواقفها. وربما -مع مزيد من الانزلاق السياسى فى ملفات متعددة- يأخذ نجل الرئيس فى التحرك علنا، ولكنه يحتاج -قبل ذلك- الى تهيئة إعلامية أوسع وأكبر تقدمه للرأى العام، وقد ثبت لفريق جمال مبارك أن الصحافة القومية غير قادرة على لعب هذا الدور، وبدأت الانظار تتجه، ورجال الأعمال من لجنة السياسات وحولها جاهزون، للضفة الأخرى من الصحافة المصرية. وتبدو الصورة -فى الكواليس- محزنة بأكثر مما يجول بخاطر أحد، فالهدف هو تدجين الصحف المعارضة للتوريث وإدخالها فى سوق البيع والشراء. صفقات لا خشونة فيها، مع كلام كثير عن حرية الصحافة متزامنا مع اغتيالها الفعلى. وهو تمهيد إضافى للأرضية السياسية لقبول التوريث والانزلاق اليه. غير أنه لحسن الحظ لا يمضى التاريخ المصرى وفق سيناريوهات معدة خطوة بعد أخرى، فمفاجأة واحدة قد تربك اللعبة كلها. قد تنزلق الأقدام والضمائر فى لحظات حسم وتقرير مصائر، غير أن الانزلاق إلى المجهول يتجاوز الافراد الى الأمم، ويطعن فى مستقبلها، والجريمة -هنا- لا تغتفر