Saturday, January 06, 2007

الإعدام الأول في تاريخ العرب والفوضي الوجدانية

بقلم د.سعد الدين ابراهيم
فجر يوم السبت ٣٠ ديسمبر ٢٠٠٦ (١٠ ذي الحجة ١٤٢٧ ) تم إعدام أول حاكم عربي، وهو صدام حسين، الرئيس العراقي السابق (١٩٧٩ ـ ٢٠٠٣)، والإعدام هو تنفيذ حكم قضائي بإنهاء حياة إنسان، لجريمة أو جرائم ارتكبها، وأقرت المحكمة ثبوت مسؤوليته عنها، وحدد القانون الإعدام كعقوبة لها.
وبهذا المعني القانوني المحدد، يكون إعدام صدام حسين هو الأول من نوعه في تاريخ العرب والمسلمين، وبهذا المعني المحدد فهو شبيه بإعدام الملك شارلز الأول في انجلترا، في ٣٠ يناير ١٦٤٩، أثناء الثورة الإنجليزية، التي قام بها البرلمان ضد الملك، تحت قيادة أوليفر كرمويل. وتلك أيضا كانت أمراً غير مسبوق في التاريخ، حيث تمت محاكمة الملك شارلز الأول، التي استغرقت أحد عشر يوما فقط، وبينما كان إعدام شارلز بواسطة سياف قطع رقبته، كان إعدام صدام شنقاً، كما شاهد ذلك ملايين البشر علي شاشات التليفزيون حول العالم.
إن قتل الملوك والرؤساء والحكام ليس أمراً جديداً في تاريخ العالم أو العرب أو المسلمين. فقد قتل منهم الآلاف علي مر الزمن، ونتذكر جميعا من كتب تاريخنا أن ثلاثة من الخلفاء الأربعة الراشدين، قتلوا خلال القرن الهجري الأول، كما أن تاريخ العراق نفسه مليء بقتل حكامه. ومن ذلك قتل الملك فيصل الثاني، وعمه الأمير عبدالإله، ورئيس وزرائه نوري السعيد، في يوم واحد، هو ١٤ يوليو ١٩٥٨، كما قتل بعد ذلك أول رئيس للعراق في العهد الجمهوري، وهو عبدالكريم قاسم ( ١٩٦٣)،
وكذلك قتل عدة رؤساء في اليمن، شماله وجنوبه، وفي الجزائر وموريتانيا والصومال، ولكن هذا النوع من الاغتيال والقتل كان يتم أثناء ثورة أو انقلاب عسكري، كذلك كان قتل الملوك والسلاطين يتم أثناء المعارك، وعلي أيدي ملوك أو سلاطين آخرين، وليس بعد محاكمة من النوع الذي سجله التاريخ بالنسبة للملك الإنجليزي شارلز الأول، أو الملك الفرنسي لويس السادس عشر الذي حوكم وأعدم بالمقصلة أيضاً عام ١٧٩٣، أو صدام حسين عام ٢٠٠٦.
وربما هذه السابقة في تاريخ العرب والمسلمين هي التي خلقت فوضي وجدانية عارمة. فلم يتعود الرأي العام العربي رؤية محاكمة من كانوا يحكمونه، وبالقطع لم ير العرب المعاصرون هذا النوع من المحاكمات علي شاشات التليفزيون. لم ير تنفيذ حكم الإعدام بالصوت والصورة ، كما رآه في حالة صدام حسين. وضاعف من درامية هذا الإعدام أنه حدث، أو عرفه الناس، صبيحة أول أيام عيد الأضحي المبارك، والذي هو مناسبة مقدسة عند حوالي مليار ونصف المليار مسلم في العالم، ناهينا عن أنها في شهر ذي الحجة، وهو أحد الأشهر الحرم، التي يحض فيها الإسلام علي حقن الدماء والرحمة والفداء.
أما البعد المأساوي لمشهد إعدام صدام حسين فهو أنه تم في ظل احتلال أجنبي للعراق. ومهما حاول المحتلون الابتعاد عن تفاصيل المحاكمة وتنفيذ حكم الإعدام، بدعوي أن تلك كانت أموراً عراقية بحتة، فلا أحد في العراق، أو العالم العربي أو حتي أمريكا نفسها يصدق ذلك. فالإحساس العام، هنا وهناك، هو أن أمريكا، والرئيس جورج بوش تحديداً، هي القوة الدافعة والمحركة للأحداث في العراق، منذ بداية الغزو في ١٩ مارس ٢٠٠٣، صحيح أن القضاة والمدعين، والمحامين، والشهود، والمنفذين كانوا جميعاً عراقيين، ولكن الاعتقاد الجازم عند الجميع أن سلطة الاحتلال الأمريكي هي التي تحرك هؤلاء الشخوص ليفعلوا ما فعلوه .
ومع أن الشيعة والأكراد في العراق، وهم معاً يمثلون سبعين في المائة من السكان، قد ابتهجوا بإعدام صدام حسين، إلا أن ثلث الشعب العراقي، وهم العرب السُنة، ومعظم العرب والمسلمين خارج العراق، شعروا، لا بالحزن فقط، ولكن بالمهانة أيضاً لما حدث في بغداد في أول أيام عيد الأضحي المبارك، فباستثناء أقارب صدام، أو الذين استفادوا من حكمه داخل العراق، وهم أقلية، وباستثناء عملائه خارج العراق، وهم قلة أفراد متناثرون في الصحافة، فإن الأغلبية الساحقة من المتابعين للشأن العام كانت تعلم وتقر بأن صدام حسين كان شيطاناً رجيماً، فقد سام شعب العراق العذاب والقهر والخوف لأكثر من ربع قرن، كما أنه غزا أراضي جارتين للعراق،
هما إيران (١٩٨٠-١٩٨٨)، والكويت (١٩٩٠-١٩٩١). ويقدر مجموع من قتلهم من الأكراد والشيعة داخل العراق، ومن الإيرانيين والكويتيين خارج العراق، بحوالي مليوني شخص، أي أن صدام حسين كان سفاحاً داخل العراق، ومغامراً خارج العراق، فأرهب شعبه، وأخاف جيرانه، وبدد ثروات العراق، الطائلة بامتياز.
وقد حاول الشعب العراقي التخلص من نظام صدام حسين وحزب البعث، الذي كان يتخفي وراء شعاراته القومية الزاعقة، (أمة واحدة ذات رسالة خالدة، هي الحرية والاشتراكية والوحدة)، وانتفض الشعب عدة مرات، وحملت قطاعات منه السلاح ضد نظام حكمه الدموي لسنوات ممتدة. كما وقعت عدة محاولات لاغتيال صدام حسين نفسه، ولكنه كان ينجو منها. ومع تعثر تلك المحاولات، أو إجهاضها، دب اليأس مع الخوف في قلوب العراقيين.
وهجر معظم أبناء الطبقة العليا والوسطي العراق، إما إلي بلاد الخليج أو إلي أوروبا وأمريكا الشمالية، وقدر عدد العراقيين الذين هاجروا إلي تلك الأنحاء بحوالي أربعة ملايين، معظمهم من المهنيين، ذوي المهارات العالية، كالعلماء والأطباء والمهندسين وأساتذة الجامعات، حتي إنه ورد في دراسة للدكتور أنطوان زحلان، أن عدد الأطباء من أصول عراقية في بريطانيا وحدها يفوق عددهم في بغداد.
ونشطت عناصر من هؤلاء العراقيين في الخارج لتعبئة الحكومات الغربية ضد صدام حسين. وانتهزت بعض هذه الحكومات الفرصة، ـ خاصة بعد أحداث سبتمبر ٢٠٠١، لغزو العراق وإسقاطه، ثم القبض عليه، وأسره، وتقديمه هو وأركان نظامه لمحاكمة استمرت أكثر من سنتين، وصدر عليه حكم بالإعدام، وهو الذي تم تنفيذه في أول أيام عيد الأضحي، علي النحو الذي أشرنا إليه ـ أن هناك سوابق تاريخية لمحاكمة ملوك ورؤساء علي جرائم ارتكبوها ضد شعوبهم أو جرائم حرب، أو جرائم ضد الإنسانية أو الإبادة الجماعية ـ مثلما حدث في محاكمة أقطاب النازية في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، والمعروفة باسم محاكمات نورمبرج،
وكذا تلك التي جرت مؤخراً ضد النظام العنصري في يوغسلافيا السابقة أمام محكمة دولية خاصة في لاهاي، وشملت الرئيس الصربي سلوبودان ميلوسوفيتش ـ وعادة ما تتم هذه المحاكمات بواسطة المنتصرين في الحروب ضد أعدائهم وخصومهم السابقين، ورغم أنها تراعي الأشكال القانونية، من حيث توجيه الاتهامات، وسماع الشهود، وإتاحة الفرصة للدفوع والمرافعات، فإنه تظل هناك دائماً شكوك في شرعية وعدالة هذه المحاكمات، ومنها بالطبع محاكمة صدام حسين.
وقد صدرت بالفعل دراسات تلقي مثل هذه الشكوك، لا فقط من أطراف عربية، ولكن أيضاً من منظمات حقوقية دولية، ومنها المرصد العلمي لحقوق الإنسان «هيومان رايتس ووتش Human Rights Watch»، ومقره الولايات المتحدة، والتي شهدت بعض مدنها مظاهرات احتجاجية علي إعدام صدام حسين. وستظهر دراسات أخري في المستقبل، خاصة مع استمرار الاحتلال الأمريكي للعراق والمقاومة وسفك الدماء.
ولكن ما يعنينا في هذا المقال هو الإشارة إلي الفوضي النفسية والوجدانية التي تجلت علي الساحة العربية ـ الإسلامية، في أعقاب واقعة إعدام صدام حسين. فهناك من ابتهجوا، وهناك من حزنوا، وهناك من غضبوا. ففي الداخل العراقي ابتهج الأكراد والشيعة، وهم يمثلون معاً ثلثي سكان العراق. وقد اعتبروا حكم الإعدام «عادلاً» ومستحقاً، وينطوي علي قصاص متأخر لما وقع عليهم من قتل وتنكيل وتشريد وإبادة، وقد رأينا مظاهر هذه البهجة علي شاشات التليفزيون من بغداد والموصل والسليمانية ومدن كردستان الأخري في شمال العراق، كما رأيناها في النجف وكربلاء والبصرة،
حيث يتركز الشيعة، في جنوب العراق، وقد تناقضت مظاهر الفرح هذا مع مظاهر الحزن والوجوم، ثم مظاهرات الغضب والاحتجاج بين العرب السنة في وسط العراق، خاصة في مسقط رأس صدام حسين بمنطقة تكريت، التي دفن بها في اليوم التالي لإعدامه. وكانت ردود الفعل المتناقضة تلك، داخل العراق، هي ترجمة صادقة، وإن تكن مأساوية، لمحنة الشعب وأزمة المجتمع وخراب الدولة في العراق.
أما خارج العراق فقد كان الذين رحبوا من العرب بإعدام صدام قلة، تركزت في الكويت والخليج وجنوب لبنان، أما أغلبية الرأي العام العربي فقد تراوحت ردود أفعالها بين الوجوم والامتعاض والغضب، وكان أحد أسباب الوجوم والامتعاض هو توقيت الإعدام، أي تنفيذه في يوم عيد، ويوم عيد الأضحي، وكأن صدام حسين هو «كبش فداء»، وكان أحد أسباب الغضب هو الشعور بالمهانة والإذلال، لإعدام رئيس دولة عربية، مهما كان الرأي فيه أو المشاعر ضده أو كانت خطاياه، إلا أنه «عربي مسلم»،
والقوة التي أسرته وحاكمته وأعدمته هي قوة أجنبية، غير عربية وغير مسلمة، وفعلت ما فعلته علي أرض عربية إسلامية، ونحن العرب والمسلمين، لا حول لنا ولا قوة. وعند هذا الفريق من العرب، تختلط المشاعر «القبلية» (النحن في مواجهة الآخر)، بالمشاعر «القومية» (العرب في مواجهة الغرب)، بالمشاعر «الدينية» (المسلمين في مواجهة الصليبيين).
أما علي المسرح الشرق أوسطي فقد بلغت المفارقة أقصاها، حيث وجدنا عدوين تقليديين، هما النظام الإسلامي الشيعي الإيراني الحاكم، والكيان اليهودي الصهيوني الإسرائيلي، يجتمعان في لحظة نادرة، علي الشعور بالارتياح لإعدام صدام حسين، فقد حارب الرجل إيران لمدة ثماني سنوات، وهدد بحرق ثلثي إسرائيل بصواريخه المزعومة، التي أطلق بعضها بالفعل علي إسرائيل أثناء حرب تحرير الكويت. وهكذا جمعت البهجة لإعدام صدام بين أشد الأطراف الإقليميين عداوة لبعضهما البعض في الوقت الحاضر، وهما إيران وإسرائيل.
لقد كان صدام حسين شخصية خلافية مأساوية مليئة بالمتناقضات، وفي حياته أحدث دماراً وفوضي داخل العراق، وفي العالم العربي والشرق الأوسط. وقد فجّرت لحظة مماته أيضاً، قدراً هائلاً من الفوضي النفسية والوجدانية. فإذا كان مقتل «الحسين» في كربلاء قبل أربعة عشر قرناً ظل يضرم مشاعر الرغبة العارمة عند الشيعة، في البحث عن «يزيد» للانتقام منه، فربما يكون إعدام صدام هو البديل الوظيفي الذي يشفي هذا الغليل. والأمل الآن هو أن يتفرغ العرب بعدها، سُنة وشيعة، للتعايش، وبناء مستقبلهم المشترك.. اللهم فاسمع.

No comments: