عن العربي الناصري : كتب عبد الله السنــاوي
عندما أوشك الرئيس مبارك على زيارة مؤسسة عتيدة أصدرت جهات نافذة مقربة من الرئاسة تعليمات مشددة للمسئولين الكبار فى هذه المؤسسة تقضى بألا يبادر أحد من مستقبلى الرئيس بطرح سؤال حول قضية حساسة أو دعوة الرئيس لإبداء رأيه فيها، وأن يمضى الحوار مع النخبة المختارة بالطريقة التى يختارها الرئيس، وفى الموضوعات التى يحددها، وأن يتحدث فيما يشاء، دون استفسار من أحد على بعض جوانب ما يقول، وبدا -بمنطق التعليمات- أن الهدف منها هو عدم إزعاج الرئيس!، وهذا منطق سياسى خطير فى دلالاته ونتائجه على مستوى إدارة الدولة المصرية، ومتابعة المستجدات فى البلد والمنطقة والعالم، فمن واجب الرئاسة فى بلد محورى مثل مصر أن تتابع، وبالتفاصيل، ما يجرى فيها ومن حولها، وأن تستمع الى وجهات نظر اخرى فى مجريات السياسة المصرية. وقد أدت سياسة عدم إزعاج الرئيس! الى انعزال الرئاسة عن مجتمعها، واتساع فجوة الثقة مع الشعب الذى تحكمه، وتخبط نظام الحكم بلا ضابط من سياسة أو رؤية لإدارة المصالح العليا للبلاد، وبلا قدرة على إقناع أحد بالمواقف التى يتخذها. وتبدو مصر الآن كبناء سقط مرة واحدة بكتلته الرئيسية، بهبوط خطير فى أساسات التربة التى تحمله، مصحوبا بتصدع فى البناء ذاته الذى تعرض لفساد محقق فى مواده التى بنى بها، هناك غيبة شبه كاملة لمؤسسة الرئاسة، قد نستمع لخطابات من الرئيس فى مناسبات عامة، أو نقرأ تصريحات منسوبة اليه، غير أن الحضور الرئاسى بالطريقة التى اعتادتها مصر لأكثر من 50 عاما بدا خافتا وفى الحدود الدنيا بما يلح على سؤال المستقبل، مصحوبا بخشية من انفلات الفوضى من عقالها، فأكثر من 40% من المصريين تحت خط الفقر، وملايين الشباب على أرصفة البطالة، والخدمات الصحية والتعليمية تدهورت بصورة غير مسبوقة، والفساد تفشى فى الرءوس الكبيرة بما هز سمعة الدولة والثقة فى نزاهتها كما لم يحدث من قبل فى العصور الحديثة. ولا توجد دولة فى العالم تنتسب للنظم السياسية الحديثة تمضى بلا فلسفة فى الحكم أو عقد اجتماعى منصوص عليه فى الدستور يحدد قواعد اللعبة السياسية واصولها، ويضمن الانتقال الآمن والسلمى للسلطة، وفى بلد مثل مصر نظامها جمهورى والحكم فيها رئاسى يلعب رئيس الجمهورية دورا محوريا فيها، وتتلخص فيه السلطة التنفيذية، والوزراء مجرد سكرتارية للرئيس، تبدو أزمة النظام مستحكمة والشرعية مشكوك فيها، بتراجع دور الرئيس فى صناعة القرارات الكبرى، وانعزاله شبه التام عن تفاعلات الحياة السياسية، وعدم اطلاعه فى الأغلب على التقارير السيادية التى توضع على مكتبه، باستثناء ما يتعلق بالأمن، وأدى ذلك، مصحوبا بسياسات اقتصادية واجتماعية همشت الأغلبية الساحقة من المصريين وسياسات خارجية أدت الى تآكل المكانة الإقليمية لمصر، إلى تآكل هيبة الرئاسة والضجر العام من نظام الحكم الحالى والتطلع الى نظام جديد تستحقه مصر ينتشلها مما وصلت اليه من تدهور شامل وغير مسبوق فى تاريخها الحديث كله. وجرت العادة -فى كثير من اللقاءات مع رئيس الجمهورية- بنصح الضيوف من المصريين وكبار المسئولين الا يطرحوا على الرئيس ما قد يزعجه، رغم ان من واجبات رئيس الجمهورية أن يطلع على الحقائق وينظر فى معالجتها، وأن ينزعج عندما يكون هناك ما يزعج، وإلا فإن النتائج المنطقية لعزل الرئيس عن مصادر الإزعاج تخليه العملى عن جوهر ممارسة السلطة، وتنتقل -بطبائع رئاسة الدول التى لا تعرف فكرة الفراغ أو تعترف بها -الى مراكز اخرى وشخصيات أخرى بعضها يفتقد أية أوضاع دستورية تخوله النظر فى التقارير السيادية ومتابعة أعمال مجلس الوزراء وتقرير السياسات العليا للبلاد، على نحو الدور غير الدستورى الذى يمارسه نجل الرئيس. والرئيس مبارك -عادة- يفضل الحديث على سجيته فى الاجتماعات المغلقة، وعندما يفتقد الى المعلومات الرئيسية أو تحجب عنه، يجد نفسه يتحدث عن انطباعات عامة اقل من ان توصف بالرؤى السياسية فى إدارة الدولة، ويجرى فى بعض الأحيان التراجع عنها لما تسببه من ارتباكات للسياسة المصرية فى محيطها الاقليمى والدولى، مثل تصريحاته عن الشيعة فى العراق ونصيحته للرئيس الروسى بوتين بتمديد رئاسته وتعديل الدستور لذلك الغرض. وفى بعض اللقاءات مع قادة دول يلجأ الرئيس مبارك إلى الصمت، مكتفيا بالتقاط الصور، تاركا لبعض معاونيه مهمة الحديث عن السياسة المصرية ومواقفها. وهذه كلها من تداعيات سياسة عدم إزعاج الرئيس، وقد يقال ان حاجة الرئيس للراحة بعد الوعكات الصحية التى انتابته فى السنوات الأخيرة من وراء هذه السياسة، ولا يعارض احد فى حق رئيس الجمهورية فى الراحة والعلاج، وعندما طلب من المسئولين الكبار فى المؤسسة الإعلامية العتيدة التى زارها الرئيس مؤخرا اتخاذ ما يلزم حتى لايضطر الرئيس الى صعود سلالم، فإن هذا امر طبيعى، له مقتضياته التى نحترمها، غير أن مثل تلك الأحوال تستدعى من رئيس الجمهورية، وفق القسم الدستورى، أن يتخذ الاجراءات الكفيلة بالحفاظ على استقرار البلاد وضمان انتقال السلطة فيها بعده -أطال الله فى عمره، كأن يعين نائبا لرئيس الجمهورية، أو يتبنى خطة واسعة ومقنعة لإصلاح دستورى شامل، غير تلك التعديلات الدستورية المزمع الاستفتاء عليها يوم 7 إبريل المقبل. فالتعديلات بالطريقة التى اعلن عنها، وبنصوصها الجديدة، أقرب الى التهريج الدستوري، وتحيل دستور 1971 الى مسخ يستحق بالضرورة تعديل التعديل مرة أخرى. ونستطيع منذ الآن ان نؤكد ان دستورا جديدا سوف تدعو اليه مصر بعد نظام الرئيس مبارك. فالتعديلات الدستورية تحافظ على السلطات الرئاسية شبه الإلهية المنصوص عليها فى الدستور الحالى، ولا تعدل فى موازين القوى داخل السلطة التنفيذية، ولا تضفى على مقعد رئاسة الحكومة أية سلطة إضافية، وفيما اعطت لمجلس الشعب حق سحب الثقة من الحكومة أعطت لرئيس الجمهورية حق حل مجلس الشعب دون الحاجة الى استفتاء، والاخطر من ذلك كله أنها ألغت -مع بعض التحايل الشكلي- الاشراف القضائى على الانتخابات الرئاسية والتشريعية. بدت التعديلات الدستورية فى جوهرها انقلابا على تطلعات الاصلاح الدستورى، وتيئيسا منه، وبدا انها تسوغ وتمهد الطريق لتوريث الحكم لاحقاً. الرئيس وعد فى برنامجه الانتخابى بتقليص صلاحيات الرئيس، وهو مالم يحدث، ووعد بإلغاء قانون الطوارئ، لكن التعديلات الدستورية المقترحة تمهد لانتهاك بعض المواد التى تكفل حقوق المواطنين أمام تغول السلطة التنفيذية بما يسمح بأن ينص دستوريا- ولأول مرة- على حق هذه السلطة فى الاعتقال بتهمة الارهاب دون تفويض قضائى، ثم وعد الرئيس بتعديل المادة 67 من الدستور مرة أخرى، غير ان النصوص الجديدة هى ذاتها القديمة مع اتاحة الفرصة لبعض الاحزاب فى خوض الانتخابات الرئاسية المقبلة، والمعنى ان الهدف من هذا التعديل إتاحة الفرصة لمرشحين كومبارس أمام نجل الرئيس فى أية انتخابات رئاسية، إذ ان النص الحالى يحجب مثل هذه الفرصة. ثم بدا ان الرئيس مصر على ابقاء المادة 77 من الدستور على ماهى عليه، بمعنى تمديد الرئاسة الى غير أجل، أو الى اخر نفس ينبض!. وفى تقدير مبارك أنه ليس من حق أحد حرمان الشعب من اختيار رئيسه، والتمديد الأبدى له مدى الحياة، فالرئاسة -كما قال- مسألة صعبة، وهذا تقدير يتطلب التصحيح، إذ من حق الشعب -أيضا- تغيير رئيسه بالوسائل الديمقراطية، وأى رئيس بعد فترة معينة يكون قد أعطى كل ما لديه، ويصبح وجوده على رأس السلطة عبئا على الدولة ومتطلبات تقدمها، خاصة عندما تستدعى بعض المشاكل الصحية اتباع سياسة عدم إزعاج الرئيس. من حق مصر ان يكون لديها رئيس تزعجه بمطالبها، ومن حقها أن تطلب من الرئيس أن يستريح ويفسح المجال لغيره، وهذه سنة الحياة التى لا تنتقص من قيمة احد او دوره، غير ان الرئيس -فيما يبدو- عازم على البقاء حتى آخر نفس، وتوريث الحكم من بعده أو فى حياته إذا اقتضت الظروف الضاغطة الخارجة عن الإرادة الشخصية. وفيما هو واضح ان الخطة العامة فى إدارة السياسة المصرية -مع بعض الارتباكات التى تصاحب غياب الضابط الرئيسى -تمضى إلى هدفين: الأول، قص ريش الإخوان المسلمين، وضرب كوادرهم الرئيسية بسلسلة متلاحقة من الاعتقالات، لا تذهب الى صدام شامل، ولا تتوقف عند الصفقات الجانبية. وهذه عودة الى سياسة قديمة سبقت الحراك السياسى عام 2005، مع توسع فيها وخشونة أشد فى التعامل مع ملفها. وفيما يبدو أن هناك خشية من تمدد الإخوان المسلمين فى الحياة السياسية، واتجاها لتعديل دستورى وقانونى يمنع ترشح قوائمهم فى الانتخابات العامة، وحظر استخدام الشعارات الدينية. ولابد أن هناك أسبابا مباشرة فى تصعيد الحملة ضد الإخوان، قد يكون من بينها أن بعض اطراف النظام راهن على دعم اخوانى لسيناريو توريث جمال مبارك، مقابل صفقة سياسية تتيح امامهم حرية الحركة. وقد طرحت الصفقة -بالفعل- على مكتب الإرشاد ، نوقشت وبدا ان الاتجاه الغالب هو استبعادها، لكن السبب المباشر قد لا يكون هو السبب الجوهرى، فقواعد اللعبة ارتباطا بالعلاقات مع الولايات المتحدة تقتضى فى الأحوال المستجدة بعد صعود حماس فى فلسطين وفشل المشروع الأمريكى فى العراق وتصاعد أزمته مع إيران وتطورات الساحة الصومالية، ومصر مهمشة فيها جميعاً الى حد محزن، استبعاد الإخوان المسلمين من فوق خرائط السلطة العليا وموازين القوى فيها ومن حولها. وبدا ان اعتقال خيرت الشاطر النائب الثانى لمرشد الإخوان بالذات رسالة فى هذا الاتجاه، فقد كان هو المحاور الاول مع الدولة وأجهزة أمنها، وبدا لبعض الوقت متحمسا لصفقة ما مع جمال مبارك. كأن الرسالة هى: اللعبة انتهت. غير أن الحقيقة انها لم تنته بعد، فالإخوان قوة رئيسية فى البلاد يستحيل الغاؤها بقرار إدارى أو أمنى، وللعبة فصول اخرى، قد تكون مفاجئة. والثانى: عقد صفقات صغيرة مع بعض الاحزاب التى توصف بأنها رئيسية. وقبل فترة قصيرة التقى جمال مبارك برئيس أحد الاحزاب، وقال له بصراحة إننا نتفق على الموقف من الإخوان، الذين بدا انهم قد اخترقوا القضاة ، واننا ندعوكم لحوار مفتوح حول التعديلات الدستورية. فى البداية مانع رئيس الحزب فى فكرة العودة الى موائد الحوار، فالتجربة السابقة محبطة، وقد تحرق الحزب سياسيا، غير أنه تلقى وعودا بأن تكون الحوارات مذاعة فى الإعلام المصرى، وبعد هذا اللقاء صرحت بعض مراجع الحزب الوطنى أن حوارا يوشك أن يبدأ مع الأحزاب الرئيسية. وفى وقت لاحق التقى جمال مبارك برئيس حزب آخر، يوصف بأنه رئيسى. والفكرة الرئيسية فى هذه الصفقات الصغيرة تمكين تلك الاحزاب، مع تعديل قانون الانتخابات، من حصد نسبة يعتد بها من مقاعد البرلمان المقبل، أو إحلال وتجديد مقاعد المعارضة البرلمانية من الإخوان الى أحزاب أخرى!. والمعنى أن الاتجاه العام لا ينبئ بتغيير جوهرى فى قواعد اللعبة السياسية، ولا حوار جدى موثوق فيه، بينما تدار الدولة بطريقة أقرب الى العشوائية، وبالقطعة، وعبر الأجهزة الأمنية، مع تراجع السياسة واليأس منها فى المجتمع، وهذه كلها مؤشرات خطيرة تنذر بأن العام الجديد هو الجحيم، وفى أفضل الأحوال سوف تقف مصر فيه على أبوابه الملتهبة.
No comments:
Post a Comment