Saturday, January 13, 2007

النكتة صوت الشعب المطحون ـ د. جابر قميحة

تة صوت الشعب المطحون ـ د. جابر قميحة

عرفوا "الإنسان" بتعريفات متعددة , لعل أشهرها وأقدمها أنه "حيوان ناطق" , أي مفكر . ومن هذه التعريفات كذلك : "أنه حيوان مخترع" أي: متطور, وضربوا مثلاً بالإنسان والقرد، فالقرد ـ من ملايين السنين ـ ما زال يعيش في الكهوف وبين الأشجار ويأكل الموجود الجاهز من ثمار وحشائش وغيرها، أما الإنسان فقد طور حياته وبيئته , فحول سكنه من الكهوف إلى البيوت المبنية ...و إلى ناطحات السحاب. وطور ملبسه من ورق الشجر إلى جلد الحيوانات , ثم إلى أخفر المنسوجات... الخ، وطور حياته من الفوضوية إلى الحياة الاجتماعية المحكومة بنظام قانوني .
وعرفوا الإنسان كذلك بأنه "حيوان ضاحك" , والضحك تعبير معين يظهر على قسمات الوجه - وخصوصًا الشفتين - مصحوبا بصوت معين هو صوت الضحكة الذي ـ إذا علا وارتفع ـ سمي "قهقهة" والضحك نوعان: ضحك تعبيري , وضحك تعويضي . والأول مصدره شعور الإنسان بالفرح والسعادة . أما النوع الثاني فسببه تلاحق الشدائد والمصائب على الإنسان حتى يفقد إحساسه بها على حد قول المتنبي:
رماني الدهرُ بالانصالِ حتى
فؤادي في غشاء من نبالِ
فكنت إذا أصابتني سهام
تكسّرت النصال على النصال
وأمام حالة "اللامبالاة" هذه يلجأ المرزوء إلى ملء منطقة السعادة المفقودة في شعوره بالضحك الذي يأخذ صورة السخرية من ظالميه وأعدائه.. يسخر منهم ويضحك , ويُضحك الآخرين عليهم, منتقما منهم بلسانه بعد أن عجز عن الثأر منهم بيده , ويجد أن أمضى سلاح في هذا المقام هو "النكتة", والنكتة السياسية بصفة خاصة. وقد وصفها خالد محمد خالد ـ رحمه الله ـ بأنها "الاستمناء ـ أي العادة السرية ـ للشعب المظلوم . هذا , ولفظة "النكتة" تعني المعاني الآتية في اللغة العربية:
1 ـ حز الأرض، أو ضربها بعود أو عصا، وإحداث أثر فيها.
2 ـ النقطة السوداء كوسخ في المرآة أو السيف أو العين ... الخ
3 ـ الضربة أو الطعنة، أو إلقاء الرجل في الأرض على رأسه , والرجل النـكَّات هو: الطعان في الناس.
وهناك كلمة تشبهها في المعنى هي كلمة "التبكيت" وهي ـ كما جاء في لسان العرب ـ الضرب بالعصا والسيف واليد ونحوها، وهو أيضًا: التقريع والتوبيخ.
والتعريف اللغوي يشير في قوة إلى الطابع النقدي المعنوي "للنكتة" : فهي تكشف العيوب والمثالب, وتهزها وتضربها بالسخرية الشديدة المرة . وهي ـ كالتبكيت ـ تحمل معنى التقريع والتوبيخ , ونذكر في هذا المقام أن عبد الله النديم أصدر مجلة سماها "التنكيت والتبكيت" كانت تهاجم المستعمرين والفاسدين بسخرية وتهكم.
ويعد الشعب المصري من أكثر شعوب العالم ضحكًا وتنكيتًا ـ وذلك على سبيل التعويض طبعًا - لأنه تعرض على مدار التاريخ للظلم الفادح والقهر الطحون . والعلاقة بين النكتة والظلم السياسي والاجتماعي علاقة طردية , فهي تكثر وتتنوع وتنتشر في عهود الظلم والدكتاتورية , وتقل ـ بل تختفي ـ في عهود العدل والحرية , لذلك كان النصف الثاني من القرن العشرين بعد قيام الميمونة سنة 1952م اغزر العهود وأشدها وأمرها نكتًا , وأغلبها يرتبط بتصرفات المسئولين الكبار إذا شذت عن الطريق القويم . وكثير من هذه النكت غير صالح للنشر في أي عهد من العهود , لبشاعته وتوظيفه كلمات خارجة يعاقب عليها القانون . ومن أكثر النكت اعتدالاً النكت الآتية:
* سأل الأول الثاني: هيه.. سمعت آخر نكتة؟ فرد عليه مش عايز اسمعها. سيبني أربي العيال . فأخذ الأول يتأفف :أف... أف . فقال له الثاني غاضبًا: يا أخي بطل كلام في السياسة.
* خرج الفأر من الجحر ليبحث عن رزقه , وترك زوجته مع أولاده الصغار, ولكنه سرعان ما عاد ـ وهو يلهث - وطلب من زوجته أن تغلق باب الجحر بسرعة ؛ لأنه رأى رجال الأمن يقبضون على الإخوان المسلمين , قالت زوجته : ولكنك لست من الإخوان... أنت مجرد فأر . فصرخ في وجهها: يا غبية إنهم لن يصدقوا أنني فأر .
* التقي مصري وأمريكي، فقال الأمريكي: عندنا من الحرية ما يمكننا من التظاهر في أكبر ميادين نيويورك، والهتاف بسقوط بوش، فقال المصري: ونحن نتمتع بحرية واسعة حتى إننا نستطيع أن نتظاهر في ميدان التحرير، ونهتف أيضا بسقوط بوش.
* بعد أن خلع أحد المصريين ضرسه عند طبيب الأسنان في القاهرة، تورم أنفه بصورة مفزعة، فعرض نفسه على أشهر طبيب أسنان، وجراحة الفم في العالم، ومقره باريس، ودار بينهما الحوار التالي ( بعد أن فزع الطبيب العالمي من تضخم الأنف بشكل رعب ).
ـ ماذا جرى؟
ـ خلعت ضرسي في القاهرة.
ـ ولكن خلع الضرس لا يؤدي إلى هذه النتيجة المفزعة.
ـ لقد خلعته من أنفي: وضع الطبيب "كماشته" ووصل بها إلى فمي المغلق عن طريق أحد ثقبي أنفي، ثم خلع ضرسي، وأخرجه عن طريق الأنف .
ـ عجيبة!!! ولماذا لم يخلع ضرسك عن طريق فمك مباشرة.
ـ لأننا في مصر لا يستطيع أي مواطن "أن يفتح فمه".
* قيل إن أحد الرؤساء أراد أن يكرم الرئيس الذي سبقه، فأمر أن يركب في قبره "جهاز تكييف"، وأتاه "المرحوم" في المنام وقال له: شكرًا.. لقد أرحتني من حرارة القبر الحقيقة التكييف ده "يرد الروح" , فقام من نومه فزعًا, وأخذ يصرخ: شيلوا التكييف بسرعة.. شيلوا التكييف.
* يقال: أن أحد الرؤساء كان يقول في كل خطبة من خطبه "وأنا بحمد الله في سياستي، ومعيشتي أتمثل وأقتدي بعمر".
فتجرأ أحد حوارييه وهمس في أذنه:
ـ ولكن سياستك تختلف تمامًا عن سياسة عمر بن الخطاب فأجابه الرئيس.
ـ أنا لا أقصد عمر بن الخطاب، ولكني أقصد "عمر الشريف" اللي كان جوز ـ الله يمسيها بالخير- فاتن حمامة.
* وفي العهد الحاضر كثرت النكت التي تسخر من الوزارة وسياستها وكان ذلك يضايق الدكتور نظيف إلى أبعد حد، فأرسل يستشير خبيرًا أمنيًا كبيرًا عن كيفية اختراع هذه النكت؟ وانتشارها بسرعة مذهلة، وكان جواب الخبير: هذه النكت قطعًا مصدرها شخص واحد يتسم بالذكاء، وحضور البديهة، ينشرها بين أصدقائه، ومنهم يتلقفها الناس في شغف، ويروونها لشعورهم بكراهية النظام، وكلف رئيس الوزراء قواته المخابراتية التي بثت عيونها في كل مكان إلى أن اهتدوا إلى " فتوة " اجتمع حوله مجموعة من أصدقائه، وأخذ يتدفق بالنكت الجديدة كأنه ماكينة. فقبضوا عليه، وأحضروه بين يدي الدكتور نظيف الذي بادره قائلا: بقي أنت اللي بتخترع النكت؟؟ دنا هخرب بيتك. وفجأة دخل وزير التموين، وهو يقول باعتزاز وصوت مرتفع:
ـ خلاص يا دكتور.. خلاص ابتداء من 1/1/2007م. ستنخفض أسعار السلع والخدمات بنسبة 30% , فقهقه الفتوة بصوت عال قائلاً: شفت يا دكتور؟؟ أنا ولا هو اللي بنخترع النكت؟
* يقال أن أحد المواطنين ذهب إلى صفوت الشريف , وقال له " هذه عشرة آلاف جنيه مني , واشرح لي المقصود بالعبور الثاني " . فقال صفوت " بل لك مني عشرون ألف جنيه لو شرحت أنت لي المقصود بالعبور الثاني " .
* يقال إن أحد المواطنين الفقراء ادخر من دخله، ثلاثة جنيهات وذهب إلى الجزار في اعتزاز.
ـ من فضلك اديني بثلاثة جنيه لحمه.
ـ نعم!! امش يا راجل من هنا وإلا فلقت دماغك بالساطور، هوّ فيه لحمه بثلاثة جنيه ؟.
ـ طب اديني بالثلاثة جنيه ماسورة عضم.
ـ برضه مفيش ماسور بثلاثة جنيه.
ـ طب خد الثلاثة جنيه وسيبني أحضن العجل خمس دقايق.
* وذهب أحدهم إلى جزار آخر، وقال:
ـ اديني بربع جنيه لحمه.
ـ طب امش من هنا لحسن أخلّي أهلك يخدوا عزاك.
ـ إذن أنت ممتنع عن البيع، والمادة 32 فقرة أ من قانون العقوبات تقر ...
فخاف الجزار ووزن له قطعة لحم في حجم الإصبع ثم سأله : حتعمل إيه بالحتة دي؟
ـ مفيش حاجة ,أكتر من أني حلِفّها في سجارتين.

هذا عن النكتة , فإذا كانت قصيرة جدًّا فهي "قفشة" كقولهم: إن المخابرات الأمريكية عثرت على بصمات ابن لادن على "قفا بوش" , وأن بوش ينام على الأرض ,لا على سرير خوفا من "المُـلا".
***********
وآمل – في النهاية - أن تكون معي – يا قارئي العزيز – في أن النكتة من أصدق الأصوات تعبيرا عن " "جُـوَّانية " الشعب المكبوت ... المخروس ... المطـحون .ولكل منها دلالة سياسية , أو اجتماعية . وآه ...آه ...!!! يا ليت حكامنا الأشاوس يقرءون , ويفهمون , ويستـجيبون . ولكن :
لقد أ سمعتَ لو ناديتَ حيا = ولكن لا حيـاة لمـن تنادي
ونار لو نفختَ بها أضاءتْ = ولكن ضاع نفخك في الرمادِ
komeha@menanet.net

No comments: