بقلم د. حسن نافعة ٢١/١/٢٠٠٧
أثار التصريح الذي أدلي به الرئيس حسني مبارك منذ أيام، واعتبر فيه جماعة الإخوان المسلمين خطرا علي أمن مصر القومي، ردود أفعال واسعة النطاق علي الصعيدين المحلي والدولي.
وبينما تعامل البعض مع هذا التصريح كوجهة نظر قابلة للاتفاق أو الاختلاف حولها، وبالتالي مادة للتحليل والتعليقات السياسية،فقد أصابني بانزعاج وقلق بالغين، واعتبرته دليلا قاطعا علي استمرار ضيق الأفق السياسي ووصول النظام إلي مأزق غير قابل للخروج منه إلا بانفجاره من داخله. وهناك أسباب كثيرة تدعو إلي هذا الانزعاج يمكن ردها جميعا إلي ثلاثة أمور أساسية:
١- الأمر الأول: صدور التصريح عن رئيس الدولة،وليس عن شخصية حزبية يسهل اتهامها بالرغبة في تهويل خطر الإخوان لأسباب سياسية أو أيديولوجية. صحيح أن الرئيس مبارك هو رئيس حزب حاكم يحس بالتهديد من تنامي القوة السياسية لجماعة الإخوان وبالتالي من حقه أن يعبر عن إحساسه بالطريقة التي يراها ملائمة لمصالحه وأهدافه الحزبية.
غير أنه يفترض في رئيس الدولة أن يسمو بنفسه فوق المصالح والصراعات الحزبية الضيقة، خصوصا عند تناوله مصادر تهديد الأمن القومي، وأن يكون قادرا باستمرار علي التمييز بين ما قد يراه تهديدا لسلطة ومصالح حزبه الحاكم وما يمكن أن يشكل بالفعل تهديدا لأمن ومصالح الدولة التي يحكمها والوطن الذي يقوده.
فرئيس الدولة مسؤول عن سلامة المجتمع ككل وهو، بصفته هذه، القائد الأعلي للقوات المسلحة المسؤولة عن حماية الأمن القومي ضد أي خطر يواجهه. وعندما يتحدث رئيس الدولة عن خطر خارجي يهدد الأمن القومي فمن الطبيعي أن يحتشد المجتمع بكل قواه المدنية والعسكرية وراءه.
لكنه عندما يتحدث عن خطر داخلي يتم اختياره لأسباب حزبية وأيديولوجية ضيقة فإن حديثه يمكن أن يفهم في هذه الحالة علي أنه نوع من التحريض والشحن ضد فريق سياسي بعينه. ولا جدال في أن عدم التمييز بين المصالح العليا للوطن والمصالح الحزبية الضيقة ينطوي علي خلط في الأوراق يصبح غير جائز وغير مقبول.
وإذا كان من حق رئيس الدولة، بل من واجبه أن يستنفر جميع القوي المجتمعية،المدنية منها والمسلحة دفاعا عن خطر خارجي يهدد الجميع فليس من حقه تأليبها ضد خصم سياسي ق يري البعض أنه لا يشكل تهديدا إلا للحزب الحاكم.
٢- الأمر الثاني: يتعلق بطبيعة الأخطار التي يمكن اعتبارها تهديدا لأمن مصر القومي. فليس من المعتاد في تاريخ الحياة السياسية المصرية أن يحدد رئيس الدولة جهة سياسية بعينها علي أنها تشكل خطرا يهدد أمن مصر القومي. ولأن جيلنا تربي علي إدراك التحديات الخارجية،
خاصة ما يتعلق منها بإسرائيل والمشروع الصهيوني، باعتبارها تشكل أهم مصادر تهديد الأمن القومي فمن الصعب عليه أن يقتنع بالمنطق الكامن وراء المحاولات الرامية لإعادة ترتيب الأولويات في هذا الصدد وتقديم مصادر التهديد الداخلية علي مصادر التهديد الخارجية.
وحتي بافتراض أن بعض المصادر الداخلية يمكن أن تشكل في حالات معينة تهديدا لأمن مصر القومي،فمن الضروري أن يسند هذا التهديد إلي سلوك اجتماعي أو سياسي يتعين تجريمه بصرف النظر عن مرتكبيه، وليس إلي جماعة أو قوة سياسية بعينها.
ولو أن الرئيس كان قد حدد الإرهاب أو الفساد أو غير ذلك من ألوان المفاسد السياسية والاجتماعية باعتبارها مصادر لتهديد الأمن القومي، وطالب بحشد وتعبئة الجهود لمواجهتها، لتفاعل معه الشعب وحظي حديثه بمصداقية كبيرة.
لكن أن يعتبر جماعة الإخوان المسلمين وحدها خطرا علي أمن مصر القومي،في وقت تبدو فيه إسرائيل دولة صديقة كما يبدو فيه أولمرت رجلا طيبا، فهذا أمر يصعب التعاطي معه وقبوله علي علاته خصوصا أن جماعة الإخوان المسلمين هي في المرحلة الراهنة علي الأقل القوة السياسية الأكثر تمثيلا في مجلس الشعب!.
٣- الأمر الثالث: يتعلق بتوقيت التصريح، والذي جاء في وقت تطرق فيه فتنة طائفية كبري أبواب العالم الإسلامي كله، وتلوح في الوقت نفسه بوادر حرب جديدة علي إحدي الدول الكبري في المنطقة ستكون لها آثار مدمرة علي الجميع. ومن شأن تصريحات من هذا النوع تعميق حدة الصراعات القائمة، وفتح جبهات صراع جديدة وخلط الأوراق في وقت تبدو فيه الحاجة ماسة إلي رص الصفوف ودعم تماسك الجبهة الداخلية.
وفي تقديري فإن حجم الفوضي التي يمكن أن تترتب علي اندلاع حرب أخري في المنطقة بين إيران، من ناحية، وإسرائيل والولايات المتحدة، من ناحية أخري، هي من الضخامة التي قد تبدو معها الساحة العراقية الآن وكأنها تمثل حالة استقرار تحسدها عليها بقية دول المنطقة!.
فهذه الحرب إن اندلعت لا قدر الله لن تأخذ شكل الحرب التقليدية بين دول تتصارع جيوشها فوق ساحات قتال، أو حتي شكل حرب طائفية بين شيعة وسنة ولكنها ربما تكون حرب جميع الطوائف والفئات ضد جميع الطوائف والفئات الأخري، أو حرب الكل، ضد الكل علي النحو الذي تحدث به الفيلسوف البريطاني هوبز منذ أكثر من ثلاثة قرون في وصفه حالة الطبيعة!.
فإذا ما نحينا جانبا بواعث وأسباب القلق من تصريح الرئيس مبارك وحاولنا أن نبحث في دلالاته الحقيقية، فربما نجد أنه يعكس، من ناحية، اعترافا ضمنيا بالفشل في إقامة نظام قادر علي احتواء جماعة الإخوان المسلمين وتحجيم نفوذهم بالوسائل السياسية، كما يعكس،من ناحية أخري، نوايا مضمرة تتعلق بمستقبل هذا النظام،خاصة ما يتعلق منه بمسألة نقل السلطة من الرئيس الأب إلي الرئيس الابن والسيناريوهات المتوقعة لمعالجة هذه المسألة. فبعد ما يقرب من ربع قرن قضاه في السلطة يأتي الرئيس مبارك اليوم ليحاول إقناع شعبه بأن الجماعة الوحيدة التي لها تمثيل سياسي يعتد به في البرلمان باتت تشكل خطرا علي أمن مصر القومي.
ومن الطبيعي أن يبدو شعب مصر متشككا وأن يطرح علي رئيسه مجموعة من الأسئلة المهمة: هل ظهر هذا الخطر فجأة أم أنه كان خطرا قائما علي الدوام استفحل تدريجيا بسبب الفشل في التعامل معه واحتوائه؟ وإذا كان النظام الحاكم قد فشل في احتواء هذا الخطر والتعامل معه طوال ربع قرن فكيف يمكن له أن ينجح في احتوائه والتعامل معه الآن بعد أن استفحل ووصل إلي حدود الخطر الذي يشكل تهديدا لأمن مصر القومي؟.
فالجماعة ما زالت تنظيما محظورا سبق للنظام الحاكم وفي كل العصور أن استخدم معه أسلوب العصا والجزرة وفشل. والآن: هل ينوي اعتقال جميع أعضاء الجماعة والزج بهم جميعا في السجون،أم حرمانهم من حقوقهم السياسية، أم جمعهم في ميدان عام وإحراقهم أو إطلاق الرصاص عليهم، أم نفيهم ودفعهم للهجرة إلي خارج الوطن؟.
ربما يشي تصريح الرئيس مبارك بالرغبة في عزل الجماعة سياسيا ومجتمعيا، من ناحية، وتصعيد الإجراءات الأمنية في مواجهتها، من ناحية أخري. لكن جميع المؤشرات تشير إلي أن هذه الإجراءات مصيرها الفشل طالما افتقد النظام أي رؤية قادرة علي دمج الجماعة في نسيج الحياة السياسية.
إن مشكلة النظام الحالي مع الإخوان لا تكمن في خلط الجماعة بين الدين والسياسة كما يحاول أن يدعي ولكن في قوتها السياسية والتنظيمية. ولأن هذا النظام كان، ولايزال وسيظل نظاما مغلقا يصر علي احتكار الثروة والسلطة معا، وربما نقلها من الأب إلي الابن باعتبار أن هذا النقل هو الضمانة الوحيدة لاستمرار النخبة الحاكمة بتركيبتها الراهنة، فهو لا يبدو علي استعداد للتسامح مع أي قوة سياسية أخري قادرة علي منافسته أو مزاحمته حتي لو كانت من غلاة العلمانيين. فمنذ أيام رفضت لجنة الأحزاب التي يسيطر عليها الحزب الحاكم التصريح لاثني عشر حزبا لا علاقة لها بجماعة الإخوان المسلمين، من بينها حزبا الوسط والكرامة.
وليس لهذا الرفض سوي معني واحد وهو أن الحزب الحاكم يريد هندسة الواقع السياسي المصري علي مقاسه وأن يستأصل منه أي قوة سياسية قادرة علي تهديد وضعه الاحتكاري للسلطة، وهو أمر مستحيل.
مشكلة النخبة السياسية والفكرية المسيطرة داخل الحزب الوطني أنها تنسي شيئا بسيطا جدا، لكنه بالغ الأهمية، وهو أن حالة الاستقطاب الراهنة في مصر تعكس قوة الدين في المجتمع، من ناحية، وقوة جهاز الدولة أو بيروقراطيتها، من ناحية أخري.
وبينما استطاعت جماعة الإخوان المسلمين، ولأسباب تاريخية، أن تصبح هي المعبرة سياسيا عن قوة الدين في المجتمع، فإن الحزب الحاكم ليس سوي مجرد تعبير سياسي عن جبروت الجهاز البيروقراطي للدولة.
وإذا كانت الانتخابات التشريعية الأخيرة قد أظهرت أن ثلاثة أرباع المصريين مازالوا عازفين عن المشاركة السياسية فذلك يرجع لعدم وجود خيار ثالث.
ولذلك ستظل جماعة الإخوان هي البديل الوحيد للنظام القائم إذا ما استمر غياب التعددية الحقيقية وهذا الغياب سيمهد الطريق حتما أمام جماعة الإخوان للوصول إلي السلطة سواء تم ذلك بطريق الانتخابات أو بغيرها. وهنا تكمن المفارقة. فسياسات الحزب الحاكم لمحاربة الإخوان ستنتهي بتسليم السلطة للجماعة.. فأبشروا!
No comments:
Post a Comment