Monday, April 30, 2007

شاهد ما شافش حاجة


د. أحمد المجدوب : المصريون ـ بتاريخ 29 - 4 - 2007
لا أقصد الدور الذي قام به الممثل عادل امام في المسرحية التي تحمل هذا الإسم وإنما أقصد الدور قام به في المقابلة التي أجراها معه مندوب الطبعة العربية من مجلة نيوز ويك الأمريكية والذي نشرته صحيفة الدستور في العدد الصادر في 27 إبريل 2007 فقد حاول ، في اجاباته على الأسئلة التي وجهت إليه ، أن يظهر في صورة الشاهد الذي يعرف كل حاجة فكان طبيعيا أن يقع في أخطاء ليست بالهينة ، على رأسها ما قاله عن الأخوان المسلمين من أن " تاريخهم ملئ بالدماء وهذا مرفوض تماما ويجب أن نقاوم عودته ".وأنا في ردي على هذا الكلام اتصرف بدافع من ديني وأخلاقي والعلم الذي تعلمته وهو علم القانون الذي تعلمته ثم علمته لأجيال من الشباب على مدى نصف قرن والذي أصبح جزءا من شخصيتي بحكم تصرفاتي ومواقفي وآرائي وليس مجرد وسيلة لكسب الرزق وأداة للحصول على المكاسب والفوائد أو تحقيق الشهرة وذيوع الصيت . فما سأقوله هنا ليس الهدف منه الدفاع عن الإخوان المسلمين فأنا أؤمن بأن الله تعالى يدافع عن الذين آمنو ولكن أقوله بدافع الغيرة على الحقائق الثابتة من ناحية ومن ناحية أخرى احتراما لعقول الناس وحماية لها من عمليات التسطيح والتزييف التي يقوم بها البعض . وأبدأ فأقول لك يا سيد عادي أن ما قلته عن هذه الجماعة غير صحيح فتاريخهم الذي امتد على مدى ثمانية عقود تقريبا ليس مليئا بالدماء كما زعمت فالعقود الخمسة الأخيرة خلت من الدماء فيما عدا دماء الأخوان أنفسهم الذين تعرضوا لأبشع أشكال التعذيب والقتل . أما ما حدث في العقود الثلاثة الأولى من عمر هذه الجماعة من اغتيال بعض المسئولين فإنهم لم يكونوا وحدهم الذين فعلوا ذلك وإنما فعله غيرهم ومنهم أنوار السادات الذي خطط لإغتيال الوزير أمين عثمان ونفذ الجريمة مع شريكه حسين توفيق . كذلك حاول مرتين قتل مصطفى النحاس زعيم حزب الوفد وذلك بواسطة القنابل التي وضعها تحت غرفة نومه .ليس ذلك وحسب بل ان جمال عبد الناصر الذي كان يتزعم ما كان يعرف بالضباط الاحرار كلف بعضهم بإغتيال الفريق حسين سري عامر الذي كان قائدا للجيش وينافس اللواء محمد نجيب على رئاسة نادي الجيش . وبعد نجاح الانقلاب العسكري قتل الانقلابيون العشرات من المواطنين الذين اتهموهم بمعاداة الثورة في مقدمتهم العاملان خميس والبقري اللذان اعدما في كفر الدوار ثم سيد قطب وعبد القادر عودة وغيرهما بالإضافة إلى المئات الذين ازهقت أرواحهم في السجون والمعتقلات ومنهم شهدي عطية الشيوعي الذي لما وصل خبر قتله إلى موسكو ثار الرئيس السوفيتي خروتشوف ثورة عارمة على عبد الناصر الذي كان هناك يتفاوض من أجل الحصول على أسلحة واتهمه بقتل الشرفاء والمناضلين وعموما فإنني ، يا سيادة الشاهد اللي ما شافش حاجة أدعوك لكي تضم صوتك إلى صوتي لبدء حملة تنقيب وبحث واسعة تشمل المناطق التي كان يوجد بها معتقلات كالوادي الجديد والأراضي التي كانت بجوار السجون و الليمانات والتي دفنت بها مئات بل آلاف الجثث لمسجونين ومعتقلين أبرياء .هذا فيما يختص بما قلته عن الدماء أما الفساد الذي لم تر مصر له مثيلا في العهود السابقة والذي قلت وببساطة غريبة أن بعض أعضاء الحزب الوطني قد انغمسوا فيه فإنني أعدك للإختلاء بنفسك والعودة بذاكرتك إلى الوراء وبالتحديد يوم قيام الإنقلاب واستعادة أسماء الأشخاص الذين نهبوا مصر وأفسدوا الحياة بها وستجد أنهم جميعا وبلا استثناء من الحكام وأعوانهم وأقاربهم وأصهارهم يقابلهم في الجانب الآخر الأخوان المسلمون الذين ضحوا بالكثير والكثير جدا من أجل مصر . ياسيد عادل لقد تحمل هؤلاء الناس ما لا قبل لأحد به فإتق الله فيهم وفي مصر .

مصر بعد ربع قرن من تحرير سيناء


مصر بعد ربع قرن من تحرير سيناء بقلم د. حسن نافعة ـــ المصري اليوم ٢٩/٤/٢٠٠٧
تحتفل مصر هذه الأيام بذكري مرور ربع قرن علي «تحرير» سيناء. ولأن رئيس الدولة الذي شاءت له الأقدار أن يرفع علم مصر، عقب اكتمال انسحاب القوات المحتلة في ٢٥ أبريل عام ١٩٨٢، لم يكن هو ذات الرئيس الذي قام بمحض إرادته بإبرام معاهدة «السلام»، التي تم بموجبها سحب إسرائيل قواتها من سيناء، فقد اختلط الأمر علي الناس، وبدا رافع العلم وكأنه هو ذاته محرر مصر من الاحتلال. وهنا تتجلي واحدة من المفارقات التاريخية الكبري التي شهدتها مصر، خلال الربع الأخير من القرن العشرين.
فرغم الاعتراف بوجود علاقة عضوية بين حرب أكتوبر عام ٧٣، وتحرير سيناء عام ٨٢، والتسليم بالحقيقة القائلة بأنه ما كان يمكن لمصر أن تستعيد كامل ترابها الوطني، ما لم يقاتل جيشها بكل هذه البسالة، ويسقط خط بارليف، فإن خلط الأوراق بين رئيس الدولة الذي أعد للحرب، وخطط لها، ورئيس الدولة الذي قدر له أن يتخذ قرار شنها شكل واحدة أخري من تلك المفارقات التاريخية الكبري.
ولأن رئيس الدولة الذي اتخذ قرار الحرب، لم يكن هو ذات الرئيس الذي آمن بحتميتها، ووفر كل الإمكانات اللازمة لتحقيق النصر فيها، فقد أدت لعبة خلط الأوراق إلي أن يبدو صاحب قرار الحرب، وكأنه صانعها وصاحب الفضل الأوحد في الانتصار فيها. فإذا أضفنا إلي ذلك حقيقة أن الرئيس الذي آمن بحتمية الحرب، من منطلق «إن ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة»،
وصمم علي القتال واستعادة الكرامة، كان هو نفسه المسؤول عن هزيمة ٦٧ التي مكنت إسرائيل من احتلال سيناء، لتبين لنا إلي أي مدي كانت الأرضية ممهدة لعملية خلط هائل ومتعمد في الأوراق، نجم عنه عدم التمييز بين من ضحوا بجهدهم وبأرواحهم، ليصنعوا النصر والتحرير، ومن شاءت لهم الأقدار أن يكونوا في مواقع تسمح لهم بالانتساب إليه، من أجل تحويله إلي تجارة رائجة تكسّبوا منها كثيرا، ووظفوها لخدمة أجندتهم ومصالحهم الخاصة.
لقد اعتاد المصريون طوال تلك الفترة الممتدة، أن يتحول الاحتفال بتحرير سيناء، إلي مناسبة للتفنن في إظهار عبدالناصر بمظهر الرجل المهزوم والمسؤول عن احتلال سيناء، وإظهار السادات بمظهر الرجل المسؤول عن النصر والتحرير، وإظهار حسني مبارك بمظهر الرجل المسؤول عن البناء والتعمير. وتلك صورة صنعها إعلام رسمي موجه، افتقد الضمير الوطني والكفاءة المهنية معا، لكنها لا تمت للحقائق التاريخية بصلة.
لست في حاجة إلي التأكيد علي أن الصورة الخاصة لأي من هؤلاء الزعماء أو القادة الثلاث، لا تهمني أو تعنيني في قليل أو كثير. فلم يسبق لأي منهم أن قدم لي خدمة أو منفعة شخصية، أو تسبب في إلحاق أي ضرر أو أذي بي. ما يعنيني، وأظن أنه يعنينا جميعا، هو صورة مصر وتاريخها.
ومن هذا المنطلق أود أن أقول إنه لا يصح النظر إلي العملية، التي أدت إلي تحرير سيناء، كعملية منفصلة ومستقلة بذاتها، بل يتعين النظر إليها باعتبارها حلقة في سلسلة تاريخية من نضال شعبي طويل، استهدف تحرير التراب الوطني في كل مرة تعرض فيها للغزو والاحتلال، لا باعتباره هدفا في حد ذاته، ولكن باعتباره وسيلة لهدف أعظم، وهو تحرير الإرادة الوطنية وتمكينها من الانطلاق، لتحقيق تقدم وازدهار الوطن كله.
وحتي إذا أخذنا عملية تحرير سيناء كحلقة مستقلة بذاتها، فليس بوسع أحد أن ينكر أن الشعب هو صاحب الفضل الأوحد في الانتصار الذي تحقق، لأنه الطرف الذي قدم كل التضحيات المادية والبشرية التي تطلبها، وبالتالي هو صاحب الحق الأوحد في التمتع بثمراته.
ولذلك فحين تجد مصر نفسها بعد ٢٥ عاما من تحرير الأرض ضعيفة إلي هذا الحد، وغائبة عن محيط إقليمي اشتعلت فيه الأزمات، التي باتت تحاصرها من كل جانب، وتقترب رويداً رويداً من حدودها، وحين تجد مصر نفسها فاقدة إرادتها الوطنية، التي تبدو مكبلة بالأغلال، وعاجزة عن خلق فرص عمل شريفة لملايين من أبنائها، تحولوا إلي عاطلين ومتسولين ومشردين في بقاع الأرض، وحين تجد مصر نفسها عاجزة عن توفير فرص تعليم ملائمة أو خدمات صحية حقيقية للغالبية الساحقة من أبنائها، فمن حقها أن تتساءل: لم كانت كل تلك التضحيات، ومن الذي استفاد منها في النهاية؟
كانت النخبة المصرية في مرحلة من المراحل، تبدو منشغلة في حرب شبه قبلية بين أنصار عبدالناصر وأنصار السادات، ويري كل فريق أن زعيمه هو البطل الحقيقي، وأن غريمه هو المهزوم الذي تسبب لمصر في كل ما مرت، وتمر به من كوارث وأزمات.
غير أن هذه الحرب يجب أن تنتهي الآن. فإذا كان حظ عبدالناصر العاثر، قد حال بينه وبين قيادة حرب التحرير بنفسه، ورحل قبل أن تثأر مصر لكرامتها، إلا أن ما جري لمصر بعد ذلك يثبت بالدليل القاطع أن هذا الرجل أحب مصر، وبادلته مصر حباً بحب. ويكفي أنه كان صاحب مشروع وطني خاض لتحقيقه معارك مظفرة كثيرة، لم يكن أقلها تحرير البلاد من المحتل البريطاني والإصلاح الزراعي وبناء السد العالي.
وإذا كان حظ السادات العاثر قد حال بينه وبين رفع العلم المصري، بعد اكتمال انسحاب المحتل الإسرائيلي ورحل، بينما كل رموز النخبة المصرية قابعة في السجون، إلا أن التاريخ لن ينسي له مطلقا أنه كان صاحب قرار العبور العظيم.
ورغم اختلاف كثيرين، وأنا منهم، مع أسلوبه في إدارة الصراع العربي - الإسرائيلي، فإنني أعتقد أن هذا الرجل المغامر إلي حد المقامرة، ما كان سيقبل مطلقا أن تتلاعب به الولايات المتحدة وإسرائيل، علي نحو ما نراه الآن، وأنه كان يملك من الدهاء السياسي ما يؤهله للتعامل معه بقدر أكبر من الكفاءة. ولا أعتقد أيضا أن حبه الشديد لذاته، التي ظل يبحث عنها حتي مماته، كان يمكن أن يصل به إلي حد الرغبة في امتلاك مصر وتوريثها لأحد أبنائه، كما يحدث الآن.
لذلك أعتقد أن مشكلة مصر الحقيقية هي مع مبارك، وليس مع أحد غيره. فعبدالناصر، بكل جبروته، لم يحكم مصر سوي ستة عشر عاما، والسادات، بكل دهائه أيضا، لم يحكم مصر سوي أحد عشر عاما، أما مبارك، الذي لم يعرف له تاريخ سياسي من قبل، ولم يكن مضطراً إلي خوض معركة الحرب، ولا إلي خوض معركة سلام، فقد تسلم البلاد محررة، أو شبه محررة واستفاد من أفضل ما أنجزه عبدالناصر والسادات، دون أن يتحمل أياً من تبعات أخطائهما. فماذا أنجز الرئيس مبارك بالضبط طوال تلك الفترة، التي تبلغ إجمالي فترتي عبدالناصر والسادات.
في تقديري أن هذا الإنجاز لا يتعدي أمرين: الأول قيادة معركة طابا، وقتها كان مبارك يبدو شخصا مختلفا كل الاختلاف، ويستمع إلي الخبراء والفنيين، وتحسين البنية الأساسية من طرق وكباري واتصالات. وفيما عدا ذلك يمكن القول إن حال مصر الآن أسوأ بكثير، مما كانت عليه سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.
ولنقارن مثلا بين حال مصر الآن، وبين حال ألمانيا أو اليابان أو إيطاليا بعد ٢٥ سنة من هزيمتها واستسلامها، بل فلنقارن بين حال مصر وكوريا الجنوبية بعد ٢٥ عاما من تحريرها من الاستعمار الياباني، أظن أن الفرق شاسع جدا.
لقد عاشت مصر طويلا علي نغمة دعائية سامة، تقول إن الحروب التي خاضتها من أجل فلسطين هي التي أفقرتها، وتسببت في تعثرها وتخلفها. فهل كان وضع مصر حين تسلمها الرئيس مبارك، يشبه وضع ألمانيا أو اليابان أو إيطاليا، أو حتي كوريا الجنوبية بعد الحرب العالمية الثانية. بالتأكيد لا.
فقد كانت هذه الدول جميعاً منهارة كلياً، ولا تكاد شعوبها تجد ما تقتات به، وهو وضع يختلف تماماً عن وضع مصر عام ١٩٨١، حين تسلم مبارك مسؤولية السلطة فيها. فعلي الصعيد السياسي لا وجود مستقلاً لمصر مطلقاً علي المسرحين الدولي والإقليمي، وعلي الصعيد الاقتصادي لم تتمكن مصر من تحقيق أي انطلاقة تنموية يعتد بها، وعلي الصعيد الاجتماعي تبدو مصر وكأنها مقدمة علي كارثة كبري، بسبب البطالة والفقر وانتشار الجريمة.
لا شك أن هناك شريحة صغيرة استفادت واغتنت وتضخمت ثرواتها، إلي درجة تبدو خيالية، لكن حال الأغلبية الساحقة من شعب مصر يبدو بائساً.
صحيح أن المرافق الحيوية من الطرق والمجاري والاتصالات، كانت تبدو في حالة يرثي لها، مقارنة بما هي عليه الآن، لكن ماذا يجدي التحسن في حال المرافق العامة، إذا لم يصاحبه تحسن مماثل في أحوال المعيشة والخدمات الصحية والتعليمية. نعم لقد استفاد بعض الناس في مصر، لكن قدرات الوطن ككل تآكلت،، وتدهورت أوضاع التعليم والعلم والتكنولوجيا، علي نحو ليس له مثيل في تاريخ مصر.
ويكفي أن يتجول الإنسان داخل حرم أفضل الجامعات المصرية، أو داخل عنابر أرقي المستشفيات المصرية، أو في شوارع أرقي الأحياء المصرية، ويقارن حال تلك الجامعات والمستشفيات والأحياء بحالها، لا أقول قبل الثورة، ولكن منذ ٢٥ سنة فقط، أو بين حالها وحال مثيلاتها، لا أقول في لندن وباريس ونيويورك، ولكن في عمان والكويت والمنامة، ليدرك أن مصر تسير في الاتجاه المعاكس، وليس في طريق التقدم.
ورغم ذلك يعتقد الرئيس مبارك أنه صنع لمصر ما يؤهله، ليس فقط للبقاء في السلطة مدي الحياة، ولكن لتوريثها، ونقلها إلي ابنه النابغة.. فهل هذا معقول؟ وهل ستقبل مصر؟

ماذا بعد فشل الحركات السياسية المصرية؟


أسامة الهتيمي : المصريون بتاريخ 25 - 4 - 2007
لم أتمن يوما أن أهاجر خارج مصر بقدر ما تمنيت هذه الأيام بعدما كادت تأسرني مشاعر الإحباط والضيق من تدهور الأوضاع إلى هذه الدرجة من السوء والتي انغلقت معها كل بادرة أمل في التغيير بل في الإصلاح الذي ظننا ولوهلة أن حالة مصر تجاوزته حيث لم يعد غير التغيير هو العلاج الناجع والفرصة الأخيرة لانتشال البلاد من الفساد والضياع .وأعجب من نفسي كلما تذكرت حالة الزهو والفرح التي كنت أعيشها قبل أقل من ثلاث سنوات عندما تمكن جيلنا وللمرة الأولى في حياته من أن يرفع صوته بكلمة حق في احد ميادين العاصمة نردد برغم قلتنا هتافات تعبر عن نبض الملايين من شعب مصر الذين فقدوا كل وسيلة يمكن أن تعكس حقيقة مواقفهم .ولا أنسى تلك العبارات التي كنت أرددها على مسامع بعض أصدقائي الذين يعيشون خارج مصر والذين عرفت أن لدى بعضهم اهتماما بالشأن العام وتطور الأحداث من أنكم للأسف لن تشهدوا حالة المخاض التي تعيشها بلادنا معتقدا أنني ممن أنعم الله عليهم واختارهم ليكونوا شاهدين بل وأحد صانعي هذه الحالة .والأعجب أنني كنت ألمح عند بعضهم حالة من الأسى والحسرة لأنهم لن يشهدوا تلك المرحلة فعلا وكأن وقوعها بات قريبا ولم يعد ثمة شك في ذلك فكل شي يؤكدها .ومرت الشهور والسنوات ولم تأت اللحظة التاريخية التي ربما خدعت نفسي بها أو خدعتني بها قلة خبرتي وضيق أفقي وسطحية تأملاتي ورؤيتي فلم تقم الثورة ولم تتحرك الجماهير ولم يهتز للنظام شعرة واحدة تنبأ بأن الغد لنا أو أن الخير قادم عما قريب .سراب بقيعةولقد ظللنا ولسنوات طويلة خلال العمل الطلابي بالجامعة نردد على أسماع زملاءنا الذين كنا ندعوهم للانخراط في العمل السياسي بأن البلاد مقبلة على ثورة شعبية عارمة وأن ما يحول بين الجماهير وهذه الثورة هو تلك القبضة الحديدية والسلوك البوليسي الذي يتعامل به النظام مع القوى والتيارات السياسية .وأنه لو قدر وأتيحت الفرصة للقادة بأن تلتحم بالجماهير وأن تصل إليها فحتما ستتحرك الجماهير وعندها يتحقق الحلم .ولم نكن نردد ذلك خداعا لهؤلاء الطلاب أو من باب اللعب على مشاعرهم الوطنية فقد كانت هذه قناعتنا التي عشنا سنوات لاحقة بعد الجامعة على أمل أن يأتي اليوم الذي نحقق فيه شرط الثورة وهو الالتحام بالجماهير.وجاءت اللحظة واستطعنا أو هكذا تصورنا أن نكسر قيودا ظل النظام ولعقود طويلة يفرضها على الشارع السياسي متعللا بمبررات تختلف من عصر لعصر..فقد كان الأهم لديه هو أن يبقى الصوت خافتا والحركة في مساحة لا تتجاوزها .وشهدت مصر ولأول مرة منذ ما يزيد عن خمسين عاما عدة آلاف يجوبون أكبر شوارعها رافعين لافتات التعبير عن حبها والرغبة في اقتلاع الفساد والاستبداد من أرضها ومرددين في صوت واحد على إيقاع الطبول باطل . باطل . باطل فيما لم يكن هذا التواجد الأمني الذي اعتدناه في مظاهراتنا ومسيراتنا إلا من بعض ضباط مباحث أمن الدولة بثيابهم الملكي وعدد من جنود شرطة المرور.وللأسف وعلى الرغم من التحامنا بالجماهير ظلت هذه الجماهير تكتفي بالمشاهدة وتحقيق الوصف ..وبحسب تقديري فلم ينضم واحد من غير النشطاء المعروفين أو أعضاء الأحزاب المشاركة في ذلك العرس الذي كان يمكن أن يكون بداية حقيقية للتغيير .لن أعدم بكل تأكيد العشرات بل المئات من الطاعنين في كلامي هذا والرافضين له والمحاولين التماس المبررات واستعراض القدرات التحليلية لتفسير ذلك الموقف الشعبي من الحراك السياسي والذي يصب في أغلبه إن لم يكن جميعه في خانة الخوف والرعب التي يعيشها الناس جراء الانتهاكات الأمنية وانشغال الناس في لقمة عيشها والسعي وراء الرزق وهي المبررات التي لا يمكن لي أو لغيري أن يختلف حولها. لكنني أضيف فوق ذلك أن نظرة من فقدان الثقة والمصداقية يتبناها الوعي الجمعي لهذه الجماهير تجاه النخبة التي تضم التيارات والأحزاب والقوى السياسية وهو الأمر الذي ساعد وبقدر كبير على عدم تجاوب هذه الجماهير مع الحراك السياسي في الوقت الذي شاهدنا فيه سلسلة من الإضرابات والاعتصامات الخاصة بأصحاب المهن والحرف والتي بدأت بالقضاة وشملت عمال المصانع والأطباء والمهندسين والفلاحين وحتى عمال النظافة لكنها صبت جميعها حول مصالح ومطالب فئوية تنتهي بانتهاء الاستجابة لهذه المطالب أو حتى الدخول في لعبة التفاوض حولها.والمشترك الوحيد بين أغلب هذه الاعتصامات هو أنه لم يكن خلفها أي من التيارات أو الأحزاب السياسية الفاعلة أو بالأحرى الموجودة بشكل تنظيمي وإن حاولت بعض هذه التيارات أن تركب هذا العمل بحسب المصطلح الذي يستخدمه التنظيميين من أبناء الأحزاب المصرية .ويحضرني في ذلك الاعتصام الذي نظمته زوجات وأسر المعتقلين عام 2005 في مقر نقابة المحامين بوسط القاهرة والذي امتد لما يقرب من شهرين والذي حرصت خلاله منظمات الاعتصام ألا يرتبط اعتصامهن بأي من التيارات وأن لا يسمحن لأيها باستغلال هذا الحدث لصالحه فقد سيطرت عليهن فكرة أن كل حزب يسعى لخدمتهن يعمل لمصالحه ويتاجر بالقضية لحسابات تنظيمية .النقطة صفرفي أعقاب الاستفتاء الذي فبركه النظام لمنح الرئيس مبارك ولاية حكم خامسة وانقضاء الانتخابات التشريعية بمراحلها الثلاثة دون أن تحقق المعارضة المصرية طموحها في إجراء انتخابات نزيهة تعبر عن إرادة الشعب واعتبرنا أن أكبر إنجاز حققته هذه المعارضة أنها كسرت الكثير من التابوهات التي فرضت عليها لسنوات طويلة وأنها أوجدت حالة من الوعي السياسي وتجاوز الخطوط الحمراء التي اصطنعها النظام وأرهب بها أعداءه .وتباهت المعارضة وقتها أنها لم تعد تنتظر إذنا من وزارة الداخلية حتى تنظم مظاهرة شعبية أو أن تعقد مؤتمرا جماهيريا بل إن بعض الحركات التغييرية وعلى رأسها حركة "كفاية" أعلنت أنها ستدفع خلال المرحلة المقبلة بفكرة الإعلان عن تأسيس الأحزاب السياسية من جانب واحد ودون إخطار لجنة شئون الأحزاب التي هي لجنة قتل الأحزاب .لكن يبدو أن النظام أبى أن تتباهى الحركات التغييرية بمكتسباتها برغم فشلها في تحقيق أيا من أهدافها التي من أجل أنشئت وبدءوا بشكل تدريجي في أن يسحب منها ذلك الذي اعتبرته يوما حقا من حقوقها ليعود مجددا إلى النقطة صفر.بل أصبح القول بالعودة إلى النقطة صفر هو مظهر من مظاهر التفاؤل في الوقت الذي أسرع فيه النظام بإجراء ما أطلق عليه تعديلات دستورية هي في مجملها إعلان نهاية الحياة السياسية من جانب النظام واستمرار الإبقاء على كيانات هشة لا تعدو عن كونها أشكال ديكورية غير مسموح لأيها بالتجاوز ليس بحكم قوانين استثنائية أو سيئة السمعة أو مطعون في دستوريتها بل سيكون القتل والاغتيال السياسي هذه المرة بحكم الدستور والقانون وربما أحكام القضاء .حالة التفككلم يصدمن خبر انفصال البعض عن حركة كفاية بل كان على العكس أمرا متوقعا أشارت إليه الكثير من الشواهد كما جاء نتيجة طبيعية لحالة عدم النضج السياسي التي ما زالت تسيطر على قيادات المعارضة التي لم تتعود على تكوين الجبهات السياسية ولا تفرق بين التنسيق والاندماج .وعلى الرغم من أن هناك ربما دوافع حقيقية وراء الانفصال تمثلت في استئثار البعض بإصدار القرارات داخل الحركة أو محاولات آخرين لإيجاد كيانات موالية لأشخاص بعينهم داخل الحركة أيضا إلا أن السبب الحقيقي يعود إلى حرص الكثيرين من فرقاء الحركة على تنفيذ الأجندة الخاصة بكل مكون سياسي بالشكل الذي يوحي في النهاية بأن هذا التيار أو ذاك هو من يدير دفة الأمور ويوجهها داخل الحركة .ومع ذلك فإنه يحسب للحركة قدرتها على تجاوز ذلك الخلاف الذي كان يمكن أن يتطور لما هو أشد وأقصى بالإضافة إلى نجاحها في لم الشمل عبر الدخول في حوارات مع المنسحبين وإجراء بعض الخطوات الإرضائية التي جاء على رأسها اختيار منسق عام جديد للحركة يحظى بقدر ما من القبول والحيادية على الرغم من عضويته التنظيمية بحزب الوسط – تحت التأسيس - .لكن يظل أن مثل هذه الخطوة تأتي كمحاولة لامتصاص غضب الثائرين ولا تعكس حقيقة ما يهدف إليه القائمون على الحركة فما زال يحرص البعض من قياداتها – وهذا يعلمه الجميع – على أن يكون له مجموعة من النشطاء والتنفيذيين المتفرغين للعمل التنظيمي برواتب شهرية يكون ولائهم له كما يروجون لعقد مقارنة بين القيادة الحالية والسابقة للحركة وهو ما يدفع إلى القول بتزايد الاحتمالات لتفجر صراع جديد داخل الحركة ربما يكون أقرب مما نتصور .أما على مستوى شباب الحركة الذين أراهم الجناح الأهم والفاعل الحقيقي داخلها فإن الأوضاع أسوأ بكثير فقد سرت حالة من التفكك داخل الشباب قبل القيادة وظلت حالة من التلاسن والمعارك الكلامية فيما بين الشباب عبر" الجروبات" والمدونات لفترة ليست بالقصيرة خفت حدتها ع مرور الوقت وإن بقت بعض مظاهرها متمثلة في :1- وجود "جروبين" للشباب لكل منهما قيادة مختلفة عن الأخرى .2- اتهامات متبادلة بين البعض بأن ولاءه لفلان أو علان من قيادات الحركة 3- انتقاد عملية التفرغ الذي يحظى بها البعض مقابل راتب شهري 4- اتهامات متبادلة بالعمالة لأجهزة الأمن .يضاف إلى ذلك اندلاع قدر كبير من المشكلات والخلافات الشخصية التي وصلت إلى أقسام الشرطة وسرايا النيابة والتي كانت سببا مباشرا في فشل انعقاد ولو اجتماع واحد للحركة منذ شهور .ولا تختلف الصورة كثيرا داخل الأحزاب سواء على مستوى علاقتها بعضها ببعض أو في داخلها وحدودها فما زالت الاتهامات التقليدية بالعمالة أو التخوين أو التكفير هي سيدة الموقف في الحياة السياسية للدرجة التي لم تعد خافية على أي من العاملين أو الناشطين في العمل العام.ما الحل؟بلا تجمل وبلا أي محاولة للتفلسف أراني مدفوعا إلى القول بأن الصورة فعلا سوداوية ولسنا في حاجة إلى التخفيف من حدة قسوتها فالواقع وملامح الصورة يتنافى مع أي تنظير يسعى إلى الوقوف عند حد الكلمات الرنانة والعبارات الحماسية لأنها سرعان ما ستذوب ويتلاشى أثرها عند اصطدامها بهذا الواقع .وبالتالي فالمسألة خطيرة ولم يعد التخندق داخل كيانات سياسية (قوى أو أحزاب) بهدف تحقيق بعض المكتسبات التنظيمية في أواسط الناشطين أنفسهم أو التظاهر بالتواجد بشكل أقوى لا يعكس الحقيقية التنظيمية لهذه الكيانات التي تعاني من حالة ترهل وضعف شديد .ولا يعني ذلك أن لا ينشغل التنظيم – أي تنظيم - بالتوسع الأفقي والبناء الرأسي فهذا مما يجب أن يستمر للحفاظ على هذه الكيانات واستمرار بناءها في ظل حالة التضييق التي تمارسها أجهزة الأمن عليها .وما أعنيه هو أن تدرك هذه التنظيمات أن العمل الجبهوي هو محاولة لتحقيق نقاط الاتفاق فيما بينها وأن لا تستدرج إلى تفاصيل هي بكل تأكيد محل خلاف كبير بين الفرقاء وهو ما يستلزم العمل على الخطوط العريضة والعناوين الكبيرة حتى يمكنها تحقيق بعض المكتسبات .كذلك فإن على الجماعة الوطنية أن تتدارس حقيقة الموقف الشعبي وأن يكون ترتيب أولوياتها بحسب التطلعات الجماهيرية فلا تكون المطالب صادمة غير مدركة لواقع وحقيقية هذه الجماعة ولا تكون في ذات الوقت أدنى من مستوى الطموح الجماهيري ولا تعكس سوى حسابات تنظيمية لا علاقة للجماهير بها.يجب أن تسود حالة من التروي وإعادة ترتيب الأوراق بعيدا عن محاولات العسكرة الدائمة التي وعلى الرغم من طول المدة الزمنية لنضال الجماعة الوطنية إلا أنها أصابتها بحالة من التشتت وعدم الجدوى ليس نتيجته الضربات الأمنية والاختناق السياسي فحسب ولكن أيضا لعشوائية العمل وعدم تحرك التنظيمات السياسية بذهنية النظر إلى كل خريطة مصر وعدم الانحسار في القاهرة

القهر الاجتماعى


د. حسن حنفى ــ العربي الناصري 28/4
تتعدد أنواع القهر كما تتعدد أسباب الموت، والنتيجة واحدة. فالموت موت نفسى. وأشهر أنواع القهر هو القهر السياسى، علاقة الحاكم بالمحكوم فى نظم الحكم التى تقوم على التسلط وكبت الحريات العامة، والتفرد بالقرار. وهو ما سماه ابن رشد وحدانية التسلط. كما تقوم على تزييف الانتخابات، وأجهزة الأمن، وقوانين الطوارئ، والاعتقال والسجن بلا محاكمة. وهى النظم الأيديولوجية التى تحكم باسم الحقيقة المطلقة، دينية أو سياسية، الفرقة الناجية الواحدة التى فى الحكم فى مقابل الفرق الضالة الهالكة التى فى المعارضة. وهناك القهران الدينى والثقافى. ويقومان على إجبار الناس على الإيمان بعقائد دينية، سنية أو شيعية، أو سياسية معينة، اشتراكية أو قومية، نازية أو فاشية كما حدث فى التاريخ بإجبار الناس على القول بخلق القرآن أو انبساط الأرض دون كرويتها أو مركزيتها ودوران الشمس حولها، وإجبار الناس على اتباع تأويل معين للنص الدينى أو التضييق عليهم فى السلوك اليومى باسم تطبيق الشريعة. بل يحدث ذلك أيضا فى الفنون والآداب، وليس فقط فى العلوم والديانات، وإجبار صغار المبدعين على اتباع مذهب معين فى الفن والأدب. وهناك أيضا القهر الاقتصادى، قهر الفقر والضنك والعوز والحاجة. يشعر به العامة قبل الخاصة. هو قهر رغيف العيش والقوت اليومى الذى يدعو إليه المسيحيون فى الصلاة الربانية اعطنا خبزنا اليومى والذى من أجله قال عمر بن الخطاب والله لو كان الفقر رجلا لقتلته. وهو ناشئ عن سوء توزيع الثروة فى البلاد. ويؤدى إلى الغش والاحتيال لدى الأغنياء ليزدادوا غنى، ولدى الفقراء من أجل غريزة حب البقاء. وبسببه تقوم الهبات الشعبية وثورات الجياع. والأخطر من ذلك كله القهر الاجتماعى، قهر العرف والعادات والتقاليد الذى نقده القرآن الكريم إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون وفى آية أخرى مهتدون.. وعلى هذا الأساس لم يعتبر الأصوليون القدماء التقليد مصدرا من مصادر العلم مثل الحس والعقل والخبر الصحيح. وثار المصلحون الدينيون المعاصرون كالشوكانى والأفغانى ومحمد عبده أو الليبراليون مثل الطهطاوى على التقليد، وجعلوه أحد أسباب التخلف الاجتماعى والانحطاط الحضارى. اتباع التقاليد هو اتباع القدماء بالرغم من القول المأثور الذى يُعزى إلى أفلاطون كما ينسب إلى الرسول لا تؤدبوا أولاكم بآدابكم فقد خلقوا لغير زمانكم. القدماء هم الأوائل. عاشوا فى الماضى. وتغير الزمن. ولكل زمن عاداته وتقاليده وأعرافه. وكثيرا ما كتب علماء الاجتماع والأنثربولوجيا عن تطور العادات الاجتماعية، وتغير التقاليد. هى تعبير عن سلوك الناس فى كل وقت. والزمان متغير، والتقاليد تتغير بتغيره. التقليد اشتقاق يعنى الاتباع فى حين أن التجديد يعنى الإبداع. ويتهم أنصار التقليد أنصار التجديد بالابتداع. وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة فى النار. فيؤثر الناس السلامة والاتباع عن غير اقتناع. ويتبع الناس العرف وهى العادات الشعبية السائدة. وتسود الأعراف الطبقات الشعبية مثل طهارة الإناث وما تسببه من قهر نفسى للأنثى منذ الطفولة حتى البلوغ. ويتبع الناس العادات الاستهلاكية فى الأعياد مثل مأكولات رمضان ومشروباته وكحك العيد بما لا تطيقه ميزانية الأسر، وضرورات التباهى والتفاخر بين الناس. وقد يؤدى ذلك إلى جرائم بين الرجل وزوجه. وهى عادات وأعراف من وضع المجتمع وتطوره عبر التاريخ لتوظيفها اجتماعيا لخلق دين شعبى مواز للدين الشرعى. يلهى الناس ويبعدهم عن ظلم الحكام. وتحول التيارات المحافظة فى المجتمع هذه العادات والأعراف إلى ثوابت مع أنها متغيرة بتغير المجتمع. ومنها عادات ترجع إلى عصر الصحابة والفتنة الأولى مثل التلاعن، وأقوال مأثورة مثل إن الله يزغ بالسلطان ما لا يزغ بالقرآن، وأدبيات طاعة الحكام وعدم الخروج عنهم وإلا كان الجزاء القتل. الثوابت هى القيم الإنسانية العامة التى لا تتغير بتغير الزمان مثل حقوق الإنسان، واحترام النفس، والعدالة الاجتماعية، والمساواة بين البشر فى الحقوق والواجبات، والحريات العامة، والشورى، والمصالح العامة. وهى المقاصد العامة التى تقوم عليها الشريعة: الحفاظ على الحياة والعقل والدين والعرض والمال. الحياة هى الحاجات الأساسية للناس من طعام وشراب ولباس وسكن وتعليم وعلاج. والعقل هو حق الإنسان الطبيعى فى المعرفة والفكر والنظر. والدين هو الثوابت العامة التى يجتمع عليها الفقهاء. والعرض هو الكرامة الشخصية والوطنية. والمال هو الثروة الفردية والثروة العامة. وقد وضعت بعض المجتمعات التقليدية عدة قوانين للضبط الاجتماعى لمنع تحركه مثل قانون العيب، وقانون الاشتباه، وقوانين حماية المجتمع والأمن والاستقرار السياسى مثل قوانين الطوارئ ومكافحة الإرهاب. مهمتها إرهاب الناس وتخويفهم ومنعهم من السلوك الطبيعى التلقائى القائم على الثقة بالنفس واحترام الآخرين. ثم تحولت هذه القوانين إلى عادات وتعبيرات مثل عيب عليك، يا عيب الشوم، حشومة، اختشى، يا نهار اسود، يا دهوتى، يا مصيبتى. وأصبح كل خروج عن هذه القوانين انحرافا وشذوذا. ولما كان المجتمع يتقدم بصرف النظر عن أساليب الضبط الاجتماعى، تنقسم الحياة إلى ظاهر يتبع التقاليد والأعراف والعادات، وباطن يتبع تطور الحياة وتغير قواعد السلوك الاجتماعى. فتنشأ مظاهر النفاق والرياء والتظاهر والكذب. قول باللسان لا يقتنع به القلب. وسلوك فى الظاهر لا يتم عن إيمان بالباطن. وتصبح الحياة كلها حجابا فى الظاهر، وسفورا فى الباطن. كما تنشأ ظواهر الكبت وأمراض القهر النفسى وقمع الرغبات. ويعيش الإنسان بشخصيتين ويقابل المجتمع بوجهين. وجه يرضاه المجتمع، ووجه آخر يرضاه الفرد، لا يجرؤ على التعبير عنه صراحة. ويكون له سلوكان، سلوك اجتماعى علنى، وسلوك آخر فردى سرى. الأول كاذب، والثانى صادق. فإذا ما تجرأ أحد على الإعلان والتمسك بالوجه الواحد والسلوك الواحد والشخصية الواحدة يتم إقصاؤه واستبعاده واتهامه بالردة والكفر، وكان جزاؤه القتل الصريح. ويؤثر البعض السلامة والرضا بالسلوك الاجتماعى، وينغمس فى الدنيا ينهل منها بالحلال. والأرزاق مقدرة مسبقا. ومع ذلك ظهرت نماذج ثائرة على هذا القهر الاجتماعى فى التاريخ، فى كل عصر، وفى كل ثقافة، ولدى كل شعب. ثار سقراط على تعدد الآلهة عند الأثنين، فاتُّهم بإفساد الشباب. وحُكم عليه بالموت سما. ورفض الهرب درءا للظلم، وهو رذيلة، طاعة لقوانين البلاد وهى فضيلة. وثار ديكارت على عادات العصر الوسيط فى التفكير والتعلم. وثار اسبينوزا على العقائد اليهودية مثل شعب الله المختار وأرض الميعاد. وحُرق جيوردانو برونو حيا فى روما لأنه قال بعقيدة مخالفة للفلك السائد ولتصور الإنسان. وثار مارتن لوثر على الكنيسة رافضا توسطها بين الإنسان والله، واحتكارها تفسير الكتاب المقدس وتبعيتها لسلطة الآباء الأولين. قُدّم المفكرون الأحرار الذين رفضوا عادات وتقاليد وأعراف القدماء أمام محاكم التفتيش فى أواخر العصر الوسيط الأوروبى. وكان جزاؤهم القتل أو الحرق أو التعذيب أو النفى أو السجن. وفى تاريخنا القديم حدث نفس الشيء. فقد ذبح الجعد بن درهم يوم عيد الأضحى أسفل المنبر لأنه كان معارضا للحكم الأموى ويقول بقدرة الإنسان على الاختيار. وقتل أبو نواس بتهمة الزندقة. وصلب الحلاج بتهمة الخروج عن العقائد. وذبح السهروردى لقوله بحكمة الإشراق. كانت كل حركات التجديد والتحديث والنهضة والإصلاح والتغير الاجتماعى والنهضة الحضارية والثورة ضد القهر الاجتماعى بالرغم من سطوته. وكان الاستسلام للقهر الاجتماعى أحد أسباب الركون والخمول والتأخر والانحطاط. لا تقوم نهضة على قهر، ولا تقدم على تقليد، ولا ثورة على تسليم. فى لحظات الانتصار يتم تغيير التقاليد، وفى لحظات الانكسار تتم المحافظة عليها حماية للمجتمعات. وهى حماية وقتية بالانكفاء على الداخل لحماية النفس بعد أن ضاع العالم. ولما كان المجتمع العربى يمر الآن بمرحلة انكسار، باستثناء المقاومة فى العراق وفلسطين، اشتد القهر الاجتماعى. ولما كان أيضا يتوق إلى الانتصار يكون تحرره من القهر الاجتماعى قريبا.

Tuesday, April 24, 2007

ماذا فعل مبارك بتركة السادات؟ (٤-٤)


.. صناعة وطنية للبيع بقلم د.جلال أمين المصري اليوم ٢٤/٤/٢٠٠٧
كان «تصنيع مصر» هدفًا ثابتًا من أهداف الحركة الوطنية المصرية، ومن الأهداف المعلنة للسياسة الرسمية علي السواء، منذ حصلت مصر علي استقلالها «الاسمي» في ١٩٢٢، أي منذ ما يقرب من قرن كامل.
كان هذا هو السبب في فرح المصريين بإنشاء بنك مصر في أوائل العشرينيات، إذ كان من بين أهداف هذا البنك تحقيق التنمية الصناعية، وفي اعتزاز المصريين بطلعت حرب، الذي حمل لواء التصنيع وحماية الصناعة الناشئة في فترة ما بين الحربين، كما كانت التنمية الصناعية السريعة واحدة من أهم المبررات المعلنة لثورة ١٩٥٢.
لم يكن هناك أي شيء غريب في تعليق آمال كبيرة علي التصنيع في مصر، إذ كان من الواضح ولايزال، أن نهضة مصر الاقتصادية تتوقف علي نمو الصناعة فالزراعة لا يمكن أن تولد فرص عمل كافية للأعداد المتزايدة من المصريين، وقدرة الزراعة علي رفع متوسط الدخل محدودة، مهما فعلنا لرفع إنتاجيتها، والصادرات الزراعية تواجه مختلف المشاكل في الأسواق الخارجية، في المدي القصير والطويل علي السواء.
بل من الصعب تصور حدوث تحسن ملحوظ ومستمر في توزيع الدخل، والتخلص من الاستقطاب الحاد بين الأغنياء والفقراء، ونمو طبقة متوسطة بين الاثنين، دون تنمية الصناعة.
والاقتصاديون يقيسون تقدم الدولة في مجال التصنيع بثلاثة مؤشرات أساسية: نصيب الصناعة التحويلية «أي دون حساب التعدين والتشييد» في الناتج الإجمالي، ونصيبها في العمالة، ونصيبها في الصادرات. فكلما ارتفعت هذه المؤشرات «وانخفضت بالتالي أنصبة الزراعة والمواد الأولية والخدمات» كان هذا دليلاً علي التقدم في التصنيع.
وقد كان أداء الخمسينيات والستينيات في ميدان التصنيع مرضيا للغاية، خاصة في الفترة ما بين منتصف الخمسينيات ومنتصف الستينيات، وعلي الرغم من أن النصف الثاني من الستينيات شهد تراخيا في معدل التصنيع «بسبب تراخي المعونات الخارجية ثم الهجوم الإسرائيلي في ١٩٦٧» فإن عقد الستينيات انتهي ومصر أكثر «تصنيعًا» بكثير مما كانت في بدايته.
فشهدت مصر تحسنًا ملحوظًا في المؤشرات الثلاثة التي ذكرتها حالاً بعد أن أظهرت هذه المؤشرات ركودًا طويلاً طوال نصف القرن السابق، فارتفع نصيب الصناعة التحويلية في الناتج المحلي الإجمالي فيما بين ١٩٦٠ و١٩٧٠، من ٢٠% إلي ٢٤%، ونصيبها في العمالة من أقل من ١٠% إلي ١٤%،ونصيبها في الصادرات السلعية من ٢٠% إلي ٣٦%.
كان نمو الصناعة التحويلية في النصف الأول من الستينيات علي الأخص نمواً مبهرًا «٨.٥% سنويا في المتوسط» مما كان يبشر بنهضة صناعية لو قدر له الاستمرار لعشر سنوات أخري، ولكن الذي حدث هو أن السنوات العشر التالية كانت مليئة بالمتاعب، ومعظمها بأثر هزيمة ١٩٦٧، ولم تبدأ الصناعة في النهوض من جديد إلا ابتداء من منتصف السبعينيات حيث تراوح معدل نموها في السنوات الخمس الأخيرة من عهد السادات بين ٥،٥% و٧.٩% سنويا.
***
تفاوت أداء الصناعة في عهد الرئيس مبارك من فترة لأخري. ففي السنوات العشر الأولي من حكمه «١٩٨١- ١٩٩٠» كان أداؤها قريبًا مما كان في عصر السادات، ولكنه تدهور بشدة في الخمسة عشر عامًا التالية، فأصبح معدل نمو الصناعة التحويلية في النصف الأول من التسعينيات نحو نصف معدله في النصف الثاني من الثمانينيات «٥% و١٠% علي التوالي» ثم استمر التدهور بعد ذلك حتي تراوح هذا المعدل بين ٣% و٤% في السنوات الأخيرة.
قد يدهشنا إذن، في ظل هذا المعدل المتواضع لنمو الصناعة في عهد مبارك أن يبدو نصيب الصناعة التحويلية الآن في الاقتصاد القومي، أكبر منه في نهاية عهد السادات، فنصيبها في الناتج المحلي الإجمالي هو ٢٠% «بالمقارنة بـ ١٣.٥% في ١٩٨١»، ونصيبها في العمالة ١٤% «بالمقارنة بـ ١٢.٥%»، ونصيبها في الصادرات السلعية ٤٥% «بالمقارنة بـ ٩%».
ولكن يجب ألا ننخدع بهذه الأرقام، فالحقيقة أن مصر الآن ليست دولة صناعية بدرجة أكبر مما كانت في نهاية عصر السادات. ومصدر الخدعة أن هذا الارتفاع في نصيب الصناعة التحويلية في الاقتصاد القومي في عهد مبارك لم يكن سببه حسن أداء الصناعة بل سوء أداء الاقتصاد القومي، ففي الخمسة عشر عامًا الأخيرة تدهور بشدة معدل نمو الناتج القومي كما تدهورت أسعار النفط، بالمقارنة بما كان عليه معدل نمو الناتج القومي ومستوي أسعار النفط في نهاية عصر السادات، فارتفع نصيب الصناعة التحويلية النسبي، دون أن تحدث نهضة صناعية حقيقية.
***
ولكن بالإضافة إلي ضعف النمو الصناعي، تميز تطور الصناعة في مصر في الخمس عشرة سنة الأخيرة من عهد مبارك بالاتجاه المتزايد إلي بيعها. كان التصنيع في الستينيات مزيجًا من إنشاء شيء من العدم، ونقل ما كان مملوكًا ملكية خاصة، لأجانب ومصريين، إلي الملكية العامة.
ثم بدأ الحديث عن الخصخصة علي استحياء في السبعينيات، ولكن ظلت الخصخصة، في السبعينيات والثمانينيات، تواجه بمقاومة شديدة من الاقتصاديين وعمال الصناعة علي السواء، إلي أن جاءت التسعينيات فاكتسب دعاة الخصخصة جرأة، وزادت ضغوط صندوق النقد الدولي والإدارة الأمريكية بعد توقيع مصر لاتفاقها مع الصندوق في مايو ١٩٩١، ومع البنك الدولي في نوفمبر ١٩٩١ ويبدو أن الصندوق والإدارة الأمريكية رأيا، في سنة ٢٠٠٤، أن الخصخصة لابد أن تسير بسرعة أكبر بكثير فجلبا إلي الحكم حكومة من نوع جديد، أبرز وزرائها من أكبر المتحمسين لبيع القطاع العام.
والملاحظ أنه منذ رفع شعار الخصخصة في السبعينيات، حرص رافعو الشعار علي التزام الصمت التام عما إذا كان المقصود بالبيع، بيعًا لأجانب أم لمصريين، نعم إن في الحالين «خصخصة»، أي تحويل الملكية العامة إلي ملكية خاصة، ولكن شتان بين أن تكون الملكية الخاصة مصرية أو أجنبية، فالربح في الحالة الأولي باق داخل البلد، وأقرب إلي أن يعاد استثماره في تصنيع جديد داخل البلد أيضًا، وقدرة الدولة علي فرض شروطها علي المالك الوطني أكبر من قدرتها علي فرضها علي الأجنبي.
أما البيع للأجانب، فهو فضلاً عن أنه لا يضيف أصولاً جديدة، ينطوي علي التخلي عن أصول قديمة، وكأن ما تم إنشاؤه في الستينيات بعرق الجبين، يتم تسليمه للأجانب تحت شعار مشكوك جدًا في جدواه، وهو «رفع مستوي الكفاءة» إذ حتي لو كانت الإدارة الأجنبية أكثر كفاءة فإن هذا المكسب المتمثل في رفع الإنتاجية وزيادة الأرباح يجب أن تطرح منه الخسارة المتمثلة في ذهاب الأرباح وثمرة رفع الإنتاجية إلي الأجنبي وحرمان الاقتصاد المصري منها، هذا الاعتبار قد لا يثور علي الإطلاق، أولا يثور بالدرجة نفسها، عندما ينشئ المستثمر الأجنبي أصولاً من العدم، فهو هنا يضيف قبل أن يأخذ «وهذا هو بالفعل ما تسمح به الصين مثلاً»، ولكنه يثور بقوة عندما يأتي الأجنبي ليستولي بوضع اليد علي ما سبق لنا إنشاؤه.
***
استعرضت في هذا المقال والمقالين السابقين، ما طرأ علي تركة السادات الاقتصادية من تطور في عهد مبارك، فرأينا ما حدث لديون مصر الخارجية، ولمعدل التضخم، وللتصنيع. وفي كل مجال من هذه المجالات الثلاثة رأينا بعض مظاهر التقدم التي تختفي وراءها نقاط ضعف خطيرة. فالديون الخارجية لم تزد في السنوات العشر الأولي من عهد مبارك إلا ببطء شديد، بالمقارنة بالسنوات العشر التي حكم فيها السادات، ثم انخفضت بشدة في مطلع التسعينيات، ثم استقرت منذ ذلك الوقت عند مستوي ثابت تقريبًا، وأقل من المستوي الذي كانت عليه في نهاية حكم السادات، ولم تعد خدمتها «أي دفع الأقساط والفوائد» تشكل عبئًا ثقيلاً مثلما كانت منذ ربع قرن. ولكن هذا الانخفاض الكبير في ديون مصر الخارجية لم يكن بسبب ترشيد السياسة الاقتصادية، بل بسبب الخضوع التام للإدارة الأمريكية منذ أن أيدت مصر ضرب الولايات المتحدة للعراق في ١٩٩١، وحتي الآن.
أما معدل التضخم، فبعد أن ارتفع بشدة في السنوات العشر الأولي من عهد مبارك، انخفض بشدة في الخمس عشرة سنة الأخيرة، حتي أصبح نحو نصف ما كان عليه في أواخر عهد السادات.
ولكن هذا بدوره لم يكن بسبب ترشيد السياسة الاقتصادية، بل بسبب التضحية بالتنمية نفسها، إذ انخفض معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي «بالأسعار الثابتة» من ٩.٤% سنويا في السنوات الخمس الأخيرة من حكم السادات، إلي ٥.٤% «١٩٨٠- ١٩٩٠» ثم إلي ٤.٥% «١٩٩٠- ٢٠٠١» ثم إلي ٣.٦% «٢٠٠١- ٢٠٠٤» وكانت النتيجة الحتمية لذلك، ولانخفاض معدل الهجرة إلي الخليج، في الوقت نفسه، ارتفاعاً كبيراً في معدلات البطالة، خاصة بين خريجي الجامعات والمعاهد المتوسطة فارتفع معدل البطالة من ٥.١% عند انتهاء حكم السادات إلي ٩.٢% بعد عشر سنوات من حكم مبارك ١٩٩١ ثم إلي ١١.٧ بعد سبعة أعوام أخري ١٩٩٨ وإذا كان هناك مسح حديث لسوق العمل في مصر يزعم بانخفاض نسبة البطالة إلي ٧.٥% في سنة ٢٠٠٦ فإن من المهم الالتفات إلي أن هذا الرقم، لا يتأثر من قريب أو بعيد بازدياد عدد المضطرين إلي الاشتغال بأعمال أقل بكثير من قدراتهم أو لا صلة لها بما تعلموه.
وأما فيما يتعلق بالتصنيع، فقد رأينا حالاً أنه وإن كانت المؤشرات الثلاثة التي يقاس بها التقدم في درجة التصنيع «نصيب الصناعة التحويلية في الناتج الإجمالي وفي العمالة وفي الصادرات السلعية» تظهر مصر وكأنها «أكثر تصنيعًا» مما كانت في نهاية عهد السادات، فالحقيقة أن هذا «الارتفاع» في نصيب الصناعة التحويلية في الاقتصاد القومي ارتفاع ظاهري يعكس تراخي نمو الناتج القومي أكثر مما يعكس تقدمًا في الصناعة.
***
لقد كان الأمل دائمًا أن تقوم الصناعة المصرية بإتاحة فرص عمل حديثة ومجزية للأعداد المتزايدة من المصريين الباحثين عن عمل، ولا تقدر الزراعة أو قطاع الخدمات علي توفيرها، وأن يؤدي نمو الصناعة إلي رفع متوسط الدخل للمصريين «بتطبيقها فنون الإنتاج الحديثة ورفع الإنتاجية»، علي نحو لا تقدر الزراعة أو معظم أنواع الخدمات علي تحقيقه، وأن تحمي الصناعة الاقتصاد المصري «ومن ثم مستوي معيشة المصريين» من التأثر بتقلبات أسعار الصادرات الزراعية وتقلبات إيرادات السياحة وتقلبات تحويلات المصريين العاملين بالخارج، وكلها تتأثر بشدة بظروف لا سيطرة لمصر عليها. كما كنا نأمل أن تؤدي نهضة صناعية إلي اتساع الطبقة الوسطي بانضمام شرائح جديدة منتجة، تساهم مساهمة أكثر إيجابية في الحياة السياسية والثقافية، ولكن الذي حدث في ربع القرن الماضي عكس هذا بالضبط.
ففي الخمسة وعشرين عامًا الماضية زادت معدلات البطالة «كما أشرت حالاً» علي نحو لم تعرفه مصر في تاريخها الحديث، نتيجة لفشل التصنيع في استيعاب المنضمين لقوي العمل والعائدين من دول الخليج، ومع تدهور معدلات نمو الناتج القومي، حتي كانت في بعض السنوات أقل من معدل نمو السكان، تدهور مستوي المعيشة لنسبة كبيرة من المصريين، واستمر عجز الميزان التجاري في الزيادة، كما استمر ميزان المعاملات الجارية «الذي يشمل- عدا الميزان التجاري- السياحة وقناة السويس» في التقلب بين سنة وأخري تأثرًا بعوامل لا سيطرة لمصر عليها.
أما عن الأمل في اتساع الطبقة الوسطي، وفي أن تساهم مساهمة أكثر إيجابية في الحياة السياسية والثقافية، فيبدو أن الذي حدث في عهد مبارك كان عكس المأمول بالضبط.
لقد اتسعت الطبقة الوسطي في الستينيات، تحت حكم عبد الناصر، نتيجة التوسع في التعليم والتنمية، ثم اتسعت أكثر في السبعينيات، تحت حكم السادات، وكذلك في السنوات الخمس الأولي من حكم مبارك، نتيجة التوسع في التعليم والهجرة.
ولكن في العشرين سنة الأخيرة «١٩٨٦- ٢٠٠٦» ظهرت سمات جديدة علي الطبقة الوسطي المصرية نتيجة لما طرأ من تغير علي معدلات النمو ومعدلات البطالة، وأنماط العمل، مما يحتاج بلاشك إلي بحث مستقل.

الحجر والصولجان.. عهد مبارك وزمن المماليك


بقلم د.عمار على حسن المصري يوم ٢٤/٤/٢٠٠٧
كثيرة هي المقولات والتصورات والآراء التي قارنت بين عهد حكم الرئيس حسني مبارك وفصول من زمن المماليك، فالقواسم المشتركة بين العهدين واضحة جلية للعيان، وفي مطلعها حال التردي العام في مجالات شتي، وتعدد أجنحة السلطة، وتغولها، وتحول الدولة إلي ممارسة «الجباية» في أقصي صورها، وتوحش جهاز الأمن إلي أقسي صوره، وتحول مصر إلي «دولة ريعية»، وتراجع مكانتها ودورها، وتداعي الأمم عليها، طمعاً فيها تارة، وغبنا من تخاذلها تارة أخري، علاوة علي وجود فصام تام بين الناس والسلطان، فكل في واد، بعد أن وهنت الخيوط وضعفت الخطوط التي تربط الاثنين، صعوداً وهبوطاً.
وكنت أحسب أن مجال المقارنة بين العهدين، يقف عند هذا الحد، حتي وقع في يدي كتاب «الحجر والصولجان: السياسة والعمارة الإسلامية» للدكتور خالد عزب، فوجدت بين سطوره دلائل ناصعة علي تطابق العهدين في مجال العمارة والزخرفة، رغم أن الكاتب لم يعنه أبداً عقد هذه المقارنة، أو ذكر ما يدل عليها صراحة في أي موضع من المواضع، تاركاً المجال لأي لبيب أو أريب تكفيه الإشارة كي يفهم في أي زمن نعيش الآن، وفي المقابل انشغل الكاتب بجوانب أخري غاية في الأهمية من قبيل «السياسة الشرعية وفقه العمارة» و«بنية ومستويات العمارة الإسلامية» و«رمزية مقر الحكم والتحول السياسي في العالم الإسلامي» و«المهندس ودوره بين العمارة الإسلامية والعمارة المعاصرة».
فالكاتب يقول: «كان المماليك من أكثر الفئات حباً للعمارة، ولما كانوا في الأصل ظاهرة سياسية، فقد كان للسياسة دور في تشجيعهم علي تشييد المنشآت»، ثم يشرح في موضع آخر كيف أن العمارة المملوكية خلت في الغالب الأعم من «المضمون الحضاري» وركزت علي «المضمون السلطوي السياسي»، وكيف أنها اهتمت بالزخرف، وغالت في فنون التشييد، ليس في القصور الفخمة والصروح الضخمة فحسب، بل حتي في المدارس والأسبلة والبيمارستانات والأضرحة إلي الدرجة التي دعت المقريزي شيخ مؤرخي مصر المملوكية إلي استعارة أبيات شعر للتعبير عن هذه الحال المعوجة تقول: (أري أهل الثراء إذا توفوا.. بنوا تلك المقابر بالصخور/ أبوا إلا مباهاة وتيها.. علي الفقراء حتي في القبور).
وفي زماننا هذا نجد من المسؤولين من يتطاول في البنيان، ويغالي في الزخرفة والزينة، لبعض المنشآت الحكومية، ظناً منه أن «المباني» وليست «المعاني» هي دليل التطور والتحضر، وسأشير هنا إلي حالات محددة، علي سبيل المثال لا الحصر، فوزير الإعلام السابق صفوت الشريف طالما شيد مباني واستديوهات، وبلطها بالرخام الفاخر، ووضع علي واجهاتها لوحات الجرانيت المحفور عليها اسم الرئيس واسمه، وراحت آلته الدعائية ذات المستوي المهني المتدني، تتحدث عن الريادة الإعلامية، إلي الدرجة التي ربط فيها الرئيس نفسه بين ضخامة المنشآت الإعلامية ونجاح الدور الإعلامي، الأمر الذي تجلي في تعليقه علي مبني قناة الجزيرة حين طلب رؤيته خلال زيارة له لقطر بقوله: «هي دي الجزيرة اللي عاملة كل المشاكل دي»، فقد صور له الشريف أن الإعلام يكون رائداً وقائداً بقدر عدد طوابق مباني التليفزيون والإذاعة وأكاديميات الإعلام.
واستدان رجل السلطة سمير رجب من البنوك، رغم أن مؤسسته مثقلة بالديون ليبني صرحاً حجرياً في شارع رمسيس لمؤسسة دار التحرير، من دون أن يفكر في أن ينفق علي التدريب مليماً واحداً، ولا اهتم بتطوير مضمون صحيفته، حتي وصلت معه إلي أدني مستوي لها، فلما اكتمل المبني العالي الفخم، راح يتحدث بملء فمه عن التحديث والتطوير، وينفق أغلب الوزراء والمسؤولين علي تجهيز مكاتبهم أموالاً طائلة، في دولة تئن تحت وطأة الديون الداخلية والخارجية، ويعيش أغلب موظفيها تحت خط الفقر.
وفي عهد الرئيس مبارك تضاعفت عزب الصفيح والعشش وأحزمة الفقر حول المدن، بينما أنفقت مصر مئات المليارات من الدولارات علي المباني الفخمة، من فيلات وقصور وشاليهات، تراصت بالقرب من مياه البحرين المتوسط والأحمر وفي طريق مصر الإسكندرية الصحراوي، وعلي تخوم القاهرة، وعلي ضفتي قناة السويس، فضاعت ثروة طائلة كان يمكن أن تبني مدناً صناعية كاملة، لو أن الدولة شجعت هذا الاتجاه، بأن تبدأ هي هذه الخطوة، وتقدم تسهيلات كبيرة للقطاع الخاص كي يحذو حذوها.
لقد جالت هذه المعاني بخاطري، وارتسمت تلك المقارنة في ذهني، وأنا أقرأ هذا الكتاب المهم، الذي يقف علي جسر يصل علمين إنسانيين، هما السياسة والآثار، ليمثل إضافة إلي الدراسات عابرة الأنواع، وقد أصبحت بعد هذه القراءة مقتنعاً أكثر بأننا نعيش زمن المماليك في القرن الحادي والعشرين، مع إدارة لا تري قامة مصر ولا تعرف قيمتها.

الأنــامــــاليـــة ... د.رؤوف عبـاس !

عن الكرامـة أربعـاء 17/4
جدوي ما تكتبون طالما أن أحدا لا يستجيب لكم، بل ما جدوي ما تفعله المعارضة بتلك الصحف التي تفيض بالمقالات التي ترفع الغطاء عن «بكابورت» الفساد، وتخرج روائحه النتنة لتزيد الجو تلوثا، وماذا عاد عليكم من كشف طغيان أجهزة القمع وامتهان كرامة الإنسان المصري طالما كانت تلك الممارسات المخالفة لشرائع السماء وقوانين الأرض تحدث يوميا بلا انقطاع ؟!
وما الذي عاد علينا من صيحات المعارضة ضد التوريث والتعديلات الدستورية، فالأمور تسير وفق مرام عصابة السلطة: يعد المسرح لجلوس الوريث علي عرش مصر، ويتم تبديد ثروات البلاد، وكأنكم «تنفخون في قربة مقطوعة».. أنتم في واد والناس في واد آخر. كثيرا ما سمعت هذا الحديث يدور بين أناس يعون تماما خطورة ما يجري في مصر، أو ما يجري علي الساحة العربية، ولكنهم لا يريدون التورط في إبداء الاستنكار علنا.. إذا طلبت من أحدهم ـ مثلا ـ التوقيع علي بيان احتجاج أو تضامن في قضية وطنية ما، نفر منك، أو نصحك بعدم التورط «فيما لا يعنيك»، أو قال لك العبارة الممجوجة: «أنا مالي.. هي المشرحة ناقصة قتلي»!!هذه «الأنامالية» تمثل راية السلبية الخفاقة في هذا البلد التي تعبر عن حالة مرضية من الإحباط واليأس، بقدر ما تعبر عن أزمة مزمنة تعاني منها الحركة السياسية المصرية التي عجزت عن تقديم مشروع وطني بديل وعن التواصل مع الجماهير. هذه السلبية ليس مبعثها العزوف عن الاهتمام بالشأن العام، لأنك لا تكاد تري مصريا لا يقص عليك وقائع لأمور ربما فاقت ما تخوض فيه أقلام كتاب المعارضة، بل تسمع في اليوم الواحد عددا من النكت السياسية اللاذعة التي تشي بإدراك الناس لحقيقة السلطة وتكاد تلمس بيدك أن انفجارا ثوريا قد يقع في أية لحظة بعدما «بلغت القلوب الحناجر»، ولكن الشمس تشرق كل يوم علي واقع يزداد سوءاً، وكل مشغول بهمه الشخصي، ومشهد المواطنين والمواطنات الذين يكلم كل منهم نفسه في الشارع أو المواصلات العامة والخاصة مشهد مألوف، وأخبار العنف الأسري لا تكاد تخلو منها الصحف الصباحية: أب يقتل زوجته وأولاده لعجزه عن إعالتهم.. أو أب ينتحر لنفس السبب أو أم تبيع أحد أطفالها.. كل ذلك يعبر عن حالة اغتراب يعاني منها المواطن المصري مبعثها اليأس من إمكانية أن يجد في المجتمع حلا لمشكلاته الشخصية التي هي بدورها أزمة المجتمع كله.أخطر ما في الأمر أن العصبة الحاكمة تراهن علي هذه السلبية المشاعة بين المواطنين، فتتعامل معهم وكأنهم سوائم، بلغ الفساد الماء والغذاء والدواء ومصادر الرزق، وأهدرت حقوق الإنسان.. ومازالت الأمور «تحت السيطرة» من وجهة نظر السلطة وزبانيتها.. حتي لو قام الفلاحون بحركات احتجاجية علي حرمانهم من أطيانهم هنا وهناك.. أو قام الصيادون بالاحتجاج علي تضييق أبواب الرزق أمامهم أو قام العمال بإضرابات هنا وهناك احتجاجا علي بيع مصانعهم وقطع أرزاقهم، فلازالت الأمور «تحت السيطرة»، ومازالت قطعان الأمن المركزي في حظيرة الولاء للنظام، فهؤلاء وأولئك يمكن تلقينهم دروسا تلزمهم حدود الأدب، وتجعل كل منهم لا يهتم إلا بذاته.. يتغني بعبارة «أنا مالي» في كل حين وآن.ولا أظن أن أحدا من الزمرة الحاكمة قد سمع عن المؤرخ المقريزي الذي قال عن المصريين: «قوم يجمعهم الطبل وتفرقهم العصا»، ولكنهم يتعاملون مع المصريين من هذا المنطلق.. منطلق القمع والبطش الذي يحول دون الحشد الجماهيري من أجل مطالب معينة.وهكذا تمضي العصبة الحاكمة في تنفيذ برنامجها الجهنمي دون خوف أو تحسب لحركة الجماهير: تبيع مصادر الثروة الوطنية، وترهن ما تبقي منها لديون تثقل كاهل الأجيال القادمة، وتنعم بجهودها الخارقة التي أدت إلي دخول مصر حلبة السباق علي المراكز الدنيا في كل شيء: التعليم والاقتصاد والتنمية والخدمات الاجتماعية وحتي الرياضة، مع دول لم يكن لها وجود علي خريطة العالم قبل الحرب العالمية الثانية، أي قبل نحو السبعين عاما!!هذه النظرة الدونية للجماهير التي تعبر عنها الزمرة الحاكمة بسياساتها القمعية هي نفسها التي كانت تمثل إطار سياسة الاحتلال البريطاني، فلا يقتصر وصف المصريين بالتخلف والجبن علي اللورد كرومر واضع أسس السياسة الاستعمارية في مصر الذي يشاركه اللورد أحمد نظيف في رأيه أن المصريين لم ينضجوا بعد ليصبحوا مؤهلين للحكم الديمقراطي «قالها اللورد كرومر عام 1907 وقالها اللورد أحمد نظيف عام 2006»، ونكاد نجد تطابقا تاما بين نظرة باشاوات الأمن المتعالية إلي المواطن المصري، ونظرة اللواء راسل باشا حكمدار بوليس القاهرة الإنجليزي بالثورة الشعبية عام 1919 وقال: «إن ثورة المصريين تطفأ بصدقة»!! فهل يري باشاوات اليوم غير ما رآه أستاذهم راسل باشا؟!لعل من الطريف أن يعلم القارئ الكريم أن أستاذا (إسرائيليا) هو جابرييل بير اهتم بدراسة التاريخ الاجتماعي لمصر، وله فيه بحوث رصينة، اهتم بتحقيق مقولة «جبن المصريين وسلبيتهم»، خاصة أن الجندي المصري كان (في سالف العصر والأوان) العدو الأساسي للكيان الصهيوني، تناول جابرييل بير هذه القضية في دراسة عن «الفلاح المصري بين الخضوع والمقاومة»، واختار لزمن الدراسة القرن التاسع عشر، لأنه يعلم أن الجندي المصري الفلاح في ستينيات القرن العشرين (تاريخ نشر الدراسة) هو حفيد فلاح القرن التاسع عشر، ولم يشأ جابرييل بير أن يذهب بعيدا في تاريخ مصر الوسيط والقديم الذي يحفل بحركات الاحتجاج العنيفة والثورية ضمن مظالم السلطة منذ عهد الدولة الحديثة في مصر القديمة حتي العصر العثماني مرورا بالعصور الرومانية والبيزنطية والإسلامية.ويقف جابرييل بير طويلا (في الدراسة التي نشرها بالعبرية أولا عام 1962، ثم أعاد كتابتها بالإنجليزية ونشرها عام 1969) أمام انتفاضات الفلاحين ضد مظالم السلطة في عهد محمد علي بالصعيد، فرصد ثلاثا منها: واحدة بإحدي قري قنا عام 1821 استمرت شهرين استولي فيها الفلاحون علي السلطة وطردوا عمال الحكومة، وقام الشيخ أحمد زعيم الفلاحين بتعيين عمال للإدارة من قبله، حتي أرسل محمد علي تجريدة عسكرية قضت علي الحركة، ولكن دون أن يقع زعيمها في أيدي عسكر محمد علي، والثانية: وقعت عام 1822 بقري الأقصر تزعمها الشيخ أحمد المهدي، وقاومت قواته عسكر الحكومة ببسالة لمدة عام كامل، وانضم إليها المجندون الجدد من الجيش المصري الحديث، واستغرق القضاء عليها جهودا قتالية شديدة قتل فيها نحو ألف من الفلاحين. وعادت جذوة الثورة لتشتعل من جديد بقيادة شخص يدعي أحمد (ويبدو أنه اسم حركي اتخذه قادة الانتفاضات الثلاث) في أوائل عام1824 استمرت عدة أسابيع قبل أن يتم القضاء عليها.ولم يخل الوجه البحري من انتفاضات الفلاحين، في المنوفية عام 1822، وفي الشرقية عام 1824، واضطر محمد علي إلي إصدار قانون الفلاحة عام 1830 الذي يحدد حقوق وواجبات الفلاح، ويتضمن مادة تحدد عقوبة كل من يثور أو يحرض علي التمرد ضد السلطة.ويرصد جابريل بير ثورة فلاحية كبري كان مركزها أبو تيج بأسيوط وقعت عام 1863 في بداية عهد الخديو إسماعيل احتجاجا علي السخرة واستنزاف الضرائب لثمرة كد الفلاحين، ظلت قائمة لمدة عامين بين مد وجذر، لم ينجح إسماعيل في إخمادها إلا باستخدام المدفعية. كما أضرب الفلاحون عن زراعة أراضي الخديو توفيق عام 1882 (أيام الثورة المصرية التي عرفت بالعرابية) في الشرقية، ولكن هذا الإضراب لم يواجه بالعنف بل تمت تسويته سلميا بالاستجابة لمطالب الفلاحين ويقف المؤرخ (الإسرائيلي) طويلا أمام الدور الثوري للفلاحين في عام 1919.وانتهي الباحث إلي ضرورة إعادة النظر في الفكرة الشائعة عن استكانة الفلاح المصري أمام هذا السجل الحافل بالانتفاضات الثورية، ولكنه يري أن الفلاح المصري ليس عدوانيا بطبعه وإنما يدفعه الظلم وضيق العيش إلي الثورة التي تتخذ دائما طابع العنف.وإذا كان جابرييل بير قد وقف بالبحث عند ثورة 1919 فلا يعني ذلك أن تاريخ القرن العشرين قد خلا تماما من انتفاضات لمصريين ضد قطاع السلطة واستبدادها، فهناك حركات احتجاجية متفرقة للفلاحين بلغت أقصي ذروتها في الأربعينيات (تفاتيش بهوت وكفور نجم) كما استمرت إضرابات العمال من ثورة 1919 حتي إضراب عمال كفر الدوار في أوائل أيام ثورة 1952 مرورا بإضرابات الثلاثينيات والأربعينيات، بل انضم جنود بلوكات النظام (ما أصبح يسمي بالأمن المركزي) إلي الإضرابات في يناير 1952.ولكن يجب أن نتذكر أن الحركة السياسية كانت نشطة بين الجماهير، وأن النضال السياسي اقترن بطرح برامج وطنية تبنتها بعد ذلك ثورة يوليو.«الأنامالية» لن تستمر إلي الأبد، فالانفجار الشعبي آت لا ريب فيه، ولكنه سيكون له نفس تأثير الانفجارات الحربية، لن يخلف وراءه إلا الدمار والخراب ما لم يتحول إلي طاقة للتغيير من خلال مشروع وطني بديل تتبناه جبهة وطنية تضم قوي المعارضة.اليأس والقنوط حالة مرضية مبعثها الهم والغم، وضيق ذات اليد، وتدهور الحال ولكن تراكم ذلك كله من شأنه زيادة الضغط إلي مرحلة لا يمكن بعدها الصبر والاحتمال.. نقطة يقع عندها الانفجار الشعبي الشامل، حالة «الأنامالية» والقنوط لم تصل إلي حدوث تليف في الوعي السياسي والاجتماعي عند المواطن المصري، فهو يدرك تماما كل المهازل التي تدور علي أرض الوطن.. يحتاج إلي من يعده للسير علي طريق بديل.. يحتاج إلي قيادة وطنية تفرزها جبهة وطنية تطرح مشروعا للإنقاذ الوطن تحشد حوله الجماهير في تاريخنا المعاصر تجربة الجبهة الوطنية عام 1935 وتجربة الجبهة الوطنية عام 1946 (اللجنة الوطنية للطلبة والعمال)، فهل نعي دروس النضال الوطني، وننسي خلافاتنا الصغيرة من أجل هدف سام نبيل.. إذا لم نعمل من أجل ذلك فلن يرحمنا أحفادنا ولن يغفر لنا التاريخ.
د. رءوف عباس

صباااااح الفـل يا صباااحي . . . :)

ــ يعني البلد دي ممكن تتغير؟> طبعا ممكن.جاءت الإجابة بسيطة قاطعة ساطعة معجونة باليقين. فنزلت علي رأس السائل كصاعقة مباغتة أضاءت روحه المنكسرة في لحظة خاطفة، وغمرته بشعور عزيز المنال، فانتشي وأخذ نفسا عميقا ملأ صدره بهواء الحرية المشتهاة ورأي ـ فيما يري الحالم ـ أن مصر جميلة وعادلة وزاهرة، وأنه يمرح وسط شعب أبي غني قوي، لا يهضم حقه ولا تهدر كرامته ولا تسرق ثروته ولا تزّور إرادته، وأنه في بلده سيد وليس خادما، صاحب حق وليس طالب صدقة، له في مصر نصيب عادل من الثروة والسلطة، وله فيها الأمن والكرامة، وله فيها ألا يجوع ولا يعري ولا يعتقل ولا يحتقر ولا أن يكون خلاصه في الهجرة منها إلي بلاد الله.لكن موجة النشوة التي غمرته فجأة انحسرت فجأة وسارعت الحسرة باسترداد سلطانها علي الفتي الذي أنهكته معاقرة النكد، ومعافرة لقمة العيش، فارتد إلي موقعه شبه الدائم في خانة اليأس. وخبت النظرة التي التمعت بها عيناه منذ لحظات وانكمش في كرسيه مثقلا وقال وكأنه يتحرر من الخفة اللطيفة التي داهمته:ـ ـ ممكن إزاي يا عم؟ دا كلام خيالي وأحلام شعرا بس من غير أساس إحنا هنفضل في الهم ده، لا بنهش ولا بنّش.كانت الجلسة مجرد دردشة مكررة بين سبعة من الأصحاب بينهم سائل اليأس ومجيب اليقين، وكان الحوار يدور متقطعا حسب تتابع دور الشطرنج الذي انهمك فيه اثنان منهم وحسب درجة الصخب في المقهي المكتظ، كان يدور بنفس الألفاظ حول موائد أخري . أو أندية أو بيوت أو مقار نقابات أو في ديوان حكومي أو حديقة كلية أو فسحة مدرسة ثانوي، أو بين طلبة ينتظرون موعد فتح مطعم المدينة الجامعية، أو عمال في تغيير الوردية، أو بين مجموعة من المصلين أنهت لتوها صلاة الجمعة أو تنتظر بداية قداس الأحد أو أي سبعة يركبون «بيجو» انطلقت بهم من موقف عبود باتجاه مدينة ما، . كلما التقي المصريون تردد السؤال .. بلغة متعبة يائسة لكنها لا تخلو من طيف رجاء بعيد: يعني البلد دي ممكن تتغير؟ إحدي العلامات المبشرة في مصر الآن تكرار طرح هذا السؤال. واتساع نطاق ترديده. وتفاوت المستويات الثقافية والاجتماعية لمن يلقونه علي أسماع أصحابهم.وبرغم نبرة اليأس والتجهم، فإن شيوع السؤال الصحيح هو مقدمة لا غني عنها للإجابة الصحيحة، وهو يعيد الاعتبار للشأن العام في ضمير الناس ووعيهم وهمهم اليومي، طبعا ستبقي الأسئلة الجزئية، وستسمع من نفس الناس أسئلة أكثر عن همومهم المباشرة: ممكن ألاقي وظيفة؟ ممكن قرار علاج علي نفقة الدولة؟ ممكن يرفعوا مرتبي؟ ممكن آخد شقة؟ ممكن يقسطوا مديونيتي في البنك زي ما عملوا لكبار «المتعثرين»؟ ممكن الانتخابات الجاية تبقي نزيهة من غير قضاة؟ ممكن تجيب لي حقي من الضابط والمخبرين؟ ممكن تدبرلي سلفة لحد الشهر الجاي؟ كل الأسئلة الصغيرة المهمة تجتمع الآن في السؤال الكبير الأهم: ممكن البلد دي تتغير؟شيوع السؤال الأهم يعبر عن نضج ظاهر وباطن للوعي الجمعي المصري، ويعبر عن إدراك بالحدس والعقل لحقيقة الارتباط الوثيق بين تحقيق المصالح الفردية والجماعية وبين قضية التغيير الشامل. ويعبر عن فراق معلن أو مضمر بين السلطة الحاكمة وعموم المحكومين.لكن شيوع سؤال التغيير يرتبط غالبا بإجابة متضمنة فيه، وهي إجابة أقرب ما تكون إلي أغنية «أهو دا اللي مش ممكن أبدا، ولا أفكر فيه أبدا»، فالناس تسأل زهقا وغيظا وقلة حيلة وهوانا علي نفسها، وترد بنفسها: لا مش ممكن. مستحيل نقدر نغير البلد. وكأن الناس تسأل وترد بدواعي الفضفضة وتخفيف الألم النفسي والبحث عن حيثيات للبراءة فمادام التغيير مستحيلا لأن السلطة قوية ونحن شعب ضعيف فلماذا نلوم أنفسنا؟! وهل نملك القدرة علي التغيير ولم نغير لكي نشعر بالذنب؟ أبدا لا نملك شيئا السلطة معها القوة والأمن والإعلام والثروة وحلف الأغنياء القادرين، وأباطرة الفساد، وترزية القوانين والدستور، وخطباء الجمعة الجبناء، وكامب ديفيد، والراعي الأمريكي. فكيف نغيرها نحن الغلابة المستضعفين؟إذا كان السؤال اليائس واسع الانتشار فإن الإجابة الموقنة محدودة الانتشار. وهنا تكمن أزمة التغيير في مصر.وأصحابنا السبعة هم عينة من شعب كبير عريق مظلوم مغلول يمكن إعادة فرزه الآن بحسب انتمائه أو اقترابه من أحد قطبين: سؤال اليأس أم إجابة الأمل.قال واحد من السبعة: عشان مصر تتغير لازم الحكومة دي تتغير، والحزب بتاعها يتغير، ومجلس الشعب اللي بيوافق لها علي طول الخط يتغير، والدستور اللي هي غيرته بالتزوير يتغير، وحسني مبارك اللي بيحكمها ويحكمنا من ربع قرن يتغير.وافق الجميع بالصمت أو الإشارة أو الكلام، بينما كان واحد منهم يحذرهم بأنهم يخضعون لحالة الطوارئ لأن عددهم أكثر من 5. لكنهم علي لسان واحد منهم قالوا: طيب مين يقدر يغير كل ده؟تنهد واحد منهم: مفيش غير ربنا.رد واحد منهم: نسمع هذه الإجابة كثيرا في مصر هذه الأيام، وهي ليست تعبيرا عن إيمان صحيح بالله، بقدر ما هي ذريعة للتنصل من المسئولية والتخلي عن الدور والإقرار بالعجز والقعود عن العمل، إنها تعبير عن إيمان الخاضعين لا إيمان الأحرار. «إن الله لا يغير ما بقوم حتي يغيروا ما بأنفسهم».تحمس واحد منهم: والله العظيم دا كلام صحيح، مش كل حاجة نبقي فيها غلطانين نتمسح في ربنا. إحنا اللي ساكتين وراضيين ومش عاوزين نعمل حاجة، يبقي إحنا نستاهل، هم ليه بيحكومنا ويظلمونا؟ عشان إحنا موطيين راسنا وراضيين نتظلم ونتحكم، مش بيقولوا «مثلما تكونوا يوتي عليكم»، أهي الحكومة دي زينا، شبهنا، حالها من حالنا، فما دمنا راضين بيها ساكتين عليها خاضعين لها يبقي مش ذنبها ويبقي إحنا نستاهلها.قاطعه واحد منهم: من غير قطع كلامك عايز أقول لكم حاجة مهمة كمان في الموضوع ده. لو إحنا صبرنا وسكتنا لحد ما ربنا يغير بمشيئته. يبقي الكل هيحسب حسابه علي أساس إن الشعب ما لوش لازمة، ومالوش دور، وإنه شعب بيحط إيده علي خده وياخد علي قفاه ويقعد مستني القضاء والقدر. يعني معناها يا جماعة لو قعدنا نتفرج لحد ما الريس حسني مبارك ـ ربنا يديه الصحة وطولة العمر ـ يتنازل عن الكرسي بالقضاء والقدر، يبقي هنقعد نتفرج علي جمال مبارك وهو بيورث الكرسي ونقول برضه أهو قضاء وقدر. ويفضل يحكمنا ويورينا ذل وظلم وفقر يخلينا نترحم علي والده ونفتكر بيت الشعر المشهور:دعوت علي زيد فمات فسرني/ فلما أتي عمرو بكيت علي زيدوطبعا هنسكت لحد ما القضاء والقدر برضه يقوم بالتغيير وإحنا نايمين فيتولي الحكم الجديد!) السيد الرئيس هيثم جمال مبارك.أثار الحديث غيرة واحد منهم فرفع صوته محتدا: إحنا شعب يا أستاذ مش قطيع غنم. ودي مصر مش عزبة من أملاكهم يورثوها لبعض وإحنا بنتفرج، إحنا مسئولين قدام ربنا لو فضلنا قابلين بالظلم علي نفسنا.. وإحنا نقدر نعمل حاجة، مش هنعيش لحد ما نموت وإحنا ساكتين.كان جو الدردشة يكتسب مزيدا من الحرارة ورغبة الاندماج في الحوار تتقد في أصحابنا السبعة، بينما مباراة الشطرنج تتقدم نحو نهاية الدور. كان الحوار قد وصل نقطة اتفق فيها الجميع علي أنهم مسئولون وأن عليهم دورا في التغيير. لكن ما دورهم بالضبط؟ ماذا يفعلون؟ ما العمل؟ وكانت الإجابة بعيدة وعندما اقتربت قليلا لفها الضباب والعتمة.. وفي حاجتهم إلي وضوح الرؤية أنفق أصحابنا ما بقي من حديثهم يحاولون الوصول إلي تحديد مهمة عملية يكلفون أنفسهم بها.وفي تلمس الطريق لإجابة صحيحة قيل كلام كثير بالفصحي والعامية. ووردت آيات قرآن وإنجيل وأبيات شعر وأمثال عامية ومقاطع من العهدين الدوليين لحقوق الإنسان. وبعض الأقوال المأثورة عن أبطال لأفلام السينما فضلا عن إشارات وأصوات دالة.وفي سياق الحوار استفاض واحد منهم في شرح تجارب العصيان المدني، بعد أن دلل علي أن المقاومة المدنية السلمية هي الطريق المفتوح للتغيير، فاستعاد إسقاط حكم نميري في السودان، وحكم الشاه في إيران، وحكم ماركوس في الفلبين، وحكم دول المنظومة الشيوعية من الاتحاد السوفييتي إلي المجر. وفي كل هذه التجارب الثورية كانت الجماهير العزلاء هي البطل. حشود هائلة من الشعب البسيط تنتهج أساليب المقاومة المدنية السلمية والعصيان المدني: الاعتصام، التظاهر، الإضراب.. ليس في يدها إلا الشموع المضاءة بحرارة القلب واتقاد العزم واشتعال المشاعر. وما كادت فكرة العصيان المدني تتضح وكأنها الاختيار الذي سيقنع المتحاورين، حتي احتج واحد منهم:ـ يعني أنت متصور إن شعبنا هيطلع إن شاء الله يقف طوابير منظمة في الميادين، وكل واحد ماسك شمعة، وبيغنوا ضد النظام يروح النظام واقع؟ دا إحنا ما بنعرفش نحترم طابور. ولا الأمن المركزي هيقول لنا اتفضلوا يا جماهير احتشدوا في الميادين وأسقطوا النظام سلميا وإحنا بنحرسكم. وكمان شوية ريح ممكن تطفئ الشمع .وتشجع واحد منهم مؤيدا: وطبعا شعبنا ما يلزموش حكاية انتصار الدم علي السيف وانتصار اللحم البشري علي حديد الدبابات زي ما الإيرانيين واجهوا السافاك. تغيير سلمي معاك.. لكن لما الأمن المركزي يقلب كل مظاهرة إلي معركة حربية بالعصيان والقنابل والسحل والضرب ثم الاعتقالات وربما المحاكمات العسكرية. يبقي البيعة مش جايبة ثمنها.وأضاف واحد منهم: أما الإضرابات والاعتصامات فأهم أبطالها العمال زي ما شفنا في المحلة وكفر الدوار وشبين والمطاحن. الحقيقة كلها ناجحة وملهمة ومشرفة وترد الروح وتفتح النفس. بس المشكلة إن الحكومة كل مرة رضخت لإرادة المعتصمين والمضربين والمتظاهرين وحققت مطالبهم لأنها كلها مطالب مقدور عليها، وعندها ينفض العمال، لكن لو كان طالبوا بإسقاط النظام الحكومة هتستجيب إزاي يا وحش؟ والعمال هيفضلوا معتصمين لحد ما تسقط؟ ولا هينفضوا؟واجه المتحاورون السبعة عجزا عن تحقيق الانسجام بين الكلام النظري عن العصيان المدني الذي اقتنعوا به وبين الأسلوب الملائم لممارسته والذي لم يهتدوا إليه.كان رواد المقهي قد بدأوا ينصرفون والأبيض في الشطرنج يوشك بعد نقله واحدة إذا اهتدي إليها أن يقول للأسود: كش ملك. عندما صاح واحد منهم:ـ عندي فكرة للعصيان تنفع تمام. متفصلة علي مقاس الشعب المصري، لا فيها ضرب ولا سحل ولا أمن مركزي ولا دم ولا تكسير قزاز ولا تقطيع هدوم ولا اعتقالات ولا حالة طوارئ ولا قانون إرهاب.وعندما لاحقه كل واحد منهم ليسرع بتوضيح فكرته قال:ـ خليك في البيت.صدمتهم الإجابة فسخر واحد منهم:ــ يعني نخلي الشعب المصري يطلع في حلقة علي التليفزيون اللبناني من برنامج «خليك بالبيت»؟فصحح له واحد منهم: لا يا صديقي نخلي الشعب المصري يطلب أغنية فيروز «خليك بالبيت».ابتسم واحد منهم وواصل شرح فكرته: لا مش بالضبط كده. الفكرة إن العصيان المدني يتضمن عصيان إيجابي وعصيان سلبي. المقاطعة عصيان سلبي لكنه نجح في توجيه رسالة قوية لم يخطئها عاقل يوم الاستفتاء علي اغتيال الدستور. الشعب المصري يستطيع استخدام أساليب العصيان السلبي: المقاطعة والإضراب والاعتصام وأية أساليب أخري يبتكرها. وفكرتي ببساطة أن ندعو كل المصريين للبقاء داخل بيوتهم، للاعتصام في منازلهم، للإضراب عن الخروج من دورهم لمدة معينة في تاريخ معين. لو نجحنا وظلت شوارع مصر خالية من البشر، لو نفذنا حظر تجول تطوعي بقرار من الشعب وليس بمرسوم أمني. لن يجد الحكام شعبا يحكمونه. وسيحدث التغيير.بادر واحد منهم استهوته الفكرة: الله.. كده صح فعاجله واحد منهم: صح إيه؟ كم واحد بقي من الـ 70 مليون هيستجيب لنداء خليك في البيت؟ ألف واحد ما يساووش حاجة؟ مهما كان اللي هيشاركوا برضو الشوارع هتفضل زحمة ومش هيجيب نتيجة.. يعني تجربة فاشلة.فأجابه واحد منهم: وإيه يعني لما تفشل تجربة.. نكررها لحد ما تنجح.. نعتبرها بروفة عصيان.. ولما تتكرر هتكون أحسن وأقوي.. لحد ما ييجي يوم تنجح.. المهم نبدأ.وتحمس واحد منهم: أيوه المهم نبدأ. لأن بصراحة الكلام كتير وماحدش بينفذ.. افرض حتي ما نجحناش.. كفاية نحترم نفسنا.. نحس إنه لنا لازمة.. نتحمل مسئوليتنا.. ثم لو فشلنا ما خسرناش حاجة.وأضاف واحد منهم: بالعكس هينستفيد.. كل واحد هيشارك في العصيان المدني بطريقة «خليك بالبيت» هيستفيد.. كفاية يترحم من زحمة الشوارع، وسخافة الميكروباص، والعرق في الحر، ويوفر مصاريف يوم.وأضاف واحد منهم: والله ممكن نحبب الناس تشارك بإعلانات مشجعة علي طريقة «استمتع بيوم سعيد مع أسرتك»، «شارك أطفالك البهجة واطمئن علي أحوالهم»، «اقعد يوما داخل منزلك العامر داعب زوجتك» (أو اكبس علي نفسها) ليوم آخر. «استمتع بمشاهدة المباراة والفيلم علي التليفزيون وأنت مسترخ علي الكنبة». وفوق كل هذا جائزة كبري لكل مشارك: تغيير النظام.ضحكوا جميعا وانشرحت قلوبهم للفكرة لكن واحد منهم داهمهم بسؤال:ـ طيب الموظفين أو العمال لما يغيبوا عن الشغل والحكومة عارفة أنه لا اعتيادي ولا مرضي ده احتجاجي وعصياني. هيستحملوا الخصم والفصل والمرمطة؟رد واحد منهم: يعني هو فيه شعب في الدنيا عاوز حقه ييجي كده ع الطبطاب؟ يطلب الحرية ومش عاوز يدفع فاتورتها؟ إيه يعني خصم شهر والدنيا تتصلح؟فأضاف واحد منهم: طب ما نسهل ع الناس في أول بروفة يوم واحد بس. ونختاره كمان يوم إجازة قومية عشان كل واحد يبقي من حقه رسمي يخليه في البيت.قفز واحد منهم قائلا: يوم 23 يوليو الجاي.فأيده واحد منهم: أيوه.. العيد القومي لمصر.. يبقي العيد عيدين.. وزي ما كانت 23 يوليو 1952 ثورة الضباط الأحرار يبقي 23 يوليو 2007 ثورة الناس الأحرار. استثار الحماس واحد منهم فأضاف: وعشان يبان للكل إن إحنا مش قاعدين في البيت مجرد أجازة وراحة إنما موقف سياسي ضد النظام ده يبقي كل واحد يعلق علي شباكه أو بلكونته شارة سوداء أو علم أسود.فابتدره واحد منهم: أسود ليه؟ إحنا مش في جنازة ولا حداد ولا هنقعد نلطم.. دا فرح قومي أكبر من انتصارات الكورة.. إحنا نعلق علم مصر.في جلاء الفكرة توحد الجمع.. وتحرك الحصان وقال الأبيض: كش ملك.واحد منهم زارني أمس وقال: لدينا نص دعوة من سطر واحد يقول: «خليك بالبيت يوم 23 يوليو القادم.. وارفع علم مصر» وهذه ليست دعوة حزب ولا جماعة ولا اتجاه سياسي. هذه فكرة نبتت من الناس في قعدة علي القهوة. ونريد أن نعرضها علي الناس مباشرة ليقولوا رأيهم فيها بأنفسهم. فهل تقبل أن تنشرها وتفتح مساحة في الأعداد التالية لنشر آراء الناس فيها؟وعدته أن أنشر ملخص الجلسة ونص الدعوة ، هأنا أفي بوعدجة وأوجه الدعوة للقراء ليرسلوا لنا رأيهم وأعد بنشر كل الأراء التي تصلنا في الأعداد القادمة. لكنني قبل أن أشد علي يده مصافحاً سألته : ــ بس إنت يعني تفتكر إن البلد دي ممكن تتغير؟> ابتسم وهو يجيب: طبعا ممكن.
حمدين صباحى

الصحافة العربية: هل الإنترنت صديق أم عدو؟

.
.
ليس مقالاً سياسيًا ، ولكني أحتاج أن أحتفظ بـه هنا :)
كتب : غسـان الإمـام في الشرق الأوسـط
أشاعت المطبعة ديمقراطية التعليم والثقافة. فقد حولت الكتاب أداة المعرفة من مخطوطة نادرة الى الوفرة العددية الهائلة. ثم شهرت المطبعة سيف الصحافة المكتوبة في وجه السلطة، قبل أن تستطيع الفئات الاجتماعية المسيطرة إدخال هذا السلاح الإعلامي المخيف في غمد الطاعة.
لكن الصحيفة، وربما الكتاب أيضا، مهددة بالاختفاء والانقراض، قبل ان يختفي في منتصف القرن الحالي الجيل القارئ المولود في أواخر القرن الماضي. وقد لا يجد المخترع غوتنبرغ أحدا، في هذا العالم العاق، يحتفل معه في عام 2048 بعيد الميلاد الـ 600 للمطبعة. السبب هو الانترنت الذي يخطف منذ الآن الصحيفة من السوق والمطبعة، ليدمجها في اسر الثورة الالكترونية المرئية على الشاشة.
لست متشائما. لن اعيش الى منتصف القرن لاشهد الموت المزعوم للصحافة المكتوبة. انا متفائل لأني لا أؤمن بأن صحيفة الورق ستختفي معي. ألف ملايين القراء هذه الملامسة اليومية المحببة للصحيفة لهذه القطة الناعمة حينا، الشرسة حينا التي تصوغ الرأي العام التي تخلق أو «تخرمش» الانسجام الاجتماعي.
ما زلت اعتقد بأن الإنسان المدني هو الذي يقرأ على الأقل صحيفة واحدة يوميا، حتى ولو لم تكن هذه القطة الأليفة أداة لنشر العلم والثقافة، فهي أداة الاتصال والتواصل والتعايش مع الناس والمجتمع. كلي أمل في ان تُكتب الحياة للصحافة المكتوبة، حتى ولو اقتصرت على صور الحكومة وبرقيات التهنئة الإجبارية المرسلة الى الجرائد الرسمية السورية.
نعم، الانترنت يخطف الصحيفة من السوق وأيادي القراء لكن هل هو عدو قاتل أم صديق رؤوف حنون؟
صحيفة الورق والحبر تعايشت مع الثورات الالكترونية المتلاحقة. القراء لم يستغنوا عن الصحيفة وهم يسمعون اسطوانة عبده الحامولي المهترئة، وطقطوقة عبد الوهاب، ومعلقات أم كلثوم، وتسجيلات سيناترا، أو وهم يشاهدون سينما شابلن وبراندو، ثم فيديو شاكيرا ومادونا وهيفاء والساهر العراقي كاظم...
منذ سنوات، كتبت هنا داعيا الصحافة الى مقاطعة الانترنت. كنت مخطئا. الصحافة من الحيلة والذكاء بحيث تسخِّر الانترنت لخدمتها. كل مطبوعة صحافية اليوم لها موقع تنشر عليه. جيل القراء الشباب يقرأ الصحيفة على الانترنت. الصحافيون الأكثر ذكاء مني فتحوا مواقع لهم يستقبلون فيها قراءهم. في مقابل الانتشار على الانترنت، تخسر الصحافة المكتوبة الإعلان وقراء السوق، ولكنها توفر ثمن الورق والطبع المرتفع. هناك صحافة الكترونية ولدت مباشرة على الانترنت، من دون أن تعاني آلام المخاض والولادة على الورق، ومن دون أن تَتَعَمَّد بحبر المطابع.
الزميل عثمان العمير ينشر "إيلاف" على الانترنت· 700 ألف كوري يقرأون يوميا صحيفة «أوهمي نيوز» الالكترونية، وهم أكثر سخاء من قراء العمير. يدفعون مجتمعين 30 ألف دولار وسطيا ثمنا لمقالة أعجبتهم. وحتى روبرت مردوك امبراطور الصحافة المكتوبة اشترى خدمة «ماي سبيس» الالكترونية منذ عامين.
أيضا، هناك صحافة عالمية الكترونية (موقع شركة ياهو) تستخدم وكالات أنباء وكتابا محترفين. استغنت عن المراسلين المرهقين للميزانية، وتعتمد أساسا الأخبار والصور والأقلام والمقالات والتعليقات التي يرسلها القراء الهواة· آل غور المرشح المهزوم أمام بوش ينشر مع شريك له على قناة تلفزيونية (بالكابل) هذه السلع الصحافية بعد إعدادها تحريرياً للنشر، وبينها أفلام لأعاصير تسونامي وكاترينا، وفيلم التقطه سائح أميركي مصادفة للانسحاب الاسرائيلي من مستوطنات غزة.
هل صحافة الانترنت أكثر جدية ومصداقية من الصحافة «العتيقة»، صحافة الورق والحبر؟ ربما هي أكثر خدمة للحقيقة وأقل انحيازا. فهي تشعر بحرية أكبر، في إفلاتها النسبي من الرقابات والمضايقات، ثم في تخطيها شركات التوزيع التي تستنزف الصحافة المكتوبة. وإذا استمر الإعلان في انتقاله من التلفزيون الى الانترنت الأكثر إدامة للصورة الإعلانية، فستعثر الصحافة الالكترونية على مورد مربح يغطي تكاليفها وخسائرها في صحيفتها المطبوعة.
الخاسر الأكبر في صحافة الانترنت هم الكتاب. المحترفون وأنا منهم باتوا يتقاضون من الصحافة المكتوبة التي تحترم نفسها وسمعتها مرتبات وأجورا مستقرة يعيشون عليها. لكن صحف الانترنت التي تستعير ما يكتب هؤلاء لا تدفع بدلاً، فيما بدأت الصحافة العالمية تستجيب لمطالب كتابها بتقاضي بدل يكاد يوازي ما يتقاضون من الصحافة المكتوبة.
الصحافة العربية سجلت مواكبة سريعة للتطور التقني والفني، في الانتقال بالحرف من الصف اليدوي، ثم الصف الآلي، إلى نظافة ودقة وسهولة الصف والتصميم والإخراج على شاشة الكومبيوتر· لكن القصور التقني ما زال ماثلا على مستوى تحرير الخبر والتحقيق (الريبورتاج) وكتابة الزاوية القصيرة والتعليق الطويل. لا أستطيع التوسع كثيرا في الشرح لضيق المجال المتاح، إنما أقول إني أتمنى أن أرى اليوم الذي تستطيع فيه الصحافة العربية المكتوبة والالكترونية مجاراة الصحافة الأميركية خصوصا، والأوروبية عموما، في تشكيل «مطبخ التحرير».
أعني صقل تقنية المحرر والمراسل والموفد في صياغة الخبر. هذا الجهد الكبير يتطلب فريقَ عملٍ جماعياً ضخماً في صالة التحرير، لتلافي النقص الملاحظ بسهولة في غياب كامل عناصر الخبر، أو «السلق» والتكرار في صياغته المستعجلة، وعدم القدرة على إضفاء عنصر التشويق على الخبر نصا وعنوانا، بسبب ضيق الوقت وفردية العمل التحريري. إلى أن يتم تشكيل «مطبخ التحرير» في الصحافة العربية، اقترح الاكتفاء بالاستعانة بأخبار وكالات الأنباء الأكثر تقنية، وتكليف المراسل الخاص بتغطية الحدث الذي يهم الصحيفة، ورفع أدائه وتوجيهه نحو تغطية الوجه الإنساني والإشكالي للخبر والحدث، وتدريبه على تقديم صور قلمية سريعة لمشاهد في مدينته أو منطقته تلفت اهتمام الزائر لها. أقول بصراحة ليس عيبا في الصحافة العربية، أو نيلا من كبريائها، الاستعانة بمحررين محترفين من «مطابخ» وكالات الأنباء والصحف العالمية، لتدريب المحرر والمراسل والموفد. وليس عيبا أن أدعو الصحافة العربية الى دراسة تشكيل الصفحة الأولى لـ«الأهرام» في الأيام التي سبقت الحرب الحزيرانية الكارثية. فقد قاتلت أهرام هيكل بأفضل مما قاتلت القوات المسلحة.
كي لا «أُزَعِّل» زملائي المحررين والمراسلين في الصحافة العربية، أقول إن صقل تقنية الزاوية والمقالة أصعب بكثير من صقل تقنية التحرير. لا استعارة ولا تدريب ينفع في هذا المجال. الأمر راجع إلى مهارة وحرفية الكاتب، وليس كل كاتب. قيل لي ان الوزير غازي القصيبي انتقد في «العربية» كتاب المقالات والزوايا في الصحافة السعودية المحلية. إذا كان ذلك صحيحا، فهذا القارئ المثقف معه كل الحق. لا بد من التخلص من الإنشاء والإسهاب والتنظير. الكتابة العفوية المستعجلة تزري بالصحيفة والقارئ والكاتب. أسهل على الصحافة المحلية أن تختصر كتابها من أن تخسر قراءها.
أمران أؤجلهما الى حديث أوسع: ثرثرة القراء الذين يمطرون الصحافة بما هب ودب من آراء وتعليقات عفوية. الأمر الآخر محنة المجلة الأسبوعية التي باتت ضحية للتلفزيون والصحافة اليومية والإنترنت. سلفا، أنصح باختصار القراء الذين باتوا على زعمهم كتاباً، وبتوجيه المجلة إلى الريبورتاج في موقع الحدث، وإلا فستبقى عجوزاً عتيقة مرشحة للاختفاء، قبل اختفاء صحيفة الورق.
منذ زمن بعيد، كففت عن قراءة «تايم» و«نيوزويك». أقرأ «لوموند ديبلوماتيك» ولا أنصح بترجمتها. لكن ما زلت أنا الأمي الإلكتروني وفيا للصحيفة اليومية. ألامسها. أتنسم رائحة حبرها، وكأني أعانق أجمل امرأة في العالم. غير أني لا أجهر بحبي. أنا من القراء الذين يكتفون من الإعجاب، بكبرياء الصمت.

Monday, April 23, 2007

صانع الجواسيس فى مصر


فى ملف محمد سيد صابر أحدث جاسوس إسرائيلى على مصر توقفت أمام واقعة اعتقد أنها لا يجب أن تمر - كما يمر كل شيء فى حياتنا دون التفات - فقد حصل محمد على بكالوريس الهندسة النووية من جامعة الإسكندرية عام 1994 وتم تعيينه بهيئة الطاقة الذرية عام 1997.. وعمل بالمفاعل النووى بأنشاص، وفى عام 1999 أى بعد عامين فقط قدم طلبا للسفارة الإسرائيلية بالقاهرة للهجرة إلى إسرائيل وذلك بسبب الخلافات التى نشبت بينه وبين مسئولى هيئة الطاقة الذرية. نحن إذن أمام موظف مصرى مثل ملايين الموظفين، قد يكون متميزا نوعا ما بسبب تخصصه لكنه فى النهاية موظف.. ويمكن بل من الطبيعى أن تحدث خلافات بينه وبين رؤسائه.. ففى أدراج المحاكم المصرية آلاف القضايا الإدارية التى رفعها الموظفون ضد رؤسائهم من أجل أن يحصلوا على حقوقهم.. بعض هذه القضايا يتم حلها وبعضها يدخل فى حائط مسدود.. فى حالات الإحباط كان يذهب الموظفون أو المواطنون الذين فشلوا فى الحصول على حقوقهم أو تحقيق أنفسهم إلى السفر خارج مصر مهاجرين وفارين بجلودهم وعقولهم.. لكنهم كانوا يقصدون أمريكا أو كندا أو استراليا. لكن محمد سيد صابر قصد إسرائيل للهجرة إليها.. وهنا لابد أن نسأل: هل كان يريد المهندس المصرى أن يفر من البلد التى ظلمته وطحنته فقط أم أنه أراد بالهجرة إلى إسرائيل تحديدا دون غيرها من كل بلاد الدنيا أن ينتقم من بلده ويوجه إليها طعنة هائلة.. فهو يبيعها لعدو؟! رغم الكلام الكبير عن السلام بيننا وبينه - إلا أنه مازال عدوا يتربص بنا ونتربص به.. هذه هى الرسالة الأساسية التى يجب أن نلتف حولها ونناقشها.. فالجاسوسية ضد مصر لم تعد من أجل المال فقط.. ولكنها أصبحت من ظروف قاهرة ونظام ظالم ومناخ فاسد أفرز مواطنين بلا انتماء ولا وطنية.. مواطن واضح مع نفسه فإذا لم يعطنى الوطن ما أريده فلأبحث عن وطن آخر يعطينى حتى لو كان هذا الوطن خصماً لي. قضية محمد سيد صابر لم تحسم بعد.. انتهى جهاز المخابرات من عمله وانتهت نيابة أمن الدولة العليا من تحقيقاتها وسلمت للمحكمة كل المستندات التى تدين الجاسوس الجديد.. لكن القرار النهائى لم يصدر بعد، وحتى تتواصل جلسات المحاكمة وتدور عجلاتها فإننا أمام كارثة.. ليس لأننا نقف وجها لوجه أمام جاسوس.. فالجاسوسية مهنة قديمة ثم إن محمد سيد لن يكون الجاسوس الأخير.. وحتى لو أعدم فإن ذلك لن يردع الآخرين عن أن يسيروا فى نفس الطريق المظلم. الأزمة الآن ليست أمنية فقط.. ولكنها قضية مصير.. تفتح الطريق أمام طرح سؤال أعتقد أنه مهم شيء ما وهو: هل يحب المصريون وطنهم؟ وقبل أن أجيب عن هذا السؤا أجدنى أسأل وما هو الوطن فى الأساس؟ هل هو الشعارات والأغانى الوطنية والبرامج السياسية البراقة والخطب النارية.. هل هو معنى مجرد لا نعرف عنه شيئا؟ إن الوطن مكان يجب أن يساعد من يعيشون فيه على أن يحققوا أنفسهم أن يحصلوا منه على حقوقهم.. ليس معنى أن أكون وطنيا أن أعمل مواصلا الليل بالنهار ثم فى لحظة أجد آخرين يحصلون على كل شيء ويستمتعون بكل شيء.. ليس معنى أن أكون وطنيا أن أرضى بالقليل لأن هناك نصابين وحرامية يسيطرون على كل شيء ولا يسمحون لأحد أن يشاركهم فى مكاسبهم ولو من بعيد. إننا نعيش فترة من الهزال السياسى وراءها النظام الحاكم بكل قوة.. إهدار للكرامة فى الداخل وتفريط كامل للحقوق فى الخارج.. وإذا أردنا أن نتأمل حالة واحدة فلنضع حالة المهندس محمد سيد صابر على طاولة التشريح.. فقد دخل كلية الهندسة بما يعنى أنه كان طالباً متفوقا استطاع أن يحصل على مجموع كبير بتعبه ومجهوده فى الثانوية العامة، أنهى دراسته فى قسم الهندسة النووية والأحلام تراوده أنه سيصبح عالما له ثقل ووزن ومكانة اجتماعية ولابد أن تترجم هذه المكانة والاجتماعية إلى وضع اقتصادى مناسب، لكنه بعد أن تخرج وجد نفسه مجرد موظف بل إنه تعرض للاضطهاد من رؤسائه، لم يجد نفسه ولم يجد شيئا من أحلامه التى ظلت تراوده ويراودها، فهل كان من المنطقى أن ننتظر منه شيئا ايجابيا. لقد سلك محمد سيد صابر سلوكا معيبا خان به وطنه، لكن لم يسأل أحد نفسه.. من الذى بدأ بالخيانة.. هل خان محمد مصر أولا، أم أن مصر هى التى خانته، إن المحللين يذهبون كل مذهب فى تفسير سقوط الجواسيس، يبحثون عن الأسباب الاجتماعية والنفسية التى تدين أصحابها، لكن لم يسأل أحد نفسه عن الذى وقف وراء هذه الأسباب وصنعها وجعلها مؤثرة إلى الحد الذى يتحول فيه الشاب المصرى إلى جاسوس يبحث عن تحقيق نفسه فى أى أرض لو كانت هذه الأرض تحمل عداء وحقدا وكراهية لأهله وأرضه. لا يمكن لأحد أن يبرر الخيانة.. لكن لا يمكن كذلك أن يبرر الظلم.. إننا نعيش فترة يكره فيها الشباب أن يؤدوا الخدمة الوطنية ويفرحون إذا تم إعفاؤهم منها لأنهم يشعرون أن هذه الفترة ضائعة من حياتهم ولن تضيف لهم شيئا، فمن الذين نزع من قلوب الشباب وصدورهم حماسهم ورغبتهم فى خدمة الوطن، من الذى جعلهم سلبيين إلى هذه الدرجة؟.. إن حكومة الحزب الوطنى بكل رجالها تمارس حالة مستفزة من الاستبعاد والنفى لكل من لا يعمل معها.. فمن ليس معها فهو ضدها.. لا يتمتع بحقوقه ولا يستطيع أن يحصل عليها وكأنه فى البلد غريب أو عابر سبيل.. فما الذى يمكن أن ننتظره من هذا الشاب؟!. إن محمد سيد صابر يجب أن يحاكم وإذا ثبتت إدانته فلا أقل من إعدامه.. لكن قبل ذلك أو معه يجب أن يحاكم الذى صنعه الذى مهد له الظروف لأن يسلك هذا الطريق.. فليس منطقيا أن محمد سيد قام من نومه فوجد نفسه يهوى الجاسوسية ويريد أن يحترفها. لكنه دفع إلى ذلك دفعا.. قد يكون مريضا نفسيا. فمن الذى جعله مريضا.. قد يكون محبطا فمن الذى جعله محبطا؟ إن الإنسان لا يولد خائنا لكنه يدفع إلى ذلك دفعا. لقد بشرنا الرئيس السادات بعصر السلام بعلاقات طبيعية مع إسرائيل لكنه منذ أن مد يديه إليها وحلقات الجواسيس لا تنقطع، بل إنها متصلة، وبنظرة واحدة إلى قائمة الجواسيس فى عصر السلام ستجدها مفزعة، لكن جواسيس عصر السلام الساداتى لم يكن هدفهم جمع المعلومات فقط ولكن كان هدفهم التدمير والتخريب وقضية إبراهيم شامير نائب مدير المركز الاكاديمى الإسرائيلى بالقاهرة لاتزال عالقة بالذاكرة، ضبطت هذه القضية فى 24 أغسطس 1987.. لم يكن المتورطون فيها يجمعون معلومات عن مصر، ولكن ضبط هو ومجموعة من العاملين معه وهم يهربون 3 كيلو جرامات هيروين من مطار القاهرة، فقد جاءوا ليقتلوا بالمخدرات، إن المعلومات التى تريدها إسرائيل تستطيع أن تصل إليها بسهولة كبيرة. فقد وفر السلام للإسرائيليين أن يدخلوا البيت المصرى ويتجولوا فيه بحرية ويحصلون على ما يريدون وقد تكون جالسا فى أحد مقاهى وسط البلد فتجد وفدا يتجول ببساطة ويتحدث بالعبرية. لكن حتى المعلومات لم تعد إسرائيل تحصل عليها من أجل المال فقط ولكنها كانت تبادل المعلومات أحيانا بالمخدرات وهو ما حدث تحديدا فى قضية سمحان موسى مطير. كان سمحان موسى مطير يعمل خفيرا فى إحدى شركات البترول استطاع جهاز الموساد أن يجنده وكان يتلقى شحنات المخدرات عبر سيناء ويرسل المعلومات فى مقابلها وبلغت ثروته أكثر من أربعة ملايين جنيه وقام بدور سياسى هائل فى سيناء حتى تم تعيينه مستشارا لمحافظ جنوب سيناء لشئون القبائل، وهو المكان الذى استطاع من خلاله أن يجمع أكبر قدر من المعلومات ويهديها إلى إسرائيل مقابل أن يواصل عمله فى تجارة المخدرات. فى فترة التسعينيات وحدها استطاعت المخابرات المصرية أن تسقط أكثر من عشرين جاسوسا كان أشهرهم عزام عزام الذى دخل مصر تحت ستار اشتراكية فى ملكية مصنع ملابس، قدم نفسه على أنه خبير ملابس نسائية وكان يقضى أوقاتا طويلة فى شبرا الخيمة بهذه الصفة وعندما قبض عليه توسط له الرئيس الإسرائيلى شخصيا لدى الرئيس مبارك لكنه رفض الإفراج عنه أو إصدار أمر بالعفو لأن الأمر كان قد أصبح فى يد القضاء لم يكن عزام عزام وحده بل كان إلى جواره عماد إسماعيل المصرى الذى جنده الموساد أثناء عمله وتردده على إسرائيل. جاسوس آخر هو شريف الفيلالى سافر عام 1990 لاستكمال دراسته العليا فى ألمانيا وأثناء إقامته هناك تعرف على ألمانية يهودية قدمته إلى رئيس قسم العمليات التجارية بإحدى الشركات الألمانية الدولية الذى ألحقه بالعمل بالشركة للعمل فى إسرائيل وعندما فشل فى تعلم اللغة العبرية سافر إلى أسبانيا وتزوج من امرأة يهودية مسنة ثم تعرف على جريمورى شيفيتش الضابط بجهاز المخابرات السوفيتى السابق المتهم الثانى فى القضية وعلم منه أنه يعمل فى تجارة الأسلحة وكشف له عن ثرائه الكبير ثم طلب منه إمداده بمعلومات سياسية وعسكرية عن مصر وإمداده بمعلومات عن مشروعات استثمارية منها ما هو سياسى وزراعى بمساعدة ابن عمه سامى الفيلاى وكيل وزارة الزراعة وافق الفيلالى وبدأت اللقاءات مع ضابطين من الموساد. وحتى الآن لم تهدأ قضية الجاسوس عصام العطار الذى قبض عليه مؤخرا.. وقبل أن نبتلع ريقنا ظهر لنا جاسوس جديد. وهو ما يجعلنا نسأل من الذى يقف وراء سقوط كل هؤلاء الشباب فى شباك الجاسوسية والخيانة.. إنهم يستحقون الضرب بالنار.. لكن الذين أدخلوهم إلى هذا الطريق يستحقون القتل أيضا.. فصانع الجواسيس بالظلم وانتهاك حقوق الإنسان والاحباط لايزال يواصل عمله فى مصر ونحن نتفرج عليه.
محمد الباز

الاستقطاب المصطنع


د. حسن حنفى ــ العربي الناصري 22/4

بالرغم من حالة التميع السائدة فى السياسة الخارجية العربية يشتد الاستقطاب فى السياسة الداخلية. الاستقطاب فى الخارج شيء طبيعى بين العرب من ناحية وإسرائيل والولايات المتحدة من ناحية أخري. أما الاستقطاب فى الداخل فى حياة المواطنين فإنه مصطنع، يفرغ الطاقة، ويحيد عن الهدف. هو استقطاب مزيف لخلق معارك وهمية بدلا من المعارك الطبيعية التى حيدتها نظم الحكم فى السياسة الخارجية فى قضايا الحرب والسلام بالنسبة للقضية الفلسطينية، والتبعية والاستقلال بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية. ويصل حد الاستقطاب فى الداخل إلى حد الحروب الأهلية كما حدث فى لبنان والجزائر بين الإخوة الأعداء. فريق يكفّر فريقا، وفريقا يخوّن فريقا. فشُق الصف الوطنى وضاعت وحدة الأوطان. واختفت ثقافة الحوار. وأصبحت الأوطان مهددة ليس فقط بقوى التفتيت الخارجية وإثارة النعرات الطائفية والعرقية بل أيضا بقوى التفتيت الداخلية صراعا على السلطة بين فرقاء الوطن الواحد. الاستقطاب الخارجى استقطاب رئيسى تتحدد طبقا لقوانين الصراع فيه حياة الأمم والشعوب فى حين أن الاستقطاب الداخلى لا نفع منه فى قضايا مفتعلة. وبلغة الأيديولوجيا، الاستقطاب الخارجى تناقض رئيسي، والاستقطاب الداخلى تناقض ثانوي. والرئيسى له الأولوية على الثانوي. الأول استقطاب عملى يغير مسار الشعوب ويتحدد به مستقبل الأمم. فى حين أن الثانى استقطاب نظرى فقهى لا ينتج منه أى أثر عملي. ولا يحقق تقدما لشعب بل يسهم فى تأخره. ولا يحل مشكلة فى حياة الناس بل يزيد من تهميشها. ومظاهر الاستقطاب كثيرة. أهمها الاستقطاب الديني: حجاب أم سفور؟ شريعة إلهية أم اختيار إنساني، جبر شرعى أم حرية شخصية؟ وبطبيعة الحال تنقسم الآراء بين فريقين، محافظين وليبراليين، تقليديين وتجديديين، سلفيين وعلمانيين. ويتحزب الناس. وينتصرون لذا الفريق أو ذلك. يزايد فريق فى الدين والإيمان. ويزايد الفريق الآخر فى الحداثة والعصرية. ويدخل الإحراج الشخصى والخوف الاجتماعى كحجج وبراهين. فلا أحد يجرؤ على عصيان الشريعة. ولا أحد يريد التنازل عن حرياته الشخصية. والله فى القلب وليس وراء الأحجبة، فى السرائر وليس فى المظاهر. والفضيلة فى السلوك وليست فى الغطاء. توحيد الأذان من مؤذن حسن الصوت من خلال أجهزة الإعلام الحديثة أم الإبقاء على تعدديته بأصوات كريهة، رجالا وأطفالا، تتداخل فيما بينها نظرا لقرب المساجد بعضها من بعض، وعلو مكبرات الصوت والمنارات. ويختلف الناس بين الإبقاء على التعدد فى الأذان حتى ولو أدى ذلك إلى صراخ وصخب وصم للآذان. فلكل مسجد أذانه. ولكل مؤذن صوته، وهى عامة الناس، وبين التوحيد المتناغم إبقاء على الغاية وهى اليقظة مع حسن الوسيلة وهو الصوت الواحد المتناغم. وهو رأى النخبة والدولة. استعمال مكبرات الصوت أم الصوت الطبيعي؟ يصر دعاة الإيمان على استعمال مكبرات الصوت فلا فرق بين الإيمان والإعلام. ومكبرات الصوت أكثر قدرة على إيقاظ الوسنان وغفلة النائم. ولماذا لا تستعمل التكنولوجيا فى الدين؟ ويتبارى الأغنياء فى شراء أحدث الأجهزة الإلكترونية من مضخات الصوت من المحسنين والمتصدقين وفعلة الخير لنيل حسن الثواب فى الآخرة بعد الثراء فى الدنيا. ويرى دعاة الحياء والاطمئنان أن الصوت الطبيعى أقرب إلى القلب ومدعاة للخشوع من تضخيمه بالآلات الحديثة كما يتم فى الأفراح والموالد وافتتاح المحلات التجارية. ويفترق الناس بين من يرى أن الإيمان إذاعة وانتشار ودعاية وإعلان وإعلام، وبين من يرى أن الإيمان أقرب إلى التقوى والقلب والصمت والاطمئنان الداخلى دون حاجة إلى صخب خارجي. توحيد خطب المساجد يوم الجمعة أم تركها متنوعة طبقا لاختيار الأئمة؟ من يرى التوحيد هم رجال الدين الرسميون ووزراء الأوقاف والشئون الدينية الذين يودون الإبقاء على خطب المساجد تحت رقابة الدولة حماية للبلاد من التطرف والشطط، وإدخال الدين فى السياسة، واتقاء شر معارضة الحكومة بما للمساجد من أثر فى تكوين أذهان العامة. وكما أفرزت المساجد فقهاء السلطان والحيض والنفاس فإنها أيضا أفرزت فقهاء الأمة ومصالح الناس والثوار ضد الظلم والقهر والفساد والاحتلال. وينقسم الناس بين مؤيد لتوحيد الخطبة وهم رجال الدولة مع بعض البسطاء من العامة وبين المبقين على تعددها. فكل بيئة لها مصالحها، وأهل مكة أدرى بشعابها، وهى المعارضة. كيف يحدد أول يوم العيد، بالعين المجردة أم بالحسابات الفلكية؟ العين المجردة يؤيدها النص القرآنى حتى يتبين لكم الخط الأبيض من الخط الأسود، والحسابات الفلكية أدق وأضبط من العين التى تختلف قوة وضعفا والتى قد يمنعها الغمام والضباب والأتربة من حسن الرؤية. كيف يتم تحديد أول الشهر القمرى والعالم الإسلامى ممتد من أقصى مشارق الأرض ومغاربها. من المغرب إلى الصين. كما انتشر فى نصف الكرة الغربى أيضا. وقد تصل فروق التوقيت إلى أربع وعشرين ساعة أى إلى يوم وليلة كاملين. ويتحزب الناس إلى كل من الرأيين. ويدب الخلاف بين المسلمين، وتبادل الاتهامات بالتخلف والتقليد أو بالجرى وراء العلم الحديث، وتوحيد ما لا يوحد وإلا لتعددت وقفة عرفات. حلال أم حرام؟ فى كل خطوة وفى كل فعل وأمام كل شيء حتى فقدت الأشياء براءتها الأصلية، وفقد المسلمون الثقة بالطبيعة الخيرة، وتهيبوا العالم المملوء بالشرور والمحرمات حتى استولى عليه الأعداء وسيطروا عليه. الحلال والحرام معروف فى الشرع. وما سكت عنه الشرع فهو فى مرتبة المباح أو العفو. فلم السؤال والتضييق عما سكت عنه الشرع وتركه فسحة ورحمة؟ هذا ما فعله بنو إسرائيل بالسؤال فيحرمه الله تدريبا لهم. فضاقت عليهم الشريعة فلفظوها مثل السؤال عن لون البقرة ونوعها وشكلها وحجمها. يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تُبد لكم تسؤكم ويفترق الناس فريقان. الأول مع التشديد مزايدة فى الإيمان، والثانى مع التخفيف رحمة بالناس. وهكذا يتم تفرع الاستقطابات الدينية، وتتحول من الاستقطاب الدينى إلى الاستقطاب الاجتماعي: فساد الرهبان، وعلاقاتهم الجنسية الحرة من أجل إثارة الشقاق بين المسلمين والأقباط، الزواج المختلط بينهما، التنصير أو الأسلمة، تحول النصرانى إلى الإسلام أو المسلم إلى النصرانية، إباحة الطلاق أو تحريمه فى المسيحية حتى يختلف الناس بين الإباحة والتحريم، وتقع النزاعات الطائفية فى الدول التى تخلو من النزاعات العرقية والمذهبية. وقد يتجاوز الاستقطاب المستوى الدينى الاجتماعى إلى المستوى الدينى السياسى فى عدة موضوعات أخري. الإبقاء على مادة الشريعة المصدر الرئيسى للتشريع فى الدستور أم إلغاؤها؟ إبقاؤها يرضى المؤمنين حتى ولو كانت صورية فارغة من أى مضمون. فما يقع فى البلاد من فساد وقهر فى الداخل وتبعية وتحالف مع أعداء الأمة فى الخارج ضد الشريعة. وإلغاؤها يرضى العلمانيين. فالدستور للجميع وليس للمسلمين فقط. وبالبلاد أقباط لا تطبق الشريعة الإسلامية عليهم طبقا للشريعة ذاتها، ويحتدم الخلاف، وتنقسم الأمة على موضوع شكلى وإن كانت له دلالة رمزية. وتخاطر بوحدة عنصرى الأمة المسلمين والأقباط. وينفر الناس من الشريعة إذا كان المقصود منها تطبيق الحدود دون إعطاء الحقوق. والشريعة واجبات وحقوق. فلا رجم إلا إذا توفرت للشباب إمكانيات الزواج المبكر. ولا قطع ليد إلا إذا توفرت له أسباب الحياة الكريمة من عمل وكسب ومسكن وتعليم وعلاج أى الحاجات الأساسية للمواطن. دولة دينية أم دولة مدنية؟ وهو استقطاب مقنع يخفى صراعا سياسيا بين الحكومة والإخوان. الحكومة تتهم الإخوان بالقول بالدولة الدينية وهو مضاد للدستور الذى يمنع من تأسيس أحزاب سياسية على أسس دينية حماية للوحدة الوطنية. والإخوان يتهمون الحكومة بالدولة المدنية التى تطبق القانون الوضعى الذى قد يتعارض أحيانا مع الشريعة الإسلامية. والإخوان يقولون بالدولة المدنية، وتدخل فى معترك الحياة السياسية كحزب مدني، الانتخابات والبرلمان. وتطالب بتعديل الدستور حفاظا على الحريات العامة وقواعد الديمقراطية وتداول السلطة كما تفعل باقى أحزاب المعارضة. والحكومة تمارس دور الدولة الدينية باستعمال الرموز الدينية فى أجهزة الإعلام وجهاز الدولة وصفات الرئيس المؤمن. سنى شيعي؟ وكلما اشتدت المقاومة العراقية فى العراق وغرقت القوات الأمريكية فى رماله كما غرقت من قبل فى أوحال فيتنام تحول الصراع بين المقاومة والاحتلال إلى صراع بين السنة والشيعة. وبدلا من الحديث عن مآسى الاحتلال يتم الحديث عن الخطر الشيعى على العراق والخليج وعلى أهل السنة بالإجماع. وكما تتزعم إيران المذهب الشيعى تتزعم السعودية أو باكستان المذهب السني. وتقام أحلاف جديدة على أساس مذهبى سنى شيعي، وليس على أساس وطني، استقلال وتبعية. ومع الخطر الشيعى الإيرانى يأتى الخطر النووى الإيرانى وكأن الخطر الإسرائيلى الأمريكى لم يعد هو الخطر الأول.

ولد «فال» و«الفأل» الحسن!



شعبان عبد الرحمن المصريون : بتاريخ 23 - 4 - 2007
سماؤنا العربية الملبدة بسحابات الدكتاتورية الخانقة.. أحياناً تفاجئنا ببوارق أمل.. ولكن على فترات متباعدة. وأرضنا المشبعة بالكبت والجبروت حتى تصحرت سياسياً وإبداعياً.. أحياناً تفاجئنا بنبتة خضراء تشق الصخر، وتغالب التصحر والجدب.. لتبلغنا رسالة: اطمئنوا.. مازال هناك أمل في الحياة! أقول هذا الكلام بينما نشاهد من بعيد «بارقة أمل» عند شواطئ المحيط الأطلسي على أرض موريتانيا.. ذلك البلد الصغير( ثلاثة ملايين نسمة ) الذي وصفه أحد الرؤساء العرب «بأنه شعب قبلي.. لا يعرف شيئاً عن الانتخابات».. لكنه «عرف» ومارس الديمقراطية ونجح فيها. وقد عاش الشعب الموريتاني الخميس 19/ 4/ 2007 م يوماً من أندر أيامه؛ حيث تنفس الصعداء بعد طول عناء من الحكم العسكري الدكتاتوري الذي تتابع عليه وكبت على أنفاسه ما يقرب من نصف القرن.. هناك وعلي مقربة من الحدث مررت مرورا سريعا خلال جولة بالمغرب العربي .. وشاهدت أجواء جديدة .. لم يصدق الناس تماما أن بلادهم تشهد انتخابات حرة رغم انقضاء جولتين من الانتخابات.. ( 11مارس - 25مارس 2007م ) لكنهم تنفسوا الصعداء طويلا عندما وجدوا أن الأمر جد لا هزل وان الرئيس الجديد سيدي ولد الشيخ عبد الله ( الفائز بنسبة ‏52,85%‏ من الأصوات) في طريقه الي قصر الرئاسة دون مشاكل بينما حزم العسكر حقائبهم وخرجوا مختارين مرفوعي الرأس من القصر إلي ثكناتهم . وبهذا يكون جنرالات موريتانيا بقيادة الجنرال " ولد فال " قد أكملوا المهمة بنجاح بعد الوفاء بما قطعوه على أنفسهم ــ يوم قاموا بانقلابهم «التصحيحي» في 3/8/2005م ــ بترك السلطة بعد 19 شهراً وإجراء انتخابات رئاسية حرة ؛ لتدخل موريتانيا عصراً جديداً بحق . ويبقى على المؤسسة العسكرية ــ ومعها الشعب «صاحب الكلمة الأولى اليوم» ــ الالتفاف حول ذلك الإنجاز الكبير الذي أنعش الحياة السياسية وأحيا الأمل، ودفع بهواء الحرية النقي إلى شرايين الحياة عامة.. يبقى عليهم أن يلتفوا حول ذلك المولود ليرعوه ويستميتوا في الدفاع عنه حتى ينمو ويكبر، وتكون موريتانيا منارة عند شاطئ الأطلسي بإذن الله.واعتقد ان الرئيس الجديد سيد ي ولدالشيخ عبد الله سيتمكن من تجاوز الصعاب المتراكمة في طريق قيادته للبلاد لسببين : الأول أن الرجل الذي تولي وزارة المالية في عهد ولد الطايع ذاق – مع غيره من الإصلاحيين - مرارة الاضطهاد والسجن لمدة ستة أشهر بسبب مواقفه الإصلاحية وعدم مجاراته لمفاسد النظام .الثاني : أن الرجل خبير اقتصادي كبير وقد أهلته تلك الخبرة للعمل كمستشار للصندوق الكويتي للتنمية لمدة ثلاث سنوات ( 1983- 1986م ) ثم مستشار لوزير الشؤون الاقتصادية بالنيجر عام 2003م وذلك اثر هروبه من موريتانيا خشية إعادة اعتقاله مرة أخري عقب احدي محاولات الانقلاب .إذا فالرجل ذو خبرة كبيرة بأهم ملفين في البلاد : ملف الحريات وملف الاقتصاد وهما أهم ملفين يعانيان الاحتقان والانهيار في أي نظام حكم مستبد وفاسد .أن ذلك الانجاز التاريخي الكبير الذي حدث في موريتانيا لم يحدث من فراغ، وإنما سبقه تاريخ طويل من التضحيات قدمه أولئك الذين يتنسمون اليوم نسمات الحرية.. قدموه من حرياتهم وقوتهم واستقرارهم.. وإن أقبية السجون والمعتقلات وغرف التحقيق تشهد على ما لحق بهؤلاء وفي القلب منهم الإسلاميون.. الشيخ محمد الحسن ولد الددو.. الداعية الكبير المحبوب الذي كاد يلقى حتفه في سجون الجنرال معاوية ولد الطايع، ومحمد جميل ولد منصور الذي عاش فترات طويلة من حياته بين سجون العسكر حيناً وسجون الغربة والتشرد أحياناً.. وغيرهما كثيرون من أبناء موريتانيا الشرفاء. إن العلاقة بين الحرية والاضطهاد أشبه بمعادلة رياضية.. فلا حرية بلا ثمن.. والثمن اضطهاد بكل ألوانه؛ بدءاً من التضييق حتى دفع الحياة ثمناً لها. وإن تجربة موريتانيا اليوم.. تحرج أنظمة دكتاتورية في المنطقة، وتجعل الكثير من العسكر الذين يُطْبِقون على رقاب العباد ويجثمون على أنفاس البلاد منذ سنوات طويلة، تجعلهم يطأطئون رؤوسهم حتى لا ترمق أعينهم ذلك المشهد الجليل، ولن تسعدهم أبداً تلك التجربة الموريتانية وربما يطيش صواب بعضهم فيحاول العبث هناك! وهكذا جاءت «بارقة الأمل» هذه المرة من موريتانيا.. بعد طول غياب دام أكثر من عشرين عاماً عندما قام المشير عبد الرحمن سوار الذهب بثورته التصحيحية في السودان في أبريل من عام 1985م... يومها وعد الشعب بتسليم السلطة بعد عام، وقد وفى الرجل وسلم السلطة لحكومة منتخبة ديمقراطياً.. وقد قال لي الرجل مرة : «كانت هناك محاولات من البعض لتزيد المدة لكننا أصررنا على ألا نزيد يوماً واحداً عما تعهدنا به».. يومها كان الحدث فريداً ومثار إعجاب واحترام الشعوب العربية، بل والعالم.. لكن سحائب الدكتاتورية النكدة واصلت تغطية سماواتنا عشرين عاماً، حتى جاءت البارقة من موريتانيا.. بعد طول غياب.ترى هل ننتظر عشرين عاماً أخرى حتى تأتي بارقة أخري .. ؟! كلنا أمل في حدوث المفاجأة الكبرى.. أن تطلع الشمس دون غياب. *shaban1212@hotmail.com

أزمـــة الشــعـــار !!


أزمة الشعار
د. رفيق حبيب : بتاريخ 23 - 4 - 2007
الوقائع السياسية تشير إلى اختزال الأزمة بين النظام الحاكم وجماعة الإخوان المسلمين، في الشعار الانتخابي للجماعة، وهو الإسلام هو الحل، والذي تستخدمه الجماعة منذ عام 1987، في كل الانتخابات التي تشارك فيها. وغالبا ما كان الشعار بديلا عن الاستخدام الصريح لاسم الجماعة، حتى جاءت انتخابات عام 2005، واستخدمت الجماعة اسمها صريحا، كما استخدمت شعار الإسلام هو الحل. وأصبحت المعركة السياسية بعد التعديلات الدستورية، والتي حظرت النشاط السياسي على أية مرجعية دينية أو أساس ديني، تدور في الواقع حول الشعار، وكأنه يختصر الأزمة السياسية الراهنة. فمن جهة تؤكد جماعة الإخوان المسلمين على تمسكها بالشعار، بصورة تجعل من الشعار معركتها الأساسية، ومن جهة أخرى، يحارب النظام والنخب العلمانية المتحالفة معه، من أجل منع الجماعة من استخدام هذا الشعار. والحقيقة أن الجماعة لن تخسر تواجدها السياسي إذا غيرت الشعار، ولن تحل مشكلتها مع النظام الحاكم الذي يريد إقصائها عن العمل السياسي، إذا غيرت الشعار. نريد أن نؤكد هنا، أن شيئا في الأزمة السياسية الراهنة لن يتغير، إذا استخدمت الجماعة شعارا آخر، مثل الشريعة هي الحل مثلا. فالمشكلة الأساسية هي في حالة الاستبداد السياسي، وعدم التوافق على قواعد للعمل السياسي تتيح للجميع التنافس السياسي الحر، ولا تقوم على إقصاء أي طرف من العملية السياسية.ولكن للشعار دلالات أخرى مهمة، بعيدا عن حالة الصراع السياسي الهادف إلى إقصاء جماعة الإخوان المسلمين عن العمل السياسي. فالشعار يطرح في الواقع قضية العلاقة بين الدين والسياسة، والواقع أن النظام الحاكم نفسه وعبر رموزه المتورطة في التعديلات الدستورية، أكد وجود هذه العلاقة، ولم تنفيها إلا النخب العلمانية والتي تريد إقصاء دور الدين عن الحياة السياسية. ولهذا يصبح الجدل المفيد حول الشعار، هو ذلك الجدل الذي يهدف إلى تحديد العلاقة بين الدين والسياسة، بصورة تنظم العلاقة بينهما ولا تنفيها. ومن هذا المنطلق علينا البحث عن أسباب تمسك جماعة الإخوان المسلمين بشعار الإسلام هو الحل. فالجماعة في تصورنا لديها عدد من الأسباب. وأولها: أن الجماعة ترى أنها تنافس تيارات سياسية تعمل في معظمها على أساس مرجعيات مختلفة عن مرجعية الإسلام الدينية والحضارية، والعديد من التيارات تتبنى تصورات سياسية غربية، تقوم في الواقع على المرجعية العلمانية. ومادامت هناك تيارات تقول بأن العلمانية هي الحل، وإن كانت لا تعلن ذلك صراحة، فيصبح على الجماعة التأكيد على أنها ترفض هذه المرجعية، وتؤيد مرجعية الإسلام الدينية والحضارية. وهنا نلاحظ أن الحياة السياسية المصرية تشمل تيارات تختلف في المرجعية الأساسية لها، بما يعني أن الجماعة السياسية المصرية لم تتوافق بعد على مرجعية العمل السياسي. ومادام الاختلاف يدور حول المرجعية، فمن حق الجماعة أن تعلن أن تتمسك بمرجعية معينة مقابل المرجعيات الأخرى، وهنا يصبح الشعار العام المتمثل في الإسلام هو الحل، هدفه دعوة الجماعة السياسية المصرية لتحديد مرجعيتها الأساسية، قبل الدخول في التنافس السياسي حول البرامج التفصيلية.ثانيا: ترى الجماعة أنها في المراحل الأولى من تأسيس رؤيتها في المجال السياسي، بعد أن أسست رؤيتها في المجال الاجتماعي نسبيا. وبهذا ترى الجماعة أنها في مرحلة تكوين كتلة انتخابية تدرك ما تريد الجماعة تحقيقه في المجال السياسي، وتعتقد أن هذا الإدراك مهم لتأسيس قاعدة جماهيرية مؤيدة لها، تسمح بعد ذلك بتكوين توجهات عامة لدى الناس تؤيد البرامج السياسية للجماعة. وهنا تركز الجماعة على تأسيس عملها السياسي من أسفل، أي من القاعدة الجماهيرية، حتى لا تصل في يوم من الأيام للحكم، وتكون القاعدة الجماهيرية التي أيدتها وأوصلتها للحكم، غير مدركة للمبادئ الأساسية التي تعمل الجماعة من أجلها، لهذا تصر الجماعة على تأكيد مبادئها أولا، حتى إذا تأكدت هذه المبادئ لدى جمهور الجماعة، أصبح هذا الجمهور عونا لها في تنفيذ برامجها السياسية.ثالثا: ترى الجماعة أن الوقت ليس مناسبا للتنافس السياسي للوصول للسلطة، وأنها في مرحلة تكتفي فيها فقط بالمشاركة في المعارضة وإعلان رأيها، ولهذا لا تعتبر نفسها بديل سياسي مستعد لتولي السلطة الآن، وهذا ما يجعل الجماعة أكثر اهتماما بتأسيس مواقفها العامة والرئيسية، أكثر من المواقف التفصيلية، حيث أنها تريد تكوين رأي عام مؤيد للمبادئ التي تتبناها، والرسالة التي تحملها، ولا تريد الوصول إلى السلطة إلا في اللحظة التي تكون فيها الجماعة هي البديل السياسي المناسب لتولي مسئولية تنفيذ تصوراتها التي نشرتها بين الناس. وبالتالي فالجماعة لا تدخل العملية السياسية بوصفها عملية تنافسية للوصول للسلطة، بل تدخلها باعتبارها عملية توعية للرأي العام بالمرجعية الأساسية التي يجب تبنيها في العمل السياسي. وعدم رغبة الجماعة في الوصول للسلطة إلا في الوقت المناسب، يجعلها لا تمارس التنافس السياسي المباشر بطريقة الحزب الذي يتنافس على السلطة، بل تدخل العملية السياسية من باب توعية الرأي العام بأهمية تحديد مرجعية العمل السياسي.تلك في تصورنا أسباب تمسك الجماعة بالشعار، والمشكلة هنا أننا بالفعل في مرحلة ما قبل التوافق على المرجعية العامة للدستور والقانون والعمل السياسي، وأن الجماعة السياسية المصرية لم تحدد هويتها السياسية بعد. مما يجعل التنافس السياسي يدور حول المرجعيات. وهو ما يفرض أهمية توضيح أسس المرجعية ومعناها، وشعار الإسلام هو الحل يختصر مسألة المرجعية، ولكنه يترك الباب مفتوحا لتداخل حالة التنافس السياسي مع مجال العقيدة، وتلك مشكلة تحتاج لعلاج.

للــوطن وليس للطــــــائفة

بقلم‏:‏ فهمـي هـويـــدي ..... أهرام ثلاثاء 24/4/2007

لست مقتنعا بفكرة حجب الرقم الذي يمثله الأقباط في تعداد سكان مصر‏,‏ واستغربت كثيرا الحجة التي أوردها رئيس جهاز التعبئة والاحصاء في تبرير هذا الموقف‏.‏‏(1)‏ في الحوار الذي أجرته صحيفة‏'‏ الدستور‏'‏ مع اللواء ابو بكر الجندي رئيس الجهاز تحدث الرجل في مواضيع شتي كان من اهمها عدم الاشارة إلي عدد الاقباط المصريين في نتائج التعداد‏.‏ وحين سئل عن السبب في ذلك قال ما معناه إن الاجواء الراهنة مشبعة بالحساسية والتوجس لذلك فإن خانة الديانة كانت اختيارية في استمارات التعداد‏.‏ وبسبب تلك الاجواء فإن الجهاز حريص علي عدم إغضاب الاقباط اذا لم يعجبهم الرقم واعتبروه اقل مما يتصورون‏,‏ كما أنه حريص علي عدم اغضاب المسلمين اذا وجدوا أن الرقم اعلا مما يتوقعون‏.‏ لذلك وتجنبا لوجع الدماغ فقد صار حجب الرقم هو الخيار الافضل‏.‏اذا صح هذا الكلام فأزعم أن التفسير الذي قدمه رئيس الجهاز يحتاج إلي تصويب يتحري وضوحا وصراحة اكثر‏.‏ ذلك أنه لم يحدث ولم نسمع أن المسلمين أعربوا عن استيائهم أو قلقهم من كون الاقباط خمسة ملايين أو عشرة‏.‏ لكن ما يعرفه الجميع أن بعض متعصبي القبط في داخل مصر وخارجها دأبوا علي اثارة اللغط والاحتجاج بسبب نتائج تعداد السكان‏,‏ مدعين في ذلك أن السلطات المصرية تتعمد تقليل اعدادهم ومصرين علي أن الرقم الحقيقي يتجاوز الارقام الرسمية المعلنة‏.‏ لذلك فالحقيقة أن حجب عدد الاقباط في التعداد الاخير والذي سبقه اريد به مجاملتهم وتهدئة خواطرهم وتفويت الفرصة علي المجموعات المتعصبة حتي لا تعود الي اثارة الضجة حول الموضوع مرة اخري‏.‏في هذا الصدد فإنني أسجل ثلاث ملاحظات الأولي أنه من حيث المبدأ فإن مجاملة الاقباط ليست أمرا مستهجنا ولكنها تظل أمرا مرغوبا اذا كان مما تقتضيه المودة ويتطلبه توثيق العري وتمتين الوشائج‏.‏ من ثم فالسؤال او التحفظ لا ينصب علي مبدأ المجاملة وإنما علي مجالها وموضوعها‏.‏ ولا أكاد اجد محلا للمجاملة أو مبررا لها فيما يخص عددهم ونسبتهم بين سكان مصر‏.‏ فذلك أمر موصول بخريطة الوطن بأكثر من اتصاله بشأن الطائفة‏.‏الملاحظة الثانية لا تخلو من مفارقة لأننا بعدما تابعنا السجال الذي انتهي بالنص علي المواطنة في تعديل المادة الأولي في الدستـور في تكرار لمضمون المادة‏40‏ منه التي قررت المساواة بين الجميع في الحقوق والواجبات بعد أن قطعنا ذلك الشوط‏,‏ وجدنا أن جهاز التعبئة بحجبه لأعداد الاقباط عالج بعض نتائج التعداد علي اساس طائفي ولم يتعامل مع المعنيين بها بحسبانهم مواطنين مصريين عاديين‏.‏الملاحظة الثالثة لا تخلو بدورها من مفارقة لأن رئيس جهاز الاحصاء ذكر أن خانة الدين كانت اختيارية في استمارات التعداد‏,‏ في حين أن الاستمارات ذاتها تضمنت خانة لتحديد عدد الاجهزة الكهربائية لدي كل اسرة‏(‏ الثلاجة والغسالة وغيرهما‏),‏ وهو ما يعني أنه صار بوسعنا أن نعرف من التعداد عدد الثلاجات أو الغسالات لدي المصريين في حين لا نتمكن من معرفة اعداد الاقباط المصريين‏!.‏‏(2)‏ اذا اردنا أن نقطع شوطا أبعد في المصارحة وتأملنا مليا في مسألة حجب عدد الاقباط أو نسبتهم فسنجد أن هذا الموقف معيب من نواح عدة فهو يعني‏_‏ من ناحية‏_‏ أن اذاعة نتائج التعداد تخضع للحسابات والموازنات السياسية‏,‏ الامر الذي ينال من صدقية التعداد ويفقد الثقة فيه‏.‏ لأن الذي يحجب معلومة بأهمية عدد الاقباط في البلد لن يتردد في حجب أية معلومات أخري لأية اسباب سياسية أو اجتماعية تملي عليه أو يقتنع بوجاهتها‏.‏من ناحية ثانية فذلك يعني أن الجهات المسئولة لا تملك شجاعة اعلان الحقيقة في الموضوع‏,‏ وتتحسب لردود الافعال في الداخل والخارج بأكثر من التزامها بمقتضيات الحقيقة‏,‏ الأمر الذي يشجع الآخرين علي الضغط عليها ومحاولة ابتزازها‏.‏من ناحية ثالثة فإن هذا الموقف يمثل اهدارا لحق الرأي العام في المعرفة التي هي في هذه الحالة تتعلق بحقائق وتضاريس المجتمع الذي يعيشون في كنفه‏.‏ وهو مسلك يعيد الي الأذهان موقف الوصاية الأبوي من جانب السلطة التي تعتبر أن احاطتها بالأمر فيها الكفاية‏.‏ وأنه ما دامت الحكومة تعرف فإن‏'‏ الراعي‏'‏ سيقوم باللازم‏,‏ وعلي الرعية إلا تشغل بالها بالموضوع وأن تنصرف إلي امورها الحياتية‏.‏من ناحية رابعة فإن كتمان الرقم يفتح الباب علي مصراعيه للمبالغة من جانب او للتهوين والتبخيس من جانب آخر‏.‏ الأمر الذي يسهم في البلبلة واللغط باعتبار أن غيبة اعلان الحقيقة توفر مناخا مواتيا للترويج للمبالغات وكل صنوف الشائعات‏.‏من ناحية خامسة فإن هذا الموقف يعطي للمواطن المصري انطباعا مؤداه أنه محكوم عليه أن يتعامل مع ملفات الوطن الذي يعيش فيه بحسبانها اسرارا لا يجوز له أن يطلع عليها‏,‏ مما يوسع من نطاق الالغاز التي تحيطه‏.‏ فلا تغدو مقصورة علي المجال السياسي وإنما تتجاوز ذلك الي ما هو اجتماعي وثقافي‏.‏‏(3)‏حين اعلنت نتائج الاحصاء السكاني لعام‏1976‏ التي تبين منها أن عدد الاقباط في مصر لا يجاوز‏2‏ مليون و‏300‏ الف نسمة‏(‏ بنسبة‏6.24%)‏ احتج بعض المتعصبين في داخل مصر وخارجها‏(‏ في الولايات المتحدة خاصة‏)‏ وأثير الموضوع في مجلس الشعب‏.‏ وأسفر الأمر عن تشكيل لجنة لتقصي حقائق الموضوع برئاسة وكيل المجلس السيد محمد رشوان ضمت اثنين من المسلمين واثنين من الاقباط وتلقت اللجنة مذكرة بهذا الخصوص من اللواء جمال عسكر رئيس الجهاز المركزي للتعبئة العامة والاحصاء وقتذاك‏.‏ وقد استعرض مضمون تلك المذكرة المستشار طارق البشري في كتابه المهم الذي صدر عن دار الهلال سنة‏2005‏ تحت عنوان‏'‏ الجماعة الوطنية‏-‏ العزلة والاندماج‏'.‏حتي يزيل الشكوك المثارة فإن اللواء عسكر قدم للجنة تقصي الحقائق بيانا بالموظفين والمسئولين الاقباط الذين اشتركوا في كل مراحل التعداد من التحضير إلي التنفيذ والمراجعة ثم وضع امام اعضائها الحقائق التالية‏:‏أن جميع التعدادات التي اجريت منذ الاحصاء الأول في سنة‏1897‏ وحتي سنة‏1947(‏ معروف أن التعداد يتم كل عشر سنوات‏)‏ أشرف عليها خبراء انجليز وفرنسيون‏.‏ فمدير الإحصاء في عام‏1907‏ كان فرنسيا‏,‏ ومدير الاحصاء في‏1917‏ كان انجليزيا‏.(‏ اسمه مستر كريج‏)_‏ وهو الذي اشرف علي تعدادي‏1927‏ و‏1937.‏ ورئيس الاحصاء آنذاك كان حنين بك حنين وهو قبطي مصري‏,‏ واهمية هذه الخلفية تكمن في انها تستبعد تماما شبهة التلاعب في النتائج التي حددت نسب المسلمين والمسيحيين في مصر‏.‏ وهي النسب التي ظلت مستقرة وشبه ثابتة طوال الأعوام الثمانين السابقة‏(‏ لا تنس أن لجنة تقصي الحقائق التي بحثت الموضوع تشكلت في سنة‏1980).‏إن نسبة الاقباط في التعداد الأول كانت‏6.3%‏ والثاني‏(‏ في‏1907)‏ كانت‏6.4%‏ غير أن هذه النسبة ارتفعت ابتداء من تعداد‏1917‏ حيث وصلت الي‏8.1%‏ وظل الوضع مستقرا في تعداد‏1937‏ الذي قدرت فيه نسبتهم بـ‏8.2%‏ لكنها تراجعت قليلا في تعداد عام‏47‏ فوصلت إلي‏7.9%.‏ هذه الزيادة التي طرأت علي نسبة المسيحيين ابتداء من عام‏1917‏ لم يكن سببها ارتفاعا مفاجئا في اعداد الاقباط المصريين وانما كانت نتيجة لإدخال افراد جيش الاحتلال البريطاني وعائلاتهم في التعداد إلي جانب آخرين من الاجانب الأرمن واليونانيين الذين تمصروا بعد إلغاء الحماية علي مصر و إلغاء المحاكم المختلطة في عام‏,1922‏ وفضلا عن هؤلاء وهؤلاء فإن ظروف الحرب العالمية الاولي‏(1914‏ ـ‏1919)‏ دفعت اعداد من الاجانب الي الهجرة إلي مصر الامر الذي كان له دوره في زيادة نسبة المسيحيين‏.‏بسبب العدوان الثلاثي علي مصر عام‏56‏ تعذر اجراء التعداد في موعده المقرر لكنه أجري في سنة‏60‏ وتبين منه أن نسبة المسيحيين بدأت في التراجع التدريجي حتي وصلت إلي‏7.3%.‏ وكان ذلك أمرا طبيعيا بعد رحيل القوات البريطانية ونزوح اعداد من الاجانب والمتمصرين بعد ثورة‏52‏ وعقب العدوان الثلاثي في عام‏56.‏في التعداد التجريبي الذي أجري عام‏66‏ هبطت نسبة المسيحيين إلي‏6.7%‏ وهي النسبة التي تأثرت باستمرار نزوح الاجانب خصوصا بعد التأميمات التي تمت في سنة‏1961.‏ واحدثت الهجرة المسيحية شبه المنظمة بعد حرب‏67‏ للاستيطان في الولايات المتحدة وكندا الي تراجع آخر في اعداد المسيحيين حتي وصلت نسبتهم في تعداد عام‏76‏ إلي‏6.24%‏ وهي النسبة التي استقرت منذ ذلك الحين واثارت احتجاج بعض المتعصبين كما سبق وبينا‏.‏في تعداد عام‏86‏ وصلت نسبة المسيحيين إلي‏5.87%‏ وقدر عددهم في احصاء ذلك العام بمليونين و‏830‏ الف نسمة‏.‏ وفي احصاء‏96‏ الذي حجبت فيه اعداد الاقباط لأول مرة ظلت النسبة تدور حول‏6%‏ طبقا للتسريبات التي خرجت وقتذاك‏.‏ أما احصاء‏2006‏ الذي نحن بصدده فلم تعرف نتائجه فيما يخص الاقباط وإن كان الخبراء يرون أن نسبتهم لم تتغير كثيرا وأنها ستظل تدور حول نسبة‏6%‏ صعودا أو هبوطا حيث يقدر الخبراء أن الاقباط يزيدون بمعدل‏50‏ الف نسمة سنويا‏.‏‏(4)‏بقيت عندي كلمتان‏:‏ الأولي أن حق الكرامة للمواطنين يرتبط بصفتهم تلك ولا علاقة له باعدادهم أو اوزانهم فضلا عن معتقداتهم هو حق انساني في الاساس‏_(‏ هل يحتمل منا البعض أن نقول إنه حق شرعي ايضا تقرره الآية ولقد كرمنا بني آدم‏..)‏ فما هو مكفول للمائه أو للمليون شخص لن يتضاعف اذا كان العدد خمسة ملايين أو عشرة وانما لهؤلاء ما أولئك من الحقوق والضمانات‏.‏الكلمة الثانية أن مظلة الوطن حين تضيق عن استيعاب مختلف اطياف الجماعة الوطنية‏,‏ فإن ذلك يفتح الباب واسعا للإفلات منها والاحتماء بمظلة الطائفة أو القبيلة أو الجماعة أو غير ذلك من التكوينات الفئوية‏.‏ والوعي بهذه الحقيقة ينبهنا إلي اهمية تصويب المسار بحيث تتضافر جهود المخلصين من أجل السعي لتوسيع مظلة الوطن لتحقق دورها في الاستيعاب وتكريس تماسك الجماعة الوطنية‏.‏ وذلك لا يتأتي إلا من خلال الإلحاح علي اطلاق الحريات العامـة والتشبث باقامة مؤسسات ديمقراطية حقيقية توفر للجميع بلا استثناء حقوق المشاركة والمساءلة وتداول السلطة‏.‏حيث ازعم أن ذلك وحده يمثل طوق النجاة الذي ينبغي أن نتعلق به ليس فقط لضمان استمرار تماسك الجماعة الوطنية وقطع الطريق علي محاولات العبث بمفاصلها‏,‏ ولكن ايضا لضمان حقوق المواطنة لكل مكونات تلك الجماعة حتي لا تضطر أي منها إلي محاولة الالتفاف أو الاستقواء بأحد لتحصيل تلك الحقوق‏.‏