د. حسن حنفى ــ العربي الناصري 28/4
تتعدد أنواع القهر كما تتعدد أسباب الموت، والنتيجة واحدة. فالموت موت نفسى. وأشهر أنواع القهر هو القهر السياسى، علاقة الحاكم بالمحكوم فى نظم الحكم التى تقوم على التسلط وكبت الحريات العامة، والتفرد بالقرار. وهو ما سماه ابن رشد وحدانية التسلط. كما تقوم على تزييف الانتخابات، وأجهزة الأمن، وقوانين الطوارئ، والاعتقال والسجن بلا محاكمة. وهى النظم الأيديولوجية التى تحكم باسم الحقيقة المطلقة، دينية أو سياسية، الفرقة الناجية الواحدة التى فى الحكم فى مقابل الفرق الضالة الهالكة التى فى المعارضة. وهناك القهران الدينى والثقافى. ويقومان على إجبار الناس على الإيمان بعقائد دينية، سنية أو شيعية، أو سياسية معينة، اشتراكية أو قومية، نازية أو فاشية كما حدث فى التاريخ بإجبار الناس على القول بخلق القرآن أو انبساط الأرض دون كرويتها أو مركزيتها ودوران الشمس حولها، وإجبار الناس على اتباع تأويل معين للنص الدينى أو التضييق عليهم فى السلوك اليومى باسم تطبيق الشريعة. بل يحدث ذلك أيضا فى الفنون والآداب، وليس فقط فى العلوم والديانات، وإجبار صغار المبدعين على اتباع مذهب معين فى الفن والأدب. وهناك أيضا القهر الاقتصادى، قهر الفقر والضنك والعوز والحاجة. يشعر به العامة قبل الخاصة. هو قهر رغيف العيش والقوت اليومى الذى يدعو إليه المسيحيون فى الصلاة الربانية اعطنا خبزنا اليومى والذى من أجله قال عمر بن الخطاب والله لو كان الفقر رجلا لقتلته. وهو ناشئ عن سوء توزيع الثروة فى البلاد. ويؤدى إلى الغش والاحتيال لدى الأغنياء ليزدادوا غنى، ولدى الفقراء من أجل غريزة حب البقاء. وبسببه تقوم الهبات الشعبية وثورات الجياع. والأخطر من ذلك كله القهر الاجتماعى، قهر العرف والعادات والتقاليد الذى نقده القرآن الكريم إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون وفى آية أخرى مهتدون.. وعلى هذا الأساس لم يعتبر الأصوليون القدماء التقليد مصدرا من مصادر العلم مثل الحس والعقل والخبر الصحيح. وثار المصلحون الدينيون المعاصرون كالشوكانى والأفغانى ومحمد عبده أو الليبراليون مثل الطهطاوى على التقليد، وجعلوه أحد أسباب التخلف الاجتماعى والانحطاط الحضارى. اتباع التقاليد هو اتباع القدماء بالرغم من القول المأثور الذى يُعزى إلى أفلاطون كما ينسب إلى الرسول لا تؤدبوا أولاكم بآدابكم فقد خلقوا لغير زمانكم. القدماء هم الأوائل. عاشوا فى الماضى. وتغير الزمن. ولكل زمن عاداته وتقاليده وأعرافه. وكثيرا ما كتب علماء الاجتماع والأنثربولوجيا عن تطور العادات الاجتماعية، وتغير التقاليد. هى تعبير عن سلوك الناس فى كل وقت. والزمان متغير، والتقاليد تتغير بتغيره. التقليد اشتقاق يعنى الاتباع فى حين أن التجديد يعنى الإبداع. ويتهم أنصار التقليد أنصار التجديد بالابتداع. وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة فى النار. فيؤثر الناس السلامة والاتباع عن غير اقتناع. ويتبع الناس العرف وهى العادات الشعبية السائدة. وتسود الأعراف الطبقات الشعبية مثل طهارة الإناث وما تسببه من قهر نفسى للأنثى منذ الطفولة حتى البلوغ. ويتبع الناس العادات الاستهلاكية فى الأعياد مثل مأكولات رمضان ومشروباته وكحك العيد بما لا تطيقه ميزانية الأسر، وضرورات التباهى والتفاخر بين الناس. وقد يؤدى ذلك إلى جرائم بين الرجل وزوجه. وهى عادات وأعراف من وضع المجتمع وتطوره عبر التاريخ لتوظيفها اجتماعيا لخلق دين شعبى مواز للدين الشرعى. يلهى الناس ويبعدهم عن ظلم الحكام. وتحول التيارات المحافظة فى المجتمع هذه العادات والأعراف إلى ثوابت مع أنها متغيرة بتغير المجتمع. ومنها عادات ترجع إلى عصر الصحابة والفتنة الأولى مثل التلاعن، وأقوال مأثورة مثل إن الله يزغ بالسلطان ما لا يزغ بالقرآن، وأدبيات طاعة الحكام وعدم الخروج عنهم وإلا كان الجزاء القتل. الثوابت هى القيم الإنسانية العامة التى لا تتغير بتغير الزمان مثل حقوق الإنسان، واحترام النفس، والعدالة الاجتماعية، والمساواة بين البشر فى الحقوق والواجبات، والحريات العامة، والشورى، والمصالح العامة. وهى المقاصد العامة التى تقوم عليها الشريعة: الحفاظ على الحياة والعقل والدين والعرض والمال. الحياة هى الحاجات الأساسية للناس من طعام وشراب ولباس وسكن وتعليم وعلاج. والعقل هو حق الإنسان الطبيعى فى المعرفة والفكر والنظر. والدين هو الثوابت العامة التى يجتمع عليها الفقهاء. والعرض هو الكرامة الشخصية والوطنية. والمال هو الثروة الفردية والثروة العامة. وقد وضعت بعض المجتمعات التقليدية عدة قوانين للضبط الاجتماعى لمنع تحركه مثل قانون العيب، وقانون الاشتباه، وقوانين حماية المجتمع والأمن والاستقرار السياسى مثل قوانين الطوارئ ومكافحة الإرهاب. مهمتها إرهاب الناس وتخويفهم ومنعهم من السلوك الطبيعى التلقائى القائم على الثقة بالنفس واحترام الآخرين. ثم تحولت هذه القوانين إلى عادات وتعبيرات مثل عيب عليك، يا عيب الشوم، حشومة، اختشى، يا نهار اسود، يا دهوتى، يا مصيبتى. وأصبح كل خروج عن هذه القوانين انحرافا وشذوذا. ولما كان المجتمع يتقدم بصرف النظر عن أساليب الضبط الاجتماعى، تنقسم الحياة إلى ظاهر يتبع التقاليد والأعراف والعادات، وباطن يتبع تطور الحياة وتغير قواعد السلوك الاجتماعى. فتنشأ مظاهر النفاق والرياء والتظاهر والكذب. قول باللسان لا يقتنع به القلب. وسلوك فى الظاهر لا يتم عن إيمان بالباطن. وتصبح الحياة كلها حجابا فى الظاهر، وسفورا فى الباطن. كما تنشأ ظواهر الكبت وأمراض القهر النفسى وقمع الرغبات. ويعيش الإنسان بشخصيتين ويقابل المجتمع بوجهين. وجه يرضاه المجتمع، ووجه آخر يرضاه الفرد، لا يجرؤ على التعبير عنه صراحة. ويكون له سلوكان، سلوك اجتماعى علنى، وسلوك آخر فردى سرى. الأول كاذب، والثانى صادق. فإذا ما تجرأ أحد على الإعلان والتمسك بالوجه الواحد والسلوك الواحد والشخصية الواحدة يتم إقصاؤه واستبعاده واتهامه بالردة والكفر، وكان جزاؤه القتل الصريح. ويؤثر البعض السلامة والرضا بالسلوك الاجتماعى، وينغمس فى الدنيا ينهل منها بالحلال. والأرزاق مقدرة مسبقا. ومع ذلك ظهرت نماذج ثائرة على هذا القهر الاجتماعى فى التاريخ، فى كل عصر، وفى كل ثقافة، ولدى كل شعب. ثار سقراط على تعدد الآلهة عند الأثنين، فاتُّهم بإفساد الشباب. وحُكم عليه بالموت سما. ورفض الهرب درءا للظلم، وهو رذيلة، طاعة لقوانين البلاد وهى فضيلة. وثار ديكارت على عادات العصر الوسيط فى التفكير والتعلم. وثار اسبينوزا على العقائد اليهودية مثل شعب الله المختار وأرض الميعاد. وحُرق جيوردانو برونو حيا فى روما لأنه قال بعقيدة مخالفة للفلك السائد ولتصور الإنسان. وثار مارتن لوثر على الكنيسة رافضا توسطها بين الإنسان والله، واحتكارها تفسير الكتاب المقدس وتبعيتها لسلطة الآباء الأولين. قُدّم المفكرون الأحرار الذين رفضوا عادات وتقاليد وأعراف القدماء أمام محاكم التفتيش فى أواخر العصر الوسيط الأوروبى. وكان جزاؤهم القتل أو الحرق أو التعذيب أو النفى أو السجن. وفى تاريخنا القديم حدث نفس الشيء. فقد ذبح الجعد بن درهم يوم عيد الأضحى أسفل المنبر لأنه كان معارضا للحكم الأموى ويقول بقدرة الإنسان على الاختيار. وقتل أبو نواس بتهمة الزندقة. وصلب الحلاج بتهمة الخروج عن العقائد. وذبح السهروردى لقوله بحكمة الإشراق. كانت كل حركات التجديد والتحديث والنهضة والإصلاح والتغير الاجتماعى والنهضة الحضارية والثورة ضد القهر الاجتماعى بالرغم من سطوته. وكان الاستسلام للقهر الاجتماعى أحد أسباب الركون والخمول والتأخر والانحطاط. لا تقوم نهضة على قهر، ولا تقدم على تقليد، ولا ثورة على تسليم. فى لحظات الانتصار يتم تغيير التقاليد، وفى لحظات الانكسار تتم المحافظة عليها حماية للمجتمعات. وهى حماية وقتية بالانكفاء على الداخل لحماية النفس بعد أن ضاع العالم. ولما كان المجتمع العربى يمر الآن بمرحلة انكسار، باستثناء المقاومة فى العراق وفلسطين، اشتد القهر الاجتماعى. ولما كان أيضا يتوق إلى الانتصار يكون تحرره من القهر الاجتماعى قريبا.
No comments:
Post a Comment