أسامة الهتيمي : المصريون بتاريخ 25 - 4 - 2007
لم أتمن يوما أن أهاجر خارج مصر بقدر ما تمنيت هذه الأيام بعدما كادت تأسرني مشاعر الإحباط والضيق من تدهور الأوضاع إلى هذه الدرجة من السوء والتي انغلقت معها كل بادرة أمل في التغيير بل في الإصلاح الذي ظننا ولوهلة أن حالة مصر تجاوزته حيث لم يعد غير التغيير هو العلاج الناجع والفرصة الأخيرة لانتشال البلاد من الفساد والضياع .وأعجب من نفسي كلما تذكرت حالة الزهو والفرح التي كنت أعيشها قبل أقل من ثلاث سنوات عندما تمكن جيلنا وللمرة الأولى في حياته من أن يرفع صوته بكلمة حق في احد ميادين العاصمة نردد برغم قلتنا هتافات تعبر عن نبض الملايين من شعب مصر الذين فقدوا كل وسيلة يمكن أن تعكس حقيقة مواقفهم .ولا أنسى تلك العبارات التي كنت أرددها على مسامع بعض أصدقائي الذين يعيشون خارج مصر والذين عرفت أن لدى بعضهم اهتماما بالشأن العام وتطور الأحداث من أنكم للأسف لن تشهدوا حالة المخاض التي تعيشها بلادنا معتقدا أنني ممن أنعم الله عليهم واختارهم ليكونوا شاهدين بل وأحد صانعي هذه الحالة .والأعجب أنني كنت ألمح عند بعضهم حالة من الأسى والحسرة لأنهم لن يشهدوا تلك المرحلة فعلا وكأن وقوعها بات قريبا ولم يعد ثمة شك في ذلك فكل شي يؤكدها .ومرت الشهور والسنوات ولم تأت اللحظة التاريخية التي ربما خدعت نفسي بها أو خدعتني بها قلة خبرتي وضيق أفقي وسطحية تأملاتي ورؤيتي فلم تقم الثورة ولم تتحرك الجماهير ولم يهتز للنظام شعرة واحدة تنبأ بأن الغد لنا أو أن الخير قادم عما قريب .سراب بقيعةولقد ظللنا ولسنوات طويلة خلال العمل الطلابي بالجامعة نردد على أسماع زملاءنا الذين كنا ندعوهم للانخراط في العمل السياسي بأن البلاد مقبلة على ثورة شعبية عارمة وأن ما يحول بين الجماهير وهذه الثورة هو تلك القبضة الحديدية والسلوك البوليسي الذي يتعامل به النظام مع القوى والتيارات السياسية .وأنه لو قدر وأتيحت الفرصة للقادة بأن تلتحم بالجماهير وأن تصل إليها فحتما ستتحرك الجماهير وعندها يتحقق الحلم .ولم نكن نردد ذلك خداعا لهؤلاء الطلاب أو من باب اللعب على مشاعرهم الوطنية فقد كانت هذه قناعتنا التي عشنا سنوات لاحقة بعد الجامعة على أمل أن يأتي اليوم الذي نحقق فيه شرط الثورة وهو الالتحام بالجماهير.وجاءت اللحظة واستطعنا أو هكذا تصورنا أن نكسر قيودا ظل النظام ولعقود طويلة يفرضها على الشارع السياسي متعللا بمبررات تختلف من عصر لعصر..فقد كان الأهم لديه هو أن يبقى الصوت خافتا والحركة في مساحة لا تتجاوزها .وشهدت مصر ولأول مرة منذ ما يزيد عن خمسين عاما عدة آلاف يجوبون أكبر شوارعها رافعين لافتات التعبير عن حبها والرغبة في اقتلاع الفساد والاستبداد من أرضها ومرددين في صوت واحد على إيقاع الطبول باطل . باطل . باطل فيما لم يكن هذا التواجد الأمني الذي اعتدناه في مظاهراتنا ومسيراتنا إلا من بعض ضباط مباحث أمن الدولة بثيابهم الملكي وعدد من جنود شرطة المرور.وللأسف وعلى الرغم من التحامنا بالجماهير ظلت هذه الجماهير تكتفي بالمشاهدة وتحقيق الوصف ..وبحسب تقديري فلم ينضم واحد من غير النشطاء المعروفين أو أعضاء الأحزاب المشاركة في ذلك العرس الذي كان يمكن أن يكون بداية حقيقية للتغيير .لن أعدم بكل تأكيد العشرات بل المئات من الطاعنين في كلامي هذا والرافضين له والمحاولين التماس المبررات واستعراض القدرات التحليلية لتفسير ذلك الموقف الشعبي من الحراك السياسي والذي يصب في أغلبه إن لم يكن جميعه في خانة الخوف والرعب التي يعيشها الناس جراء الانتهاكات الأمنية وانشغال الناس في لقمة عيشها والسعي وراء الرزق وهي المبررات التي لا يمكن لي أو لغيري أن يختلف حولها. لكنني أضيف فوق ذلك أن نظرة من فقدان الثقة والمصداقية يتبناها الوعي الجمعي لهذه الجماهير تجاه النخبة التي تضم التيارات والأحزاب والقوى السياسية وهو الأمر الذي ساعد وبقدر كبير على عدم تجاوب هذه الجماهير مع الحراك السياسي في الوقت الذي شاهدنا فيه سلسلة من الإضرابات والاعتصامات الخاصة بأصحاب المهن والحرف والتي بدأت بالقضاة وشملت عمال المصانع والأطباء والمهندسين والفلاحين وحتى عمال النظافة لكنها صبت جميعها حول مصالح ومطالب فئوية تنتهي بانتهاء الاستجابة لهذه المطالب أو حتى الدخول في لعبة التفاوض حولها.والمشترك الوحيد بين أغلب هذه الاعتصامات هو أنه لم يكن خلفها أي من التيارات أو الأحزاب السياسية الفاعلة أو بالأحرى الموجودة بشكل تنظيمي وإن حاولت بعض هذه التيارات أن تركب هذا العمل بحسب المصطلح الذي يستخدمه التنظيميين من أبناء الأحزاب المصرية .ويحضرني في ذلك الاعتصام الذي نظمته زوجات وأسر المعتقلين عام 2005 في مقر نقابة المحامين بوسط القاهرة والذي امتد لما يقرب من شهرين والذي حرصت خلاله منظمات الاعتصام ألا يرتبط اعتصامهن بأي من التيارات وأن لا يسمحن لأيها باستغلال هذا الحدث لصالحه فقد سيطرت عليهن فكرة أن كل حزب يسعى لخدمتهن يعمل لمصالحه ويتاجر بالقضية لحسابات تنظيمية .النقطة صفرفي أعقاب الاستفتاء الذي فبركه النظام لمنح الرئيس مبارك ولاية حكم خامسة وانقضاء الانتخابات التشريعية بمراحلها الثلاثة دون أن تحقق المعارضة المصرية طموحها في إجراء انتخابات نزيهة تعبر عن إرادة الشعب واعتبرنا أن أكبر إنجاز حققته هذه المعارضة أنها كسرت الكثير من التابوهات التي فرضت عليها لسنوات طويلة وأنها أوجدت حالة من الوعي السياسي وتجاوز الخطوط الحمراء التي اصطنعها النظام وأرهب بها أعداءه .وتباهت المعارضة وقتها أنها لم تعد تنتظر إذنا من وزارة الداخلية حتى تنظم مظاهرة شعبية أو أن تعقد مؤتمرا جماهيريا بل إن بعض الحركات التغييرية وعلى رأسها حركة "كفاية" أعلنت أنها ستدفع خلال المرحلة المقبلة بفكرة الإعلان عن تأسيس الأحزاب السياسية من جانب واحد ودون إخطار لجنة شئون الأحزاب التي هي لجنة قتل الأحزاب .لكن يبدو أن النظام أبى أن تتباهى الحركات التغييرية بمكتسباتها برغم فشلها في تحقيق أيا من أهدافها التي من أجل أنشئت وبدءوا بشكل تدريجي في أن يسحب منها ذلك الذي اعتبرته يوما حقا من حقوقها ليعود مجددا إلى النقطة صفر.بل أصبح القول بالعودة إلى النقطة صفر هو مظهر من مظاهر التفاؤل في الوقت الذي أسرع فيه النظام بإجراء ما أطلق عليه تعديلات دستورية هي في مجملها إعلان نهاية الحياة السياسية من جانب النظام واستمرار الإبقاء على كيانات هشة لا تعدو عن كونها أشكال ديكورية غير مسموح لأيها بالتجاوز ليس بحكم قوانين استثنائية أو سيئة السمعة أو مطعون في دستوريتها بل سيكون القتل والاغتيال السياسي هذه المرة بحكم الدستور والقانون وربما أحكام القضاء .حالة التفككلم يصدمن خبر انفصال البعض عن حركة كفاية بل كان على العكس أمرا متوقعا أشارت إليه الكثير من الشواهد كما جاء نتيجة طبيعية لحالة عدم النضج السياسي التي ما زالت تسيطر على قيادات المعارضة التي لم تتعود على تكوين الجبهات السياسية ولا تفرق بين التنسيق والاندماج .وعلى الرغم من أن هناك ربما دوافع حقيقية وراء الانفصال تمثلت في استئثار البعض بإصدار القرارات داخل الحركة أو محاولات آخرين لإيجاد كيانات موالية لأشخاص بعينهم داخل الحركة أيضا إلا أن السبب الحقيقي يعود إلى حرص الكثيرين من فرقاء الحركة على تنفيذ الأجندة الخاصة بكل مكون سياسي بالشكل الذي يوحي في النهاية بأن هذا التيار أو ذاك هو من يدير دفة الأمور ويوجهها داخل الحركة .ومع ذلك فإنه يحسب للحركة قدرتها على تجاوز ذلك الخلاف الذي كان يمكن أن يتطور لما هو أشد وأقصى بالإضافة إلى نجاحها في لم الشمل عبر الدخول في حوارات مع المنسحبين وإجراء بعض الخطوات الإرضائية التي جاء على رأسها اختيار منسق عام جديد للحركة يحظى بقدر ما من القبول والحيادية على الرغم من عضويته التنظيمية بحزب الوسط – تحت التأسيس - .لكن يظل أن مثل هذه الخطوة تأتي كمحاولة لامتصاص غضب الثائرين ولا تعكس حقيقة ما يهدف إليه القائمون على الحركة فما زال يحرص البعض من قياداتها – وهذا يعلمه الجميع – على أن يكون له مجموعة من النشطاء والتنفيذيين المتفرغين للعمل التنظيمي برواتب شهرية يكون ولائهم له كما يروجون لعقد مقارنة بين القيادة الحالية والسابقة للحركة وهو ما يدفع إلى القول بتزايد الاحتمالات لتفجر صراع جديد داخل الحركة ربما يكون أقرب مما نتصور .أما على مستوى شباب الحركة الذين أراهم الجناح الأهم والفاعل الحقيقي داخلها فإن الأوضاع أسوأ بكثير فقد سرت حالة من التفكك داخل الشباب قبل القيادة وظلت حالة من التلاسن والمعارك الكلامية فيما بين الشباب عبر" الجروبات" والمدونات لفترة ليست بالقصيرة خفت حدتها ع مرور الوقت وإن بقت بعض مظاهرها متمثلة في :1- وجود "جروبين" للشباب لكل منهما قيادة مختلفة عن الأخرى .2- اتهامات متبادلة بين البعض بأن ولاءه لفلان أو علان من قيادات الحركة 3- انتقاد عملية التفرغ الذي يحظى بها البعض مقابل راتب شهري 4- اتهامات متبادلة بالعمالة لأجهزة الأمن .يضاف إلى ذلك اندلاع قدر كبير من المشكلات والخلافات الشخصية التي وصلت إلى أقسام الشرطة وسرايا النيابة والتي كانت سببا مباشرا في فشل انعقاد ولو اجتماع واحد للحركة منذ شهور .ولا تختلف الصورة كثيرا داخل الأحزاب سواء على مستوى علاقتها بعضها ببعض أو في داخلها وحدودها فما زالت الاتهامات التقليدية بالعمالة أو التخوين أو التكفير هي سيدة الموقف في الحياة السياسية للدرجة التي لم تعد خافية على أي من العاملين أو الناشطين في العمل العام.ما الحل؟بلا تجمل وبلا أي محاولة للتفلسف أراني مدفوعا إلى القول بأن الصورة فعلا سوداوية ولسنا في حاجة إلى التخفيف من حدة قسوتها فالواقع وملامح الصورة يتنافى مع أي تنظير يسعى إلى الوقوف عند حد الكلمات الرنانة والعبارات الحماسية لأنها سرعان ما ستذوب ويتلاشى أثرها عند اصطدامها بهذا الواقع .وبالتالي فالمسألة خطيرة ولم يعد التخندق داخل كيانات سياسية (قوى أو أحزاب) بهدف تحقيق بعض المكتسبات التنظيمية في أواسط الناشطين أنفسهم أو التظاهر بالتواجد بشكل أقوى لا يعكس الحقيقية التنظيمية لهذه الكيانات التي تعاني من حالة ترهل وضعف شديد .ولا يعني ذلك أن لا ينشغل التنظيم – أي تنظيم - بالتوسع الأفقي والبناء الرأسي فهذا مما يجب أن يستمر للحفاظ على هذه الكيانات واستمرار بناءها في ظل حالة التضييق التي تمارسها أجهزة الأمن عليها .وما أعنيه هو أن تدرك هذه التنظيمات أن العمل الجبهوي هو محاولة لتحقيق نقاط الاتفاق فيما بينها وأن لا تستدرج إلى تفاصيل هي بكل تأكيد محل خلاف كبير بين الفرقاء وهو ما يستلزم العمل على الخطوط العريضة والعناوين الكبيرة حتى يمكنها تحقيق بعض المكتسبات .كذلك فإن على الجماعة الوطنية أن تتدارس حقيقة الموقف الشعبي وأن يكون ترتيب أولوياتها بحسب التطلعات الجماهيرية فلا تكون المطالب صادمة غير مدركة لواقع وحقيقية هذه الجماعة ولا تكون في ذات الوقت أدنى من مستوى الطموح الجماهيري ولا تعكس سوى حسابات تنظيمية لا علاقة للجماهير بها.يجب أن تسود حالة من التروي وإعادة ترتيب الأوراق بعيدا عن محاولات العسكرة الدائمة التي وعلى الرغم من طول المدة الزمنية لنضال الجماعة الوطنية إلا أنها أصابتها بحالة من التشتت وعدم الجدوى ليس نتيجته الضربات الأمنية والاختناق السياسي فحسب ولكن أيضا لعشوائية العمل وعدم تحرك التنظيمات السياسية بذهنية النظر إلى كل خريطة مصر وعدم الانحسار في القاهرة
No comments:
Post a Comment