Tuesday, April 24, 2007

ماذا فعل مبارك بتركة السادات؟ (٤-٤)


.. صناعة وطنية للبيع بقلم د.جلال أمين المصري اليوم ٢٤/٤/٢٠٠٧
كان «تصنيع مصر» هدفًا ثابتًا من أهداف الحركة الوطنية المصرية، ومن الأهداف المعلنة للسياسة الرسمية علي السواء، منذ حصلت مصر علي استقلالها «الاسمي» في ١٩٢٢، أي منذ ما يقرب من قرن كامل.
كان هذا هو السبب في فرح المصريين بإنشاء بنك مصر في أوائل العشرينيات، إذ كان من بين أهداف هذا البنك تحقيق التنمية الصناعية، وفي اعتزاز المصريين بطلعت حرب، الذي حمل لواء التصنيع وحماية الصناعة الناشئة في فترة ما بين الحربين، كما كانت التنمية الصناعية السريعة واحدة من أهم المبررات المعلنة لثورة ١٩٥٢.
لم يكن هناك أي شيء غريب في تعليق آمال كبيرة علي التصنيع في مصر، إذ كان من الواضح ولايزال، أن نهضة مصر الاقتصادية تتوقف علي نمو الصناعة فالزراعة لا يمكن أن تولد فرص عمل كافية للأعداد المتزايدة من المصريين، وقدرة الزراعة علي رفع متوسط الدخل محدودة، مهما فعلنا لرفع إنتاجيتها، والصادرات الزراعية تواجه مختلف المشاكل في الأسواق الخارجية، في المدي القصير والطويل علي السواء.
بل من الصعب تصور حدوث تحسن ملحوظ ومستمر في توزيع الدخل، والتخلص من الاستقطاب الحاد بين الأغنياء والفقراء، ونمو طبقة متوسطة بين الاثنين، دون تنمية الصناعة.
والاقتصاديون يقيسون تقدم الدولة في مجال التصنيع بثلاثة مؤشرات أساسية: نصيب الصناعة التحويلية «أي دون حساب التعدين والتشييد» في الناتج الإجمالي، ونصيبها في العمالة، ونصيبها في الصادرات. فكلما ارتفعت هذه المؤشرات «وانخفضت بالتالي أنصبة الزراعة والمواد الأولية والخدمات» كان هذا دليلاً علي التقدم في التصنيع.
وقد كان أداء الخمسينيات والستينيات في ميدان التصنيع مرضيا للغاية، خاصة في الفترة ما بين منتصف الخمسينيات ومنتصف الستينيات، وعلي الرغم من أن النصف الثاني من الستينيات شهد تراخيا في معدل التصنيع «بسبب تراخي المعونات الخارجية ثم الهجوم الإسرائيلي في ١٩٦٧» فإن عقد الستينيات انتهي ومصر أكثر «تصنيعًا» بكثير مما كانت في بدايته.
فشهدت مصر تحسنًا ملحوظًا في المؤشرات الثلاثة التي ذكرتها حالاً بعد أن أظهرت هذه المؤشرات ركودًا طويلاً طوال نصف القرن السابق، فارتفع نصيب الصناعة التحويلية في الناتج المحلي الإجمالي فيما بين ١٩٦٠ و١٩٧٠، من ٢٠% إلي ٢٤%، ونصيبها في العمالة من أقل من ١٠% إلي ١٤%،ونصيبها في الصادرات السلعية من ٢٠% إلي ٣٦%.
كان نمو الصناعة التحويلية في النصف الأول من الستينيات علي الأخص نمواً مبهرًا «٨.٥% سنويا في المتوسط» مما كان يبشر بنهضة صناعية لو قدر له الاستمرار لعشر سنوات أخري، ولكن الذي حدث هو أن السنوات العشر التالية كانت مليئة بالمتاعب، ومعظمها بأثر هزيمة ١٩٦٧، ولم تبدأ الصناعة في النهوض من جديد إلا ابتداء من منتصف السبعينيات حيث تراوح معدل نموها في السنوات الخمس الأخيرة من عهد السادات بين ٥،٥% و٧.٩% سنويا.
***
تفاوت أداء الصناعة في عهد الرئيس مبارك من فترة لأخري. ففي السنوات العشر الأولي من حكمه «١٩٨١- ١٩٩٠» كان أداؤها قريبًا مما كان في عصر السادات، ولكنه تدهور بشدة في الخمسة عشر عامًا التالية، فأصبح معدل نمو الصناعة التحويلية في النصف الأول من التسعينيات نحو نصف معدله في النصف الثاني من الثمانينيات «٥% و١٠% علي التوالي» ثم استمر التدهور بعد ذلك حتي تراوح هذا المعدل بين ٣% و٤% في السنوات الأخيرة.
قد يدهشنا إذن، في ظل هذا المعدل المتواضع لنمو الصناعة في عهد مبارك أن يبدو نصيب الصناعة التحويلية الآن في الاقتصاد القومي، أكبر منه في نهاية عهد السادات، فنصيبها في الناتج المحلي الإجمالي هو ٢٠% «بالمقارنة بـ ١٣.٥% في ١٩٨١»، ونصيبها في العمالة ١٤% «بالمقارنة بـ ١٢.٥%»، ونصيبها في الصادرات السلعية ٤٥% «بالمقارنة بـ ٩%».
ولكن يجب ألا ننخدع بهذه الأرقام، فالحقيقة أن مصر الآن ليست دولة صناعية بدرجة أكبر مما كانت في نهاية عصر السادات. ومصدر الخدعة أن هذا الارتفاع في نصيب الصناعة التحويلية في الاقتصاد القومي في عهد مبارك لم يكن سببه حسن أداء الصناعة بل سوء أداء الاقتصاد القومي، ففي الخمسة عشر عامًا الأخيرة تدهور بشدة معدل نمو الناتج القومي كما تدهورت أسعار النفط، بالمقارنة بما كان عليه معدل نمو الناتج القومي ومستوي أسعار النفط في نهاية عصر السادات، فارتفع نصيب الصناعة التحويلية النسبي، دون أن تحدث نهضة صناعية حقيقية.
***
ولكن بالإضافة إلي ضعف النمو الصناعي، تميز تطور الصناعة في مصر في الخمس عشرة سنة الأخيرة من عهد مبارك بالاتجاه المتزايد إلي بيعها. كان التصنيع في الستينيات مزيجًا من إنشاء شيء من العدم، ونقل ما كان مملوكًا ملكية خاصة، لأجانب ومصريين، إلي الملكية العامة.
ثم بدأ الحديث عن الخصخصة علي استحياء في السبعينيات، ولكن ظلت الخصخصة، في السبعينيات والثمانينيات، تواجه بمقاومة شديدة من الاقتصاديين وعمال الصناعة علي السواء، إلي أن جاءت التسعينيات فاكتسب دعاة الخصخصة جرأة، وزادت ضغوط صندوق النقد الدولي والإدارة الأمريكية بعد توقيع مصر لاتفاقها مع الصندوق في مايو ١٩٩١، ومع البنك الدولي في نوفمبر ١٩٩١ ويبدو أن الصندوق والإدارة الأمريكية رأيا، في سنة ٢٠٠٤، أن الخصخصة لابد أن تسير بسرعة أكبر بكثير فجلبا إلي الحكم حكومة من نوع جديد، أبرز وزرائها من أكبر المتحمسين لبيع القطاع العام.
والملاحظ أنه منذ رفع شعار الخصخصة في السبعينيات، حرص رافعو الشعار علي التزام الصمت التام عما إذا كان المقصود بالبيع، بيعًا لأجانب أم لمصريين، نعم إن في الحالين «خصخصة»، أي تحويل الملكية العامة إلي ملكية خاصة، ولكن شتان بين أن تكون الملكية الخاصة مصرية أو أجنبية، فالربح في الحالة الأولي باق داخل البلد، وأقرب إلي أن يعاد استثماره في تصنيع جديد داخل البلد أيضًا، وقدرة الدولة علي فرض شروطها علي المالك الوطني أكبر من قدرتها علي فرضها علي الأجنبي.
أما البيع للأجانب، فهو فضلاً عن أنه لا يضيف أصولاً جديدة، ينطوي علي التخلي عن أصول قديمة، وكأن ما تم إنشاؤه في الستينيات بعرق الجبين، يتم تسليمه للأجانب تحت شعار مشكوك جدًا في جدواه، وهو «رفع مستوي الكفاءة» إذ حتي لو كانت الإدارة الأجنبية أكثر كفاءة فإن هذا المكسب المتمثل في رفع الإنتاجية وزيادة الأرباح يجب أن تطرح منه الخسارة المتمثلة في ذهاب الأرباح وثمرة رفع الإنتاجية إلي الأجنبي وحرمان الاقتصاد المصري منها، هذا الاعتبار قد لا يثور علي الإطلاق، أولا يثور بالدرجة نفسها، عندما ينشئ المستثمر الأجنبي أصولاً من العدم، فهو هنا يضيف قبل أن يأخذ «وهذا هو بالفعل ما تسمح به الصين مثلاً»، ولكنه يثور بقوة عندما يأتي الأجنبي ليستولي بوضع اليد علي ما سبق لنا إنشاؤه.
***
استعرضت في هذا المقال والمقالين السابقين، ما طرأ علي تركة السادات الاقتصادية من تطور في عهد مبارك، فرأينا ما حدث لديون مصر الخارجية، ولمعدل التضخم، وللتصنيع. وفي كل مجال من هذه المجالات الثلاثة رأينا بعض مظاهر التقدم التي تختفي وراءها نقاط ضعف خطيرة. فالديون الخارجية لم تزد في السنوات العشر الأولي من عهد مبارك إلا ببطء شديد، بالمقارنة بالسنوات العشر التي حكم فيها السادات، ثم انخفضت بشدة في مطلع التسعينيات، ثم استقرت منذ ذلك الوقت عند مستوي ثابت تقريبًا، وأقل من المستوي الذي كانت عليه في نهاية حكم السادات، ولم تعد خدمتها «أي دفع الأقساط والفوائد» تشكل عبئًا ثقيلاً مثلما كانت منذ ربع قرن. ولكن هذا الانخفاض الكبير في ديون مصر الخارجية لم يكن بسبب ترشيد السياسة الاقتصادية، بل بسبب الخضوع التام للإدارة الأمريكية منذ أن أيدت مصر ضرب الولايات المتحدة للعراق في ١٩٩١، وحتي الآن.
أما معدل التضخم، فبعد أن ارتفع بشدة في السنوات العشر الأولي من عهد مبارك، انخفض بشدة في الخمس عشرة سنة الأخيرة، حتي أصبح نحو نصف ما كان عليه في أواخر عهد السادات.
ولكن هذا بدوره لم يكن بسبب ترشيد السياسة الاقتصادية، بل بسبب التضحية بالتنمية نفسها، إذ انخفض معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي «بالأسعار الثابتة» من ٩.٤% سنويا في السنوات الخمس الأخيرة من حكم السادات، إلي ٥.٤% «١٩٨٠- ١٩٩٠» ثم إلي ٤.٥% «١٩٩٠- ٢٠٠١» ثم إلي ٣.٦% «٢٠٠١- ٢٠٠٤» وكانت النتيجة الحتمية لذلك، ولانخفاض معدل الهجرة إلي الخليج، في الوقت نفسه، ارتفاعاً كبيراً في معدلات البطالة، خاصة بين خريجي الجامعات والمعاهد المتوسطة فارتفع معدل البطالة من ٥.١% عند انتهاء حكم السادات إلي ٩.٢% بعد عشر سنوات من حكم مبارك ١٩٩١ ثم إلي ١١.٧ بعد سبعة أعوام أخري ١٩٩٨ وإذا كان هناك مسح حديث لسوق العمل في مصر يزعم بانخفاض نسبة البطالة إلي ٧.٥% في سنة ٢٠٠٦ فإن من المهم الالتفات إلي أن هذا الرقم، لا يتأثر من قريب أو بعيد بازدياد عدد المضطرين إلي الاشتغال بأعمال أقل بكثير من قدراتهم أو لا صلة لها بما تعلموه.
وأما فيما يتعلق بالتصنيع، فقد رأينا حالاً أنه وإن كانت المؤشرات الثلاثة التي يقاس بها التقدم في درجة التصنيع «نصيب الصناعة التحويلية في الناتج الإجمالي وفي العمالة وفي الصادرات السلعية» تظهر مصر وكأنها «أكثر تصنيعًا» مما كانت في نهاية عهد السادات، فالحقيقة أن هذا «الارتفاع» في نصيب الصناعة التحويلية في الاقتصاد القومي ارتفاع ظاهري يعكس تراخي نمو الناتج القومي أكثر مما يعكس تقدمًا في الصناعة.
***
لقد كان الأمل دائمًا أن تقوم الصناعة المصرية بإتاحة فرص عمل حديثة ومجزية للأعداد المتزايدة من المصريين الباحثين عن عمل، ولا تقدر الزراعة أو قطاع الخدمات علي توفيرها، وأن يؤدي نمو الصناعة إلي رفع متوسط الدخل للمصريين «بتطبيقها فنون الإنتاج الحديثة ورفع الإنتاجية»، علي نحو لا تقدر الزراعة أو معظم أنواع الخدمات علي تحقيقه، وأن تحمي الصناعة الاقتصاد المصري «ومن ثم مستوي معيشة المصريين» من التأثر بتقلبات أسعار الصادرات الزراعية وتقلبات إيرادات السياحة وتقلبات تحويلات المصريين العاملين بالخارج، وكلها تتأثر بشدة بظروف لا سيطرة لمصر عليها. كما كنا نأمل أن تؤدي نهضة صناعية إلي اتساع الطبقة الوسطي بانضمام شرائح جديدة منتجة، تساهم مساهمة أكثر إيجابية في الحياة السياسية والثقافية، ولكن الذي حدث في ربع القرن الماضي عكس هذا بالضبط.
ففي الخمسة وعشرين عامًا الماضية زادت معدلات البطالة «كما أشرت حالاً» علي نحو لم تعرفه مصر في تاريخها الحديث، نتيجة لفشل التصنيع في استيعاب المنضمين لقوي العمل والعائدين من دول الخليج، ومع تدهور معدلات نمو الناتج القومي، حتي كانت في بعض السنوات أقل من معدل نمو السكان، تدهور مستوي المعيشة لنسبة كبيرة من المصريين، واستمر عجز الميزان التجاري في الزيادة، كما استمر ميزان المعاملات الجارية «الذي يشمل- عدا الميزان التجاري- السياحة وقناة السويس» في التقلب بين سنة وأخري تأثرًا بعوامل لا سيطرة لمصر عليها.
أما عن الأمل في اتساع الطبقة الوسطي، وفي أن تساهم مساهمة أكثر إيجابية في الحياة السياسية والثقافية، فيبدو أن الذي حدث في عهد مبارك كان عكس المأمول بالضبط.
لقد اتسعت الطبقة الوسطي في الستينيات، تحت حكم عبد الناصر، نتيجة التوسع في التعليم والتنمية، ثم اتسعت أكثر في السبعينيات، تحت حكم السادات، وكذلك في السنوات الخمس الأولي من حكم مبارك، نتيجة التوسع في التعليم والهجرة.
ولكن في العشرين سنة الأخيرة «١٩٨٦- ٢٠٠٦» ظهرت سمات جديدة علي الطبقة الوسطي المصرية نتيجة لما طرأ من تغير علي معدلات النمو ومعدلات البطالة، وأنماط العمل، مما يحتاج بلاشك إلي بحث مستقل.

No comments: