Tuesday, January 09, 2007

ثقافة الخوف أم خوف المثقفين؟


إنهم يرتجفون رعبا من لحظة النضوب
القاهرة: إيهاب الحضري بيروت: علي العزير

هل ثمة ما يمكن توصيفه بالخوف المثقف؟ وهل يمكن الحديث عن صنف مميز من الخوف يختص بالمثقف دون سواه؟ هل يقتصر التمايز، في حال وجوده، على الكم فقط، أم انه يتجاوزه الى الكيف؟ هل هو نوع من الهذيان الناجم عن هشاشة البنية النفسية، التي يمتلكها المثقفون عادة؟ تعددت الأسباب والخوف واحد! فالمشاعر نفسها تتولد عندما يحل الخوف ضيفا على البشر، غير أن لكل إنسان مثيراته الخاصة، مع الأدباء والفنانين يبدو الخطر مضاعفا. فالمخاوف تنطلق من الخاص إلى العام، ومن الشخصي إلى الإبداعي، مما يخلق حالة مركبة من الرهبة. ومظاهر الرهبة تبدو واضحة لدى المبدعين، الذين اعترفوا هنا بأن الخوف ملازم لهم. أما الأسباب فكانت متنوعة لا يخلو بعضها من إثارة!
* محمد البساطي: ماذ أفعل لو جفّ القلم؟

حالة خوف متقطعة تلك التي يتعرض لها الروائي محمد البساطي، تنتابه على فترات متباعدة، وتهدده أحيانا بالدخول في حالة اكتئاب. إنه الخوف من التوقف عن الكتابة، القلق المزمن من تلك اللحظة المرعبة، التي يكتشف فيها المبدع أنه فقد خصوبته وأصبح فجأة عاجزا عن الفعل الإبداعي. يوضح البساطي: «إنه شبح يطاردني، خاصة في فترات التوقف عن الكتابة، عندما أكتشف أنني لم أكتب لفترة، يسبب هذا نوعا من الحزن الشفيف، خاصة عندما أفكر أن المسألة قد تكون وصلت لنهايتها». هل هناك حالات محددة وصل فيها هذا الخوف لحده الأقصى؟ سؤال يرد عليه بقوله: «إنها حالة أعتقد أنها تلازم الكاتب باستمرار، دعك من سنوات الشباب الأدبي، فبعد فترة من الإبداع المستمر يبدأ هذا الخوف في التنامي، خاصة عندما أقرأ عن آخرين أصيبوا بنضوب الإبداع، همنغواي مثلا أصبح عاجزا عن الكتابة فانتحر، وآخرون مروا بالأزمة نفسها. المشكلة هنا لا تكمن في شعور المبدع أنه لم يكتب كل ما كان يعتمل بداخله، لكنها تتمثل في سؤال جوهري يطرحه على نفسه: وماذا أفعل لو توقفت؟!».
* يوسف القعيد: عندما أكتب أتحرر من كل شيء

في حديثه يفرق الروائي يوسف القعيد بين مخاوفة كمبدع وإنسان. فالمخاوف التي تنتابه كإنسان تتلاشى عند حضور اللحظة الإبداعية، يصف هذه الحالة بقوله: «كإنسان عندي مخاوف عديدة تطاردني وتجعلني أنام بصعوبة، لكن في لحظة الإبداع لا أعبأ بأي شيء، لأنني لو فعلت لتحولت الكتابة إلى نوع من تحقيق التوازنات». لا يخشى القعيد أي سلطة، سواء كانت سياسية أو دينية، حسبما يؤكد، هكذا يتجاوز الكاتب كل مخاوفه. لكن عندما تذهب الكتابة إلى حالها تتجمع المخاوف لتطغى على الإنسان، وبشكل يتجاوز الحدود، يوضح: «أشعر بأن لدي العديد من المخاوف، اخشى المرض، وأشعر بالقلق على ابني المغترب، وأخشى على أهلي في القرية من ظروف صعبة يمرون بها». يعدد القعيد المخاوف وكأنه يخشى الاقتراب من الخوف الأكبر، لكنه في النهاية يقترب منه بحرص: «اخشى من تقدم العمر، وأخاف من مرحلة النهاية، يمتزج خوفي هذا بفكرة مرعبة، وهي أنه لا يوجد شىء في هذا المجتمع يمكن أن تستند إليه ويمنحك يقينا. أنا مريض بالسكري وأحد أعراضه زيادة المخاوف عن الحد، لكنني لحظة الكتابة استعيد صلابتي الداخلية». هل الكتابة إذن حيلة نفسية لمقاومة الخوف؟ سؤال يرد عليه بقوله: «أنا لا أقاوم الخوف بالكتابة، لأنني في لحظة الإبداع لا أعترف بالخوف من الأساس، عندما أكتب أتحرر من كل شىء: من سلطة الدولة وبطش التطرف، أتحرر من كل حالات التربص، رغم أن المتربصين بالإبداع كثيرون. نحن نعيش حالة عجيبة، فلم تكن صورة المجتمع الذهنية عن المثقف سيئة على مدى تاريخنا، كما هى في هذه المرحلة، إننا نحصد الآن ثمار ما زرعه السادات قبل سنوات».
* فتحي إمبابي: نهاية الشهر وقوف على عتبة مشنقة

يبدو الروائي فتحي إمبابي أقل خوفا من الآخرين، ربما ينبع ذلك من النشأة: «فكرة الخوف في حد ذاتها ربما تكون بعيدة، فقد جعلتني الظروف أواجه الحياة مبكرا بعد وفاة والدي، وهو ما أكسبني صلابة»، لكن مبدعين آخرين عاشوا الظروف نفسها من دون أن يتخلصوا من مخاوفهم، ملاحظة عابرة تجعل إمبابي يبدأ في البحث عن مبرر آخر، يواصل: «بناء عالم معرفي واسع جدا عند كتابة أي رواية يخلق حالة من التفهم تقهر أي خوف، خصوصا إذا كان العقل علميا، هنا تظهر دائما مسببات تبرر الأشياء فتخفف من حدة الخوف». تدريجيا يتحرر فتحي إمبابي من مخاوفه في الحديث عن الخوف فيدخل في مرحلة البوح: «أشعر أحيانا بنوع من التباين أو المفارقة المعرفية، فأرضيتى المعرفية تختلف تماما عن الجماعة، لا أتكلم عن الثقافي بل أركز هنا على المجتمع المحيط بي في عملي ومنزلي. إنه تباين يجعلني أشعر بالخوف من الوحدة في مجتمع لا أستطيع أن أعبر فيه عن أفكاري كما أريد، في هذه اللحظة يحدث تناقض مخيف ومثير للرعب، أشعر بحالة انفصال في علاقتي مع المحيطين، ولا أجد في هذه الحالة مفرا إلا بممارسة نوع من التورية مع الآخرين، هنا يصبح بيننا نوع من المعرفة المتواطئة، هناك حالة قبول اضطراري في ما بيننا. هم يعرفون من أنا وما هي أفكاري، وأنا أعلم أنهم يعلمون، لكن من دون صدام يومي، إنها حالة احترام رغم عدم الاتفاق». يتغلب امبابي، إذن، على خوفه من الوحدة في مجتمع يرفض أفكاره بالتواطؤ المتبادل، لكن المشكلة لا تنتهي: «فالتواطؤ في حد ذاته مزعج، ويثير الحزن والأسى، كما أنه يشعرني بالوحدة الفكرية المخيفة». الاحتماء بمجتمع المثقفين غير مجد في حالة امبابي: «مع المثقفين حدثت لي مشكلة مغايرة، سببها إفراطي في التعبير عن رأيى بصراحة. فمجتمع المثقفين متعدد الطبقات، به التواءات عديدة، وكتاب لهم ارتباطاتهم التي تمنعهم من مواجهة الواقع بشكل صريح، هنا اجد نفسي في مواجهة حالة تباين من جديد. فأنا مقتنع بأن هناك مثقفين متورطين في التباسات واسعة، لكنني لن استطيع في النهاية ان اعيش في المريخ. من جديد أجدني في مواجهة انزعاج، اخشى الوحدة فأبحث عن أصدقاء بنهم، أصدقاء يكون لديهم قدر عال من النزاهة». في الإبداع يجد فتحي إمبابي نفسه مواجها بنوعية أخرى من المخاوف: «أنزعج جدا من ان يطغى الخطاب السياسي على الفني في إبداعاتي، خاصة انني كثيرا ما أتهم بذلك. ومن أكثر مخاوفي أن يكون الشكل الفني ضعيفا، كما أخشى من الترهل الروائي، وأسعى لتقليل مخاوفي بسماع آراء أصدقائي قبل النشر. وعندما فكرت في اسباب حرصي على ذلك اكتشفت أن احتمال ضعف العمل فنيا يصيبني بحالة رعب حقيقية». لم يكن امبابي يعترف بالخوف، لكن مع الاستغراق في الحديث اتضح أنه أكثر شعورا بالخوف من الكثيرين، لديه باقة متنوعة من المخاوف، منها ما هو حقيقي ومنها ما هو مرتبط بشخصيته، فعدم قدرته على أن يستدين سببت له حالة رعب مزمنة تنتابه مع نهايات الشهور: «على المستوى الشخصي أشعر بالرعب من هاجس ألا يكفينى مرتبي حتى نهاية الشهر، لأنني لا أستطيع أن أستدين من أحد. ورغم أنني لم اواجه طوال السنوات الماضية بمأزق من هذا النوع، إلا أن نهايات الشهور عندي تظل تحتفظ برهبتها، أشعر كما لو كنت أقف على عتبة مشنقة!».
* سعيد الكفراوي: أخشى صوت الصراخ في الليل والمرور في المقابر
مخاوف الأديب سعيد الكفراوي تبدو مختلفة، يعود بذاكرته إلى ماض بعيد، ثم يصل إلى نتيجة يلخصها في عبارة واحدة:
«الخوف تربية»، الاختزال السابق يحتاج إلى توضيح: «انا أعتبر الخوف كائنا يتربى مع الإنسان ويتشكل داخل الروح، وهذه الأشياء الصغيرة التي كانت تقابلنا في طفولتنا تكبر رغم نمو الوعي وكثافة التجربة. تربيت في منطقة تلعب فيها الخرافة والجن والعالم الأسطوري والميتافيزيقا والبيوت المهجورة، التي تسكنها العفاريت دورا رئيسيا»، لكن هذا الواقع اختلف في قرى أخذت من المدن مواصفاتها فهجرتها العفاريت. لا يعترض الكفراوي على التعقيب السابق، لكنه يروي حكاية تؤكد أن الخوف لم يهجره: «قبل شهرين كنت ازور بلدتنا، وجلست ذات ليلة وحدي في المنزل وأمامي كتاب أقرأه، النوافذ مغلقة ولا يوجد أي تيار هوائي، فجأة انقلبت بضع صفحات من الكتاب وحدها. بالتأكيد يوجد سبب منطقي لذلك، لكنني شعرت بالخوف، فتحت الشرفة لكي اتخلص من قلقي وعندما شعرت بأنني لم انجح في ذلك اتجهت إلى النهر ونزلت حتى منتصف جسمي. حاولت أن أقهر خوفي، لكنني لم أستطع، ولم أهدأ إلا بعد أن مررت على ابن عمى وطلبت منه المبيت معي. حدث كل ذلك رغم عدم وجود خطر حقيقي، لكن في الروح خوف كسرها. أخشى الأصوات التي لا أعرف مصدرها، وصوت الصراخ في الليل، كما اخشى المرور في المقابر، ولهذا حضور في العديد من قصصي، إنه شيء لاعلاقة له بثقافة الإنسان او معرفته أو إيمانه بالعلم. انه خوف الفلاحين الذين تربوا على تراث قائم على السواقي المهجورة، والبساتين الخاوية، والبيوت التي غادرها اصحابها. ربما تكون المتغيرات الحديثة قد جعلت كل ذلك يتراجع، لكنني من جيل تشكل وجدانه بها، عشنا مع الجنية التي تجلس على شاطئ النهر وتقول: «عروسة لك يا عريس» لتخطف من ينساق لغوايتها، والجني الطائر الذي يظهر على شكل حمار ينطلق بمن يركبه محلقا في السماء بلا عودة، ولأنه جزء من وعيي الذي تربيت عليه». لا يمنع هذا ان للكفراوي مخاوفه الأكثر حداثة: «اخاف من الاعتقال خاصة انني جربته، ومن سطوة العسكر، واخشى الفشل، كما أخاف من ضياع العمر والموت، لكن كل هذه المخاوف مكتسبة ولا تقارن إطلاقا بالخوف الذي ينتج عن الخرافة».

* جودت فخر الدين: خوفي الوجودي يغذي القصيدة

يرى الشاعر اللبناني جودت فخر الدين ان المثقف في حالة صدام وحوار دائمين مع تفاصيل الحياة اليومية، مما يجعل الخوف يباغته بعد كل خيبة أو تعثر. ويقول فخر الدين أن هناك أنواعا كثيرة من المخاوف تنتابه، في طليعتها خوف عميق ازاء الوجود ومعناه. انه خوف وجودي، اذا صح التعبير، لكن لمثل هذا الخوف انعكاساته الايجابية على كتاباته الشعرية، لانه مصدر قلق وتأمل، واهتمام بما هو بعيد وغامض. ولأن المثقف، بحسب فخر الدين، لا يكتفي بالوقوف أمام العابر والزمني، بل هو يحاول النفاذ غالبا الى ما وراء ذلك، فان خوفه قد يتجاوز خوف الانسان العادي تنوعا وعمقا.
برأي فخر الدين أن اكثر ما يخافه الكاتب، وبالاخص الشاعر، هو ان يشعر بنفسه غير قادر على الكتابة. وهذا ما ينتابه اذا مر عليه زمن طويل من دون أن يكتب. ولكي يكافح خوفه هذا، هو يعمل دائبا على خلق الظروف الملائمة للكتابة والمحفزة عليها. فولادة القصيدة تقتضي من الشاعر جهدا كبيرا، يتعدى الكتابة الى ميادين مختلفة، يستمد منها عناصر جديدة لظروف جديدة، وعندما لا يتسنى للشاعر مثل هذا المناخ، فانه يعيش الخوف في أقصى حالاته. أما الخوف من القارئ فهو دائم، يقول جودت فخر الدين: «الكاتب يفترض دائما وجود قارئ حصيف، ثم يخافه كما يخاف نفسه، بكلمة اخرى هو يخلق تماهيا بينه وبين القارئ المفترض، وعندما يكتب فهو يرضى فقط بما يرضي هذا القارئ، وعندما لا يشعر بالرضى، وهو غالبا ما يحدث، فإنه يقع أسير الخوف من القارئ الشبح». ويقول فخر الدين: «كلما أنجزت عملا جديدا، وعمدت الى نشره، أخاف عليه من مواجهته مصيره بنفسه، وقد أصبح كياناً مستقلا».

* شوقي بزيع: كائن سيئ التكيف لأنني لا أجيد غير الشعر

الشاعر اللبناني شوقي بزيع يرى أن ازمة الشعراء، تتجلى في كونهم لا يجيدون عادة صنعة أخرى غير صنعة الشعر. وهم بهذا المعنى كائنات سيئة التكيف مع المحيط الخارجي، الذي يملك كل مسببات الخوف. لهذا فهم يخافون أكثر من غيرهم، ويستجيبون بالخوف لمؤثرات قد لا تخيف الآخرين. الشعر برأيه هو أحد اشكال المواجهة، وسيلة لتجاوز الشأن اليومي الذي يفشل الشاعر عادة في التموضع ضمن اطاره الحيوي. بزيع ينطلق من ذلك للقول إن الشعر، بالنسبة له، سلاح متوهم في مواجهة انعدام الفاعلية، والشاعر لا يخاف الموت الجسدي، لانه لن يكون موجودا عندما يأتي، بقدر ما يخشى الجفاف الابداعي، ولحظة الصمت تلك التي تستبد به أحيانا، وتحيله الى فرد فائض عن الحاجة في مجتمع المتواصلين مع ايقاع الحياة اليومية. «اصير آنذاك كائنا متوترا، خائفا، وتتملكني حالة من السلوك العدائي حيال الآخرين».
المرأة تمثل بالنسبة الى بزيع معادلا للقصيدة، أي وسيلة من وسائل مكافحة الخوف. هي الحضن والملاذ والرحم ايضا، كذلك فان انحناءات جسدها وطواعيته، يمنحانها قدرة على امتصاص الصدمات لا تتأتى للرجل، الذي يشكو صلادة تحد من قدرته على مجابهة العوامل الوافدة من محيطه الخارجي. وبالتأكيد فان كلام بزيع، يذّكر بقول للاديب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز: «أشعر أنه لا يمكن لسوء أن يصيبني عندما أكون في حضرة النساء».
ويقول بزيع: «عندما أصدر ديوانا، أو انشر قصيدة، يتملكني شعور المتهم الذي ينتظر حكم القضاء، ينتابني دوما هاجس مفاده أن الشعر لا يزال في مكان آخر، وأنني لم اقبض عليه. تستبد بي الرغبة في ان أكتب القصيدة الخاتمة لكل القصائد، وأغلق كتاب الشعر، وعندما أدرك انني لن افعل ذلك يوما...اخاف».
لا تمثل الحرب بالنسبة الى شوقي مصدرا للخوف، بل هي قد تحمل الشحنة الصدمة التي تجعل غيوم التأمل تمطر شعرا. هذا أقله، ما خبره في الحرب التي شهدها لبنان مؤخرا. كانت احداث الطفولة التي أمضاها في قريته الجنوبية، تتوالى فصولا مع ايقاع الاعمال الحربية. وعندما وضعت الحرب أوزارها انهمر الشعر ديوانا يروي أشجان الاشجار التي خبر معاناتها طفلا، والتي لا تزال تنتظر عودته.

No comments: