Sunday, January 21, 2007

معـــركة بغـــداد الفاصـــلة

أهرام 22/1 بقلم د‏.‏ عبد المنعم سعيد
للتاريخ طريقته الخاصة في التدفق حيث تتضافر قوي الطبيعة وطبيعة البشر لكي تنتج في النهاية مشاهد كبري فاصلة تختلف الدنيا بعدها عما قبلها ويصبح الانطلاق إلي آفاق وآمال جديدة واجبا علي جماعة من بني الإنسان‏,‏ بينما يصبح علي الجماعة الأخري أن تلملم الأشلاء وتجمع الحطام ناظرة إلي الغد بالخوف وعلي الأمس بالحسرة‏.‏ شيئ من هذا يجري هذه الأيام حيث تتجمع حاملات الطائرات الأمريكية في مياه الخليج ويتدفق‏21‏ ألف جندي أمريكي جديد إلي العراق ومن المؤكد أنه خلف هذه الخطوة وتلك توجد حركات مكثفة لجماعات المخابرات لاستكشاف الخطوط الخلفية والأمامية لمعركة مرتقبة‏.‏ولكن المشهد التاريخي لا يكتمل ما لم نذهب إلي زيارة كوندواليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية‏-‏ إلي المنطقة واجتماعها بثمانية وزراء خارجية عرب في الكويت‏,‏ حرص كل منهم بطريقته الخاصة علي القول باتفاقه مع الخطة الأمريكية الجديدة‏.‏ وقبل أن ينفض العقد في الكويت كانت المنطقة كلها معرضة لهجوم دبلوماسي أوروبي شامل وموضوعه هذه المرة تحقيق التسوية العربية‏-‏ الإسرائيلية الشاملة وكما قال خافيير سولانا ممثل السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي ـ أنه إما أن نصل إلي‏'‏ نهاية الطريق‏'‏ في القضية المركزية الآن أو سوف ننتظر أعواما أخري حتي تأتي إدارة أمريكية جديدة‏.‏ وبينما كان ذلك يجري هنا وهناك كانت الأوضاع كلها يجري ترتيبها في منطقة القرن الافريقي ووفق تفهم مصري واضح للتحركات الإثيوبية‏,‏ بينما اختفت تماما القصة اللبنانية من الصورة ولو إلي حين‏,‏ لكن المؤكد أن إلحاح حزب الله علي إسقاط الحكومة صار ناعما للغاية‏.‏وببساطة كان الساسة يتحركون كما يتحرك العسكر وكانت الصورة التاريخية مركبة من عناصر محلية وعوامل إقليمية ومفردات كونية ووسط ذلك كله تظهر نجوم لامعة تبقي علي لمعانها لفترة‏,‏ أو لا تلبث أن تمضي شهبا إلي حيث لا يعلم أحد‏.‏ إنه التاريخ بكل تعقيداته وتركيباته ولكنه‏,‏ علي اتساع جغرافيته لكي تشمل الشرق الأوسط كله وعلي عمق تاريخه الذي يعود أحيانا إلي بداية التاريخ وأحيانا أخري إلي يوم ضربت الأبراج المشيدة في نيويورك في مطلع القرن‏,‏ فإن ترجمته الراهنة هي خطة وبؤرة‏.‏ والخطة أنتجها العقل الأمريكي بعد مناقشات ومداولات ومشاكسات شارك فيها الكونجرس بمجلسيه وكل الطامحين إلي الرئاسة الأمريكية وكل مراكز البحوث والرأي وبالطبع لم يتفق كل هؤلاء علي رأي‏,‏ وإنما تراوحوا كما هي العادة ـ بين من يريدون انسحابا أمريكيا فوريا من العراق وهؤلاء الذين لا يريدون انسحابا علي الإطلاق‏,‏ومن يريد الحوار مع إيران ومن يرغب في الحرب معها ومن يريدون البحث عن تسوية للقضية الفلسطينية ـ الإسرائيلية ومن يريدون بقاءها إلي الأبد‏.‏ وهكذا كان جوهر النقاش الأمريكي والذي ظهر في الحوار الذي جري حول تقرير بيكر‏-‏ هاملتون عما إذا كان الشرق الأوسط منطقة استراتيجية متشابكة أم أنه يتكون من مسارح استراتيجية وعملياتية مختلفة وعما إذا كانت المهمة المطروحة هي تنظيم عملية الانسحاب الأمريكي من الشرق الأوسط كله أو مواصلة الهجوم الأمريكي والغربي وخلق قوة دفع جديدة‏!.‏وكما هي العادة في المجتمعات الديمقراطية فإن الخطط تكون نتيجة الحوار وقد كانت نتيجة ما جري خلال الأشهر والأسابيع القليلة الماضية هي ما عرف بخطة جورج بوش الجديدة والتي عرف منها شقها العسكري الخاص باستئناف الهجوم‏,‏ أما شقها السياسي فقد اختلف مع تقرير بيكر في الحوار مع إيران وسوريا ولكنه اتفق معه بأن الحركة علي طريق التسوية للصراع العربي‏-‏ الإسرائيلي مسألة ضرورية لتوفير البيئة المناسبة للحركة في العراق‏,‏ كما اتفق معه أيضا في أن‏'‏ مسيرة الديمقراطية‏'‏ كانت سببا في خلق فجوة بين واشنطن وعواصم عربية متنوعة أثرت سلبا علي القدرة الأمريكية‏.‏وبشكل ما فإن المرحلة السابقة كانت مرحلة تقييم وإعادة استعداد وتحضير سياسي ودبلوماسي وعسكري وكلها اتفقت في النهاية علي أن بؤرة ومركز الأحداث والتحولات الاستراتيجية سوف يكون حول معركة بغداد القادمة‏.‏ فبقدر ما كان الدخول الأمريكي إلي العاصمة العراقية إيذانا بالإعلان عن عصر أمريكي جديد في الشرق الأوسط تصورت الولايات المتحدة أنها يمكنها هندسته وتصنيعه وتغليفه بالديمقراطية والعولمة وبقدر ما كان العجز الأمريكي عن السيطرة علي بغداد ومن بعدها العراق كله إشهارا بسقوط دولة واستراتيجية وحصارها في‏'‏ المنطقة الخضراء‏'‏ وظهور مد أصولي يهز مكانة الغرب في المنطقة كلها ويهز معها دولا ونظما فإن المعركة القادمة سوف تكون هي المعركة الفاصلة التي ستحدد مسار الشرق الأوسط لسنوات مقبلة‏.‏ومن الناحية العسكرية البحتة فإن الولايات المتحدة تريد أن تحقق في معركة بغداد ما لم تحققه منذ احتلالها للعراق وهو تحقيق ما يكفي من الاستقرار الذي يجعلها تقيم بلدا حليفا من ناحية ومن ناحية أخري تستطيع الانسحاب‏.‏ فقد بات واضحا للقادة العسكريين الأمريكيين أن الاستراتيجية التي وضعها وزير الدفاع الأمريكي السابق دونالد رامسفيلد القائمة علي استخدام قوات عسكرية محدودة ـ لا تزيد علي‏130‏ ألف جندي ـ لتحقيق أهداف استراتيجية كبري ـ غزو العراق ومن بعده إعادة تشكيل الشرق الأوسط‏-‏ لم تكن إلا أضغاث أحلام انتهت مع اليقظة علي الرمال الحارة في بلاد الرافدين‏.‏ كما بات واضحا أنه لم يعد هناك مجال لتطبيق الاستراتيجية التي اقترحها كولين باول‏-‏ رئيس هيئة الأركان الأمريكية ووزير الخارجية السابق‏-‏ التي قالت علي العكس‏-‏ بضرورة الاستخدام الكثيف للقوة العسكرية بحيث لا يقل حجم القوات عن نصف المليون مع إنفاق تريليون دولار خلال العام الأول للاحتلال‏.‏ لقد فات الوقت علي هذه الاستراتيجية أيضا لأنه لم يعد هناك أحد في واشنطن علي استعداد لرفع عدد القوات بشكل جذري أو للإنفاق إلي ما لا نهاية علي حرب لم يعد أحد متأكدا من إمكانية كسبها‏.‏وهكذا ولدت الخطة الجديدة وقوامها تحديد المهمة بأن تكون إخضاع بغداد وحدها نحو ثلاثين كيلو مترا مربعا‏-‏ لأنها من ناحية تحتوي علي قرابة ربع سكان العراق‏,‏ كما أن فيها كل الجماعات العرقية والدينية فإذا ما صلح الحال فيها واستتب الأمن فإن الدولة كلها سيمكن إنقاذها‏.‏ ومع تخفيض الهدف من السيطرة علي العراق إلي السيطرة علي بغداد فقد أصبح ممكنا حشد‏21‏ ألف جندي إضافي فقط للقيام بالمهمة ومعهم قوات عراقية منتقاة سنية وكردية وشيعية لكيلا يتم فقط طرد جماعات‏'‏ المقاومة‏'‏ و‏'‏ الإرهاب‏'‏ المختلفة وإنما أيضا إبقاء المناطق‏'‏ المحررة‏'‏ نظيفة من هذه العناصر ومن ثم تستطيع الحكومة المركزية القيام بمهمتها في تحقيق المصالحة الوطنية واستئناف عملية التنمية‏.‏معركة بغداد بعد ذلك لها شقان سياسيان‏:‏ أولهما داخل العراق نفسها حيث تطلب الولايات المتحدة وحلفاؤها من الساسة العراقيين الحفاظ علي وحدة العراق من خلال التوزيع العادل للثروة‏,‏ فيكون البترول للجميع‏,‏ والتوزيع العادل للسلطة من خلال إعادة النظر في الدستور‏.‏ وثانيهما خارج العراق حيث يتم حشد الأصدقاء والحلفاء بعد إزالة الجفاء ورفع الحرج ودفع المصالح المشتركة القائمة علي الاستقرار من خلال تسوية للصراع العربي‏-‏ الإسرائيلي وحيث يتم وضع الخصوم موقع الدفاع أو التراجع فتعزل إيران من خلال مجلس الأمن وتوقع الهزيمة بالمحاكم الشرعية في الصومال ووضع سوريا وحزب الله وحماس موضع الانتظار والترقب وببساطة العجز عن المبادأة‏.‏فهل تنجح الخطة الأمريكية الجديدة فيما فشلت فيه الخطط السابقة؟ هو سؤال مفتوح لمن يستطيع الإجابة ولا يعلم أحد إلا الخبراء بالطبع كيف يمكن لواحد وعشرين ألف جندي تحقيق ما لم يحققه مائة وثلاثون ولكن المؤكد من السوابق أن المعارك لا تكون أبدا في اتجاه واحد‏.‏ وربما كان الفارق بين الولايات المتحدة وخصومها هو أن النظام الأمريكي يعلن عن خططه الفاشلة والناجحة‏,‏ أما النظم السياسية لخصوم أمريكا فإن خططها لا تعلم إلا بعد وضعها موضع التطبيق‏.‏ وفي معركة بغداد فإن الفيصل في السيطرة علي المدينة سوف يكون موقف السكان المحليين ومدي تعاطفهم مع جماعات‏'‏ المقاومة‏'‏ أما إذا خذلوها فإنه من المرجح أن يخرج‏'‏ المقاومون‏'‏ ويشنوا الحرب من مناطق أخري‏.‏الخلاصة أن العراق سوف يدخل في مرحلة حرجة تدور فيها معارك فاصلة بالمعني التاريخي للكلمة وفي مثل هذه الحالات فإن الأمر يحتاج تحديدا دقيقا للمصالح المصرية العليا فنحن نريد جلاء أمريكيا عن العراق‏,‏ ولكننا من جانب آخر نريد عراقا موحدا لا يكون مصدر إرهاب وعدم استقرار للمنطقة كلها وفي الوقت نفسه الذي لا نريد فيه هيمنة أمريكية علي أقدار المنطقة فإننا نرغب في حل للصراع العربي الإسرائيلي لا يكون إلا بمساعدة أمريكية وفي الوقت الذي نريد فيه أن نبيع بترولنا بأعلي الأسعار‏,‏ فإننا نريد المشتري الذي هو علي استعداد للشراء بهذا السعر‏.‏ هذه المصالح المختلفة ليست منسجمة بالضرورة مع بعضها بعضا وفي داخلها توجد تناقضات شتي والمعضلة أنه في وقت المعارك الفاصلة فإنه لا توجد دائما فرصة كافية للتفكير وعلي أي الأحوال فقد دقت طبول المعركة‏,‏ فتعالوا نراقب مشاهد القتال فربما يكون هو الذي يقرر مصيرنا لسنوات قادمة‏!!‏

No comments: