عبد المنعم سعـيـد ـ الشرق الأوسط ــ 24/1
لا يتكرر التاريخ أبدا بحذافيره، ودائما هناك جديد تحت الشمس، ولا تجرى نفس المياه في النهر مرتين، ولكن المشابهة التاريخية كثيرا ما تعطينا ليس فقط الدروس، وإنما تعطينا أيضا القدرة على فهم ما يجرى في منطقتنا من أحداث. وما يشاهده الشرق الأوسط حاليا من قلاقل وفوضى ليس جديدا، فقد عرفته أوروبا خلال القرن التاسع عشر وفي أعقاب الثورة الفرنسية وخلال القرن العشرين حتى ما بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، كما عرفته منطقة شرق آسيا في أعقاب الحرب الفيتنامية، وبشكل ما عرفته أمريكا الجنوبية والوسطى طوال القرن العشرين، ولا زالت أفريقيا تعيش فيه منذ الاستقلال حتى الآن.
وبينما اختلفت الأسباب والأساليب في كل حالة فإن خيوطا رفيعة كانت تربط بين كل هذه الحالات مجتمعة، فهي دائما تواجه لحظة «ثورية» بمعنى أنها تحتوى على قلب للأوضاع الاجتماعية والسياسية القائمة رأسا على عقب، وبمعنى أنها بسبب عنفوان الرغبة في التغيير يعاد توزيع عناصر القوة من جديد بين طبقات وجماعات ودول. وهي من ناحية أخرى تخلق حالة ملتهبة وعنيفة ترتفع فيها العواطف والهواجس إلى عنان السماء، وينزل فيها ستار كثيف على العقل فلا يبقي إلا الجموح بعيدا عن مقتضيات الحكمة. وفي كل الحالات السابقة كان الفيصل في عودة الأمور إلى مجاريها، واستئناف تطورها الطبيعي، هو نجاح مجموعة من أهل العقل والحكمة في تكوين منظومة للتفكير والسياسة تكون مهمتها وضع كابح على التطرف والمزايدة والثورة في العموم بوسائل سلمية أو عنيفة إذا اقتضى الأمر؛ ومن ناحية أخرى الدفع فى سبل التطور السلمي بحيث لا يكون الاستقرار غطاء للجمود، وإنما شرط للإصلاح والتطور.
ولعل أشهر الأمثلة التاريخية كانت ما جرى في أوروبا خلال القرن التاسع عشر، عندما نجح ما عرف بالمنظومة الأوروبية Concert of Europe ليس فقط أن تهزم الثورة الفرنسية، ولكن الأهم أن تقيم نظاما للتطور والتغيير يدفع أوروبا كلها إلى الأمام سياسيا وتكنولوجيا في ظل استقرار استمر حتى نشوب الحرب العالمية الأولى. وربما ـ وبدون تجاوز كبير ـ يمكن القول إن تكوين الجماعة الأوروبية وارتكازها على المحور الألماني ـ الفرنسي ثم انضمام بريطانيا لهما يشكل صيغة أخرى من نفس المنظومة، ولكن أكثر تقدما وحداثة وملاءمة لعالم انتقل من عصر البخار إلى عصر الفضاء.
مثل هذه الحالة مطلوبة ومرغوبة في الشرق الأوسط خاصة بعد أن تجمعت ثلاثة مصادر لتهديد الاستقرار فى المنطقة جاء أولها من الفشل الذي عانته نظم الاستقلال العربية في صيغتها الثورية أو المحافظة، سواء في حماية التكامل الإقليمي لبلادها، أو في تحقيق معدلات عالية للنمو الداخلي فدخل عليها القرن الواحد والعشرون وبعضها أراضيه محتلة وكلها لا تزال لا تعرف كيف تبقى «الاشتراكية» بعد سقوط كل دولها الرئيسية في العالم. وثانيها أن فشل الدولة العربية المستقلة خلق فراغا سياسيا وأيديولوجيا ما لبث أن ملأه اتجاه عربي راديكالي، أخذ مفردات دولة الاستقلال الثورية وصبها صبا في إطار دينى، راح يعيد تشكيل المجتمع في قوالب لا يعرفها العصر، ويحاول جاهدا إرجاع الحداثة كلها إلى الوراء، وفي النهاية كان لديه اعتقاد مطلق في صحة الأفكار إلى الدرجة التي حولها إلى عنف محلي وإقليمي وعالمي. وثالثها أن العالم بات لا يصبر كثيرا على الدول المتباطئة، وراح يضغط عليها بالعولمة أحيانا وبالضغوط السياسية أحيانا أخرى، وفي أحيان ثالثة كان اللجوء إلى القوة المسلحة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر.
هذه التيارات الثلاث خلقت حالة كبيرة من عدم الاستقرار في الشرق الأوسط، وعندما اختلطت بقضايا مزمنة مثل الصراع العربي ـ الإسرائيلي، والتناقضات التاريخية مثل تلك التي عرفت بين العرب والفرس، وبين الشيعة والسنة، وصراعات المسيحية والإسلام، والشرق والغرب، فإنها حولت الرياح إلى عواصف، والأمطار إلى سيول، وأمواج البحر إلى تسونامي يهز المنطقة كلها، ويرج بلدانها، ويطيح نظما للحكم فيها؛ ولم تكن النتيجة النهائية تغييرا ثوريا يطيح نظاما ويحل آخر مكانه، وإنما حالة من الفوضى التي لا يعلم أحد إلى أين تقود. وفي التاريخ الإنساني عموما، فإن أخطر اللحظات التي يتعرض لها هي تلك اللحظة المتسمة بالسيولة، والتدفق اللا نهائي لعناصر التدمير والعنف إلى الدرجة التي لا تفهم فيها أبدا لماذا يقتل عشرات الألوف من العراقيين إذا كانت المعركة تجري مع الاحتلال الأمريكي، ولماذا يقتل عشرات الألوف من الصوماليين طوال عقد ونصف من دون سبب معروف، ولماذا يتواجد جماعة من اللبنانيين يرفعون شعارات حزب الله في ساحة رياض الصلح وكلهم إصرار على إسقاط الحكومة؟
مثل هذه الحالة لا تبقى على حالها أبدا، وإنما يواجهها احتمالان، إما أن تستمر في التمدد حتى تصل إلى بلدان لم تصل لها من قبل، أو ترتفع فيها مستويات العنف إلى مستويات عالية حتى يأكل الحريق نفسه أو لا تجد الفيضانات مصادر أخرى للمياه؛ وإما أن تتكون منظومة سياسية من دول المنطقة المعنية لكي تعيد تنظيم الأمور سواء تلك المتعلقة بمصادر التهديد أو تلك المتعلقة باتجاهات المستقبل التي يتم فيها تنظيم الطاقات وتحقيق التغيير المنظم والآمن. وبشكل ما فإن شيئا من هذا حدث في منطقتنا خلال العقود الأربعة الماضية، حينما تشكلت جبهة مصرية ـ سعودية لكي تواجه حالة الانقلاب في أحوال المنطقة في أعقاب تحول إسرائيل إلى إمبراطورية عظمى بعد نصرها في حرب يونيو 1967، وحالة الثورة والفورة الهائلة التي أعقبت الثورة «الإسلامية» في إيران وتصورت أن بمقدورها ليس فقط «تصدير الثورة»، وإنما أيضا إطاحة نظم الحكم فيها. وفي الحقيقة فإن الإمام الخميني، وليس جورج بوش، كان أول من طالب برأس الرئيس العراقي صدام حسين، الذي قام بغزو إيران هو الآخر وضربها بالغازات السامة، وبعد فشله على الجبهة الإيرانية تصور أن قلب المنطقة رأسا على عقب يمكن حدوثه من خلال غزو الكويت. ومرة أخرى كانت الجبهة المصرية ـ السعودية، هي التي أحبطت أحلام الخميني وصدام معا، ولم يكن ذلك نتيجة جهودهما وقدراتهما فقط، وإنما نتيجة قدراتهما على بناء التحالفات الدولية والإقليمية المناسبة.
هذه المرة فإن الحالة أكثر خطورة من كل الأوقات السابقة التى ارتبطت فيها «الثورة» بدولة أو بشخص أو بحزب واتجاه أيديولوجي لأنها مرتبطة بفوضى لا يعلم أحد بدايتها أو نهايتها، وبحركات أفقية تخترق المجتمعات طولا وعرضا، وفوق ذلك كله فإن النظام الدولي بات يقع على رأسه دولة ـ الولايات المتحدة الأمريكية ـ لا يداني حماقتها تحت إدارة جورج بوش قدر عدم كفاءتها. كل ذلك يعطى للجبهة السعودية ـ المصرية ومعهما دول مجلس التعاون الخليجي والأردن أهمية قصوى، ليس فقط لكي تتعامل مع معركة بغداد المقبلة ونتائجها، وإنما لإعادة النظر في أوضاع المنطقة كلها. ولو بقيت الولايات المتحدة في العراق طويلا، فإنها سوف تسبب مشكلات ومعضلات لا قبل لأحد بها، أما إذا خرجت من دون بديل استراتيجي فإنها سوف تسبب كوارث لا نهاية لها. فالسؤال المطروح هو كيف تأخذ هذه المنطقة مقدراتها بأياديها، ولا تتركها فريسة قوى الفوضى أو القوى الخارجية التي تأتي لكي تقاوم الفوضى فتعطينا فوضى إضافية؟!
لا يتكرر التاريخ أبدا بحذافيره، ودائما هناك جديد تحت الشمس، ولا تجرى نفس المياه في النهر مرتين، ولكن المشابهة التاريخية كثيرا ما تعطينا ليس فقط الدروس، وإنما تعطينا أيضا القدرة على فهم ما يجرى في منطقتنا من أحداث. وما يشاهده الشرق الأوسط حاليا من قلاقل وفوضى ليس جديدا، فقد عرفته أوروبا خلال القرن التاسع عشر وفي أعقاب الثورة الفرنسية وخلال القرن العشرين حتى ما بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، كما عرفته منطقة شرق آسيا في أعقاب الحرب الفيتنامية، وبشكل ما عرفته أمريكا الجنوبية والوسطى طوال القرن العشرين، ولا زالت أفريقيا تعيش فيه منذ الاستقلال حتى الآن.
وبينما اختلفت الأسباب والأساليب في كل حالة فإن خيوطا رفيعة كانت تربط بين كل هذه الحالات مجتمعة، فهي دائما تواجه لحظة «ثورية» بمعنى أنها تحتوى على قلب للأوضاع الاجتماعية والسياسية القائمة رأسا على عقب، وبمعنى أنها بسبب عنفوان الرغبة في التغيير يعاد توزيع عناصر القوة من جديد بين طبقات وجماعات ودول. وهي من ناحية أخرى تخلق حالة ملتهبة وعنيفة ترتفع فيها العواطف والهواجس إلى عنان السماء، وينزل فيها ستار كثيف على العقل فلا يبقي إلا الجموح بعيدا عن مقتضيات الحكمة. وفي كل الحالات السابقة كان الفيصل في عودة الأمور إلى مجاريها، واستئناف تطورها الطبيعي، هو نجاح مجموعة من أهل العقل والحكمة في تكوين منظومة للتفكير والسياسة تكون مهمتها وضع كابح على التطرف والمزايدة والثورة في العموم بوسائل سلمية أو عنيفة إذا اقتضى الأمر؛ ومن ناحية أخرى الدفع فى سبل التطور السلمي بحيث لا يكون الاستقرار غطاء للجمود، وإنما شرط للإصلاح والتطور.
ولعل أشهر الأمثلة التاريخية كانت ما جرى في أوروبا خلال القرن التاسع عشر، عندما نجح ما عرف بالمنظومة الأوروبية Concert of Europe ليس فقط أن تهزم الثورة الفرنسية، ولكن الأهم أن تقيم نظاما للتطور والتغيير يدفع أوروبا كلها إلى الأمام سياسيا وتكنولوجيا في ظل استقرار استمر حتى نشوب الحرب العالمية الأولى. وربما ـ وبدون تجاوز كبير ـ يمكن القول إن تكوين الجماعة الأوروبية وارتكازها على المحور الألماني ـ الفرنسي ثم انضمام بريطانيا لهما يشكل صيغة أخرى من نفس المنظومة، ولكن أكثر تقدما وحداثة وملاءمة لعالم انتقل من عصر البخار إلى عصر الفضاء.
مثل هذه الحالة مطلوبة ومرغوبة في الشرق الأوسط خاصة بعد أن تجمعت ثلاثة مصادر لتهديد الاستقرار فى المنطقة جاء أولها من الفشل الذي عانته نظم الاستقلال العربية في صيغتها الثورية أو المحافظة، سواء في حماية التكامل الإقليمي لبلادها، أو في تحقيق معدلات عالية للنمو الداخلي فدخل عليها القرن الواحد والعشرون وبعضها أراضيه محتلة وكلها لا تزال لا تعرف كيف تبقى «الاشتراكية» بعد سقوط كل دولها الرئيسية في العالم. وثانيها أن فشل الدولة العربية المستقلة خلق فراغا سياسيا وأيديولوجيا ما لبث أن ملأه اتجاه عربي راديكالي، أخذ مفردات دولة الاستقلال الثورية وصبها صبا في إطار دينى، راح يعيد تشكيل المجتمع في قوالب لا يعرفها العصر، ويحاول جاهدا إرجاع الحداثة كلها إلى الوراء، وفي النهاية كان لديه اعتقاد مطلق في صحة الأفكار إلى الدرجة التي حولها إلى عنف محلي وإقليمي وعالمي. وثالثها أن العالم بات لا يصبر كثيرا على الدول المتباطئة، وراح يضغط عليها بالعولمة أحيانا وبالضغوط السياسية أحيانا أخرى، وفي أحيان ثالثة كان اللجوء إلى القوة المسلحة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر.
هذه التيارات الثلاث خلقت حالة كبيرة من عدم الاستقرار في الشرق الأوسط، وعندما اختلطت بقضايا مزمنة مثل الصراع العربي ـ الإسرائيلي، والتناقضات التاريخية مثل تلك التي عرفت بين العرب والفرس، وبين الشيعة والسنة، وصراعات المسيحية والإسلام، والشرق والغرب، فإنها حولت الرياح إلى عواصف، والأمطار إلى سيول، وأمواج البحر إلى تسونامي يهز المنطقة كلها، ويرج بلدانها، ويطيح نظما للحكم فيها؛ ولم تكن النتيجة النهائية تغييرا ثوريا يطيح نظاما ويحل آخر مكانه، وإنما حالة من الفوضى التي لا يعلم أحد إلى أين تقود. وفي التاريخ الإنساني عموما، فإن أخطر اللحظات التي يتعرض لها هي تلك اللحظة المتسمة بالسيولة، والتدفق اللا نهائي لعناصر التدمير والعنف إلى الدرجة التي لا تفهم فيها أبدا لماذا يقتل عشرات الألوف من العراقيين إذا كانت المعركة تجري مع الاحتلال الأمريكي، ولماذا يقتل عشرات الألوف من الصوماليين طوال عقد ونصف من دون سبب معروف، ولماذا يتواجد جماعة من اللبنانيين يرفعون شعارات حزب الله في ساحة رياض الصلح وكلهم إصرار على إسقاط الحكومة؟
مثل هذه الحالة لا تبقى على حالها أبدا، وإنما يواجهها احتمالان، إما أن تستمر في التمدد حتى تصل إلى بلدان لم تصل لها من قبل، أو ترتفع فيها مستويات العنف إلى مستويات عالية حتى يأكل الحريق نفسه أو لا تجد الفيضانات مصادر أخرى للمياه؛ وإما أن تتكون منظومة سياسية من دول المنطقة المعنية لكي تعيد تنظيم الأمور سواء تلك المتعلقة بمصادر التهديد أو تلك المتعلقة باتجاهات المستقبل التي يتم فيها تنظيم الطاقات وتحقيق التغيير المنظم والآمن. وبشكل ما فإن شيئا من هذا حدث في منطقتنا خلال العقود الأربعة الماضية، حينما تشكلت جبهة مصرية ـ سعودية لكي تواجه حالة الانقلاب في أحوال المنطقة في أعقاب تحول إسرائيل إلى إمبراطورية عظمى بعد نصرها في حرب يونيو 1967، وحالة الثورة والفورة الهائلة التي أعقبت الثورة «الإسلامية» في إيران وتصورت أن بمقدورها ليس فقط «تصدير الثورة»، وإنما أيضا إطاحة نظم الحكم فيها. وفي الحقيقة فإن الإمام الخميني، وليس جورج بوش، كان أول من طالب برأس الرئيس العراقي صدام حسين، الذي قام بغزو إيران هو الآخر وضربها بالغازات السامة، وبعد فشله على الجبهة الإيرانية تصور أن قلب المنطقة رأسا على عقب يمكن حدوثه من خلال غزو الكويت. ومرة أخرى كانت الجبهة المصرية ـ السعودية، هي التي أحبطت أحلام الخميني وصدام معا، ولم يكن ذلك نتيجة جهودهما وقدراتهما فقط، وإنما نتيجة قدراتهما على بناء التحالفات الدولية والإقليمية المناسبة.
هذه المرة فإن الحالة أكثر خطورة من كل الأوقات السابقة التى ارتبطت فيها «الثورة» بدولة أو بشخص أو بحزب واتجاه أيديولوجي لأنها مرتبطة بفوضى لا يعلم أحد بدايتها أو نهايتها، وبحركات أفقية تخترق المجتمعات طولا وعرضا، وفوق ذلك كله فإن النظام الدولي بات يقع على رأسه دولة ـ الولايات المتحدة الأمريكية ـ لا يداني حماقتها تحت إدارة جورج بوش قدر عدم كفاءتها. كل ذلك يعطى للجبهة السعودية ـ المصرية ومعهما دول مجلس التعاون الخليجي والأردن أهمية قصوى، ليس فقط لكي تتعامل مع معركة بغداد المقبلة ونتائجها، وإنما لإعادة النظر في أوضاع المنطقة كلها. ولو بقيت الولايات المتحدة في العراق طويلا، فإنها سوف تسبب مشكلات ومعضلات لا قبل لأحد بها، أما إذا خرجت من دون بديل استراتيجي فإنها سوف تسبب كوارث لا نهاية لها. فالسؤال المطروح هو كيف تأخذ هذه المنطقة مقدراتها بأياديها، ولا تتركها فريسة قوى الفوضى أو القوى الخارجية التي تأتي لكي تقاوم الفوضى فتعطينا فوضى إضافية؟!
No comments:
Post a Comment