Sunday, January 21, 2007

" توم " و " جيرى " بين الغباء الحكومى والذكاء الإخوانى


د. سعيد إسماعيل على : بتاريخ 17 - 1 - 2007
حكاية رويتها ربما أكثر من مرة طوال عشرين عاما لأن واقع الحال فى مصر لا يتغير ، الأمر الذى تجد نفسك معه مضطرا إلى أن تكرر أحيانا ما تكتب وما تقول ، لعل وعسى هؤلاء الذى ضرب الله على آذانهم وقرا وأصبح فى قلوبهم عمى أن يظهروا قابليتهم للتغير فيفتح الله على آذانهم بالسمع ، وعلى قلوبهم بالبصيرة 0ففى عامى 1951 ، 1952 ، كنت مفتونا مع بعض الزملاء بحركة مصر الفتاة وزعيمها أحمد حسين ، وفتحنا مقرا له فى بلدتنا ، المرج ، ورحنا نملأ جدران بيوت القرية شعارات الحزب ، لكن الحق يقال ، أن الإقبال على الانضمام إلينا كان باهتا للغاية ، فى الوقت الذى كنا نرى فيه " شعبة " الإخوان المسلمين تمتلئ بالمريدين ، فامتلأت قلوبنا غيظا وحسدا ، فماذا فعلنا ؟ لم نقذفهم بالحجارة ، ولا نثرنا عنهم إشاعات تسيئ إلى سمعة هذا وذاك ، ولا حرضنا الناس عليهم ، وإنما – ونحن صغار فى الصفوف الأولى من التعليم الثانوى القديم – درسنا أسباب إقبال الناس عليهم – غير الدافع الدينى المعروف – فوجدناهم قد أتاحوا لخريج طب حديث منهم أن يستقبل فى الشعبة المرضى ليكشف عليهم بأجر غاية فى الزهد ، وكان هذا يحدث فى القرية لأول مرة ، فتقاطرت عليهم الناس 0ووجدناهم ينظمون رحلات جماعية إلى أماكن مختلفة خارج القرية ، دون أن يشترطوا أن يكون المشترك عضوا فى الإخوان 000ووجدناهم ينظمون عقب صلاة الفجر طابورا رياضيا يلف حول القرية ، حيث كانت تحيط بها غابات من النخيل 000ووجدناهم ينظمون " مدرسة " حرة ، كل يوم جمعة لمدارس بعض آيات القرآن الكريم وأحاديث للرسول صلى الله عليه وسلم وبعض الجوانب الدينية البحتة الأخرى 000ووجدناهم ينشئون " مكتبة " تتيح الفرصة لمن يريد القراءة أن يتسعير منها ما يشاء 000وهكذا لم تكن المسألة إذن " كلاما " ينتج كلاما ، ويرتبط بكلام ، ويعقب على كلام ، وإنما مجموعة من الأنشطة والخدمات هى بنفسها تتكلم ، وتخطب وتشير وتؤكد ، فلم لا يتقاطر عليهم الناس ؟لم تكن القرية قد عرفت الطريق إلى الكهرباء بعد ، فما أن تغرب الشمس حتى تغرق فى ظلام دامس ، إلا من بعض بصيص من ضوء باهت للمبات جاز من هذا البيت أو ذاك لا ينير الطريق 0وبرز من بيننا اقتراح : أن نجمع من كل بيت فى كل حارة أو شارع عشرة قروش ، ونشترى به " فانوسا " كبيرا نعلقه على مدخل الحارة أو الشارع ، وآخر على المخرج ، وأن تتناوب البيوت فى ملء اللمبة بالجاز كل ليلة ، وإضاءة الفانوس 00بدأنا بحارتين ، فإذا بالضوء يسطع ، والدنيا تنير ، وسألوا عنا فقلنا نحن من مصر الفتاة ، فبدأت قلوبهم تنفتح لنا 000لكن ثورة يوليو لم تمهلنا لنكمل الطريق ، فقد صدر قانون بإلغاء الأحزاب ، فلم تنطفىء شعلة النشاط فى الحارات فحسب ، بل بدأ العد على طريق السلبية فى العمل العام ، ما دامت الحكومة أخذت " تؤمم " الجهد الشعبى الاجتماعى بحيث لا يتم شئ من هذا القبيل إلا عن طريقها !وعقب حدوث زلزال عام 1992 ، فوجئ أهل شبرا ، على ما أتذكر ، بعد ساعتين ، ربما ، بخيام المساعدات وقد نصبت لتقدم ما يحتاجه المتضررون ، فانفتحت للمنقذين القلوب 000كانوا من هيئة الإغاثة بنقابة الأطباء ، لكن لأن معظمهم كان من الإخوان ، سارعت الحكومة باستصدار أمر عسكرى – بحكم حالة الطوارئ التى لم نعرف غيرها – يحتم ألا يقوم أى أحد بتقديم مساعدات إلا عن طريق رئيس الوزراء 000الحسد والغيرة أكلت قلب المسئولين الحكوميين الذين عجزوا أن يقدموا للناس ما يحتاجون بهذه السرعة التى حدثت ، فكان الأمر العسكرى ، حتى ولو كان ذلك على حساب صحة وسكن ومصير مئات الناس من المصريين ! هذا المنحى الذى رأيناه من جانب الإخوان هو المعنى الحقيقى للسياسة الرشيدة التى يلخصها قول الرسول صلى الله عليه وسلم : كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ، وخاصة فى بلد متخلف 000أن تقدم للناس خدمات 000نشاطا 000إنتاجا 000تخفف الجراح وتكسى العارى ، وتطعم الجائع ، وتأوى الهائم على وجهه فى الطرقات ، فماذا لو فعلت كل هذا ومثله ، رابطا إياه بالدافع الدينى الذى هو السمة الأساسية ، والعمود الفقرى للثقافة المصرية ولجماعة المصريين منذ آلاف السنين ، وقبل أن نعرف الأديان السماوية ، رغم أنف مثقفى التلفزيون المصرى من كتيبة السلطة ، أو جماعة المنتفعين بالسلطة !ومع ذلك ، فالحكومة المصرية ما زالت لا تؤمن إلا :بالهراوات والمدافع الرشاشة والزنازين والمعتقلات والسيارات المصفحة ، وأن " الأمن المركزى " هو " طليعة " الإصلاح ، وأن أمن الدولة هو " مخ النهوض الحضارى " ،وأن الكلاب البوليسية أكثر فعالية من تعاليم الأنبياء ودعوات المفكرين ، وأن " التنصت " على الناس هو ترياق الأمراض الاجتماعية الشافى 000وهيهات 00هيهات ، يمكن لكل هذا أن يقتل فكرة أو يغتال قضية 000أى طفل يمكن له أن يقرأ آلافا من صفحات التاريخ ، فى كل البلدان ، وفى كل العهود ، جميعها تؤكد بما لا يدع مجالا للشك ، أن محاربة الفكر لا تكون إلا بفكر آخر يثبت أنه أكثر منطقية ووجاهة وفعالية ونفعا للناس 0وهذه جماعة الإخوان نفسها 000منذ عام 1948 ، وهى تتعرض لضربات لم يتعرض لمثلها أحد ، ولا تزيد سنوات السماح لهم بالعمل طوال 58 عاما عن عقد من الزمان ، وما زالت مستمرة ، بل وتزداد قوة باستمرار ، بل وتنشر فى كثير من الدول العربية 0ولا أظن أن هناك ما هو أغبى من هذا الوصف الذى يتصدر أجهزة الإعلام الحكومية ، ويردده كتيبة المنتفعين بالسلطة ألا وهو " الجماعة المحظورة " 000ماذا تقول عن إنسان يتصور أنه يمكن أن يصد أشعة الشمس بكفيه ؟ ثمانية وثمانين نائبا انتزعوا العضوية بعد صراع شرس ، وكان يمكن لهذا العدد أن يتضاعف لولا الحملة الوحشية للسلطة على الناس والمقار الانتخابية ، أى أن مئات الألوف من المصريين قد أعطوا للجماعة أصواتهم ، ومع ذلك يقولون " الجماعة المحظورة " !وعلى فضائيات كثيرة ، وعبر مانشتات ضخمة متعددة ، نقرأ تصريحا تنسب لمن يسمى " بمرشد الجماعة " ، ونائب أول مرشد الجماعة ، وفلان عضو مكتب الإرشاد 000وهكذا ، ومع ذلك يقولون ( الجماعة المحظورة ) !أرأيت غباء أكثر من هذا ؟ وفى الوقت نفسه يتحدثون عن أحزاب قائمة ، وتمنح الدولة لها الأموال بعشرات الألوف ، وتصدر عنها صحف ، لكن : ابحث عن أى منها بين الناس فى الشوارع ، خارج المقار ، وبعيدا عن منتديات المثقفين والغرف المغلقة 000لن تجد لأى منها وجودا 000لكن هذه الكيانات الشبحية ، هى التى تعترف بها الدولة ، وهى التى يحق لها أن تقدم مرشحين للبرلمان ، ولرئاسة الدولة !قل بربك : بماذا تسمى هذا ؟ لقد زرعت السلطة فى مواقع الإعلام الكبيرة من يرددون ما تريد فيرددوا كلاما أكاد أقسم أن أحدا لا يقرأه أو يسمعه ويشاهده ويعيره أهمية ، فهم يتعيشون على ما يتساقط من مائدة السلطة ، والمصيبة الكبرى أن الدولة عندما ترى حولها " زخما " من مثل كتابات وأقوال وتصريحات هذه الكتيبة ، تتصور أن هذا هو ما يعبر عنه الرأى العام فتقع فى وهم التصديق ، وتغم عليها الرؤية ، فترى الباطل حقا والحق باطلا ، وتنسى أن تراجع نفسها متسائلة : ماذا تتوقع من هذا أو ذاك وهى التى أجلسته على كرسيه ، وهى التى تغدق عليه الأموال ، إلا أن يردد ما تحب أن تسمع ، لا ما يجب أن تسمع !ها هنا ندعو الدولة أن تُشغّل جزءا من عقولها ، وتبصر الطريق الحقيقى لمواجهة الإخوان المسلمين : بالسماح لهم بعرض ما يفكرون فيه ، ومناظرتهم بآخرين يناقشون ما يقولون ، وحتى يكون لمن يتصدون لمناقشة الإخوان فى أفكارهم الحجة القوية والمنطق المناسب ، لابد ألا يكونوا من كتيبة المنتفعين ، فهؤلاء هم الذين يساعدون على انتشار أفكار الإخوان ، وهم الذين يثيرون اشمئزاز الناس ، فيتعاطفون مع الإخوان 0انزلوا إلى الشارع ، وفتشوا عن أوجاع الناس ، ولن تتعبوا كثيرا فى البحث عنها ، فهى صارخة أمام الأبصار فى كل أين وآن ، وقدموا الخدمات والأنشطة التى تعين الناس على مواجهة ما هم فيه من هم وكرب 00لكن هل هذا الأمر الذى يتصل بتقديم الخدمات والأنشطة ، ممكن حقا ؟ للأسف 00كلا ، لماذا ؟ هنا تتعرى سوأة النظام السياسى فى مصر ، إذ ستكتشف أنه من المستحيل الفصل بين ما يسمى بالحزب الوطنى وبين الحكومة ، فالحكومة هى الحزب ، والحزب هو الحكومة !

No comments: