Tuesday, January 09, 2007

حين تغدو الأصولية فزاعة كل عام

فهمي هويدي


كلما عثرت بغلة امتطاها رجل ملتح في أي بلد كان، هلل نفر من المحللين صائحين: انتكس المشروع الاصولي وفقد قوة الدفع. وليس في هذا الكلام أية مبالغة، لأننا شهدنا في العقدين الاخيرين نماذج لأولئك المحللين الذين ظل شاغلهم الوحيد هو تصيد الشواهد والحيثيات التي تؤكد على فشل وسوء عاقبة المشروع الأصولي، حتى في الساحات التي لا يوجد بها مثل هذا المشروع. لا تسألني عن دوافعهم الى ذلك، فمنهم هواة، يحللون الظواهر تبعا لأهوائهم وأمنياتهم، وليس انطلاقا من معطيات الواقع، ومنهم الكارهون الذين لم يتمنوا ان تقوم لذلك المشروع قائمة يوما ما، واعتبروا دائما أن ظهور ما يسمون بالأصوليين وأشباههم نذير شؤم ومقدمة لكارثة محققة. ومنهم الأبواق الذين يفصلون المواقف استجابة لحسابات ومصالح معينة، لأطراف في خصومة دائمة مع تلك الفئة من الناس.
سواء انطلق هؤلاء المحللون من قراءاتهم وضغائنهم الشخصية، او انهم ركبوا الموجة اثناء سنوات الصدام بين الجماعات الإسلامية وبين بعض الانظمة، أو أنهم انخرطوا في الحملة الأمريكية التي أعقبت أحداث سبتمبر/ أيلول 2001، وتطوعوا او جندوا لصالح ما اطلق عليه الحملة العالمية ضد الإرهاب، فالشاهد ان تلك الاصوات تعددت في الساحة الاعلامية، واصبح لأصحابها حضور لا يكف عن التبشير في كل مناسبة بفشل الأصولية وأفول نجمها، منتقيا حوادث معينة، حقيقية أو وهمية، توظف لتسويغ وتبرير الحكم المعد سلفا، ليس ذلك فحسب، وانما لجأ هؤلاء الى الافتعال والتدليس حين اعتبروا كل من أطلق لحيته او تحدث عن هويته الاسلامية، او ذكر الله في اي باب، جزءا من المشروع الأصولي، وأوهموا الرأي العام بأن الأصولية ليست سوى وحشاً كبيراً هائل الجسم، ومتعدد الأذرع والأطراف، التي تتحرك في مختلف أنحاء العالم، ليس بطريقة عفوية، وانما من خلال عملية منسقة وتنظيم محكم، وهو ما يسرب إلى الإدراك العام وهما موحيا بأن كل المسلمين المتدينين الناشطين في انحاء العالم يجمعهم تنظيم القاعدة الارهابي، وما أدراك ما هو!
أدري أننا بصدد «متاهة» لها أول وليس لها آخر، ذلك انك اذا سألت من يكون الاصولي، فستجد من يقول لك انه كل من قال لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله والتزم بتعاليم دينه، وستجد من يعرفه بانه كل من آثر ان يتشدد على نفسه وعلى غيره، وستجد من يقول لك انه من لم يتطرف في فكره فحسب، وانما ذهب الى حد حمل السلاح وإشهاره في وجه من حوله، ساعياً الى احداث التغيير الذي ينشده بالقوة، ولن تعدم أناسا يفضلون الإبقاء على المصطلح غامضا وفضفاضا، ليتسنى اطلاقه على كل احد، و«تلبيسه» التهمة، الى ان يثبت هو براءته من كل ذلك، وهو ما ألمح إليه احد الباحثين الايرلنديين الساخرين في ندوة شهدتها ذات مرة في لندن، حيث قال إن أسهل تعريف للأصولي في الخطاب الغربي هو انه الشخص الذي لا تعجبنا مواقفه او أفكاره، او حتى هيئته!
هذا التفاوت في تعريف الاصولي يتكرر في حالة التساؤل عن حكاية المشروع الأصولي، وهل هو مشروع واحد، ام ان له تجليات متعددة، وهل لابد ان يكون الاصولي جزءا من مشروع، وما هي طبيعة ذلك «المشروع» الذي تلوكه الألسن، وتحول إلى فزاعة يلوح بها لتخويف الناس وإرعابهم.
هذه المقدمة التي طالت، هي من أصداء شعور بالدهشة والاستفزاز حين قرأت على هذه الصفحة في مثل هذا اليوم من الاسبوع الماضي، استعراضا لأبرز أحداث عام 2006 وأهم مؤشرات العام الجديد، وكان محور ذلك التقييم ان السنة التي مرت كانت سنة الهجوم الأصولي المضاد، وان العام الجديد يمثل بداية الضربة للهجمة الأصولية، وهو ما يدل عليه الحاصل في الصومال الذي يوحي بان المد الأصولي فقد قوة الدفع، ونتائج معركة الصومال ـ التي حسمت على النحو الذي يعرفه الجميع ـ ستؤثر على مصير المعركة الفاصلة والحرب الكبرى التي يخوضها العالم ضد الاصولية، الامر الذي سيؤثر على مسار المعارك الدائرة في ساحات عدة، من بغداد وكابول، الى غزة وبيروت وطهران، وصولا الى القاهرة.. هكذا قيل على الاقل.
هذا التقييم المدهش لم ير في أحداث عام 2006 ولا عام 2007 إلا مسألة «الأصولية» وخطرها «الداهم»، وسرب لنا في السياق الادعاء بأن الحرب ضد الأصولية هي الكبرى التي يخوضها العالم، وليس الولايات المتحدة ومن لف لفها، الى هذا الحد وصل التبسيط والتغليط، الذي يزدري بعقل القارئ ويفترض فيه الغباء وفقدان الذاكرة.
أسقط التقييم عامدا فكرة انهيار المشروع الامريكي التي أثبتتها أحداث عام 2006، والتي دفعت بعضا من كبار الباحثين الامريكيين الى الإقرار بانتهاء الحقبة الامريكية في الشرق الاوسط، ولم يشر بكلمة الى انهيار قوة الردع الاسرائيلية التي كشف عنها العدوان على لبنان في الصيف الماضي، وهو ما أقر به المحللون الاسرائيليون والغربيون وكان له صداه في دوائر صنع القرار الامريكية ذاتها. كما لم يشر بكلمة الى فضيحة حصار الشعب الفلسطيني والتواطؤ الدولي على تجويعه، عقابا له على انه انتخب حكومة حماس في لحظة ديمقراطية نادرة في المنطقة.
لم ير في ذلك التصويت لصالح حركة حماس انحيازا لبرنامج المقاومة، وبطبيعة الحال فانه لم ير في مقاومة حزب الله للاجتياح الاسرائيلي ما يستحق الذكر، ولا في ثبات المقاومة العراقية الباسلة للاحتلال الامريكي ما يستوجب الاشارة.
لأن العرض ظل مهجوسا طول الوقت بمسألة الاصولية والحرب الامريكية العالمية فلم يلحظ شيئا من كل ذلك. وفي حين بدت الأعين مغمضة عن هذه الملابسات، فانها لم تر سوى شيء واحد ميز العام، هو ما أسماه بالهجوم الأصولي المضاد، وفي هذا الاختزال المخل، فشلت الأعين في رصد ضيق الشعوب بالهجوم الأمريكي والإسرائيلي الذي امتهن كرامة الأمة وأثار غضب أغلب شرائحها، وليس الاصوليين وحدهم، وهو ما تجلى في حالتي العدوان على لبنان والحصار الذي حاول تجويع واذلال الشعب الفلسطيني. حالة الصومال التي اعتبرت مدخلا الى عام 2007، ومقدمة لما سمي في العرض بانه بداية ضرب الهجمة الاصولية، نموذج يكشف موقف التبسيط والتغليط في التحليل، المقترن بافتراض جهل القارئ وغبائه اذ لم تعرف الصومال في تاريخها حركة اسلامية ذات وزن سياسي. وليس صحيحا على الاطلاق ان ما كان في الصومال حالة يمكن ان توصف حقا بأنها مشروع أصولي. وإذا كانت المحاكم «الشرعية» هي التي تصدت للأمر، في اطار تجمع اطلق عليه الاتحاد الاسلامي واذا كان اغلب قادة المحاكم والاتحاد قد اطلقوا لحاهم وصبغوها بالحناء، فليس في هذه القرائن ما يدل أن للمشروع الأصولي قدما هناك، رغم ان الأبواق الاعلامية ما برحت تروج لذلك الادعاء ـ حتى زعمت أن في الصومال أربعة آلاف من «المجاهدين» الذين قدموا من أنحاء العالم الإسلامي بما في ذلك بلاد الشيشان، وادعت ان جماعات من الصوماليين تدربت في معسكرات حزب الله في لبنان ـ والذى يعرفه كل متابع للشأن الصومالي ان مشروع المحاكم الشرعية هو في الاساس مشروع القبائل التي ضاقت ذرعا بصراعات أمراء الحرب، بالتعاون مع طبقة التجار الذين وجدوا ان اقتصاد البلد قد دمر وان مصالحهم ضيعت بالكامل، صحيح ان قادة المحاكم فرضوا على الناس بعض القيود التي كانت قريبة مما طبقته حركة طالبان في افغانستان، الا ان تلك القيود كانت تعبيرا عن الالتزام بالتقاليد السائدة، كما هو الحاصل في بعض ولايات نيجيريا مثلا، بأكثر منها التزاما بمشروع واضح المعالم والاهداف.
إن الذين يتحدثون عن تجربة المحاكم الشرعية لا يذكرون انها برزت ردا على التحدي الذي ظهر في بداية عام 2006، حين شكل الامريكيون وقتذاك تجمعا باسم «تحالف مكافحة الارهاب»، الذي ضم عشرة من أمراء الحرب، ذوي الصلات المعروفة بالامريكيين والاسرائيليين، وأغلبهم كانوا يقيمون ويتمركزون في اثيوبيا، في تلك الاثناء استنفرت قبائل المنطقة الجنوبية وتعاون شيوخها مع التجار الذين توافقوا على تقدم المحاكم الاسلامية بالتصدى للهجوم الجديد، وقد نجحت فى ذلك، حتى سيطرت على العاصمة مقديشيو في شهر يونيو من العام الماضي، وحققت السلام والاستقرار في الوسط ومعظم مناطق الجنوب لأول مرة منذ بداية التسعينات، وهو ما لم يرض الحكومة التي رعتها أثيوبيا وكينيا، وتكفلت حكومة اديس ابابا بحمايتها في معقلها الشمالي بمدينة بيداوا. وحين بدا ان المحاكم الاسلامية تتقدم صوب بيداوا لتسيطر عليها، فان اثيوبيا دفعت بجيشها وطيرانها لضرب قوات المحاكم وقصف مطار مقديشيو، الامر الذى احدث انقلابا فى ميزان القوة، أسفر عن هزيمة قوات المحاكم، وتراجعها الى مواقعها في الجنوب واحتمائها بالغابات الموازية للحدود الكينية..
إن ما سمي في استعراض احداث عام 2006 بانه بداية الضرب للهجمة الاصولية كان في حقيقته كما يلى: اجتياح اثيوبي مدعوم بالكامل من جانب الولايات المتحدة واسرائيل (التى كانت طرفا حاضرا في اغلب مساعي المصالحة في الصومال) ـ وهذا الاجتياح أدى الى احتلال دولة هي عضو في جامعة الدول العربية منذ اكثر من ثلاثين عاما (انضمت عام 1974)، ولم يحرك شيئا في العالم العربي، بل ان العكس هو الصحيح، لان الرئيس حسني مبارك صرح عقب اسقاط نظام المحاكم بان مصر ـ الدولة العربية الكبرى ـ «تتفهم» دواعي التدخل الاثيوبي في الصومال.
لقد اصبح كل شيء مستباحا ومقبولا طالما ان الهدف هو ضرب المشروع الأصولي، حتى وان أدى ذلك إلى احتلال بلد عربي وانتهاك عرضه السياسي بتحويله الى لقمة سائغة للاثيوبيين والامريكيين والاسرائيليين .. هل لنا بعد ذلك أن نطمئن أو نتفاءل بما سيأتى به العام الجديد؟!.

No comments: