Tuesday, January 16, 2007

البوابة الحديدية للجامعة


د. حسن حنفى

للحياة رموز. وللأشياء معان. وللحركات الشعبية دلالات. وهذا بالضبط ما يحدث فى جامعة القاهرة فى السنوات الأخيرة. يقع حدث يمس الحياة الوطنية العدوان الأمريكى على العراق العدوان الإسرائيلى على فلسطين تزوير الانتخابات الطلابية فيجهر الطلبة بأصواتهم ويقومون بمظاهرات داخل أسوار الجامعة، ويدورون بين الكليات لتجميع باقى الطلاب. فإذا ضاق بهم المكان وارتفعت الأصوات وبلغت القلوب الحناجر، واشتد الحصار حولهم من أجهزة الأمن العلنية والسرية وغُلّقت الأبواب، اندفع الطلبة نحو الباب الحديدى، وكسروا القيد حوله ليخرجوا إلى الميدان أمام الجامعة وفى وسطه النصب التذكارى للشهداء، وحوله الأمن المركزى بلباسه الأسود وخوذاته الحديدية وبأيديه العصى جاهزا للضرب فوق الرءوس والأبدان. فممنوع الخروج خارج الجامعة. ولو كسرت سلسلة البوابة الحديدية فلبضعة أمتار حتى لا يلحق الطلاب برموز التبعية والاستسلام السفارة الإسرائيلية بجوار كوبرى الجامعة والسفارة الأمريكية بميدان التحرير. وقد ضرب حولهما الحصار المسلح من قوات الأمن موجهة الرصاص على المواطنين إذا ما تجمهروا أمامهما، ومنعا للطلاب من الوصول إلى المدينة الجامعية أو الالتحام بفقراء بين السرايات أو بميدان الجيزة. فالطلاب ممنوعون من الالتحام بالشعب وهم نخبته المثقفة، و قلبه النابض، وضميره اليقظ، والمؤشر على حركته الوطنية. هذه الجامعة ابنة ثورة 1919 تأسست جامعة وطنية عام 1925 بأرض تبرعت بها إحدى سيدات العائلة المالكة وباكتتاب عام من باشوات مصر الوطنيين بعد أن كانت جامعة خاصة منذ 1908 بداية بمدرسة الحقوق، وكان اسمها فى ذلك الوقت مدرسة الحقوق الفرنسية لاعتمادها على الفرنسيين الذين كانوا يساعدون الحركة الوطنية المصرية ضد الاحتلال البريطانى حتى الاتفاق الودى بين فرنسا وبريطانيا عام 1904 كما تبرعت العائلة المالكة بأرض حديقة الحيوان وحديقة الأورمان أمام الجامعة. وقامت الجامعة بدورها الوطنى خاصة فى الأربعينيات، وتكوين لجنة الطلبة والعمال فى 1946 وفتح على طلبتها كوبرى عباس الشهير نفس العام. وخُلد شهداؤها بالنصب التذكارى أمام الجامعة وفى نهاية الشارع وضع تمثال نهضة مصر بعد نقله من ميدان محطة مصر ميدان السكة الحديد كما نقل تمثال رمسيس الثانى فيما بعد بعيدا عنه. وسفارة إسرائيل تطل عليه من الأدوار العليا فى العمارة الثالثة من على يسار كوبرى الجامعة، وعلمها يرفرف فى سماء مصر. وطبقها للاتصالات ثابت فوق سطحها. وداخل الجامعة مبنى دار الضيافة بالمعونة الأمريكية، ومبنى آخر للجودة وإصلاح التعليم من أجل السوق بتوجه من لجنة السياسات للحزب الحاكم من أجل إرساء قواعد جديدة للتعليم الجامعى. يركز على تعلم اللغات والتعامل مع الحاسبات الآلية لاحتياج الشركات، وجعل بكالوريوس الاقتصاد والعلوم السياسية بالإنجليزية والفرنسية وليسانس الحقوق بالفرنسية بجوار العربية كما كان الحال فى الجامعات الجزائرية فى عصر الاستعمار. نشأت الجامعة المصرية إذن تحمل هموم الفكر والوطن، العلم والسياسة، الثقافة والوطن. واستمرت فيها المظاهرات الطلابية التى يؤرخ بها للحركة الوطنية المصرية، لا فرق بين مشرفة ونظيف من كلية العلوم وعبد الحكيم الجراحى من شهداء الحركة الوطنية المصرية. وقد جمع طه حسين وأحمد أمين وأمين الخولى ولويس عوض وعبد العظيم أنيس بين العلم والوطن، بين البحث العلمى الحر والليبرالية السياسية. وعصفت بها بين الحين والآخر النظم السياسية مثل ما حدث من تطهير فيها للخصوم السياسيين فى مارس 1954 وفى سبتمبر 1981 وعمتها المظاهرات فى الأزمات السياسية الكبرى وفى أوقات الهزائم مثل المظاهرات ضد حكم العسكر، وضرورة العودة إلى الديمقراطية فى أزمة مارس 1954، والمظاهرات ضد أحكام الطيران فى 1968، ومظاهرات ميدان التحرير فى 1971 والسؤال عن عام المعركة الذى طال. ثم التحم الطلاب بالهبة الشعبية فى يناير 1977 احتجاجا على ارتفاع الأسعار، وبالمعارضة السياسية الرئيسية فى البلاد ضد معاهدة كامب ديفيد فى 1978 واتفاقية السلام فى 1979 والتى كلفت زعماء المعارضة من أساتذة وصحفيين وسياسيين وقادة روحيين الفصل خارج وظائفهم بقرار جمهورى يعترف فى ديباجته بخرق قانون العاملين فى الدولة. وهو ما دفع رئيس الجمهورية الثانية حياته بسببه. واستمرت المظاهرات الطلابية ضد الغزو الأمريكى للعراق فى 1991، ثم فى ضربه بعد ذلك فى 1998، ثم فى احتلاله عام 2003 وقامت أيضا ضد الاحتلال الصهيونى لكل فلسطين، دعما للمقاومة. واندلعت المظاهرات أخيرا ضد تزييف انتخابات الاتحادات الطلابية، وشطب أسماء المرشحين من الحركة الإسلامية، وتكوين اتحادات حرة موازية. ومهما استعملت الحركة الطلابية بفصيليها الرئيسيين بعضها ضد البعض الآخر، تصفية الحركة الإسلامية بأيدى اليساريين أو تصفية اليساريين بأيدى الجماعة الإسلامية، ظلت الحركة الطلابية فى مجموعها حركة وطنية ومؤشرا على الأزمات السياسية الكبرى التى تمر بها البلاد.والقضية هى البوابة الحديدية للجامعة المقيدة بالسلاسل والأقفال وكأن الأمن الجامعى داخل الأسوار، والأمن المركزى خارجه لا يكفيان. إذا اشتدت المظاهرات وعلت الأصوات هز الطلبة البوابة رمز القهر الجامعى والاستبداد السياسى وتعلقوا بها، وعلوا قمتها، وهزتها الأيدى حتى تنكسر. ثم يندفع الطلاب خارجها. فيواجهون بخط الدفاع الثانى من الأمن المركزى جنودا وعربات تحيط بالميدان، وفى وسطه النصب التذكارى للشهداء. فيقف الطلبة حوله يهتفون بالشعارات الوطنية، ويخطبون فى زملائهم. فهل للجامعة أسوار؟ وهل تغلق البوابة الحديدية بالسلاسل والأقفال حماية للنظام؟ أليست الجامعة ضد الأسوار والقيود والسلاسل. وظيفتها هدم الأسوار؟ ألم ينهدم سور برلين؟ أليس جدار الفصل العنصرى بين الضفة وفلسطين 1948 فى طريقه إلى الزوال؟ وكلما كسر الطلبة البوابة الحديدية يُعاد إصلاحها وتقويتها وإعادة لحمها بالحجر. وهل يمنع ذلك الحركة الطلابية من معاودة كسر الرمز حتى تفتح الأسوار، ويسقط الستار الحديدى، ويفك القيد؟ وهم يتعلمون فى المدارس منذ نعومة الأظفار أشعار أبى القاسم الشابى: إذا الشعب يوما أراد الحياة .. فلابد أن يستجيب القدر ولابد لليل أن ينجلى.. ولابد للقيد أن ينكسر إن مهمة الجامعة ليست غلق الأبواب بل فتحها، وليس حبس الطلاب داخل الأسوار بل إطلاق حرياتهم خارجها. فالطلبة أبناء الشعب. وإذا كان السور علامة، والبوابة رمزا، فإن مهمة الجامعة هدم أسوار الأذهان، وفتح بوابات العقول، وتنوير القلوب. قوة الطلاب أقوى من الصلب. والأمن المركزى لا يحيط بالنصب التذكارى للشهداء، ولا يمنع من الوصول إلى تمثال نهضة مصر، ولا إلى سفارة إسرائيل أمامه. ومن ثم كان شعار لا سياسة فى الجامعة ولا جامعة فى السياسة خارج تاريخها الذى جمع بين العلم والوطن. لقد خلقت الجامعات الألمانية الوحدة الألمانية. وأسس الأساتذة الألمان الثقافة الوطنية التى عليها قامت الوحدة. لم يخوّنهم أحد. وكانت إدارة الجامعة من كبار المفكرين والفلاسفة كما كانت الجامعة المصرية فى أول عهدها برئاسة أحمد لطفى لجامعة القاهرة، وعمادة طه حسين لكلية الآداب، ومصطفى مشرفة لكلية العلوم فى الوقت الذى كانت مصر تبنى وطنا لا تهدمه. إن جمال جامعة القاهرة وطرازها المعمارى من عصر النهضة كان مقصودا. فالجامعة عماد النهضة. واليوم اختنق المرور أمام الجامعة بعد انسداد شوارعها وحصار أرصفتها خوفا من العربات المفخخة. وأصبح المرور من كلية الفنون التطبيقية حتى بين السرايات حى الطلاب، السكن والكتب والطباعة، عذابا يوميا يضيع فيه الوقت فتختنق فيه الأنفاس. فما المانع من إقامة نفق أرضى يربط بين الجامعة والمكتبات على الرصيف المقابل لانتقال الطلاب دون المخاطرة بحياتهم أمام وسائل النقل العامة والخاصة. كما تحول رصيف الجامعة الموازى لحديقة الأورمان أمام الجامعة إلى مقلب وعربات للزبالة. وكلها رموز وعلامات على حال الجامعة الآن. وما المانع أن تتحول حديقة الأورمان المغلقة وقاية للأخلاق من رعونات الشباب إلى ساحة حرة للتعبير عن الرأى مثل هايد بارك فى لندن إن كان ميدان عابدين أمام القصر محرما على الشعب من التظاهر أمامه؟ وفى المساء وفى شارع الجامعة وعلى الخضرة فى وسطها تقوم فرق الغناء والضرب بالدفوف للاحتفال بالأعراس. وداخل الأسوار فى المساء يلعب بعض الطلبة الكرة الشراب فى أروقة الجامعة بين المبانى مثل أطفال الشوارع. ولا يقلق ذلك أمنا ولا يثير غضب إدارة. فهذا عصر جديد وذاك عصر قديم، وسبحان من له الدوام!

No comments: