في لـزوم وضــع الحصــان أمــام العربــة بقلم: فهمـي هـويـــدي
إذا ضمنت لي بيئة سياسية مماثلة لتلك التي توفرت في فرنسا, فإنني أبصم لك بأصابعي العشرة علي تأيد محاكاتها في اطلاق انتخاب رئيس الجمهورية, دون تحديد فترة زمنية لولايته. أما قبل ذلك فاسمح لي أن أعبر عن الخوف والقلق, لأن الإطلاق في هذه الحالة يغدو مغامرة ترجح فيها الندامة علي احتمالات السلامة.
(1)
الرئيس جاك شيراك يفكر في الترشيح لولاية ثالثة. الخبر ليس مؤكدا, لكنه عادي في فرنسا, لأنه إذا صح فلن يعني أكثر من أنه سيدخل حلبة السباق مع منافسين أقوياء قادرين علي مناطحته وربما هزيمته. ولا قلق من هذه الناحية, ليس فقط لأن نزاهة الانتخابات لا شك فيها, ولا لأن في البلد احزابا قوية لها مرشحون بوسعهم تحدي الرئيس وتوفير اكثر من بديل له. ولكن أيضا لأن في فرنسا مجتمعا بدرجة عالية من الثقة والعافية, التي توفرت بالتراكم في مناخ من الحرية لا سقف له. مجتمع مستنفر علي الدوام, يشهر الغضب ولا يبلعه أو يختزنه, وفي كل مناسبة للاحتجاج مستحقة, فإن ملايينه تنزل إلي الشارع, ولا تردد في شل حركته, كأن الجميع واقفون علي الأبواب طول الوقت ينتظرون لحظة الاشارة. وهم واثقون في قدرتهم علي الضغط علي الحكومة واجبارها علي احترام رغبتهم والامتثال لأمرهم.في الطبع الفرنسي أن هذا البلد لا يستطيع أن يعيش بغير أمرين, الفلسفة والثورة. الفلسفة تحتل حيزا كبيرا من عقل المثقفين, والثورة هي ديدن الجماهير وعنوان الشارع. حتي أننا لا نبالغ اذا قلنا انها بلد الاضرابات بامتياز. هكذا تحدث عنها أميل زولا عقلها الكبير. وقد أصبحت تلك الاضرابات محفورة ليس فقط في تاريخ البلد, وإنما ايضا علي وجه العاصمة حتي صارت جزءا من قسماتها, وهو ما تدل عليه الساحة المواجهة لقصر بلدية باريس المنيف التي اسمها الحقيقي ميدان الاضراب(Placedegreve).أرأيت الذي جري في شهر ابريل من العام الماضي(2006) حين قررت الحكومة اصدار قانون جديد للعمل, أيدته الجمعية الوطنية, ولكن المجتمع رفضه وقاومه, واصر علي الغائه, فخرج إلي الشارع ثلاثة ملايين شخص في مائة مدينة فرنسية بينهم طلاب40 جامعة احتجاجا علي ذلك القانون. بل أن هيئة السكك الحديدية خفضت اسعار تذاكر السفر, لكي تتيح للجماهير في كل مكان أن تتوافد علي العاصمة وتشترك في التظاهر ضد الحكومة. وقد تحقق لهم ما ارادوا في نهاية المطاف.هذه صفحة واحدة من سفر ضخم يسجل حيوية المجتمع الفرنسي وعافيته, الذي اطاح بشارل ديجول محرر فرنسا من الاحتلال النازي, ودفعه إلي الاستقالة من منصبه عام69. بعد ما رفضت الجماهير التعديلات الدستورية التي اقترحها, وهزت اركان نظامه ثورة الطلبة الشهيرة التي وقعت عام68. وهو ذاته المجتمع الذي خرج في مظاهرات استمرت40 يوما معلنا رفضه للتعديلات التي ادخلها علي قانون الضرائب رئيس الوزراء آلان جوبيه, ثم اسقطه بعد ذلك في انتخابات عام97. هو ايضا الذي رفض توسلات رئيس الجمهورية جاك شيراك للموافقة علي دستور الاتحاد الأوروبي, وهزم حزب الرئيس في الانتخابات المحلية والاقليمية, وتفجرت فيه ثورة الضواحي علي الاهمال والتهميش( في عام2005) مما ادي إلي احراق حوالي عشرةآلاف سيارة. ولم تهدأ الثورة إلا حين اعترف شيراك وحكومته بالتقصير في حق أولئك السكان, ووعدت الحكومة باتخاذ خطوات عملية لعلاج تقصيرها.
(2)
الآن نعرف أن شعبية الرئيس شيراك تراجعت أخيرا بنسبة2%, ووصلت إلي36% فقط. ونعرف أن55% من جماهير الشعب الفرنسي تعتبره رئيسا جيدا ومع ذلك فإن أغلبهم يرفضون ترشيحه للرئاسة المقبلة( الانتخابات تجري في ابريل2007) ـ ونعرف أن39% من الناس يعتبرونه رئيسا سيئا, وأن49% يرغبون في اقالة رئيس وزرائه دوفيلبان من منصبه.نعرف أيضا أنه حين دفع نقدا قيمة تذاكر السفر ليقضي عطلته مع أسرته قبل عامين, فإن محققا سأله من اين له هذه الأموال السائلة, لأن القانون في محاربته لمحاولات غسيل الأموال يشترط أن يتم الدفع ببطاقات الائتمان عند حدود معينة.اكثر من ذلك, فإن الجميع يعرفون تفاصيل الحالة المالية للرئيس, أملاكه ورصيده في البنك هو وزوجته, وقيمة الضرائب التي يدفعها. وهو البيان الذي نشرته الصحف الفرنسية, وسبق أن اشرت إليه في مقام آخر. ومنه عرفنا أن قيمة ثروته لا يتجاوز1.6 مليون دولار. إذ لديه شقة في باريس مساحتها114 مترا مربعا, تملكها في عام82, وقدرت قيمتها بـ400 ألف دولار. وقصر في ساران بوسط فرنسا اشتراه عام69, وقدر ثمنه بمبلغ240 ألف دولار. ومنزل ريفي في لوريز ورثته زوجته عام73 ـ ثمنه الآن نحو80 ألف دولار. وهو وزوجته يملكان قطع اثاث وتحفا فنية قدرت شركات التأمين قيمتها بما يعادل150 ألف دولار. أما رصيد الرئيس في البنك فهو69 ألف دولار, ولزوجته رصيدها الخاص بقيمة37 ألف دولار. وآخر مبلغ دفعه الرئيس للضرائب عن تلك الثروة هو2741 دولارا.ان مجتمعا بهذه القوة, يتعامل مع الحرية والشفافية بحسبانها خبزا يوميا وحقا اصيلا, لا يخشي عليه من تغول السلطة ولا يقلقه عدم تحديد المدة التي يقضيها في منصبه صاحب الاليزيه. لأن ثقته شديدة في أنه يستطيع أن يقصيه عن موقعه وقتما شاء. ولديه من الخبرة والثقة ومن الوسائل ما يمكنه من تحقيق مراده. وكانت النتيجة أنه من الناحية العملية لم يستطع أي رئيس فرنسي في تاريخ البلاد الحديث أن يتجاوز المدتين.
((3
البعض يدق الاجراس في مصر الآن منبها إلي أن القانون ليس معزولا عن التاريخ, ومحذرا من استنساخ النصوص القانونية وزرعها في غير المجتمعات التي صاغتها.وللدكتور حسام عيسي, استاذ القانون بجامعة عين شمس بحث نشر في صحيفة العربي مؤخرا( عدد1/7) كرسه لمعالجة هذه النقطة, وهو ينطلق من تخطئة اختزال أزمة الواقع المصري في الجانب القانوني, ومن ثم محاولة التصدي لتلك الأزمة من خلال التعديل الدستوري. ويخلص إلي التحذير من الوقوع في ذلك الشرك.في رأيه أن فاعلية القانون لاتعتمد فقط علي ماتتمتع به قواعده من تناسق داخلي ودقة في الصياغة, وانما هي نتاج لتفاعل البيئة القانونية مع البنية الاجتماعية, وهو ما يفسر لنا ان نفس القاعدة القانونية اذا ادمجت في بني اجتماعية مختلفة, فانها تؤدي بالضرورة وظائف اجتماعية مختلفة, كما تنتج تلقائيا أثارا اجتماعية مغايرة. ضرب ذلك مثلا من تاريخ القانون المصري الحديث, حين تم الاصلاح التشريعي والقضائي في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر, وبمقتضاه حلت المحاكم المختلطة محل المحاكم القنصلية التي اقامتها الدول صاحبة الامتيازات الاجنبية السائدة في البلاد.هذه الخطوة جاءت نتيجة لجهود مشتركة من قبل الدولا المصرية وممثل رأس المال الاجنبي المهيمن علي الاقتصاد المصري, وعلي رأسهم فرديناند ديليسبس, والتقنيات التي استحدثت في تلك الفترة كانت استنساخا حرفيا للتقنيات الفرنسية التي وضعها نابليون بونابرت في بداية القرن التاسع عشر في فرنسا, وجسدت وقتذاك اعلي صور العقلانية القانونية, كما كانت الاداة القانونية للرأسمالية الفرنسية في بناء قوتها الاقتصادية الهائلة. إلا أن ذلك الأثر لم يتحقق في مصر. لأن التقنيات الجديدة حين ادمجت في البنية الاجتماعية المصرية.فلم تحقق نفس النتيجة التي شهدتها فرنسا اذ لم تكن اداة لأية نهضة اقتصادية في مصر, وانما افرزت نتيجة معاكسة تماما, ادت إلي احكام قبضة رأس المال الاجنبي علي باقي قطاعات الاقتصاد المصري, وإلي زيادة حدة ادماج مصر في السوق الرأسمالية العالمية كوحدة تابعة.هذه الفكرة سلط عليها المستشار طارق البشري أضواء اقوي في كتابه الأخير مصر بين التفكك والعصيان, حين تحدث عن الدستور وقال انه ينظم ماهو قائم ولاينشيء وضعا جديدا, فدستور1923 حين اتاح قدرا من التداول في السلطة. فإنه لم يبتكر هذه الحالة حين نظمها, وانما كان عاكسا لواقع حاصل فعلا, لأن المجتمع كان فيه تعدد لقوي سياسية واجتماعية متبلورة في تنظيمات وتكوينات مؤسسية, ولم يكن في مقدور أي من هذه القوي ان تنفي الاخريات في الواقع السياسي والاجتماعي.بكلام آخر فان التعدد في دستور23 لم يكن معتمدا علي نصوص وردت منه, وانما كان يعتمد اساسا علي الوجود الواقعي. وهو مايعني ان مايحسم الأمر ليس النصوص الواردة في الدستور, وأنما الوجود الحقيقي والحي علي ارض الواقع, الذي يعبر عنه مصطلح البيئة السياسية, التي تنظمها النصوص وتعبر عنها.
(4)
اذا ألقيت نظرة علي خرائط الواقع السياسي في مصر فستدرك علي الفور أن ثمة خللا كبيرا في علاقة السلطة بالمجتمع, يسوغ لنا أن نقول بأن العلاقة بين الطرفين في الوزن والحجم, اقرب إلي علاقة الفيل والنملة, وربما كان مشهد الترشيح لرئاسة الجمهورية في الانتخابات الاخيرة والمقارنة بين حضور الرئيس مبارك وبين منافسيه معبرا اصدق تعبير عن توازنات تلك العلاقات.واذا استعدنا هنا الحقيقة القائلة بأن الدستور يعبر عن توازنا المجتمع وخرائطه السياسية, فإن ذلك يقودنا إلي نتيجتين من الأهمية بمكان الأولي أنه من الخطأ والخطر ان تستجلب نصا قانونيا افرزته تجربة مجتمع ما. لكي تطبقه علي مجتمع آخر, تختلف فيه التوازنات وعلاقات القومي, وهي الحقيقة التي ادركها اعضاء المجلس القوي لحقوق الانسان عند مناقشة المادة الخاص بفترة ولاية الرئيس في الدستور, فصوت24 منهم لصالح العودة إلي نظام الولايتين, في حين لم يصوت لصالح اطلاق المدد سوي عضو واحد.النتيجة الثانية انه من الخطأ والخطر الشروع في الاصلاح الدستوري بتغيير بعض المواد أو أضافة مواد أخري قبل تهيئة البيئة السياسية المواتية من خلال الاصلاح السياسي الجاد. ذلك أن المبادرة الي احداث اي تغيير للقوانين قبل تحسين البيئة لن تختلف كثيرا في منطقها عن وضع العربة امام الحصان. من ثم فليس لنا ان نطمئن إلي اصلاح دستوري حقيقي لايسبقه اطلاق الحريات العامة والغاء قانون الطواريء وتأكيد استقلال القضاء وضمان نزاهة الانتخابات... إلي غير ذلك من الشروط الضرورية لاستعادة عافية المجتمع واستطالة قامته وجريان دماء الحيوية السياسية في شرايينه, وهي ذاتها الشروط التي ترد للمجتع اعتباره, وتوفر له البدائل والخيارات السياسية المختلفة, وتمكنه من التعامل مع السلطة كطرف محاور لاكطرف تابع معدوم الارادة. ومالم يتحقق ذلك, فالبديل هو تأبيد السلطة وحجب فكرة التداول. إذ سنظل بإزاء صورة النملة التي تتحرك في ظلال الفيل, وسيصبح الاصلاح في هذه الحالة مجرد فرقعة في الهواء.لا تغير شيئا مماهو حاصل علي أرض الواقع.
No comments:
Post a Comment