حسين أحمد أمين
أثناء عملى فى الستينيات بالسفارة المصرية فى موسكو، خصص أسبوع للأفلام المصرية هناك، كان من بينها فيلم النظارة السوداء عن رواية لاحسان عبد القدوس، هو على ما أذكر عن علاقة موظف حكومى بسيط أحمد مظهر، بفتاة عصرية عضو بنادى الجزيرة نادية لطفى.. فأما شقة موظف الدرجة السادسة هذا، كما صورها الفيلم، فشقة رحبة من خمس غرف أو ست، بها مكتبة حافلة بالكتب تصعد ثلاث درجات إليها من صالون يحوى الى جانب الأثاث الفاخر بيانو يعزف عليه أحمد مظهر فى بعض أوقات فراغه الموزعة بين العزف والقراءة ولقاء صديقته صاحبة النظارة السوداء عند حمام السباحة فى النادى. لن أنسى قط ما ارتسم على وجوه أفراد الجمهور من الروس من امارات الوجوم والدهشة والغضب، ولا حديثهم فيما بينهم بعد انتهاء عرض الفيلم: ما هذا؟ أهذا أسلوب حياة موظف بسيط من شعب تقدم إليه حكومتنا السوفيتية المعونات والقروض من دمائنا وعرق جبيننا؟ يقطن فى مثل هذا المسكن، وغالبية الروس تسكن كل ثلاث أو أربع عائلات منها فى حجرة واحدة، يفصل بين كل عائلة وغيرها حاجز خشبى لا يرد صوتا ولا يحجب رؤية؟! فإن كان هذا هو حال الموظفين البسطاء فى هذه الأمة الفقيرة التى نساعدها، فما عساه أن يكون عليه حال الموظفين غير البسطاء؟!. بعد عرض الفيلم بعدة أيام أخبرنى أحد الدبلوماسيين العاملين بإدارة الشرق الأوسط فى وزارة الخارجية السوفيتية أن رد فعل المشاهدين الروس له كان سلبيا للغاية، وانه أثار موجة من السخط ومن التساؤلات حول شرعية تقديم معونات لمصر كان يمكن أن تنفقها الدولة على تحسين الأحوال السكنية للروس أنفسهم.. وكان أن بادرت بالكتابة بهذا المعنى الى وزارة الخارجية المصرية، مع مقارنة بين ما تعرضه الهند من أفلام فى الاتحاد السوفيتى، وكلها عن الفقر المدقع الذى يعيش الهنود فيه من أجل أن تحظى الهند بمزيد من المعونات، وبين ما نعرضه نحن من أفلام نحرص حرصا أحمق على أن تقدم صورة وردية زاهية وكاذبة عن الحياة فى مصر. واليوم، أجدنى بعد مشاهدة المسلسلات التليفزيونية والأفلام المصرية التى يتم تصويرها فى قصور منيفة، أو شقق فاخرة، تستأجر من أصحابها لتصوير حياة من يسمون رجال الأعمال، أو عائلات كعائلة الحاج متولى تاجر الأقمشة وغيره، أفكر فى الانطباعات وأحاسيس المرارة، والحقد، والعجب، والحسد، والسخط، لدى بسطاء المشاهدين المصريين متى قارنوا بين واقع حالهم التعس، وبين حال شخصيات مثل تلك المسلسلات والأفلام، والتطلعات التى يمكن أن تخلفها لدى الشباب الذى تحيطه المسلسلات علما ان كان لا يعلم بأن السبيل الى بلوغ مثل هذا الرغد فى العيش لا يعدو أن يكون الاتجار فى المخدرات، أو قبول الرشوة، أو الحياة الداعرة، وشتى أسباب الفساد الأخرى.. فهل القصد المتعمد من وراء انتاج هذه المسلسلات والأفلام هو كثرة دواعى السخط والثورة، أم أنه مجرد غباء؟ نحن نعلم ان من أجدى الوسائل الكفيلة بتحقيق صبر الانسان على ما هو فيه، واحتماله البؤس والمتاعب، أن يقارن حاله لا بحال الأقلية التى لا تعانى ما يعانيه، وإنما بحال الكثرة التى هى فى مثل حاله أو دونها.. وقديما قالت الخنساء حين فقدت أخاها صخراً فى حرب من حروب الجاهلية: ولولا كثرة الباكين حولي لفقد أحبة، لقتلت نفسي قلت إنها نصيحة معروفة. غير أن الظاهر أنها مجهولة أو متجاهلة لدى أولئك السادة من منتجى تلك الأفلام والمسلسلات، وكذا أولئك الذين يطلعون علينا اليوم فى بلدنا البائس بمجلات تتخصص فى تصوير منازل أصحاب الملايين عندنا، بحدائقها وحجراتها وحماماتها ومطابخها وأرضياتها وديكوراتها، وتقترح عليك إن كنت فى حيرة من أمرك: سبعة أشكال للغرفة المخصصة لمشاهدة التليفزيون، وكيف تحقق الخصوصية دون أن تنعزل، وأفكار مبتكرة تصلح لاستخدامها فى بيوتك الصيفية، وأربعة حلول مبتكرة لمدخل المنزل، ونماذج متعددة من الحدائق لمنازلك تختار ما يناسبك منها، وكيف تضمن ألا يكون حمام السباحة فى حديقتك مصدرا للقلق على أطفالك، وطرق تصميم قاعتى الساونا والجاكوزى حتى تحققا الاسترخاء والراحة، واستخدام الحجر الطبيعى فى ركن الاستجمام بالحديث، وكيف تختار الأرضية الأنسب لكل غرفة بالبيت، وكيفية استخدام الزخارف للربط وتحقيق الانسجام بين الأرضية والمكان.. الى آخره. هذه العناوين هى لموضوعات وردت بعدد من إحدى تلك المجلات، وهى البيت. لو كنت وزيرا للداخلية لبادرت على الفور بالأمر بالقبض على القائمين بإصدار مثل هذه المجلات بتهمة طبع وتوزيع مطبوعات تحض على كراهية النظام القائم والإطاحة به.. إذ هل يعقل أن نفترض حسن النية فيهم فى زمان تعانى الغالبية العظمى من الشعب المصرى فيه ما تعانى من أزمات طاحنة ليس أخفها أزمة العثور على مسكن، حتى لو كان مفتقراً الى قاعتى الساونا والجاكوزى، والى حمام السباحة فى الحديقة؟.. بيوتى الصيفية؟ أليس الأحرى أن أفكر أولاً فى توفير الشتوية منها حتى يحين أوان الاهتمام بتوفير الصيفية؟ لو أن هذه المجلات صادرة عن أحزاب معارضة للنظام القائم لحق لذلك النظام الأمر بحلها دون أسباب اضافية، لكنها، فى أغلب الأحيان وشأن برامج التليفزيون من وسائل اعلام الدولة التى يفترض أنها تخدم مصالح النظام القائم.. صالح النظام؟ إنها لعمرى أشبه بالدب الذى أراد أن يطرد الذبابة عن وجه سيده، فرطمها بحجر ضخم قتلها وسيده.
No comments:
Post a Comment