Sunday, January 07, 2007

حتى لا يصبح إعدام صدام مقدمة لإعدام العراق


بقلم د.حسن نافعه
لم أكن من المفتونين بشخصية صدام حسين أو المتيمين بنظامه في أي يوم من الأيام، بل ولم أتردد في توجيه انتقادات حادة لسياساته حين كان الرجل ونظامه لايزالان في أوج قوتهما وجبروتهما (راجع علي سبيل المثال بحثا كتبته في مايو عام ٨٦ ونشر في العام الذي يليه تحت عنوان: أنماط التفاعل بين الحرب العراقية الإيرانية والصراع العربي الإسرائيلي،
شؤون فلسطينية، العدد ١٦٨- ١٦٩ مارس- أبريل ١٩٨٧) ومع ذلك، ولأنني اعتقدت دائما أن الفرق بين صدام حسين ونظامه السياسي وبين بقية القادة العرب ونظمهم السياسية لم يكن في النوع وإنما في الدرجة، فلم أر في صدام حسين ونظامه نمطا شاذا أو مختلفا عن النمط السائد في بقية الأقطار العربية.
أكثر من ذلك، كان رأيي ولايزال أن صدام حسين ونظامه تمتعا بمزايا خاصة ندر وجودها في القادة العرب ونظمهم التي تفوق عليه بعضها استبدادا، وتفوق عليه بعضها الآخر حمقا، وتفوق عليه بعضها الثالث غباء وجهلا وغرورا.
وأيا كان الأمر، فما كنت لأعترض أبدا علي محاكمة صدام حسين، أو حتي علي إعدامه شنقا أو رميا بالرصاص، لو كان الشعب العراقي هو الذي أسقط نظامه وقرر بمحض إرادته محاكمة قائده علي ما ارتكبه من جرائم في حقه، وأنزل به العقوبة التي يستحقها، وكم أتمني لو استطاعت كل الشعوب العربية أن تقوم بهذه المهمة النبيلة يوما ما،
بل بوسعي أن أذهب إلي ما هو أبعد من ذلك لأقول إنني ما كنت لأعترض علي تدخل المجتمع الدولي لإزاحة صدام قسرا ومحاكمته، شريطة أن يأتي هذا التدخل في سياق حملة شاملة لإقامة عدالة دولية تستهدف اقتلاع كل الأنظمة الاستبدادية وتخليص العالم من شرورها. غير أن المشكلة أن الذي أسقط نظام صدام لم يكن الشعب العراقي وإنما الولايات المتحدة،
وأن الذي قبض علي شخص صدام واحتجزه هو جيش الاحتلال الأمريكي وليس ثوار العراق، وأن الذي سن قانون محاكمة صدام وشكل المحكمة التي مثل أمامها في قفص الاتهام هو حاكم أمريكي يمثل سلطة الاحتلال، وليس سلطة منتخبة ومعبرة عن الإرادة الحرة لشعب العراق.
صحيح أن الذين حاكموه ونطقوا بحكم الإعدام عليه هم عراقيون اسما، لكنهم لا يمكن أن يكونوا عراقيين وطنا وانتماء بعد أن تعاونوا مع الولايات المتحدة لتدمير بلادهم وتحويلها إلي خراب.
لقد سبق لنفر من الكتاب المصريين والعرب الادعاء بأنه لم يكن أمام معارضة عراقية اضطرت إلي مغادرة وطنها هربا وفرارا من بطش صدام ونظامه، ولجأت إلي دول غربية إو إلي إيران وسوريا وغيرها، سوي الاستنجاد بمن هو قادر علي مساعدتها علي التخلص من نظام استحالت إزاحته بغير القوة المسلحة. غير أن هذا الادعاء لم يكن سوي حق أريد به باطل.
فليس صحيحا أن معارضة عراقية حرة ومستقلة قررت الاستعانة بقوي دولية محبة للحرية لمساعدتها علي استعادة شعب العراق حريته المغتصبة، ولكن الصحيح أن جماعات عراقية بعينها وضعت نفسها في خدمة مشروع تقوده إدارة يمينية مسيحية صهيونية متطرفة هدفه السياسي تمكين الولايات المتحدة من الهيمنة المنفردة علي العالم وتمكين إسرائيل من الهيمنة المنفردة علي المنطقة، وذلك مقابل تمكينها من الوصول إلي السلطة في العراق.
ولتنفيذ هذا المشروع لم تتردد الإدارة الأمريكية في الكذب علي شعبها وعلي العالم لتبرير حرب شنتها علي العراق دون تصريح من ـ بل ورغم أنف ـ الأمم المتحدة وشعوب العالم قاطبة. ولو أن هذه الإدارة كانت قد أعلنت منذ البداية أنها شنت الحرب لتحرير شعب العراق من نظامه المستبد بناء علي دعوة من قطاعات تمثل الشعب العراقي، لتعامل معها العالم بطريقة مختلفة رغم إدراكه لعدم شرعية التدخل في الشؤون الداخلية للدول،
لكن حين يصل الأمر بهذه الإدارة إلي حد تلفيق معلومات لإلصاق تهمة كاذبة ثبت بالدليل القاطع براءة النظام العراقي منها، ثم تقوم أثناء احتلالها للعراق بارتكاب جرائم أكثر وحشية مما ارتكب صدام، فلابد أن نتساءل: من يحاكم من؟
لنسلم جدلا أن النظام في العراق كان عنيفا إلي درجة تبرر الإطاحة به، حتي لو تطلب الأمر الاستعانة بقوات أجنبية، وأن زعيمه كان طاغية إلي درجة تبرر التخلص منه جسديا، حتي لو تطلب الأمر إعدامه شنقا، غير أن المنطق يقول إنه كان من المتوقع أن يكون «المحررون الجدد» أكثر تحضرا ورقيا من «الطغاة السابقين»، وأن يكون الجالسون علي منصة القضاء أكثر احتراما من الواقفين في قفص الاتهام، غير أن ما جري في مسلسل "محاكمة القرن" خيب كل التوقعات وتحول إلي مهزلة بكل معني الكلمة، وهذه هي الأسباب:
١- وقع الاختيار علي «جريمة الدجيل» لتكون نقطة الانطلاق في محاكمة صدام لأسباب سياسية وليس قانونية. فقد انتظر الجميع أن يحاكم صدام علي جرائم كبري، مثل استخدام أسلحة كيماوية في حلابجة راح ضحيتها خمسة آلاف شخص أو علي جرائم حرب ارتكبت في إيران والكويت. والتفسير الوحيد لعدم البدء بهذه الجرائم هو الخوف من كشف تورط الولايات المتحدة فيها.
٢- لم تجر محاكمة صدام وفقا للأصول والقواعد القانونية المتعارف عليها في الدول المتحضرة. فقد مورست علي المحكمة ضغوط سياسية أدت إلي استقالة أول رئيس لها وتعيين آخر كان التحامل واضحا علي سلوكه بطريقة تتنافي مع السلوك المتوقع من قاض، وجرت محاولات لتضييق الخناق علي هيئة الدفاع وتخويفها وصلت إلي حد القيام باغتيال عدد من أعضائها.
لذلك لم يكن غريبا تحول المحاكمة إلي مسرحية هزلية، بدا الحكم الصادر عنها أقرب إلي قرار سياسي منه إلي حكم قضائي يستهدف تطبيق العدالة، وهو ما أجمعت عليه منظمات حقوق الإنسان العالمية التي اعتبرت محاكمة صدام غير عادلة.
٣- تم تنفيذ حكم الإعدام بطريقة بربرية وهمجية عكست سيطرة أجواء ومشاعر انتقامية مريضة ليس لها نظير، وجاء اختيار توقيت الإعدام فجر يوم عيد الأضحي بمثابة رسالة تحمل مشاعر الازدراء موجهة للعرب والمسلمين السنة.
ورغم محاولة الإدارة الأمريكية التنصل من مسؤولية توقيت وطريقة تنفيذ الحكم فإنني أعتقد أنها كانت القوة المحركة من وراء ستار لكل ما جري، ولا أستبعد مطلقا أن تكون مخابراتها هي التي دفعت بعناصر معروفة بتعصبها الطائفي إلي موقع منصة الإعدام، وهي التي سربت لوسائل الإعلام الشريط الذي يحتوي علي تسجيل بالصوت والصورة للحظات صدام الأخيرة. فالمشروع الأمريكي في العراق، الذي تقوده الإدارة الحالية،
كان منذ البداية ولا يزال مشروعا طائفيا في الأساس، وهو مشروع يستهدف تقسيم العراق كمقدمة لتقسيم الوطن العربي كله علي أسس طائفية، وبما يتطابق تماماً مع المشروع الإسرائيلي. ولا يخالجني أي شك في أن هذه كانت منذ البداية تعمل جاهدة لكي يكون إعدام صدام مقدمة لإعدام العراق ككل.
لكن يبدو أن الرياح تهب دائماً علي غير ما تشتهي السفن الأمريكية، فها هي الإدارة الأمريكية، التي كانت تخطط لرسم نهاية وضيعة لحياة صدام تمحو بها هالة البطولة التي حاول أن يحيط بها نفسه، تسهم دون أن تدري في تضخيم أسطورة صدام علي نحو فاق أكثر أحلامه جنوحاً.
وها هو الرجل الذي كانت الإدارة الأمريكية قد تعمدت إظهاره في صورة الفأر المختبئ في جحر عميق، ينجح في انتهاز فرصة محاكمته الهزلية لإعادة تثبيت صورة الأسد الجسور التي أرادها دائما لنفسه، بل ها هي عملية إعدامه الهمجية تمنحه فرصة أخيرة يثبت فيها للعالم كله أنه أقوي من جلاديه،
وأنه كان قادراً علي أن يخيفهم حتي في لحظة إعدامه. فلن ينسي العالم مشهد الرجل وهو يتجه نحو المقصلة التي نصبوها له رافع الرأس مفتوح العينين، بينما جلادوه ملثمون!. لقد كانت هذه اللحظة وحدها كفيلة بتخليد صدام إلي الأبد، بصرف النظر عن كل ما ارتكبه قبل ذلك من أخطاء وخطايا.
والواقع أنه يمكن القول إن اللحظات الأخيرة من عمر صدام أسهمت في عودة وإبراز الجانب الآخر لصورة الرجل. فهاهم بسطاء العالم العربي، وليس فقط النخبة التي ارتبطت بنظامه أيديولوجيا أو مصلحيا، يفتحون السرادقات رغم أنف حكوماتهم لتقبل العزاء في صدام وإظهار مشاعرهم الحقيقية والمخلصة تجاهه. وفي هذا السياق بدا مشهد أسر الشهداء في فلسطين وفقراء الفلاحين في مصر وهم يتقبلون العزاء في هذا اليوم الحزين لافتا للأنظار بشدة.
فأسر الشهداء الفلسطينيين لم ينسوا أن هذا الرجل قدم لهم المال في وقت كان فيه ملوك العرب ورؤساؤهم يفرون خوفا من اتهامهم بمساعدة الإرهاب، ولن ينسي فقراء الفلاحين المصريين أنه فتح لهم بلاده للعمل، وساعدهم علي تحويل أكواخهم الصغيرة إلي بيوت حقيقية.
هؤلاء، وهم بالملايين، هم الذين يرفعون اليوم أكفهم بالدعاء لحماية العراق، ويتمنون حقا أن يكون إعدام صدام بداية النهاية للإمبراطورية الأمريكية وليس مقدمة لإعدام العراق، كما أراد له أعداؤه.

No comments: