Saturday, January 20, 2007

مصر بين الدين والدستور


*
د‏.‏ معتز بالله عبد الفتاح**

هناك مبالغة غير مبررة من قبل كثيرين ممن يتصورون أن عدم تعديل المادة الثانية من الدستور المصري يعد انتقاصا من حقوق إخواننا في الوطن من مسيحيي مصر‏,‏ وكأن مجرد إلغاء النص علي أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع سيعني تدعيما مباشرا لقيم المواطنة المصرية‏.‏ وأعتقد أن هذا التصور يعبر عن سوء تفاهم يصل إلي حد الخلل في الأطر المرجعية‏.‏ ومن منظور مقارن‏,‏ فإن العالم المعاصر يشهد أنماطا أربعة لعلاقة دستور الدولة بالدين‏,‏ اثنان منهما شموليان تسلطيان‏,‏ حتى وإن كان أحدهما محايدا تجاه جميع الأديان‏,‏ واثنان منهما ليبراليان وإن نص أحدهما صراحة علي دين رسمي للدولة‏.‏ وبالتالي مجرد ذكر الديانة أو الانتماء العقائدي في الدستور لا يضمن حقوقا ولا يعد افتئاتا علي الحقوق والحريات العامة‏.‏ وفيما يلي تفصيل هذه الأنماط‏:‏
أولاـ هناك نمط من الدساتير الشمولية منزوعة الدين التي تتفق مع نمط من العلمانية يقوم علي الحرية ضد الدين وهي الصيغة السوفيتية ومعها التركية الكمالية حيث تري النخبة القابضة علي الدولة أن الدين في ذاته خطر وأن التدين مؤشر تخلف‏.‏ وهي صيغة متراجعة تاريخيا لأنها بذاتها تتناقض مع حق الأفراد في أن يكون لهم مجالهم الخاص والعام الذي لا تتدخل فيه الدولة‏.‏ فالدولة استغلت اختصاصها التشريعي واحتكارها للعنف كي تقبض علي هذين المجالين‏.‏ فالفرد بهذا ما مارس حقه الطبيعي في الاعتقاد والتدين وما كانت الدولة حامية لمثل هذا الحق باعتبارها المنتهكة الأولي له‏.‏
الدستور الشمولي
وهناك ثانياـ نمط الدستور الشمولي الذي يميز دين الأغلبية ويحظر أديان الأقليات الأخرى‏.‏ وهذه الصيغة الدستورية ترتبط مباشرة بتأويلات متشددة يتبناها أتباع دين الأغلبية‏,‏ أي ليست قضية عقيدة بالضرورة بقدر ما هي قضية اعتقاد‏.‏ ومن أمثال تلك الدساتير‏,‏ دستور‏1990‏ في نيبال الذي جعل منها مملكة هندوسية مع الرفض الصريح للاعتراف بحق المواطنين النيباليين المسلمين والبوذيين والمسيحيين في ممارسة شعائر دينهم‏,‏ وقد تم تعديل هذه المادة مع الانقلاب العسكري الأخير‏.‏ وماثلهم حكم طالبان‏,‏ رغما عن عدم وجود دســتور مكتوب‏.‏ ولو تمكن اليمين الديني في إسـرائيل من تطبيـق الهلاتشـا‏ التي تعني الطريق أو الشريعة‏,‏ لألغي ما عدا اليهودية من أديان‏.‏
والخطر الحقيقي في هذا النمط أن تزعم أي طائفة حقا لها في أن تشرع لكل المجتمع باسم الدين في حدود تفسيرها الضيق لنصوصه غير عابئة بحقوق الأفراد من الديانات الأخرى أو من داخل الدين نفسه في أن يكون لهم مجالهم الخاص ومجالهم العام المدني الذي يتحركون فيه‏.‏ وهنا يكون الدين قد تحول إلي أداة قمع لا تحكم فقط المجالين الخاص والعام لأتباعه ولكنه أداة لتوجيه السياسة والحكم والتشريع للمجتمع بأسره أيضا‏.‏
والدرس المستفاد من النمطين السابقين أن مجرد النص علي دين بذاته أو الامتناع عن ذلك لا يضمن دستورا ليبراليا يضمن حقوق الأفراد جميعا بغض النظر عن رضا الأغلبية علي هذه الحقوق‏;‏ حيث إن الليبرالية تضع قيودا علي الاستبداد باسم الدين والاتجار به‏,‏ كما ترفض أن يكون البديل عن الاستبداد باسم الدين‏,‏ استبدادا بغيره‏.‏ فالليبرالية متصالحة مع الدين‏,‏ سواء دين أقلية أو أغلبية‏,‏ تحترمه وتضعه في مكانه اللائق به سواء علي المستوي الفردي أو كإطار عام لحياة الناس في مجتمعهم دون أن يسمح للسلطة بالتعسف في استخدامه‏.‏
الدستور المحايد دينيا
ثالثاـ هناك نمط الدستور الليبرالي المحايد دينيا كمقدمة لاحترام جميع الأديان صراحة‏.‏ وتقف خلف هذا النمط الدستوري فلسفة علمانية تفترض حرية الدين وهي النموذج الليبرالي الأصيل كما هو في كل من الصيغة البريطانية والأمريكية والكندية والاسترالية واليابانية حيث تحترم الدولة المجالين الخاص والعام تماما بضابطين اثنين وهما ألا تحابي الدولة رسميا دينا علي حساب دين آخر ولا تسمح الدولة بأن تكره أي طائفة شخصا علي الشعور بالحرج من التعبير عن رموزه الدينية أو تبني دين دون آخر‏.‏
فالدولة تتدخل بالتشريع لحماية حقوق الأفراد ولا تري أن عليها مسئولية في دمج أبناء الديانات في المجتمع بإجبارهم علي التخلي عن رموزهم ومعتقداتهم ولكنها تهدف إلي التعايش بينهم‏.‏ وتمثل الفوبيا الأوروبية من مظاهر التدين الإسلامي المتنامية هناك‏,‏ خروجا عن المبادئ الليبرالية الأصيلة‏.‏ وصعوبة هذا النمط من الدساتير‏,‏ كما يشير الفيلسوف الأمريكي العظيم جون رولز‏,‏ تكمن في أنه يقتضي توافقا مجتمعيا سابقا علي الدستور ولا نتوقع أن ينشأ الدستور بذاته مثل هذا التوافق وإلا أصبح الدستور نفسه سببا للصراع الاجتماعي بما يعد انحرافا عن دور الدستور الأصلي وهو منع الصراع وحسن إدارته إن ظهر‏.‏ وبما أن الواقع المصري لا يحظي بهذا التوافق المجتمعي بين جميع أبناء الوطن بشأن صياغة دستور محايد دينيا‏,‏ فإننا أمام البديل الرابع الذي لا يخلو من ليبرالية وله أمثلة معاصرة كثيرة‏.‏
دستور لدين الأغلبية
وهناك رابعا نمط الدستور الليبرالي الذي يقرر وضعا خاصا لدين الأغلبية مع احترام جميع الأديان الأخرى‏.‏ وليتحقق هذا النمط فلابد من توافر شرطين‏:‏ أولهما أن يكون دين الأغلبية نفسه لديه القدرة علي استيعاب الحقوق الأساسية لأتباع الديانات الأخرى‏,‏ وهو الشرط المتحقق في الإسلام بحكم نصوصه وقدرته علي التعايش مع الأديان الأخرى في مناخ من البر والقسط كما نص القرآن الكريم في سورة الممتحنة‏.‏ وثانيا أن يقرر القانون نصوصا فوق دستورية‏(supra-constitutional)‏ تقرر لجميع أتباع الديانات حقوقا متساوية أمام القانون‏,‏ وهو ما يبدو متحققا جزئيا في المادة ‏40‏ من الدستور المصري التي تقرر‏:‏ المواطنون لدي القانون سواء وهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة‏.‏ ومصر‏,‏ بحكم تبنيها هذا النمط‏,‏ ليست بدعا من الدول والأمثلة كثيرة حيث تبنت هذا النمط الدنمرك وأيسلاندا والنرويج وفنلندا التي تنص دساتيرها وقوانينها صراحة علي أن المسيحية اللوثرية هي ديانتها الرسمية‏,‏ وهو الحال نفسه مع المسيحية الإنجيلية في انجلترا‏,‏ والمسيحية الأرثوذكسية في اليونان وقبرص‏,‏ والكاثوليكية كديانة رسمية في كل من الأرجنتين وبوليفيا وكوستاريكا والسلفادور‏,‏ فضلا عن الفاتيكان‏.‏ وخلا الفاتيكان‏,‏ فهي كلها نظم لها نصيبها من الديمقراطية‏.‏
ويبدو من العرض السابق أن الدستور المصري في صيغته الحالية لا يخرج عن الإطار الليبرالي حتى وإن ظلت المادة الثانية علي وضعها الحالي شريطة الموافقة علي إضافة فقرة إلي المادة الخامسة من الدستور بما يقتضي حظر مباشرة أي نشاط سياسي أو حزبي أو قيام الأحزاب علي أساس الدين أو الجنس أو الأصل والتأكيد علي قيام منهج العمل
السياسي والوطني علي أساس المواطنة وحدها دون التفرقة بسبب الدين أو الجنس أو الأصل‏.
* نقلا عن جريدة الأهرام، 13 يناير 2007.
** مدرس مساعد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة.

No comments: