بقلم : صلاح الدين حافظ
دستور في الدولة المدنية الحديثة والديمقراطية, ليس مجرد هيكل خشبي مصمت, بنصوص جامدة صماء, يحتكر صياغتها فقهاء القانون المحترفون وحدهم, وفق سرية المهنة, لكن الدستور وثيقة اجتماعية, تحمل في أحشائها كائنا حيا, يعبر عن الحالة الانسانية والاجتماعية, ويتفاعل مع المواطنين كافة, ويترجم أشواقهم للحرية من ناحية, ويكفل لهم ضمانات الخبز من ناحية أخري..ولذلك فإن الخطر كل الخطر ترك صياغة الدستور, أو تعديلاته, في أيدي فئة دون غيرها, سواء كانت قانونية بحتة, أو كانت طبقية بحتة, إنما الأصح والأدق أن تسهم كل فئات المجتمع في الحوار حول الدستور, والإسهام بجدية في صياغة مبادئه ونصوصه, ليجمع في النهاية من حوله التوافق الوطني..ولأن مصر علي سبيل المثال, تطرح الآن تعديل حزمة من مواد الدستور, هي34 مادة, بعد أن أحالها رئيس الدولة إلي مجلسي الشعب والشوري, وسط مناخ اجتماعي اقتصادي, يهرول هرولة نحو الليبرالية الاقتصادية, بما يواكبها من سوق حرة وخصخصة وبيع متسرع لأصول المجتمع وثروة الدولة, ومن اعتلاء كلمة المستثمرين ورجال الأعمال والأثرياء منابر القيادة, والتأثير الغلاب علي فلسفة الحكم, فإن الأمر يستدعي التمهل والدقة والحذر, خوفا من أن تأتي صياغة التعديلات بتغليب مصالح الأقلية الثرية علي حساب الأغلبية الفقيرة.والواقع يقول إن الأزمة الاقتصادية الاجتماعية, قد تركت آثارا سلبية رهيبة, علي القوام الرئيسي للمجتمع المصري, بالغلاء الفاحش والبطالة المتزايدة واتساع مساحات الفق,ر التي أكلت معظم الطبقة الوسطي, عماد المجتمع, وركزت الثروة والسلطة في أيدي قلة القلة, التي تسعي بكل الجهد لتطويع الدستور والقانون, ومن ثم الدولة ونظامها السياسي, لإرادتها ولمصالحها علي حساب الاخرين, وهاهي الفرصة قد جاءتها عبر طرح التعديلات الدستورية الواسعة, لتحكم قبضتها علي كل شيء يحقق لها مزيدا من الثراء, ومزيدا من النفوذ والسلطة.ثم يقولون لنا, هذه هي قواعد الليبرالية, بينما الحقيقة أن النظم الليبرالية والديمقراطية تقوم علي توازن المصالح وعلي قاعدة الحرية المتكافئة لفئات المجتمع ومواطنيه, وإلا أصبحت ليبرالية متوحشة, ولننظر إلي قاعدة الليبرالية في الغرب, ونعني بريطانيا, بل وامريكا, اللتين تحافظان علي الحريات العامة وحقوق الانسان, مثلما تعملان علي ضمان الحياة الاجتماعية وكفالة حقوق العمل والغذاء والمسكن والرعاية الصحية والاجتماعية للجميع, من أصحاب المليارات الي أصحاب الدخل المحدود!من هنا نقول, بل نحذر, من أن تستولي مصالح ونفوذ رجال الأعمال والحلقة الضيقة المحيطة بصنع السياسات, علي صياغة تعديلات الدستور, فتخضعها فقط لمصالحها الضيقة والمؤقتة علي حساب أغلبية الشعب المغيبة, من الناحية العملية, عن كل ما يتعلق بصنع السياسات واتخاذ القرار وصياغة الدستور لأسباب عديدة, يعلمها الكافة..ولذلك قلنا ونقول إن تعديل الدستور, معركة بكل معني الكلمة, لايجب تركها لا لمجموعة محدودة العدد وربما الكفاءة من القانونيين, ولا لمجموعة محدودة أخري من رجال الأعمال وأصحاب المصالح وطلاب السلطة ومحتكري الثروة, ولا لحزب وحيد, حتي لو ادعي أنه حزب الأغلبية, لكنها معركة وطنية وديموقراطية بالأساس, تتطلب جهود كل فئات المجتمع وطبقاته ونخبه وأحزابه ومنظماته المدنية والجماهيرية, وإلا أصبحت معركة من طرف واحد, يفاوض نفسه ويتحاور مع ظله, ويدافع فقط عن مصالحة, ويدوس علي الآخرين وهم الأغلبية الساحقة, التي إن لم تشارك في وضع الدستور وصياغة مواده والتوافق علي فلسفته.. أسقطت شرعيته!!***وعلي سبيل المثال, فإن التعديلات المطروحة, تلغي ما في الدستور القائم والصادر عام1971, كل مايشير إلي الاشتراكية وسيطرة الدولة علي وسائل الانتاج, وهذا طبيعي ومن تحصيل الحاصل, بحكم سقوط الاشتراكية عالميا من ناحية, وبحكم التحولات الكبري التي جرت في مصر, سياسيا واقتصاديا, منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي, حتي اليوم, اتجاها للعودة إلي النظام الرأسمالي, من ناحية ثانية.لكن التعديلات لم تقل لنا صراحة ماهو البديل وماهي الرؤية والبوصلة فيما يتعلق بدور الدولة في التنمية البشرية, وفي الاشراف علي عدالة توزيع الثروة بين الطبقات والأفراد, وفي الرعاية الاجتماعية والتعليمية والصحية لعموم المواطنين, وفي اعانة ومساندة الفقراء الذين يزدادون فقرا, بسبب السياسات الاقتصادية الجديدة, وفي مكافحة غول الغلاء ووحش البطالة وظلام الأمية وتوحش الفساد المصحوب دوما بالاستبداد.والمجاهر به الآن, هو ترك كل ذلك لآلية السوق ولكرم رجال الأعمال وسماحة أصحاب الثروة والنفوذ, هم يتحملون المسئولية, وربما يكون ذلك سائدا في بعض الدول الرأسمالية بالفعل, التي استقرت فيها المباديء والقوانين وفلسفة العمل والانتاج والحكم وأساليب تكوين الثروات ودفع الضرائب وأداء المسئولية الاجتماعية, لكنه حتما لا يصلح علي إطلاقه لبلد مثل مصر, يعيش48 في المائة من مواطنيها حول وتحت خط الفقر, ويبلغ متوسط دخل43.9 في المائة من سكانها أقل من دولارين في اليوم, وفق تقرير التنمية البشرية الدولي, ويسكن ما بين16 و20 مليونا في العشوائيات والمقابر, ويجري في شوارعها مليونا طفل مشرد, ناهيك عن أعداد العاطلين الذين تتناقض أرقامهم الحقيقية صعودا وهبوطا...مواجهة هذا العبء المخيف, يجب ألا تترك لسماحة وكرم قله الأثرياء, ولا لاحتكار بعض القانونيين المتخصصين في الصياغة. المطاطة حمالة الأوجه, ولا لهواة السياسة المستجدين, ولا حتي لضغوط الدول الأجنبية والمنظمات المالية الدولية.. بل إنها مسئولية مشتركة بين الدولة والمجتمع, التي يجب أن يحددها الدستور الواضح المعالم, وإلا ساد حكم الغابة للأقوي.. للأشرس!يقول قائل: إن تعديلات الدستور لم تمس حقوقا اجتماعية وسياسية واقتصادية مكتسبة, مثل مجانية التعليم, ونسبة50 في المائة للعمال والفلاحين, والعلاج الصحي, وهذا صحيح أيضا من الناحية النظرية, ولكن حين نتفحص الواقع, نري أن السياسات الجديدة تخترق كل ذلك وتنقض عليه وتحاصره, فمجانية التعليم أصبحت وهمية, ونسبة العمال والفلاحين لم تعد للعمال والفلاحين الحقيقيين, والعلاج صارت أسعاره نارية كاوية لا يقدر عليها إلا كل ذي مال وفير, ومسئولية تشغيل الشباب تخلت عنها الدولة, وتركتها لأريحية القطاع الخاص, وأسعار المساكن التهبت بما لا قبل ولا قدرة لأغلبية المجتمع علي الوفاء بها, بينما نقرأ يوميا عن مشروعات الاسكان الفاخر, يتخاطفها المليونيرات الجدد, من أملاك الدولة, التي تبيعها لكبار المستثمرين, دون حساب لحق البسطاء والفقراء..وبرغم أهمية تعديل الدستور, وبرغم ايماني العميق بضرورة أن يفضي التعديل إلي اطلاق الحريات العامة والي صيانة الحقوق الرئيسية للمواطنين, بما في ذلك حرية تكوين الأحزاب السياسية, وحرية الصحافة والرأي والتعبير, وحرية تداول السلطة, إلا أننا لو سألنا جموع المواطنين المهمومين بظروف العيش القاسية وضغوط الفقر, أي الخيارات والأولويات أهم حرية تكوين الأحزاب السياسية أولا, أو زيادة الدخل وتحسين الأحوال المعيشية ومكافحة البطالة وتثبيت الأسعار, لاختاروا حتما الأخيرة دون تردد..***وهو اختيار لا يعني التخلي عن الحريات العامة, والتضحية بها تفضيلا للقمة العيش, إنما هو ترتيب للأولويات تحكمه الضرورات, فما جدوي الكلام عن الحريات النظرية, بل ما معني الدستور والأحزاب والانتخابات والسلطة والديمقراطية, إن لم تكفل للمواطن البسيط المرهق المنهك, الحد الأدني من حقوقه الرئيسية, حق الغذاء والكساء والمسكن والتعليم والعمل والعلاج.. وحق الأمل في مستقبل أفضل..والعكس في رأينا صحيح, فما معني الغذاء الوفير والمسكن الفاخر والعمل المنتظم, دون حرية حقيقية للمواطن, يعبر بها عن رأيه ويتمتع بحقوقه الدستورية والقانونية, ويختار ممثله ونائبه ورئيسه, ويسعي حتي إلي رئاسة السلطة وفق قاعدة التداول عبر انتخابات نزيهة ونظيفة.الخبز والحرية, وجهان لعملة واحدة, والليبرالية الغربية أسست نظمها الديمقراطية, علي قدمين هما الحرية السياسية والحرية الاقتصادية, والنظم الاشتراكية فشلت وسقطت لأنها كسرت قدم الحرية وحبست أنفاس البشر وتجاهلت آراء الناس ورغباتهم, باسم بناء الدولة وتقوية السلطة, فإذا بهذه تتحول الي ديكتاتورية وحشية!وأمام مصر في هذه المرحلة العاصفة, مهمة أن تقدم للعرب والعجم, مبادرة تاريخية, إن هي نجحت في إعداد دستورها علي الوجه الذي يكفل الخبز والحرية, ويوازن بين الحقوق والحريات السياسية, والحقوق الاقتصادية والاجتماعية, ويصلح الخلل الخطير الذي أصاب المجتمع, فأذاب الطبقة الوسطي وضمها قسرا للطبقة الفقيرة والمعدمة, وراكم الثروة مع السلطة في أيدي قلة, تقودها مجموعة من المغامرين والطامعين والطامحين, دون أن تكون لهم رؤية مستقبلية, ولا مسئولية مجتمعية..وربما تكون احدي الوسائل العاجلة لإصلاح هذا الخلل السياسي الاجتماعي, تكمن في إطلاق حرية تكوين الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني, لكي تعبر تعبيرا صادقا عن التعددية في المجتمع, تعددية الفقراء والأغنياء, الفلاحين والعمال وأصحاب الاعمال, المثقفين والمهنيين والحرفيين, وهي تعددية تقود حتما إلي تكريس تبادل السلطة بين كل أصحاب المصالح عبر انتخابات حرة, والا ما جدوي التعددية الحزبية إن لم تؤد إلي تداول السلطة, وما جدوي تداول السلطة إن لم تعبر عن حرية الاختيار لجميع أبناء الوطن. وها هي مصر يشغلها ضجيج23 حزبا, دون أن يتمكن واحد منها من الحصول علي نسبة5 في المائة من مقاعد البرلمان, كشرط للترشح لرئاسة الجمهورية في المستقبل, كما تنص التعديلات الدستورية المطروحة..حقا ما جدوي كل ذلك, وما مؤداه, إلا أن يظل الحزب الحاكم.. حاكما!!***خير الكلام: قال تعالي: والله يعلم المفسد من المصلح
No comments:
Post a Comment