Tuesday, January 09, 2007

المعركة الدســـتور‏..‏ وخبز الفقـــراء‏!

‏بقلم : صلاح الدين حافظ

دستور في الدولة المدنية الحديثة والديمقراطية‏,‏ ليس مجرد هيكل خشبي مصمت‏,‏ بنصوص جامدة صماء‏,‏ يحتكر صياغتها فقهاء القانون المحترفون وحدهم‏,‏ وفق سرية المهنة‏,‏ لكن الدستور وثيقة اجتماعية‏,‏ تحمل في أحشائها كائنا حيا‏,‏ يعبر عن الحالة الانسانية والاجتماعية‏,‏ ويتفاعل مع المواطنين كافة‏,‏ ويترجم أشواقهم للحرية من ناحية‏,‏ ويكفل لهم ضمانات الخبز من ناحية أخري‏..‏ولذلك فإن الخطر كل الخطر ترك صياغة الدستور‏,‏ أو تعديلاته‏,‏ في أيدي فئة دون غيرها‏,‏ سواء كانت قانونية بحتة‏,‏ أو كانت طبقية بحتة‏,‏ إنما الأصح والأدق أن تسهم كل فئات المجتمع في الحوار حول الدستور‏,‏ والإسهام بجدية في صياغة مبادئه ونصوصه‏,‏ ليجمع في النهاية من حوله التوافق الوطني‏..‏ولأن مصر علي سبيل المثال‏,‏ تطرح الآن تعديل حزمة من مواد الدستور‏,‏ هي‏34‏ مادة‏,‏ بعد أن أحالها رئيس الدولة إلي مجلسي الشعب والشوري‏,‏ وسط مناخ اجتماعي اقتصادي‏,‏ يهرول هرولة نحو الليبرالية الاقتصادية‏,‏ بما يواكبها من سوق حرة وخصخصة وبيع متسرع لأصول المجتمع وثروة الدولة‏,‏ ومن اعتلاء كلمة المستثمرين ورجال الأعمال والأثرياء منابر القيادة‏,‏ والتأثير الغلاب علي فلسفة الحكم‏,‏ فإن الأمر يستدعي التمهل والدقة والحذر‏,‏ خوفا من أن تأتي صياغة التعديلات بتغليب مصالح الأقلية الثرية علي حساب الأغلبية الفقيرة‏.‏والواقع يقول إن الأزمة الاقتصادية الاجتماعية‏,‏ قد تركت آثارا سلبية رهيبة‏,‏ علي القوام الرئيسي للمجتمع المصري‏,‏ بالغلاء الفاحش والبطالة المتزايدة واتساع مساحات الفق‏,‏ر التي أكلت معظم الطبقة الوسطي‏,‏ عماد المجتمع‏,‏ وركزت الثروة والسلطة في أيدي قلة القلة‏,‏ التي تسعي بكل الجهد لتطويع الدستور والقانون‏,‏ ومن ثم الدولة ونظامها السياسي‏,‏ لإرادتها ولمصالحها علي حساب الاخرين‏,‏ وهاهي الفرصة قد جاءتها عبر طرح التعديلات الدستورية الواسعة‏,‏ لتحكم قبضتها علي كل شيء يحقق لها مزيدا من الثراء‏,‏ ومزيدا من النفوذ والسلطة‏.‏ثم يقولون لنا‏,‏ هذه هي قواعد الليبرالية‏,‏ بينما الحقيقة أن النظم الليبرالية والديمقراطية تقوم علي توازن المصالح وعلي قاعدة الحرية المتكافئة لفئات المجتمع ومواطنيه‏,‏ وإلا أصبحت ليبرالية متوحشة‏,‏ ولننظر إلي قاعدة الليبرالية في الغرب‏,‏ ونعني بريطانيا‏,‏ بل وامريكا‏,‏ اللتين تحافظان علي الحريات العامة وحقوق الانسان‏,‏ مثلما تعملان علي ضمان الحياة الاجتماعية وكفالة حقوق العمل والغذاء والمسكن والرعاية الصحية والاجتماعية للجميع‏,‏ من أصحاب المليارات الي أصحاب الدخل المحدود‏!‏من هنا نقول‏,‏ بل نحذر‏,‏ من أن تستولي مصالح ونفوذ رجال الأعمال والحلقة الضيقة المحيطة بصنع السياسات‏,‏ علي صياغة تعديلات الدستور‏,‏ فتخضعها فقط لمصالحها الضيقة والمؤقتة علي حساب أغلبية الشعب المغيبة‏,‏ من الناحية العملية‏,‏ عن كل ما يتعلق بصنع السياسات واتخاذ القرار وصياغة الدستور لأسباب عديدة‏,‏ يعلمها الكافة‏..‏ولذلك قلنا ونقول إن تعديل الدستور‏,‏ معركة بكل معني الكلمة‏,‏ لايجب تركها لا لمجموعة محدودة العدد وربما الكفاءة من القانونيين‏,‏ ولا لمجموعة محدودة أخري من رجال الأعمال وأصحاب المصالح وطلاب السلطة ومحتكري الثروة‏,‏ ولا لحزب وحيد‏,‏ حتي لو ادعي أنه حزب الأغلبية‏,‏ لكنها معركة وطنية وديموقراطية بالأساس‏,‏ تتطلب جهود كل فئات المجتمع وطبقاته ونخبه وأحزابه ومنظماته المدنية والجماهيرية‏,‏ وإلا أصبحت معركة من طرف واحد‏,‏ يفاوض نفسه ويتحاور مع ظله‏,‏ ويدافع فقط عن مصالحة‏,‏ ويدوس علي الآخرين وهم الأغلبية الساحقة‏,‏ التي إن لم تشارك في وضع الدستور وصياغة مواده والتوافق علي فلسفته‏..‏ أسقطت شرعيته‏!!‏‏***‏وعلي سبيل المثال‏,‏ فإن التعديلات المطروحة‏,‏ تلغي ما في الدستور القائم والصادر عام‏1971,‏ كل مايشير إلي الاشتراكية وسيطرة الدولة علي وسائل الانتاج‏,‏ وهذا طبيعي ومن تحصيل الحاصل‏,‏ بحكم سقوط الاشتراكية عالميا من ناحية‏,‏ وبحكم التحولات الكبري التي جرت في مصر‏,‏ سياسيا واقتصاديا‏,‏ منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي‏,‏ حتي اليوم‏,‏ اتجاها للعودة إلي النظام الرأسمالي‏,‏ من ناحية ثانية‏.‏لكن التعديلات لم تقل لنا صراحة ماهو البديل وماهي الرؤية والبوصلة فيما يتعلق بدور الدولة في التنمية البشرية‏,‏ وفي الاشراف علي عدالة توزيع الثروة بين الطبقات والأفراد‏,‏ وفي الرعاية الاجتماعية والتعليمية والصحية لعموم المواطنين‏,‏ وفي اعانة ومساندة الفقراء الذين يزدادون فقرا‏,‏ بسبب السياسات الاقتصادية الجديدة‏,‏ وفي مكافحة غول الغلاء ووحش البطالة وظلام الأمية وتوحش الفساد المصحوب دوما بالاستبداد‏.‏والمجاهر به الآن‏,‏ هو ترك كل ذلك لآلية السوق ولكرم رجال الأعمال وسماحة أصحاب الثروة والنفوذ‏,‏ هم يتحملون المسئولية‏,‏ وربما يكون ذلك سائدا في بعض الدول الرأسمالية بالفعل‏,‏ التي استقرت فيها المباديء والقوانين وفلسفة العمل والانتاج والحكم وأساليب تكوين الثروات ودفع الضرائب وأداء المسئولية الاجتماعية‏,‏ لكنه حتما لا يصلح علي إطلاقه لبلد مثل مصر‏,‏ يعيش‏48‏ في المائة من مواطنيها حول وتحت خط الفقر‏,‏ ويبلغ متوسط دخل‏43.9‏ في المائة من سكانها أقل من دولارين في اليوم‏,‏ وفق تقرير التنمية البشرية الدولي‏,‏ ويسكن ما بين‏16‏ و‏20‏ مليونا في العشوائيات والمقابر‏,‏ ويجري في شوارعها مليونا طفل مشرد‏,‏ ناهيك عن أعداد العاطلين الذين تتناقض أرقامهم الحقيقية صعودا وهبوطا‏...‏مواجهة هذا العبء المخيف‏,‏ يجب ألا تترك لسماحة وكرم قله الأثرياء‏,‏ ولا لاحتكار بعض القانونيين المتخصصين في الصياغة‏.‏ المطاطة حمالة الأوجه‏,‏ ولا لهواة السياسة المستجدين‏,‏ ولا حتي لضغوط الدول الأجنبية والمنظمات المالية الدولية‏..‏ بل إنها مسئولية مشتركة بين الدولة والمجتمع‏,‏ التي يجب أن يحددها الدستور الواضح المعالم‏,‏ وإلا ساد حكم الغابة للأقوي‏..‏ للأشرس‏!‏يقول قائل‏:‏ إن تعديلات الدستور لم تمس حقوقا اجتماعية وسياسية واقتصادية مكتسبة‏,‏ مثل مجانية التعليم‏,‏ ونسبة‏50‏ في المائة للعمال والفلاحين‏,‏ والعلاج الصحي‏,‏ وهذا صحيح أيضا من الناحية النظرية‏,‏ ولكن حين نتفحص الواقع‏,‏ نري أن السياسات الجديدة تخترق كل ذلك وتنقض عليه وتحاصره‏,‏ فمجانية التعليم أصبحت وهمية‏,‏ ونسبة العمال والفلاحين لم تعد للعمال والفلاحين الحقيقيين‏,‏ والعلاج صارت أسعاره نارية كاوية لا يقدر عليها إلا كل ذي مال وفير‏,‏ ومسئولية تشغيل الشباب تخلت عنها الدولة‏,‏ وتركتها لأريحية القطاع الخاص‏,‏ وأسعار المساكن التهبت بما لا قبل ولا قدرة لأغلبية المجتمع علي الوفاء بها‏,‏ بينما نقرأ يوميا عن مشروعات الاسكان الفاخر‏,‏ يتخاطفها المليونيرات الجدد‏,‏ من أملاك الدولة‏,‏ التي تبيعها لكبار المستثمرين‏,‏ دون حساب لحق البسطاء والفقراء‏..‏وبرغم أهمية تعديل الدستور‏,‏ وبرغم ايماني العميق بضرورة أن يفضي التعديل إلي اطلاق الحريات العامة والي صيانة الحقوق الرئيسية للمواطنين‏,‏ بما في ذلك حرية تكوين الأحزاب السياسية‏,‏ وحرية الصحافة والرأي والتعبير‏,‏ وحرية تداول السلطة‏,‏ إلا أننا لو سألنا جموع المواطنين المهمومين بظروف العيش القاسية وضغوط الفقر‏,‏ أي الخيارات والأولويات أهم حرية تكوين الأحزاب السياسية أولا‏,‏ أو زيادة الدخل وتحسين الأحوال المعيشية ومكافحة البطالة وتثبيت الأسعار‏,‏ لاختاروا حتما الأخيرة دون تردد‏..‏‏***‏وهو اختيار لا يعني التخلي عن الحريات العامة‏,‏ والتضحية بها تفضيلا للقمة العيش‏,‏ إنما هو ترتيب للأولويات تحكمه الضرورات‏,‏ فما جدوي الكلام عن الحريات النظرية‏,‏ بل ما معني الدستور والأحزاب والانتخابات والسلطة والديمقراطية‏,‏ إن لم تكفل للمواطن البسيط المرهق المنهك‏,‏ الحد الأدني من حقوقه الرئيسية‏,‏ حق الغذاء والكساء والمسكن والتعليم والعمل والعلاج‏..‏ وحق الأمل في مستقبل أفضل‏..‏والعكس في رأينا صحيح‏,‏ فما معني الغذاء الوفير والمسكن الفاخر والعمل المنتظم‏,‏ دون حرية حقيقية للمواطن‏,‏ يعبر بها عن رأيه ويتمتع بحقوقه الدستورية والقانونية‏,‏ ويختار ممثله ونائبه ورئيسه‏,‏ ويسعي حتي إلي رئاسة السلطة وفق قاعدة التداول عبر انتخابات نزيهة ونظيفة‏.‏الخبز والحرية‏,‏ وجهان لعملة واحدة‏,‏ والليبرالية الغربية أسست نظمها الديمقراطية‏,‏ علي قدمين هما الحرية السياسية والحرية الاقتصادية‏,‏ والنظم الاشتراكية فشلت وسقطت لأنها كسرت قدم الحرية وحبست أنفاس البشر وتجاهلت آراء الناس ورغباتهم‏,‏ باسم بناء الدولة وتقوية السلطة‏,‏ فإذا بهذه تتحول الي ديكتاتورية وحشية‏!‏وأمام مصر في هذه المرحلة العاصفة‏,‏ مهمة أن تقدم للعرب والعجم‏,‏ مبادرة تاريخية‏,‏ إن هي نجحت في إعداد دستورها علي الوجه الذي يكفل الخبز والحرية‏,‏ ويوازن بين الحقوق والحريات السياسية‏,‏ والحقوق الاقتصادية والاجتماعية‏,‏ ويصلح الخلل الخطير الذي أصاب المجتمع‏,‏ فأذاب الطبقة الوسطي وضمها قسرا للطبقة الفقيرة والمعدمة‏,‏ وراكم الثروة مع السلطة في أيدي قلة‏,‏ تقودها مجموعة من المغامرين والطامعين والطامحين‏,‏ دون أن تكون لهم رؤية مستقبلية‏,‏ ولا مسئولية مجتمعية‏..‏وربما تكون احدي الوسائل العاجلة لإصلاح هذا الخلل السياسي الاجتماعي‏,‏ تكمن في إطلاق حرية تكوين الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني‏,‏ لكي تعبر تعبيرا صادقا عن التعددية في المجتمع‏,‏ تعددية الفقراء والأغنياء‏,‏ الفلاحين والعمال وأصحاب الاعمال‏,‏ المثقفين والمهنيين والحرفيين‏,‏ وهي تعددية تقود حتما إلي تكريس تبادل السلطة بين كل أصحاب المصالح عبر انتخابات حرة‏,‏ والا ما جدوي التعددية الحزبية إن لم تؤد إلي تداول السلطة‏,‏ وما جدوي تداول السلطة إن لم تعبر عن حرية الاختيار لجميع أبناء الوطن‏.‏ وها هي مصر يشغلها ضجيج‏23‏ حزبا‏,‏ دون أن يتمكن واحد منها من الحصول علي نسبة‏5‏ في المائة من مقاعد البرلمان‏,‏ كشرط للترشح لرئاسة الجمهورية في المستقبل‏,‏ كما تنص التعديلات الدستورية المطروحة‏..‏حقا ما جدوي كل ذلك‏,‏ وما مؤداه‏,‏ إلا أن يظل الحزب الحاكم‏..‏ حاكما‏!!‏‏***‏خير الكلام‏:‏ قال تعالي‏:‏ والله يعلم المفسد من المصلح

No comments: