بقلم د.محمد رؤوف حامد ( المصري اليوم) ٢٢/١/٢٠٠٧
إذا كانت مفاجأة إعدام صدام حسين، قبل صلاة عيد الأضحي بدقائق، قد أصابت ملايين العرب والمسلمين بصدمة، فضلاً عن عدم رضا الاتحاد الأوروبي والعديد من القيادات الرسمية والشعبية في جميع أنحاء العالم، رغم الاختلاف في خلفياتهم وأسبابهم، فإن التقييم الاستراتيجي لهذا الحدث (بمعني ما يعكسه وينميه من مفاهيم ورؤي، وما تنتج عنه من تداعيات محلية وإقليمية وعالمية، قصيرة وطويلة الأجل)، هو في تقديرنا أكثر أهمية وخطورة بكثير عما وقع من صدمة عميقة وليس مجرد إعدام ديكتاتور.
رغم أن هذا الحدث يبدو من الناحية المادية المحضة، كأنه مجرد إعدام ديكتاتور كان رئيساً سابقاً لدولة، فإنه يعتبر - من وجهة نظرنا - من أكثر ممارسات الإدارة الأمريكية شراسة منذ قنبلتي هيروشيما ونجازاكي، أي علي مدي أكثر من ستين عاماً.
وقبل التطرق إلي التحليل التقييمي للموضوع، نجذب انتباه القارئ إلي أمرين:
الأمر الأول: أن ثلاثة عوامل «أو حقائق» رئيسية تشكل الإطار المرجعي لهذا التحليل:
(أ) وضوح الهيمنة العليا والكاملة للإدارة الأمريكية، فيما يتعلق بظروف ومسارات المحاكمة وقرار الإعدام وتوقيت التنفيذ.
(ب) ما ظهر علي «ومن» صدام من سلوكيات، أثناء المحاكمة (من حيث المظهر أو القول أو الفعل)، وهو ما تأكد بعد ذلك، مما نقل بواسطة شهود العيان عن سلوكه، أثناء تنفيذ عملية الإعدام (نقصد - مؤقتاً - ثباته).
(جـ) تسارع حدة وإيقاع التدهور في أوضاع الشارع العراقي، وبدء مظاهر دخوله في حرب أهلية.
وعن الأمر الثاني، فهو أن موقفنا تجاه صدام، لم يكن في صفه مطلقاً، نظراً لديكتاتوريته، وقد كانت هناك إشارة وحيدة تعرضنا فيها لسلوكه، جاءت في إطار تحليلنا لجدلية الفكر والقوة، حيث أشرنا إلي نموذج صدام كأحد النماذج الشارحة للتحليل (المستقبل بين الفكر والقوة - المكتبة الأكاديمية - ٢٠٠٦). كان ذلك في عبارة واحدة وهي «صدام حسين العراق: كان تسارعه إلي فكر القوة أعلي من معدل اقترابه من مجال قوة الفكر، فحدث ما حدث».
أما عن الأهداف والرغبات الرئيسية وراء القرار الأمريكي (بخصوص مسار المحاكمة والإعدام والتوقيت) فتتمثل في تقديرنا فما يلي:
١ - رفع الحدة وزيادة العمق للعداء بين المسلمين وبعضهم (سنة وشيعة) إلي أقصي حد ممكن (في العراق وفي الشرق الأوسط وفي العالم أينما وجدوا)، بحيث تنتج عن ذلك حرب طائفية قاسية وقاصمة.
٢ - تحقيق مصالح كبري للإدارة الأمريكية، من جراء الحرب الطائفية، وعلي رأسها تعويم الصراع العربي - الإسرائيلي، وتعظيم الوجود الشرعي لإسرائيل، ودورها في المنطقة، وإتمام فرض الهيمنة علي ثروات المنطقة (من بترول وإمكانات جغرافية وسياسية).
٣ - تحدي (وتصغير حجم) القوي العظمي الأخري الممكنة في العالم (الكتلة الأوروبية - روسيا - اليابان - الصين)، بحيث ينجم عن ذلك تكبير مساحة حركة الإدارة الأمريكية، في اتجاه زيادة تشويه وتعقيد العلاقات الدولية لصالحها.
٤ - من خلال إنجاز الهدفين السابقين، فإن الإدارة الأمريكية تخلق ترتيبات جديدة، تكون من شأنها تقوية قدراتها علي القيام بعمليات تحريض وفتنة وإرهاب، تعرقل بها الصحوة التنموية المتسارعة داخل أمريكا اللاتينية، وتزيد بها من إمكانات السياقات المقلقة لروسيا والصين.
وهكذا، أحسنت الإدارة الأمريكية الاستفادة إلي أقصي حد من الخاصية التي أشرنا إليها من قبل عن صدام حسين، التي تتمثل في أن «تسارعه إلي فكر القوة كان أعلي من معدل اقترابه من مجال قوة الفكر».
الجدير بالانتباه هنا فيما يتعلق بالخاصية المشار إليها، أنه بعد هزيمة الجيش العراقي، وإلقاء القبض علي صدام، فإن وضعية جديدة في شخصية هذا الديكتاتور قد طرأت.
لقد نزعت عن الرجل جميع عناصر القوة، التي كان يحكم من خلالها (الحرس الجمهوري - الحزب - الرئاسة - الجيش... إلخ)، وأصبح أسيراً ومتهماً.. نتيجة لذلك زال فكر القوة عنه، وفي الوقت نفسه حدث بالتوازي (أي بعد سقوطه ثم أثناء محبسه) أن بدأ ينمو لديه الفكر الموضوعي، بعيداً عن السلطة التي كان فيها، وبعيداً (بل في مواجهة) المناورات الدبلوماسية الأمريكية التي كانت قد ساهمت في تأجيج دكتاتوريته.
وهكذا، بنمو الفكر الموضوعي لديه في محبسه، فإن قوة الفكر فيه «والمعاكسة لفكر القوة» أصبحت متاحة للبزوغ والتشكل، لقد نمت لديه قوة الفكر، بعد أن تلاشت عنده قوة النفوذ والسلطة.
المسألة إذن أن صدام حسين في محبسه وبعد تجاربه مع الإدارة الأمريكية قد تحول إلي فكر موضوعي ناقد.
إن إعادة تقييم صورة وأحوال صدام حسين فترة المحاكمة من حيث المظهر (التماسك ـ عدم الانهيار ـ الحرص علي القرب من كتاب القرآن الكريم)، ومن حيث القول، خاصة اتهاماته للإدارة الأمريكية وللمحكمة، ومطالبته الشعب العراقي بمحاربة العدو الأمريكي وبتجنب الطائفية»، وكذلك من حيث الفعل، «خاصة نظام حياته داخل المحبس، وممارسة الرياضة، وحكمته في قوله للشاب الذي جذبه بقوة وعنف أثناء اقتياده إلي حجرة الإعدام: سامحك الله يابني، ذلك في نفس وقت مواجهته عملية الإعدام بشجاعة منقطعة، ورفضه تغطية وجهه أثناء الشنق، وكذلك إصراره وتركيزه علي أن تكون آخر كلماته ـ بينما الحبل حو رقبته ـ الهتاف من أجل حرية الشعب العراقي وضد العدوان الأمريكي، ثم ذكر الشهادة».
هذا، وربما يجدر هنا أن نقارن بين السلوك الشجاع الأخير لهذا الديكتاتور السابق وسلوك بعض حكام أوروبا الشرقية لحظة سقوطهم.
ربما في معرض كل ذلك يمكن استنتاج ما يلي:
أولاً: أن شراسة الهيمنة الأمريكية وما يتبعها من سلسلة تتابعات التفرقة والفتنة والعسكرة في شتي بقاع العالم، تفوق بكثير جداً شراسة الممارسات الديكتاتورية لصدام حسين ولأي ديكتاتور معاصر آخر، ذلك لأنها الشراسة الناجمة عن أكبر رأسمال مهيمن في العالم.
ثانياً: يمكن التخوف من أن يكون رد الفعل الحادث عند الحكام في البلدان العربية والنامية في اتجاه الدخول (أو المزيد من الدخول) إلي بيت الطاعة الأمريكي.
ثالثاً: من الواضح أن صدام حسين كان صاحب رسالة، غير أن ممارسته لرسالته قامت علي فردية في الحكم، مما أدي إلي محوه فكر الآخرين، ومحو الفكر الموضوعي لديه بوجه عام، وهكذا، بحيث تقلص ذهنه في مجرد فكر القوة (فكر صادر عن سلطة ونفوذ)، الأمر الذي قاده إلي ضيق أفق وممارسات ديكتاتورية صرفة، وفي المقابل، في المرحلة الأخيرة من حياته (السقوط والمحاكمة)، لم يبق لدي الرجل من قوة النفوذ نسبياً وبدأ يكتسب منه قوة، الأمر الذي وضح في مظهره وأقواله وأفعاله أثناء محاكمته، كما تجلي في شجاعته لحظات إعدامه.
لقد اكتسب صدام حسين قوة الفكر، لكن بعد فوات الأوان!!.
No comments:
Post a Comment