فهمي هويدي ـ الشرق الأوسط ـ 24/1
من مفارقات هذا الزمان، أنه في حين ينزلق العراق باتجاه حرب عبثية بين الشيعة والسنة، وتتواتر التقارير مشيرة الى أن ثمة إصطفافا عربيا مطروحا، يقيم تحالفا سنيا في مواجهة ما سمي بالهلال الشيعي، وترشح مصر لتكون أحد أعمدة التحالف السني المفترض، فإن مصر «السنية» تنزلق باتجاه حرب عبثية أخرى ضد الاسلام السياسي، ممثلا في حركة الإخوان المسلمين، وكأننا إزاء معركتين، إحداهما شيعية سنية ذات طابع مذهبي، والثانية سنية سنية طابعها سياسي بالدرجة الاولى.
هذه الحرب الثانية انطلقت شرارتها الأولى منذ حصد الإخوان 88 مقعدا في انتخابات مجلس الشعب المصري، التي جرت في عام 2005، وتحقق لهم ذلك رغم الضغوط والجهود التي بذلت لحصارهم، الأمر الذي لم يخل من تدخل في حساب أصوات الفرز وتغيير النتائج لصالح مرشحي الحزب الوطني الحاكم في بعض الدوائر، كما أثبتت المحاضر والتحقيقات في ما بعد.
هذا الحضور بدا مثيرا للانتباه ومقلقا، ما أثار الانتباه الى أن الجماعة، التي تم حظرها قانونا منذ عام 1954، وتعرضت خلال العقود الخمسة التي خلت، لملاحقات ومحاكمات وكم لا حصر له من عمليات القهر والترويع، تبين أنها ما زالت تحتفظ بحضورها القوي في المجتمع. آية ذلك أنها ـ وهي محظورة ـ حصلت على مقاعد في المجلس النيابي توازي عشرة أضعاف ما حصلت عليه أحزاب المعارضة المعترف بها قانونا. أما القلق فنابع من أن تمثيل الاخوان في المجلس النيابي بما يعادل خمس (5/1) الأعضاء ثبت أنه مرشح للزيادة إذا ما تمت الانتخابات في ظروف عادية، الأمر الذي يعني إمكانية حصولهم على نسبة الثلث من المقاعد أو أكثر، وهي نسبة خطرة من وجهة نظر الحزب الحاكم، لأنها يمكن أن تؤثر على قرارات المجلس التي تريد الحكومة تمريرها، والتعديلات الدستورية المطروحة حاليا مثال لذلك. بكلام آخر، فإن نسبة الخمس يمكن احتمالها من الناحية العملية، أما إن زادت على ذلك ووصلت الى الثلث مثلا، فذلك خط أحمر من وجهة نظر الحزب الحاكم.
ولم يخف رئيس الوزراء المصري الحالي، الدكتور أحمد نظيف، مشاعر القلق هذه، فقال في أحد تصريحاته المنشورة، إن دخول الإخوان إلى المجلس بالنسبة الموجودة حاليا كان «غلطة» ولن تتكرر!
فمنذ أن دخل الاخوان الى المجلس النيابي توالت الضربات الامنية التي وجهت اليهم. وحسب تقدير مصادر الجماعة فإنه تم اعتقال 850 شخصا أثناء الانتخابات وبسببها. وخلال الفترة اللاحقة، من ديسمبر 2005 وحتى شهر يناير 2007، وصل الذين تم اعتقالهم في جولات مختلفة الى حوالي 2500 شخص. وكانت أحدث جولة من ذلك القبيل، في أعقاب ما سمي بأحداث جامعة الازهر، التي وصفتها في مقالة سابقة بأنها «زوبعة في فنجان». وقد تبين لاحقا انها أصبحت إعصارا وليس مجرد زوبعة. لأن العرض الرياضي، الذي قدمه بعض طلاب جامعة الازهر في سياق اعتصامهم أمام مكتب مدير الجامعة، احتجاجا على فصل بعض زملائهم، صور آنذاك بأنه «عرض عسكري»، رغم أنه لم يثبت أن أحدا من الطلاب حمل معه موس حلاقة أو حتى عصا خشبية، ووصف الإعلام أولئك الطلاب بأنهم «ميليشيا»، خصوصا أنهم، وهم يمارسون لعبة الكاراتيه غطوا وجوههم وارتدوا ثيابا سوداء، تشبها بعناصر المقاومة التي تظهر في الصور. حينها أثار الموضوع ضجة واسعة في وسائل الاعلام، التي ألحت على مسألتي «الميليشيا» و«العرض العسكري»، فإن الإخوان أصدروا بيانا استنكروا فيه سلوك الطلاب ومظهرهم داخل حرم الجامعة، كما أصدر الطلاب بيانا آخر اعتذروا فيه عما بدر منهم وأسيء فهمه، فأساء اليهم والى جامعتهم. لكن الاعلام تجاهل الاستنكار والاعتذار واستمر في التعبئة المضادة، التي استهدفت تخويف الناس وترويعهم، إنطلاقا من مشهد جامعة الازهر، الذي صور وكأنه تمهيد لإحداث انقلاب في المجتمع بواسطة الميليشيات العسكرية.
في ظل هذا التصعيد سارعت أجهزة الأمن الى إلقاء القبض على عشرات الطلاب، ووسعت الأجهزة من حملتها فألقت القبض على آخرين ممن وصفوا بأنهم قادة الجماعة، مرة بتهمة التمويل الحالي، ومرة باسم الانتماء الى جماعة محظورة تهدد الامن والنظام العام، وحتى هذه اللحظة بلغ عدد الذين اعتقلوا على ذمة الحملة الأخيرة 270 شخصا، يفترض أن يقدموا الى المحاكمة بتهم جاهزة متعارف عليها.
الى هنا ولا جديد في المشهد، لان مثل هذه الضربات الأمنية ليست مفاجئة، وإن ذهبت الى أبعد هذه المرة، حين لم تكتف أجهزة الأمن بالتحفظ على عناصر الإخوان، وإنما لجأت الى إغلاق مشروعاتهم التجارية، ومصادرة أموالهم، واعتقال العاملين لديهم. فاقترن الاعتقال بقطع الأرزاق وتعسير الحياة على الأسر والعائلات، وتصفية الأنشطة الاقتصادية التي يمارسها المنتسبون الى الإخوان.
مع ذلك، فما بدا جديدا تماما هذه المرة أن الضربة الأمنية اقترنت بعملية تشهير سياسية غير مسبوقة، تمثلت في تصريحات رسمية اتهمت الإخوان بأنهم يريدون إقامة حكومة دينية في البلاد مماثلة للنموذج الذي طبقته حركة طالبان في أفغانستان. وانهم يهددون قيمة المواطنة، الأمر الذي يؤجج الفتنة ويضرب الوحدة الوطنية، الأمر الذي سيكون عنصرا طاردا لرأس المال الاجنبي، بما يهدد بشل حركة الاقتصاد في البلد، الى غير ذلك من الادعاءات التي أريد بها تصفية الاخوان سياسيا وإغلاق الباب تماما أمامهم، على نحو يستبعد أي أمل في إمكانية استيعابهم ضمن إطار الشرعية القانونية في مصر. وإذا كان هذا الكلام قد قيل على ألسنة كبار المسؤولين في البلد، فلك أن تتصور كيفية تفاعل الإعلام الرسمي معه، الذي اعتاد أن يهول في الظروف العادية، الى حين تلقف هذا الكلام الساخن، فإنه حوله الى مادة لحريق كبير أريد به استئصال كل ما هو منسوب الى ما يسمى بالاسلام السياسي، واذا استمرت حملة التعبئة المضادة على هذا النهج لمدة ثلاثة أسابيع، فإنها رفعت من مستوى التوتر والفزع في المجتمع، وسربت قلقا لا يستهان به في أوساط الأقباط ورجال الأعمال، ومن أسوأ ما أسفرت عنه الحملة أنها لم تثر خوفا من الإخوان فحسب، وإنما أثارت الخوف من الإسلام ذاته، الذي بات مقترنا بالدولة الدينية وباضطهاد غير المسلمين، خاصة العالم الخارجي وكأن حركة طالبان هو الممثل الشرعي الوحيد للتطبيق الاسلامي.
هناك لغط كثير حول دوافع هذه الحملة. فهناك من يقول بأنها أطلقت لإشاعة جو من الخوف يسمح بتبرير التعديلات الدستورية، التي تضمنت مزيدا من القيود على الحريات العامة، وأضعافا لإشراف القضاء على الانتخابات، ومصادرة لأي نشاط على أساس من الدين (قانون الاحزاب الراهن يمنع تأسيسها على أساس من الدين ولكن التعديل الدستوري المقترح أضاف حظر القيام بأي نشاط موصول بالدين).
هناك رأي آخر يقول بأن توجيه مثل هذه الضربات للإخوان هدفه إضعافهم في مرحلة ترتيب الأوضاع، التي تمهد لانتقال السلطة في مصر، بعد انتهاء الولاية الخامسة للرئيس مبارك في سنة 2010، وهناك من يقول بأن هدف الحملة هو توصيل رسالة الى الإخوان تذكرهم بأنهم لا يزالون مرفوضين من قبل النظام السياسي، وأن حظر نشاطهم لا يزال قائما، رغم صعودهم في أكثر من مجال، ويبدو أن توصيل هذه الرسالة كان مطلوبا لكبح مشاعر الانتعاش التي سرت في أوساط الاخوان بعد فوز حماس في فلسطين، ونجاح حزب الله في تحدي العدوان الاسرائيلي، وبعد دخول ممثلي التيار الاسلامي الى البرلمانات في أكثر من بلد عربي. ثمة سيناريو ثالث يقول إن الترويج «لفزاعة» الاخوان، أريد به دفع الناس الى الانحياز لأي بديل آخر مرشح للمستقبل، باعتبار أنه سيكون أفضل منهم. وهذه التفسيرات تظل في إطار الظنون والتخمينات، لكن المقطوع به أمران:
الاول، أن الباب بات مغلقا أمام الإخوان للمشاركة في الحياة السياسية بمصر، حتى إشعار آخر على الاقل، والثاني أن الحرب الأهلية، التي تشهدها البلاد منذ نصف قرن على الأقل، والتي يقف فيها النظام مؤيدا ببعض العلمانيين من جانب، في حين يقف الاسلاميون في المربع المضاد، هذه الحرب أصبحت مفتوحة وممتدة لأجل لا يعلمه الا الله. وهاتان نتيجتان بائستان لا تحققان أية مصلحة عليا للبلد.
وقبل ان اشرح تعليقي على هاتين النتيجتين، ألفت الانتباه إلى أن أكثر ما يهمني في المشهد ليس حركة الاخوان ومالأتها، وإنما مصير الحريات العامة في مصر، ومنطق تعامل النظام مع القوى السياسية المعارضة. ذلك أن أسلوب المصادرة والإقصاء والقمع عفا عليها الزمن، فضلا عن أنه أثبت فشله في حالة الاخوان، الذين خدمهم ذلك المنهج الذي طبق بحقهم طيلة نصف قرن، حيث زاد من تعاطف الناس معهم، باعتبارهم ضحايا موعودين بالمحن والابتلاء في كل وقت. ليس ذلك فحسب، وإنما من شأن الإقصاء أن يحرم البلاد من الأمان من طاقة وطنية إيمانية متوفرة في المجتمع، يمكن أن تضيف الكثير الى مسيرة العمل الوطني، إذا أحسن توظيفها. تقاس كفاءة العمل السياسي في كل بلد بمدى قدرة نظامه على احتواء مختلف القوى الحية في المجتمع، واستثمار طاقاتها لتحقيق مصالحه العليا. من ثم فإن حشد تلك القوى يعد نجاحا سياسيا وخطوة الى الامام، في حين أن إقصاء بعضها يعد خطوة الى الوراء، إذ هو من قبيل التعامي عن الواقع ودفن الرأس في الرمال، الأمر الذي يؤدي مفاقمة المشكلة وليس حلها.عند الأصوليين نجد أن المفتي الحقيقي ليس من يسارع الى تحريم ما يحتار في أمره من المحدثات، ولكنه من يستوعب المشكلة ويجد لها حلا شرعيا مناسبا. وهو موقف يسري أيضا على الموقف الذي نحن بصدده، لأن استمرار خطر التحريم لا يحل مشكلة قوى سياسية نامية عمرها حوالي 80 عاما، تريد أن تعمل في ظل القانون وحمايته. خصوصا في زمن يعتبر «قبول الآخر» من عناوينه المهمة، وهو ما دفعني الى القول في مقام آخر بأنني غير مصدق أن يكون تطبيع العلاقات مع إسرائيل أيسر من تطبيقها مع الإخوان. في هذا الصدد فإنني أتفق في الرأي ـ في مرة نادرة ـ مع الأستاذ عبد الرحمن الراشد في ما كتبه في «الشرق الاوسط» (يوم 16/1) حين خطأ موقف إلغاء الإخوان
من مفارقات هذا الزمان، أنه في حين ينزلق العراق باتجاه حرب عبثية بين الشيعة والسنة، وتتواتر التقارير مشيرة الى أن ثمة إصطفافا عربيا مطروحا، يقيم تحالفا سنيا في مواجهة ما سمي بالهلال الشيعي، وترشح مصر لتكون أحد أعمدة التحالف السني المفترض، فإن مصر «السنية» تنزلق باتجاه حرب عبثية أخرى ضد الاسلام السياسي، ممثلا في حركة الإخوان المسلمين، وكأننا إزاء معركتين، إحداهما شيعية سنية ذات طابع مذهبي، والثانية سنية سنية طابعها سياسي بالدرجة الاولى.
هذه الحرب الثانية انطلقت شرارتها الأولى منذ حصد الإخوان 88 مقعدا في انتخابات مجلس الشعب المصري، التي جرت في عام 2005، وتحقق لهم ذلك رغم الضغوط والجهود التي بذلت لحصارهم، الأمر الذي لم يخل من تدخل في حساب أصوات الفرز وتغيير النتائج لصالح مرشحي الحزب الوطني الحاكم في بعض الدوائر، كما أثبتت المحاضر والتحقيقات في ما بعد.
هذا الحضور بدا مثيرا للانتباه ومقلقا، ما أثار الانتباه الى أن الجماعة، التي تم حظرها قانونا منذ عام 1954، وتعرضت خلال العقود الخمسة التي خلت، لملاحقات ومحاكمات وكم لا حصر له من عمليات القهر والترويع، تبين أنها ما زالت تحتفظ بحضورها القوي في المجتمع. آية ذلك أنها ـ وهي محظورة ـ حصلت على مقاعد في المجلس النيابي توازي عشرة أضعاف ما حصلت عليه أحزاب المعارضة المعترف بها قانونا. أما القلق فنابع من أن تمثيل الاخوان في المجلس النيابي بما يعادل خمس (5/1) الأعضاء ثبت أنه مرشح للزيادة إذا ما تمت الانتخابات في ظروف عادية، الأمر الذي يعني إمكانية حصولهم على نسبة الثلث من المقاعد أو أكثر، وهي نسبة خطرة من وجهة نظر الحزب الحاكم، لأنها يمكن أن تؤثر على قرارات المجلس التي تريد الحكومة تمريرها، والتعديلات الدستورية المطروحة حاليا مثال لذلك. بكلام آخر، فإن نسبة الخمس يمكن احتمالها من الناحية العملية، أما إن زادت على ذلك ووصلت الى الثلث مثلا، فذلك خط أحمر من وجهة نظر الحزب الحاكم.
ولم يخف رئيس الوزراء المصري الحالي، الدكتور أحمد نظيف، مشاعر القلق هذه، فقال في أحد تصريحاته المنشورة، إن دخول الإخوان إلى المجلس بالنسبة الموجودة حاليا كان «غلطة» ولن تتكرر!
فمنذ أن دخل الاخوان الى المجلس النيابي توالت الضربات الامنية التي وجهت اليهم. وحسب تقدير مصادر الجماعة فإنه تم اعتقال 850 شخصا أثناء الانتخابات وبسببها. وخلال الفترة اللاحقة، من ديسمبر 2005 وحتى شهر يناير 2007، وصل الذين تم اعتقالهم في جولات مختلفة الى حوالي 2500 شخص. وكانت أحدث جولة من ذلك القبيل، في أعقاب ما سمي بأحداث جامعة الازهر، التي وصفتها في مقالة سابقة بأنها «زوبعة في فنجان». وقد تبين لاحقا انها أصبحت إعصارا وليس مجرد زوبعة. لأن العرض الرياضي، الذي قدمه بعض طلاب جامعة الازهر في سياق اعتصامهم أمام مكتب مدير الجامعة، احتجاجا على فصل بعض زملائهم، صور آنذاك بأنه «عرض عسكري»، رغم أنه لم يثبت أن أحدا من الطلاب حمل معه موس حلاقة أو حتى عصا خشبية، ووصف الإعلام أولئك الطلاب بأنهم «ميليشيا»، خصوصا أنهم، وهم يمارسون لعبة الكاراتيه غطوا وجوههم وارتدوا ثيابا سوداء، تشبها بعناصر المقاومة التي تظهر في الصور. حينها أثار الموضوع ضجة واسعة في وسائل الاعلام، التي ألحت على مسألتي «الميليشيا» و«العرض العسكري»، فإن الإخوان أصدروا بيانا استنكروا فيه سلوك الطلاب ومظهرهم داخل حرم الجامعة، كما أصدر الطلاب بيانا آخر اعتذروا فيه عما بدر منهم وأسيء فهمه، فأساء اليهم والى جامعتهم. لكن الاعلام تجاهل الاستنكار والاعتذار واستمر في التعبئة المضادة، التي استهدفت تخويف الناس وترويعهم، إنطلاقا من مشهد جامعة الازهر، الذي صور وكأنه تمهيد لإحداث انقلاب في المجتمع بواسطة الميليشيات العسكرية.
في ظل هذا التصعيد سارعت أجهزة الأمن الى إلقاء القبض على عشرات الطلاب، ووسعت الأجهزة من حملتها فألقت القبض على آخرين ممن وصفوا بأنهم قادة الجماعة، مرة بتهمة التمويل الحالي، ومرة باسم الانتماء الى جماعة محظورة تهدد الامن والنظام العام، وحتى هذه اللحظة بلغ عدد الذين اعتقلوا على ذمة الحملة الأخيرة 270 شخصا، يفترض أن يقدموا الى المحاكمة بتهم جاهزة متعارف عليها.
الى هنا ولا جديد في المشهد، لان مثل هذه الضربات الأمنية ليست مفاجئة، وإن ذهبت الى أبعد هذه المرة، حين لم تكتف أجهزة الأمن بالتحفظ على عناصر الإخوان، وإنما لجأت الى إغلاق مشروعاتهم التجارية، ومصادرة أموالهم، واعتقال العاملين لديهم. فاقترن الاعتقال بقطع الأرزاق وتعسير الحياة على الأسر والعائلات، وتصفية الأنشطة الاقتصادية التي يمارسها المنتسبون الى الإخوان.
مع ذلك، فما بدا جديدا تماما هذه المرة أن الضربة الأمنية اقترنت بعملية تشهير سياسية غير مسبوقة، تمثلت في تصريحات رسمية اتهمت الإخوان بأنهم يريدون إقامة حكومة دينية في البلاد مماثلة للنموذج الذي طبقته حركة طالبان في أفغانستان. وانهم يهددون قيمة المواطنة، الأمر الذي يؤجج الفتنة ويضرب الوحدة الوطنية، الأمر الذي سيكون عنصرا طاردا لرأس المال الاجنبي، بما يهدد بشل حركة الاقتصاد في البلد، الى غير ذلك من الادعاءات التي أريد بها تصفية الاخوان سياسيا وإغلاق الباب تماما أمامهم، على نحو يستبعد أي أمل في إمكانية استيعابهم ضمن إطار الشرعية القانونية في مصر. وإذا كان هذا الكلام قد قيل على ألسنة كبار المسؤولين في البلد، فلك أن تتصور كيفية تفاعل الإعلام الرسمي معه، الذي اعتاد أن يهول في الظروف العادية، الى حين تلقف هذا الكلام الساخن، فإنه حوله الى مادة لحريق كبير أريد به استئصال كل ما هو منسوب الى ما يسمى بالاسلام السياسي، واذا استمرت حملة التعبئة المضادة على هذا النهج لمدة ثلاثة أسابيع، فإنها رفعت من مستوى التوتر والفزع في المجتمع، وسربت قلقا لا يستهان به في أوساط الأقباط ورجال الأعمال، ومن أسوأ ما أسفرت عنه الحملة أنها لم تثر خوفا من الإخوان فحسب، وإنما أثارت الخوف من الإسلام ذاته، الذي بات مقترنا بالدولة الدينية وباضطهاد غير المسلمين، خاصة العالم الخارجي وكأن حركة طالبان هو الممثل الشرعي الوحيد للتطبيق الاسلامي.
هناك لغط كثير حول دوافع هذه الحملة. فهناك من يقول بأنها أطلقت لإشاعة جو من الخوف يسمح بتبرير التعديلات الدستورية، التي تضمنت مزيدا من القيود على الحريات العامة، وأضعافا لإشراف القضاء على الانتخابات، ومصادرة لأي نشاط على أساس من الدين (قانون الاحزاب الراهن يمنع تأسيسها على أساس من الدين ولكن التعديل الدستوري المقترح أضاف حظر القيام بأي نشاط موصول بالدين).
هناك رأي آخر يقول بأن توجيه مثل هذه الضربات للإخوان هدفه إضعافهم في مرحلة ترتيب الأوضاع، التي تمهد لانتقال السلطة في مصر، بعد انتهاء الولاية الخامسة للرئيس مبارك في سنة 2010، وهناك من يقول بأن هدف الحملة هو توصيل رسالة الى الإخوان تذكرهم بأنهم لا يزالون مرفوضين من قبل النظام السياسي، وأن حظر نشاطهم لا يزال قائما، رغم صعودهم في أكثر من مجال، ويبدو أن توصيل هذه الرسالة كان مطلوبا لكبح مشاعر الانتعاش التي سرت في أوساط الاخوان بعد فوز حماس في فلسطين، ونجاح حزب الله في تحدي العدوان الاسرائيلي، وبعد دخول ممثلي التيار الاسلامي الى البرلمانات في أكثر من بلد عربي. ثمة سيناريو ثالث يقول إن الترويج «لفزاعة» الاخوان، أريد به دفع الناس الى الانحياز لأي بديل آخر مرشح للمستقبل، باعتبار أنه سيكون أفضل منهم. وهذه التفسيرات تظل في إطار الظنون والتخمينات، لكن المقطوع به أمران:
الاول، أن الباب بات مغلقا أمام الإخوان للمشاركة في الحياة السياسية بمصر، حتى إشعار آخر على الاقل، والثاني أن الحرب الأهلية، التي تشهدها البلاد منذ نصف قرن على الأقل، والتي يقف فيها النظام مؤيدا ببعض العلمانيين من جانب، في حين يقف الاسلاميون في المربع المضاد، هذه الحرب أصبحت مفتوحة وممتدة لأجل لا يعلمه الا الله. وهاتان نتيجتان بائستان لا تحققان أية مصلحة عليا للبلد.
وقبل ان اشرح تعليقي على هاتين النتيجتين، ألفت الانتباه إلى أن أكثر ما يهمني في المشهد ليس حركة الاخوان ومالأتها، وإنما مصير الحريات العامة في مصر، ومنطق تعامل النظام مع القوى السياسية المعارضة. ذلك أن أسلوب المصادرة والإقصاء والقمع عفا عليها الزمن، فضلا عن أنه أثبت فشله في حالة الاخوان، الذين خدمهم ذلك المنهج الذي طبق بحقهم طيلة نصف قرن، حيث زاد من تعاطف الناس معهم، باعتبارهم ضحايا موعودين بالمحن والابتلاء في كل وقت. ليس ذلك فحسب، وإنما من شأن الإقصاء أن يحرم البلاد من الأمان من طاقة وطنية إيمانية متوفرة في المجتمع، يمكن أن تضيف الكثير الى مسيرة العمل الوطني، إذا أحسن توظيفها. تقاس كفاءة العمل السياسي في كل بلد بمدى قدرة نظامه على احتواء مختلف القوى الحية في المجتمع، واستثمار طاقاتها لتحقيق مصالحه العليا. من ثم فإن حشد تلك القوى يعد نجاحا سياسيا وخطوة الى الامام، في حين أن إقصاء بعضها يعد خطوة الى الوراء، إذ هو من قبيل التعامي عن الواقع ودفن الرأس في الرمال، الأمر الذي يؤدي مفاقمة المشكلة وليس حلها.عند الأصوليين نجد أن المفتي الحقيقي ليس من يسارع الى تحريم ما يحتار في أمره من المحدثات، ولكنه من يستوعب المشكلة ويجد لها حلا شرعيا مناسبا. وهو موقف يسري أيضا على الموقف الذي نحن بصدده، لأن استمرار خطر التحريم لا يحل مشكلة قوى سياسية نامية عمرها حوالي 80 عاما، تريد أن تعمل في ظل القانون وحمايته. خصوصا في زمن يعتبر «قبول الآخر» من عناوينه المهمة، وهو ما دفعني الى القول في مقام آخر بأنني غير مصدق أن يكون تطبيع العلاقات مع إسرائيل أيسر من تطبيقها مع الإخوان. في هذا الصدد فإنني أتفق في الرأي ـ في مرة نادرة ـ مع الأستاذ عبد الرحمن الراشد في ما كتبه في «الشرق الاوسط» (يوم 16/1) حين خطأ موقف إلغاء الإخوان
No comments:
Post a Comment