د. رفيق حبيب ـ المصريون : بتاريخ 5 - 2 - 2007
عرفت مصر والساحة العربية والإسلامية، الكثير من الجدل، بل نقول الكثير من الصراع، بين التوجهات العلمانية والتيارات الإسلامية. والحقيقة أن ذلك الجدل أو الصراع كان يدور حول الهوية الحضارية للأمة، وحول المرجعية الفكرية والفلسفية للنظام السياسي، ولم يكن فقط خلافا بين برامج سياسية. فالتوجه العلماني يقوم على محاكاة المشروع السياسي الغربي، وبعضه يقوم على محاكاة الحضارة الغربية في مختلف أوجه الحياة، أما بعضه الآخر فيقوم على نقل التجربة السياسية الغربية، دون محاولة تغيير النظام الاجتماعي ومرجعيته الحضارية. ومع الدرجات المختلفة من العلمنة المراد تطبيقها، تراوحت التوجهات بين علمنة المجتمع المصري بالكامل، وبين علمنة النظام السياسي، دون بقية مجالات الحياة، وهو ما يعني ازدواجية بين نظام سياسي علماني ذي منشأ غربي، ونظام اجتماعي حضاري عربي إسلامي نابع من التجربة التاريخية للأمة. وأمام كل هذه المحاولات، بل نقول بسبب هذه المحاولات، قامت الحركة الإسلامية لتعييد المرجعية الحضارية والدينية للأمة، وتجعل الالتزام بالأصول الحضارية والدينية هدفا لها، في محاولة لجعل هذه الأصول بمثابة المرجعية الوحيدة للنظام السياسي والنظام الاجتماعي. ولم تعارض الحركة الإسلامية في اقتباس الوسائل والأدوات من التجربة الغربية، خاصة بالنسبة للحركات الإسلامية السلمية، والتي استطاعت استيعاب الآليات السياسية الغربية، خاصة مع تطور الخطاب السياسي لهذه الحركات.هنا أصبحنا بصدد جدل حول طبيعة النظام السياسي، وطبيعة الإطار المرجعي له، ما بين إطار مرجعي غربي، وإطار مرجعي عربي إسلامي. ولكن الوقائع السياسية لم تشهد حسما لهذه القضية، بل شهدت مزاوجة انتقائية للمرجعيات في النظام السياسي. فالدولة المصرية والنظام المصري الحاكم، ومنذ تأسيسه في ثورة 23 يوليو، وهو لا يحاول قطع العلاقة مع المرجعية الدينية والحضارية للأمة، ولكنه أراد السيطرة عليها وتفعيلها في النطاق الذي يخدم بقائه، ويخدم قدرته على استيعاب الجمهور المصري المتدين، وفي نفس الوقت حاول عزل هذه المرجعية الحضارية والدينية للأمة عن العديد من المجالات السياسية، خاصة المجال الاقتصادي وجزء من المجال التشريعي والقانوني، وجزء من المجال السياسي. بمعنى آخر، زاوج النظام بين المرجعية العربية الإسلامية، وبين المرجعية الغربية، وشكل نظاما سياسيا مختلطا، تتحكم فيه النخبة الحاكمة وتتحكم في انتقائها للمرجعية المناسبة لها حسب الموقف. وبهذا أصبحت النخبة الحاكمة في موقف يواجه بالنقد من النخب العلمانية والتي تريد على الأقل علمنة النظام السياسي والدستوري والقانوني بالكامل، ويواجه بالنقد من الحركات الإسلامية والتي تريد توحيد المرجعية العامة للنظام السياسي لتكون هي نفس المرجعية التي تنتمي لها الجماعة المصرية، وهي المرجعية الدينية والحضارية للأمة، أي مرجعية الحضارة العربية الإسلامية. ووسط هذا الجدل، تعمق المنحى الانتقائي في تصور النظام السياسي، وظهر ذلك لدى الأقباط بشكل واضح. فكان من نتائج هذه الانتقائية أن تشكلت مواقف انتقائية لدى الأقباط، بحيث نجد لديهم العديد من المواقف التي تؤدي إلى التمسك بالمرجعية الدينية والحضارية في النظام السياسي، ومواقف أخرى تؤدي إلى التخلي عن هذه المرجعية لصالح المرجعية الحضارية الغربية، أي لصالح العلمنة. والغريب أن هذا الموقف الانتقائي يحدث أحيانا في نفس الموضوع. فعلى سبيل المثال، نجد هناك جدلا حول مسألة الأحوال الشخصية للمسيحيين، فالمحاكم المصرية وطبقا للقانون، تحكم بالطلاق أحيانا، ولكن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية ترفض تلك الأحكام، وقد صرح البابا شنودة الثالث أنه لن ينفذ حكما يخالف تعاليم الإنجيل. وتلك الأحكام الصادرة من المحاكم ناتجة من توحيد المحاكم الشرعية، كجزء من تصور نظام يوليو عن الدولة الحديثة، وكجزء من عملية العلمنة، مما أدى إلى صدور أحكام تتفق مع الشريعة المسيحية وأخرى لا تتفق معها. وهنا نجد أن موقف الكنيسة مع الاحتكام للمرجعية الدينية في المسائل القانونية، أي في النظام العام وفي التشريع. ولكن هذا الموقف يتعارض مع مواقف أخرى للأقباط أو للكنيسة، تريد تعديل المادة الثانية للدستور والخاصة بدين الدولة والشريعة الإسلامية. رغم أن تميز المسيحيين بقانون أحوال شخصية خاص بهم هو تطبيق للشريعة الإسلامية، وإلغاء المادة الثانية من الدستور، يؤدي إلى عدم دستورية قانون الأحوال الشخصية للمسيحيين. فالعلمنة والمساواة تفترض وجود قانون واحد يحاكم أمامه كل المصريين، ولكن الشريعة الإسلامية تقول بأحقية أصحاب الأديان في الاحتكام لعقيدتهم، وبالتالي تسمح الشريعة الإسلامية بالتعدد القانوني، وهو ما ترفضه جميع الدساتير العلمانية في الغرب.ونحن هنا أمام موقف مزدوج، ففي العديد من المواقف يساهم الأقباط في تأكيد أهمية وحتمية الاحتكام للدين، وأهمية أن تحمي القوانين قداسة الدين في وجه أي ممارسة لحرية التعبير، وهو أمر يساهم في تعضيد المشروع السياسي للحركة الإسلامية، ولكن من جانب آخر، نجد محاولات لعلمنة جزء من النظام السياسي والقانوني، يرى الأقباط أنها تحميهم من التمييز ضدهم. وتلك الانتقائية التي أسس لها النظام السياسي، تجعل المجال العام محكوما بأحكام الدين أحيانا والمرجعية العلمانية أحيانا أخرى، وتلك وضعية تؤدي إلى تفكك النظام السياسي، وترهل النظام الدستوري والقانوني. وهذه الثنائية تخدم النظام السياسي المصري، لأنها تسمح له باختيار المرجعية المناسبة له، وتسمح له بالسيطرة على المجال الديني، حتى لا يصبح المجال الديني حكما عليه. ولهذا يهدف النظام في النهاية للسيطرة على المجال الديني الإسلامي والمسيحي، لتوظيفه في خدمة بقائه في الحكم. ويستفيد النظام من ثنائية موقف الأقباط، ليوظفهم من أجل بقائه في الحكم.
No comments:
Post a Comment