د.جلال أمين
في محاولة تفسير ما يحدث في مصر الآن، علي الساحة السياسية، من المهم في رأيي أن نبدأ بواقعة، قد يبدو للقارئ لأول وهلة أنه لا علاقة لها بما نبحث عنه، ولكني سأحاول أن أقنع القارئ بوجود هذه العلاقة، هذه الواقعة هي اعتلاء جورج بوش منصب الرئاسة في الولايات المتحدة في يناير ٢٠٠١، أي منذ ست سنوات،
وفي ظروف غريبة وغير معتادة في تاريخ الانتخابات الأمريكية، فهناك دلائل بالغة القوة، بل وحاسمة، علي أن حصول بوش علي عدد من الأصوات أكبر مما حصل عليه منافسه، جاء نتيجة تزوير صارخ، اشترك فيه شقيق بوش، حاكم ولاية فلوريدا في ذلك الوقت، وهي الولاية التي حسمت أصواتها في آخر لحظة نتيجة الانتخابات.إني أذكر هذه الملابسات التي أسفرت عن فوز الرئيس بوش لربطها بأحداث ١١ سبتمبر من نفس العام، أي بعد اعتلاء بوش الرئاسة بتسعة أشهر، وما ترتب علي أحداث سبتمبر من تطورات شديدة الخطورة وبعيدة المدي في العالم ككل، ولكن علي الأخص في الشرق الأوسط.
الذي أريد أن أصل إليه هو أن مخططًا باتخاذ إجراءات بالغة الأهمية تتعلق بالسياسة الخارجية الأمريكية، كان قد تم وضعه قبل اعتلاء الرئيس بوش الحكم وهو مخطط يكون جزءًا مما عرف ببرنامج القرن الأمريكي الجديد «The New American Century»، من بين عناصر هذا المخطط قيام الولايات المتحدة باحتلال العراق لأسباب تتعلق أساسًا بالبترول العراقي ولكن ليس به وحده، وإجراء تغييرات مهمة أخري في منطقة الشرق الأوسط بأكملها تحقيقًا لأهداف تتعلق أساسًا بالبترول وبغيره أيضًا، كما أزعم أن القرار الذي كان قد اتخذ قبل اعتلاء بوش الحكم، ببدء تنفيذ هذا المخطط أو البرنامج، له علاقة وثيقة بالإصرار علي إنجاح بوش في الانتخابات ولو بالتزوير.
معني هذا، أن الشرق الأوسط كان مقررًا له أن يكون في بؤرة الأحداث ابتداء من استلام الرئيس بوش الحكم ، بعد أن احتلت مناطق أخري من العالم في أوروبا وأفريقيا بؤرة الأحداث في العقد السابق، وهو العقد التالي مباشرة لسقوط الاتحاد السوفيتي، كان لابد أن يعاد ترتيب العالم في أعقاب الاختلال الذي حدث بسقوط الكتلة الشيوعية وانتهاء الحرب الباردة، ويبدو أن ترتيب الأولويات جعل دور الشرق الأوسط يأتي في هذا العقد الأول من القرن الجديد.
إني أقرأ أحداث ١١ سبتمبر ٢٠٠١ في ضوء هذا المخطط، كما أقرأ في ضوئه أشياء كثيرة أخري، من أهمها بالطبع الهجوم الأمريكي علي أفغانستان وعلي العراق، والتهديد الأمريكي المستمر لإيران وسوريا، والتضخيم الشديد لما يسمي بالإرهاب، ووصم الإسلام بالفاشية، والهجوم الإسرائيلي الأخير علي لبنان، وظهور التقارير المتتالية من الهيئة المسماة «برنامج الأمم المتحدة الإنمائي» للتنديد بالبلاد العربية والتشهير بالعرب.
ولكني أقرأ أيضًا علي ضوء هذا المخطط، تغير موقف الإدارة الأمريكية من النظام المصري بمجرد وقوع أحداث سبتمبر، إني لا أقصد بالطبع أن موقف الإدارة الأمريكية من النظام المصري تحول من الصداقة إلي المعاداة، أو من سياسة دعم النظام إلي الاستغناء عنه، بل أقصد التغير في طبيعة الخدمات المطلوبة من النظام، وفي الوسائل التي يمكن أن تحقق بها هذه الخدمات.
لقد قيل وكُتب الكثير عما يمكن أن تعنيه عبارة «إعادة ترتيب الشرق الأوسط»، من تحقيق التواجد العسكري الكثيف للولايات المتحدة بجوار أغني آبار البترول وأكبر احتياطي من البترول في العالم، تمكينا للولايات المتحدة من فرض إرادتها علي منافسيها من الأصدقاء والأعداء المحتملين علي السواء، إلي إعادة تقسيم العالم العربي علي نحو ما تم في أعقاب الحرب الأولي طبقًا لاتفاقية سايكس بيكو، بما يحقق فوائد جمة لإسرائيل والولايات المتحدة علي السواء،
ويضع حدًا نهائيا لأي أمل لتحقيق وحدة العرب، إلي تهيئة المنطقة لأن تصبح قادرة ومستعدة لاستقبال رؤوس الأموال والسلع والخدمات الأمريكية والإسرائيلية، أكثر من استقبالها أموال وسلع أي دولة أخري بما يتطلبه هذا من تغيير في مواقف العرب السياسية والنفسية ، ناهيك عن سياساتهم الاقتصادية، وما يتطلبه هذا بدوره من تغييرات في نظم التعليم والإعلام إلي تمكين إسرائيل من وضع نهاية للمشكلة الفلسطينية بما يتفق مع مصالحها، وقد يتطلب هذا ضمّ أراض جديدة في لبنان، ناهيك عن ضم إسرائيل ما تريد ضمه من الضفة الغربية أو غزة، أو حتي تهجير من تريد تهجيره من الفلسطينيين إلي بلاد عربية أخري.
كل هذا في رأيي صحيح، أما الكلام الكثير عن أن الهدف من «إعادة ترتيب الشرق الأوسط» هو مكافحة الإرهاب، أو ترسيخ الديمقراطية، أو إرساء أسس «مجتمع المعرفة»، أو إصلاح نظم التعليم المتردية، أو النهوض بأحوال المرأة، أوضع البلاد العربية علي طريق التنمية السريعة...إلخ، فأقل ما يمكن أن يوصف به هو أنه «كلام فارغ»، وهذا هو بالضبط ما قصدته عندما أشرت إلي الكلام الذي ينشر في الغرب بغرض التضليل، والذي نادرًا ما يسمح للصحف والمجلات الغربية بنشر ما يخالفه، والذي يردده بعض كتابنا من باب الاسترزاق.
فإذا كان ما ذكرناه من أهداف «إعادة ترتيب الشرق الأوسط» هي الأهداف الحقيقية، فلابد أن يحتاج تحقيقها إلي تغيير نوع الحكومات في الدول العربية، أو علي الأقل في الدول العربية «المهمة»، أي تلك التي يمكن أن تساعد أو تعطل تحقيق هذه الأهداف، من هذه الدول العربية المهمة مصر بلاشك، ففضلاً عن الفائدة التي يحققها اشتراك مصر في بعض العمليات الحربية، لا يمكن التقليل من الفائدة الإعلامية للزعم بأن مصر بثقلها المعروف في المنطقة العربية، تؤيد ما يجري عمله لإعادة ترتيب المنطقة، ناهيك عما يحققه التأييد المصري لهذه الأعمال من إزالة الخوف من قلوب حكومات عربية أخري تحتاج دائماً إلي التعلل بأنه «إذا كانت مصر موافقة، فما الذي بيدنا أن نصنعه؟»،
أضف إلي كل ذلك بالطبع الفوائد المباشرة التي يحققها انفتاح مصر، بحجمها السكاني وثروتها البشرية، علي رؤوس الأموال والبضائع الأمريكية والإسرائيلية، إذا سارت مصر بخطي حثيثة نحو بيع القطاع العام، وتهيئة البلاد لاستقبال الاستثمار الأجنبي، أو بعبارة أدق، بيع القطاع العام للأمريكيين والإسرائيليين، واستقبال الاستثمار الأجنبي من هاتين الجهتين، حتي لو تسمت الشركات القادمة ومشترو القطاع العام بأسماء دول أخري، قد يقال «وهل كان النظام المصري يبدي أي اعتراض علي أي شيء من هذا طوال العشرين أو الثلاثين عاماً الماضية؟
هل يمكن أن يطمع الأمريكيون والإسرائيليون في نظام «أفضل» من هذا النظام؟ وهنا نصل إلي التفسير الحقيقي لما حدث في مصر في السنوات الأخيرة من تغييرات مدهشة أقرب إلي الألغاز.
لقد انتهت بحلول حكومة الدكتور أحمد نظيف (في صيف ٢٠٠٤) فترة طويلة ومختلفة تماماً عما جاء بعدها، وهو يدل في رأيي علي شروع الإدارة الأمريكية في تطبيق ذلك الجزء من مخططها المتعلق بالشرق الأوسط، والذي بدأ بهمة بالغة بالاحتلال الأمريكي - البريطاني للعراق في مارس ٢٠٠٣.
لقد استغرق التمهيد لتنفيذ هذا المخطط بعض الوقت (من سبتمبر ٢٠٠١ إلي مارس ٢٠٠٣)، كما أن تنفيذه الذي يجري حالياً تقابله من حين لآخر العثرات والصعوبات التي تتعلق أساساً، ليس بالضبط بضراوة المقاومة العراقية، كما يظن البعض، بل بضراوة الاعتراضات والعقبات التي تضعها دول كبري أخري في وجه انفراد الولايات المتحدة (وبريطانيا) بالجوائز دونها، والتي تجري مفاوضاتها من وراء الكواليس ونادراً ما نسمع عنها شيئاً.
جاءت حكومة د.نظيف بملامح مفاجئة وجديدة تماماً علينا، لم نتعود رؤيتها في حكومات أمثال عاطف عبيد أو الجنزوري أو عاطف صدقي، فهؤلاء الرجال الثلاثة الذين احتلوا مركز رئيس الوزراء لمدة تقرب من عشرين عاماً (١٩٨٦ - ٢٠٠٤) كانت لهم صفة مشتركة لا تتوافر في د.نظيف، وهي أن تاريخهم الوظيفي (والسياسي) قد علقت به بعض آثار العهد الناصري، الذي كان يتطلب الولاء للقطاع العام ولنوع من الاشتراكية وتضييق الفجوة بين الطبقات.
لم يكن أي من هؤلاء الثلاثة اشتراكياً بطبعه (بل ربما كان العكس هو الأقرب إلي الصحة)، ولكنهم عاشوا فترة أطول من اللازم في ظل الاشتراكية، واضطروا في مرحلة أو أخري إلي السير في ركابها (أو التظاهر بهذا علي الأقل) إما بالاشتراك في تأليف كتب تمتدح الاشتراكية العربية، أو في عضوية لجنة من لجان الاتحاد الاشتراكي...إلخ.
إن مثل هذا التاريخ لا يمنع بالضبط من اشتراك رجل من هؤلاء في تحويل النظام من الاشتراكية إلي الرأسمالية، ولكن يبدو أن مجرد الاتصال بشكل ما بالعهد الاشتراكي يجعل التحول الكامل إلي الرأسمالية أمراً صعباً، ويجعل المرء يتردد كثيراً قبل أن يتخذ قراراً مثل إلغاء الدعم أو تخفيضه، أو بيع إحدي مؤسسات القطاع العام إلي شركة أجنبية، ناهيك عن أن رجلاً كهذا إذا أصبح رئيساً للوزراء لابد أن يميل إلي اختيار وزراء من نفس النوع، فيصعب أن يحدث علي أيديهم التحول المطلوب.
الدكتور نظيف ليس من هذا النوع، فهو «نظيف» تماماً من أي شبهة تتعلق بالاشتراكية أو حب القطاع العام، ومن الممكن جداً أن يختار وزراء لا يؤمنون بأي صورة من صور القطاع العام، ويحتقرون أي نوع من أنواع تدخل الدولة، ولو كان لصالح الفقراء، الذين هم في نظرهم، المسؤولون الوحيدون عن فقرهم. إني لا أشك في أن فكرة تعيين د.أحمد نظيف وهذا النوع من الوزراء الذين جاءوا معه، قد نبتت في مكان ما خارج القاهرة، ثم بُلغت بها القاهرة فجري تنفيذها.
ذلك أنه من المفيد جداً أن يتولي رئاسة الوزراء والوزارات وثيقة الصلة بالاقتصاد (كالاقتصاد والتجارة والصناعة والسياحة والنقل والإسكان) رجال يمكن أن يتفهموا تمام الفهم المطالب الأمريكية في المرحلة الجديدة، ويتعاطفوا بطبيعتهم معها، إذ إن طبيعة نشاطهم قبل توليهم الوزارة كانت من نفس هذا النوع المطلوب تشجيعه، ولهم علاقات قديمة ووثيقة بالشركات الأجنبية مما يجعل من السهل عليهم أيضاً أن يتفاهموا مع المستثمرين الأجانب.
أما فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، وموقف مصر من الهجوم الأمريكي علي العراق، ومن الهجوم الإسرائيلي علي لبنان، فهؤلاء الوزراء ورئيسهم ليس من طبعهم أن يشعروا بالضيق الشديد إزاء ما تفعله أمريكا وإسرائيل في العراق ولبنان،
فهؤلاء لم يعانوا في أي وقت من أي شعور بالتعاطف مع بقية العرب، ولديهم ميل طبيعي لتقدير «الكفاءة» الإسرائيلية حتي ولو راح ضحيتها بعض العرب، وهم يرحبون بشدة بأي نوع من السلام يضمن لهم الاستمرار في تحقيق الأرباح من مشروعاتهم الخاصة بصرف النظر عن الخسائر السياسية التي يمكن أن تصاب بها مصر من وراء هذا السلام.
ومع كل هذا فعلينا ألا نعلق أهمية مبالغًا فيها علي دور هؤلاء الوزراء أو حتي علي رئيس الوزراء، فهؤلاء في نهاية الأمر ينفذون سياسات لم يفكروا فيها ابتداء، بل فقط يتعاطفون بطبيعتهم معها، أما الذين «يفكرون» و«يخططون» حقيقة ويطرحون من وقت لآخر فكرة تطوير هذا القطاع أو ذاك، أو تنفيذ هذا المشروع الكبير أو ذاك، أو عقد اتفاقية دولية مهمة «كالكويز مثلا» مع هذه الدولة أو تلك، أو تحديد نوع التغيير المراد إجراؤه علي نظام التعليم في مصر، وطريقة تمويل الدراسات اللازمة له.. إلخ،
هذه الأفكار كلها لابد أن يكون مصدرها مجموعة مهمة من الناس يقيمون عادة في الخارج ويساعدهم علي فهم «المكون» المصري، وما يتطلبه الواقع المصري من تعديلات علي هذه الأفكار لتسهيل تنفيذها، يساعدهم علي هذا مجموعة مهمة أخري من المصريين تقوم بدور الوسيط بين الحكام الحقيقيين في الخارج، والمنفذين المصريين الذين يحتلون مناصب مثل رئاسة مجلس الوزراء أو الوزراء.
من هم أعضاء هذه «المجموعة المهمة» من المصريين الذين يقومون بدور الوسيط بين الإدارة الأمريكية و«المنفذين» المصريين؟ لا أظن أن من الصعب علي القارئ تخمين أسمائهم، وهم قد يزيدون أو ينقصون مع الوقت، ولكن من بينهم نواة صلبة لا تتغير بسهولة، وقد لا تتغير أبدا، بل قد يرجع تاريخها في السياسة المصرية إلي عهد عبدالناصر نفسه، وإن كانوا قد قاموا بأدوار مختلفة في الحقب المختلفة من تطور النظام المصري.
لهؤلاء الأشخاص الذين سوف أسميهم «الوسطاء» بعض الخصائص النفسية التي تسمح لهم بلعب هذا الدور الغريب والمتغير مع تغير العصور، إنهم لسبب أو آخر يكرهون الضوء «أو علي الأقل الضوء الباهر»، ومن ثم فهم ليسوا طلاب شهرة، قد تنشر صورهم بكثرة، ولكن هذا يكاد أن يكون، بالرغم منهم، لكثرة ما يقومون به من مهام في فترة صعبة،
وقد كانوا في الستينيات والسبعينيات، مثلا لا تكاد تري لهم صورة أو يسمع لهم صوت، ذلك أنهم، بالنظر إلي طبيعة العمل الذي يقومون به «عمل الوسيط الذي ينقل الرغبات ويسهل المأموريات ويصوغ أفكار الغير دون أن تكون له أفكار خاصة به» يفضلون أن يتم هذا كله في الظلام، وبأقل قدر ممكن من الضوضاء.
ما المكافأة التي يحصلون عليها إذن؟ المال الوفير ربما، المتع الحسية البسيطة ربما، أو ربما حتي مجرد رضا الرؤساء عنهم.
من الطبيعي أن هذا الصنف من الناس يكثر بين أفراده التنافس وتشتد الأحقاد والغيرة، ومن ثم فهم قد يضمرون لبعضهم البعض كراهيات دفينة، وقد يعيدون ترتيب علاقاتهم، بعضهم ببعض، المرة بعد المرة، وقد يتآمر فريق منهم للإطاحة بواحد منهم يخشي من اتساع نفوذه وصعوده السريع.. إلخ.
هذه المجموعة من الأشخاص هم أقرب أعضاء النظام المصري في الواقع لصفة «الحكام الحقيقيين»، إذا استبعدنا بالطبع أصحاب العقد والربط في واشنطن.
إنهم في رأيي أقرب إلي هذه الصفة من الرئيس مبارك نفسه، وأقرب إليها طبعا من نجل الرئيس، علي الرغم من كل ما ينسب يوميا من آراء وأفكار وقرارات لهذا أو ذاك.
ما مصدر القوة الحقيقية لهذه المجموعة من المصريين، علي الرغم من أن دورهم لا يزيد علي دور الوسيط؟ إن من السهل أن نعرف الإجابة عن هذا السؤال بمجرد أن نتذكر «مديري المكاتب»، ونتساءل عن مصدر قوتهم.. إن مدير مكتب أي وزير أو مسؤول كبير قد لا يحظي إلا بقدر ضئيل جداً من الأبهة التي يحظي بها الوزير والمسؤول،
ولكنه في الحقيقة أقوي من الوزير نفسه، علي الأقل في مجالات كثيرة مهمة، هذه القوة تعود أولاً إلي معرفته الوثيقة بجميع التفاصيل التي لا يمكن أن يتحقق الهدف، أي هدف، بدونها، وهي معرفة تتيح له استخدام سلطة الوزير أو الرئيس لمصلحته الشخصية وهو أثناء نقل الرسائل أو الأوامر من طرف لآخر، يجد من السهل أن يحور ويعدل الرسالة أو الأمر لصالحه أو يفسرها بما يحقق رغباته.
بل إن سعة معرفة هذا الوسيط باتجاهات الناس ورغباتهم الحقيقية قد تسمح له بممارسة درجة عالية من الخداع، سواء خداع رئيسه الذي يعتمد عليه في معرفة ما قد يحميه من غضب الناس، أو حتي خداع متخذي القرارات الأساسية في مقرهم في واشنطن، الذين قد تغيب عنهم بعض التفاصيل المهمة عن أحوال الناس العاديين في مصر.
نعم، هذه الفئة الصغيرة من الناس هم الحكام الحقيقيون في مصر، ما داموا يتصرفون علي نحو لا يتعارض مع القرارات الأساسية التي تأتي من واشنطن، كما أنهم هم المسؤولون عن تلك المؤامرة الكبري التي عرفت باسم «التوريث»، ولكن قضية التوريث هذه تحتاج إلي مقال منفرد.
*نقلا عن جريدة "المصري اليوم" المصرية
في محاولة تفسير ما يحدث في مصر الآن، علي الساحة السياسية، من المهم في رأيي أن نبدأ بواقعة، قد يبدو للقارئ لأول وهلة أنه لا علاقة لها بما نبحث عنه، ولكني سأحاول أن أقنع القارئ بوجود هذه العلاقة، هذه الواقعة هي اعتلاء جورج بوش منصب الرئاسة في الولايات المتحدة في يناير ٢٠٠١، أي منذ ست سنوات،
وفي ظروف غريبة وغير معتادة في تاريخ الانتخابات الأمريكية، فهناك دلائل بالغة القوة، بل وحاسمة، علي أن حصول بوش علي عدد من الأصوات أكبر مما حصل عليه منافسه، جاء نتيجة تزوير صارخ، اشترك فيه شقيق بوش، حاكم ولاية فلوريدا في ذلك الوقت، وهي الولاية التي حسمت أصواتها في آخر لحظة نتيجة الانتخابات.إني أذكر هذه الملابسات التي أسفرت عن فوز الرئيس بوش لربطها بأحداث ١١ سبتمبر من نفس العام، أي بعد اعتلاء بوش الرئاسة بتسعة أشهر، وما ترتب علي أحداث سبتمبر من تطورات شديدة الخطورة وبعيدة المدي في العالم ككل، ولكن علي الأخص في الشرق الأوسط.
الذي أريد أن أصل إليه هو أن مخططًا باتخاذ إجراءات بالغة الأهمية تتعلق بالسياسة الخارجية الأمريكية، كان قد تم وضعه قبل اعتلاء الرئيس بوش الحكم وهو مخطط يكون جزءًا مما عرف ببرنامج القرن الأمريكي الجديد «The New American Century»، من بين عناصر هذا المخطط قيام الولايات المتحدة باحتلال العراق لأسباب تتعلق أساسًا بالبترول العراقي ولكن ليس به وحده، وإجراء تغييرات مهمة أخري في منطقة الشرق الأوسط بأكملها تحقيقًا لأهداف تتعلق أساسًا بالبترول وبغيره أيضًا، كما أزعم أن القرار الذي كان قد اتخذ قبل اعتلاء بوش الحكم، ببدء تنفيذ هذا المخطط أو البرنامج، له علاقة وثيقة بالإصرار علي إنجاح بوش في الانتخابات ولو بالتزوير.
معني هذا، أن الشرق الأوسط كان مقررًا له أن يكون في بؤرة الأحداث ابتداء من استلام الرئيس بوش الحكم ، بعد أن احتلت مناطق أخري من العالم في أوروبا وأفريقيا بؤرة الأحداث في العقد السابق، وهو العقد التالي مباشرة لسقوط الاتحاد السوفيتي، كان لابد أن يعاد ترتيب العالم في أعقاب الاختلال الذي حدث بسقوط الكتلة الشيوعية وانتهاء الحرب الباردة، ويبدو أن ترتيب الأولويات جعل دور الشرق الأوسط يأتي في هذا العقد الأول من القرن الجديد.
إني أقرأ أحداث ١١ سبتمبر ٢٠٠١ في ضوء هذا المخطط، كما أقرأ في ضوئه أشياء كثيرة أخري، من أهمها بالطبع الهجوم الأمريكي علي أفغانستان وعلي العراق، والتهديد الأمريكي المستمر لإيران وسوريا، والتضخيم الشديد لما يسمي بالإرهاب، ووصم الإسلام بالفاشية، والهجوم الإسرائيلي الأخير علي لبنان، وظهور التقارير المتتالية من الهيئة المسماة «برنامج الأمم المتحدة الإنمائي» للتنديد بالبلاد العربية والتشهير بالعرب.
ولكني أقرأ أيضًا علي ضوء هذا المخطط، تغير موقف الإدارة الأمريكية من النظام المصري بمجرد وقوع أحداث سبتمبر، إني لا أقصد بالطبع أن موقف الإدارة الأمريكية من النظام المصري تحول من الصداقة إلي المعاداة، أو من سياسة دعم النظام إلي الاستغناء عنه، بل أقصد التغير في طبيعة الخدمات المطلوبة من النظام، وفي الوسائل التي يمكن أن تحقق بها هذه الخدمات.
لقد قيل وكُتب الكثير عما يمكن أن تعنيه عبارة «إعادة ترتيب الشرق الأوسط»، من تحقيق التواجد العسكري الكثيف للولايات المتحدة بجوار أغني آبار البترول وأكبر احتياطي من البترول في العالم، تمكينا للولايات المتحدة من فرض إرادتها علي منافسيها من الأصدقاء والأعداء المحتملين علي السواء، إلي إعادة تقسيم العالم العربي علي نحو ما تم في أعقاب الحرب الأولي طبقًا لاتفاقية سايكس بيكو، بما يحقق فوائد جمة لإسرائيل والولايات المتحدة علي السواء،
ويضع حدًا نهائيا لأي أمل لتحقيق وحدة العرب، إلي تهيئة المنطقة لأن تصبح قادرة ومستعدة لاستقبال رؤوس الأموال والسلع والخدمات الأمريكية والإسرائيلية، أكثر من استقبالها أموال وسلع أي دولة أخري بما يتطلبه هذا من تغيير في مواقف العرب السياسية والنفسية ، ناهيك عن سياساتهم الاقتصادية، وما يتطلبه هذا بدوره من تغييرات في نظم التعليم والإعلام إلي تمكين إسرائيل من وضع نهاية للمشكلة الفلسطينية بما يتفق مع مصالحها، وقد يتطلب هذا ضمّ أراض جديدة في لبنان، ناهيك عن ضم إسرائيل ما تريد ضمه من الضفة الغربية أو غزة، أو حتي تهجير من تريد تهجيره من الفلسطينيين إلي بلاد عربية أخري.
كل هذا في رأيي صحيح، أما الكلام الكثير عن أن الهدف من «إعادة ترتيب الشرق الأوسط» هو مكافحة الإرهاب، أو ترسيخ الديمقراطية، أو إرساء أسس «مجتمع المعرفة»، أو إصلاح نظم التعليم المتردية، أو النهوض بأحوال المرأة، أوضع البلاد العربية علي طريق التنمية السريعة...إلخ، فأقل ما يمكن أن يوصف به هو أنه «كلام فارغ»، وهذا هو بالضبط ما قصدته عندما أشرت إلي الكلام الذي ينشر في الغرب بغرض التضليل، والذي نادرًا ما يسمح للصحف والمجلات الغربية بنشر ما يخالفه، والذي يردده بعض كتابنا من باب الاسترزاق.
فإذا كان ما ذكرناه من أهداف «إعادة ترتيب الشرق الأوسط» هي الأهداف الحقيقية، فلابد أن يحتاج تحقيقها إلي تغيير نوع الحكومات في الدول العربية، أو علي الأقل في الدول العربية «المهمة»، أي تلك التي يمكن أن تساعد أو تعطل تحقيق هذه الأهداف، من هذه الدول العربية المهمة مصر بلاشك، ففضلاً عن الفائدة التي يحققها اشتراك مصر في بعض العمليات الحربية، لا يمكن التقليل من الفائدة الإعلامية للزعم بأن مصر بثقلها المعروف في المنطقة العربية، تؤيد ما يجري عمله لإعادة ترتيب المنطقة، ناهيك عما يحققه التأييد المصري لهذه الأعمال من إزالة الخوف من قلوب حكومات عربية أخري تحتاج دائماً إلي التعلل بأنه «إذا كانت مصر موافقة، فما الذي بيدنا أن نصنعه؟»،
أضف إلي كل ذلك بالطبع الفوائد المباشرة التي يحققها انفتاح مصر، بحجمها السكاني وثروتها البشرية، علي رؤوس الأموال والبضائع الأمريكية والإسرائيلية، إذا سارت مصر بخطي حثيثة نحو بيع القطاع العام، وتهيئة البلاد لاستقبال الاستثمار الأجنبي، أو بعبارة أدق، بيع القطاع العام للأمريكيين والإسرائيليين، واستقبال الاستثمار الأجنبي من هاتين الجهتين، حتي لو تسمت الشركات القادمة ومشترو القطاع العام بأسماء دول أخري، قد يقال «وهل كان النظام المصري يبدي أي اعتراض علي أي شيء من هذا طوال العشرين أو الثلاثين عاماً الماضية؟
هل يمكن أن يطمع الأمريكيون والإسرائيليون في نظام «أفضل» من هذا النظام؟ وهنا نصل إلي التفسير الحقيقي لما حدث في مصر في السنوات الأخيرة من تغييرات مدهشة أقرب إلي الألغاز.
لقد انتهت بحلول حكومة الدكتور أحمد نظيف (في صيف ٢٠٠٤) فترة طويلة ومختلفة تماماً عما جاء بعدها، وهو يدل في رأيي علي شروع الإدارة الأمريكية في تطبيق ذلك الجزء من مخططها المتعلق بالشرق الأوسط، والذي بدأ بهمة بالغة بالاحتلال الأمريكي - البريطاني للعراق في مارس ٢٠٠٣.
لقد استغرق التمهيد لتنفيذ هذا المخطط بعض الوقت (من سبتمبر ٢٠٠١ إلي مارس ٢٠٠٣)، كما أن تنفيذه الذي يجري حالياً تقابله من حين لآخر العثرات والصعوبات التي تتعلق أساساً، ليس بالضبط بضراوة المقاومة العراقية، كما يظن البعض، بل بضراوة الاعتراضات والعقبات التي تضعها دول كبري أخري في وجه انفراد الولايات المتحدة (وبريطانيا) بالجوائز دونها، والتي تجري مفاوضاتها من وراء الكواليس ونادراً ما نسمع عنها شيئاً.
جاءت حكومة د.نظيف بملامح مفاجئة وجديدة تماماً علينا، لم نتعود رؤيتها في حكومات أمثال عاطف عبيد أو الجنزوري أو عاطف صدقي، فهؤلاء الرجال الثلاثة الذين احتلوا مركز رئيس الوزراء لمدة تقرب من عشرين عاماً (١٩٨٦ - ٢٠٠٤) كانت لهم صفة مشتركة لا تتوافر في د.نظيف، وهي أن تاريخهم الوظيفي (والسياسي) قد علقت به بعض آثار العهد الناصري، الذي كان يتطلب الولاء للقطاع العام ولنوع من الاشتراكية وتضييق الفجوة بين الطبقات.
لم يكن أي من هؤلاء الثلاثة اشتراكياً بطبعه (بل ربما كان العكس هو الأقرب إلي الصحة)، ولكنهم عاشوا فترة أطول من اللازم في ظل الاشتراكية، واضطروا في مرحلة أو أخري إلي السير في ركابها (أو التظاهر بهذا علي الأقل) إما بالاشتراك في تأليف كتب تمتدح الاشتراكية العربية، أو في عضوية لجنة من لجان الاتحاد الاشتراكي...إلخ.
إن مثل هذا التاريخ لا يمنع بالضبط من اشتراك رجل من هؤلاء في تحويل النظام من الاشتراكية إلي الرأسمالية، ولكن يبدو أن مجرد الاتصال بشكل ما بالعهد الاشتراكي يجعل التحول الكامل إلي الرأسمالية أمراً صعباً، ويجعل المرء يتردد كثيراً قبل أن يتخذ قراراً مثل إلغاء الدعم أو تخفيضه، أو بيع إحدي مؤسسات القطاع العام إلي شركة أجنبية، ناهيك عن أن رجلاً كهذا إذا أصبح رئيساً للوزراء لابد أن يميل إلي اختيار وزراء من نفس النوع، فيصعب أن يحدث علي أيديهم التحول المطلوب.
الدكتور نظيف ليس من هذا النوع، فهو «نظيف» تماماً من أي شبهة تتعلق بالاشتراكية أو حب القطاع العام، ومن الممكن جداً أن يختار وزراء لا يؤمنون بأي صورة من صور القطاع العام، ويحتقرون أي نوع من أنواع تدخل الدولة، ولو كان لصالح الفقراء، الذين هم في نظرهم، المسؤولون الوحيدون عن فقرهم. إني لا أشك في أن فكرة تعيين د.أحمد نظيف وهذا النوع من الوزراء الذين جاءوا معه، قد نبتت في مكان ما خارج القاهرة، ثم بُلغت بها القاهرة فجري تنفيذها.
ذلك أنه من المفيد جداً أن يتولي رئاسة الوزراء والوزارات وثيقة الصلة بالاقتصاد (كالاقتصاد والتجارة والصناعة والسياحة والنقل والإسكان) رجال يمكن أن يتفهموا تمام الفهم المطالب الأمريكية في المرحلة الجديدة، ويتعاطفوا بطبيعتهم معها، إذ إن طبيعة نشاطهم قبل توليهم الوزارة كانت من نفس هذا النوع المطلوب تشجيعه، ولهم علاقات قديمة ووثيقة بالشركات الأجنبية مما يجعل من السهل عليهم أيضاً أن يتفاهموا مع المستثمرين الأجانب.
أما فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، وموقف مصر من الهجوم الأمريكي علي العراق، ومن الهجوم الإسرائيلي علي لبنان، فهؤلاء الوزراء ورئيسهم ليس من طبعهم أن يشعروا بالضيق الشديد إزاء ما تفعله أمريكا وإسرائيل في العراق ولبنان،
فهؤلاء لم يعانوا في أي وقت من أي شعور بالتعاطف مع بقية العرب، ولديهم ميل طبيعي لتقدير «الكفاءة» الإسرائيلية حتي ولو راح ضحيتها بعض العرب، وهم يرحبون بشدة بأي نوع من السلام يضمن لهم الاستمرار في تحقيق الأرباح من مشروعاتهم الخاصة بصرف النظر عن الخسائر السياسية التي يمكن أن تصاب بها مصر من وراء هذا السلام.
ومع كل هذا فعلينا ألا نعلق أهمية مبالغًا فيها علي دور هؤلاء الوزراء أو حتي علي رئيس الوزراء، فهؤلاء في نهاية الأمر ينفذون سياسات لم يفكروا فيها ابتداء، بل فقط يتعاطفون بطبيعتهم معها، أما الذين «يفكرون» و«يخططون» حقيقة ويطرحون من وقت لآخر فكرة تطوير هذا القطاع أو ذاك، أو تنفيذ هذا المشروع الكبير أو ذاك، أو عقد اتفاقية دولية مهمة «كالكويز مثلا» مع هذه الدولة أو تلك، أو تحديد نوع التغيير المراد إجراؤه علي نظام التعليم في مصر، وطريقة تمويل الدراسات اللازمة له.. إلخ،
هذه الأفكار كلها لابد أن يكون مصدرها مجموعة مهمة من الناس يقيمون عادة في الخارج ويساعدهم علي فهم «المكون» المصري، وما يتطلبه الواقع المصري من تعديلات علي هذه الأفكار لتسهيل تنفيذها، يساعدهم علي هذا مجموعة مهمة أخري من المصريين تقوم بدور الوسيط بين الحكام الحقيقيين في الخارج، والمنفذين المصريين الذين يحتلون مناصب مثل رئاسة مجلس الوزراء أو الوزراء.
من هم أعضاء هذه «المجموعة المهمة» من المصريين الذين يقومون بدور الوسيط بين الإدارة الأمريكية و«المنفذين» المصريين؟ لا أظن أن من الصعب علي القارئ تخمين أسمائهم، وهم قد يزيدون أو ينقصون مع الوقت، ولكن من بينهم نواة صلبة لا تتغير بسهولة، وقد لا تتغير أبدا، بل قد يرجع تاريخها في السياسة المصرية إلي عهد عبدالناصر نفسه، وإن كانوا قد قاموا بأدوار مختلفة في الحقب المختلفة من تطور النظام المصري.
لهؤلاء الأشخاص الذين سوف أسميهم «الوسطاء» بعض الخصائص النفسية التي تسمح لهم بلعب هذا الدور الغريب والمتغير مع تغير العصور، إنهم لسبب أو آخر يكرهون الضوء «أو علي الأقل الضوء الباهر»، ومن ثم فهم ليسوا طلاب شهرة، قد تنشر صورهم بكثرة، ولكن هذا يكاد أن يكون، بالرغم منهم، لكثرة ما يقومون به من مهام في فترة صعبة،
وقد كانوا في الستينيات والسبعينيات، مثلا لا تكاد تري لهم صورة أو يسمع لهم صوت، ذلك أنهم، بالنظر إلي طبيعة العمل الذي يقومون به «عمل الوسيط الذي ينقل الرغبات ويسهل المأموريات ويصوغ أفكار الغير دون أن تكون له أفكار خاصة به» يفضلون أن يتم هذا كله في الظلام، وبأقل قدر ممكن من الضوضاء.
ما المكافأة التي يحصلون عليها إذن؟ المال الوفير ربما، المتع الحسية البسيطة ربما، أو ربما حتي مجرد رضا الرؤساء عنهم.
من الطبيعي أن هذا الصنف من الناس يكثر بين أفراده التنافس وتشتد الأحقاد والغيرة، ومن ثم فهم قد يضمرون لبعضهم البعض كراهيات دفينة، وقد يعيدون ترتيب علاقاتهم، بعضهم ببعض، المرة بعد المرة، وقد يتآمر فريق منهم للإطاحة بواحد منهم يخشي من اتساع نفوذه وصعوده السريع.. إلخ.
هذه المجموعة من الأشخاص هم أقرب أعضاء النظام المصري في الواقع لصفة «الحكام الحقيقيين»، إذا استبعدنا بالطبع أصحاب العقد والربط في واشنطن.
إنهم في رأيي أقرب إلي هذه الصفة من الرئيس مبارك نفسه، وأقرب إليها طبعا من نجل الرئيس، علي الرغم من كل ما ينسب يوميا من آراء وأفكار وقرارات لهذا أو ذاك.
ما مصدر القوة الحقيقية لهذه المجموعة من المصريين، علي الرغم من أن دورهم لا يزيد علي دور الوسيط؟ إن من السهل أن نعرف الإجابة عن هذا السؤال بمجرد أن نتذكر «مديري المكاتب»، ونتساءل عن مصدر قوتهم.. إن مدير مكتب أي وزير أو مسؤول كبير قد لا يحظي إلا بقدر ضئيل جداً من الأبهة التي يحظي بها الوزير والمسؤول،
ولكنه في الحقيقة أقوي من الوزير نفسه، علي الأقل في مجالات كثيرة مهمة، هذه القوة تعود أولاً إلي معرفته الوثيقة بجميع التفاصيل التي لا يمكن أن يتحقق الهدف، أي هدف، بدونها، وهي معرفة تتيح له استخدام سلطة الوزير أو الرئيس لمصلحته الشخصية وهو أثناء نقل الرسائل أو الأوامر من طرف لآخر، يجد من السهل أن يحور ويعدل الرسالة أو الأمر لصالحه أو يفسرها بما يحقق رغباته.
بل إن سعة معرفة هذا الوسيط باتجاهات الناس ورغباتهم الحقيقية قد تسمح له بممارسة درجة عالية من الخداع، سواء خداع رئيسه الذي يعتمد عليه في معرفة ما قد يحميه من غضب الناس، أو حتي خداع متخذي القرارات الأساسية في مقرهم في واشنطن، الذين قد تغيب عنهم بعض التفاصيل المهمة عن أحوال الناس العاديين في مصر.
نعم، هذه الفئة الصغيرة من الناس هم الحكام الحقيقيون في مصر، ما داموا يتصرفون علي نحو لا يتعارض مع القرارات الأساسية التي تأتي من واشنطن، كما أنهم هم المسؤولون عن تلك المؤامرة الكبري التي عرفت باسم «التوريث»، ولكن قضية التوريث هذه تحتاج إلي مقال منفرد.
*نقلا عن جريدة "المصري اليوم" المصرية
No comments:
Post a Comment