فهمي هويدي ـ الشرق الأوســط 21/2
كنا جلوسا حول مائدة الطعام، أثناء المؤتمر الذي استضافته أخيرا إحدى الدول الخليجية، واذا بباحث من الإمارات يسأل مثقفا كويتيا عن تفسيره للتحول الذي حدث في منطقة الخليج، بحيث فقدت الكويت ريادتها التقليدية في المجال العمراني والاقتصادي في الأقل، حتى اصبحت دبي هى مركز الاستقطاب والجذب. في رده فاجأنا صاحبنا الكويتي ـ وهو أستاذ جامعي مخضرم له صلة بعلم الاجتماع ـ بما عقد ألسنتنا من الدهشة، اذ قال ان مشكلة الكويت الاولى تكمن في الدور الذي يقوم به الإسلام السياسي، الذي تصاعدت قوته خلال السنوات الأخيرة.
هذه القصة تذكرتها حين قرأت على هذه الصفحة في الأسبوع الماضي مقالة بعنوان «مأزق المناضل الأصولي»، اعتبرت الاصولية هي «الشيطان الاكبر» الذي اصبح مصدرا لكل الشرور التي حلت بالعالم العربي والاسلامي، ومن ثم فإنها تبنت نفس الموقف الذي عبر عنه المثقف الكويتي، بنفس الدرجة من التبسيط والتسطيح، وبذات «النظارة» التي عجزت عن ان ترى في واقعنا كارثة سوى التيار الأصولي، الأمر الذي يكشف عن المدى الذي بلغه عمق الخصومة المتمكنة من بعض عناصر التيار العلماني، الذين نراهم متوازنين وموضوعيين في كثير من مواقفهم، إلا انهم يفقدون توازنهم وموضوعيتهم، ويتبنون خطابا مغايرا تماما حين يتعلق الأمر بالظاهرة الاسلامية، إذ يتراجع العلم والمعرفة، وحتى الحس السياسي السليم، لصالح الهوى المسكون بالمرارة والرغبة الدفينة في الالغاء والاقصاء، الذي يشتط فيه البعض ممن ينقلون معركتهم ضد التيار الإسلامي، ويحولونها الى اشتباك مع الاسلام ذاته. ومن أسف أن ذلك حدث في مصر أخيرا، حين اشتبكت السلطة مع جماعة الإخوان المسلمين، وجاء ذلك متزامنا مع الحوار الداخلي حول تعديل بعض مواد الدستور، فإذا ببعض الأصوات العلمانية تنتهز الفرصة وتطالب بإلغاء النص في الدستور على أن دين الدولة هو الإسلام ومبادئ الشريعة هي المصدر الأساسي للقوانين. حتى الهوية الاسلامية ألحوا على إلغائها!
في النص المنشور، فإن الأصولية الإسلامية ليست مجرد دعوة محافظة تعود للأصول من اجل صلاح أمر الناس في الدنيا والآخرة، وإنما هي حركة سياسية ثورية تقلب دولنا ومجتمعاتنا رأسا على عقب، أو في الأقل وقف تطورها التاريخي، في اتجاه دولة مدنية وعصرية، ثم انها تقف موقف الممانعة إزاء كل المؤثرات الخارجية.. مثل تحقيق السلام في الصراع العربي ـ الاسرائيلي (الصلح مع الكيان الصهيوني) ـ أو إقامة علاقات وثيقة مع دول العالم الليبرالية ـ الديمقراطية في الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة.
بمثل هذه الملاحظات استهل الكاتب مقالته مرتكبا خطأين جسيمين، اولهما انه اعتبر تنظيم «القاعدة» الممثلَ الشرعيَّ الوحيدَ للاصولية الإسلامية، ومن ثم فإنه تجاهل عامدا أو غافلا. كل التمايزات الحاصلة في الساحة الإسلامية ـ وتبنى موقف ومفردات المدرسة التي تعتبر كل ناشط إسلامي أصوليا متشددا، ومن ثم فهو ارهابي وانقلابي. وهذا التبسيط الساذج أدى تلقائيا إلى إغفال أية إشارة إلى تيار إسلامي معتدل ـ هو الاصل في العالم العربي والاسلامي ـ يسعى الى الاصلاح بالوسائل السلمية والديمقراطية، وملتمسا الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
«التهمة» الثانية للاصولية الاسلامية في رأي الكاتب هى انها تقف في صف «الممانعة»، اذ انها تعارض الصلح مع اسرائيل، كما انها ترفض التبعية للغرب أو الانخراط في حركة العولمة. ورغم انه تحدث عن رفضها اقامة «علاقات وثيقة مع الدول الليبرالية والديمقراطية»، إلا ان الكاتب تجاهل تماما ان العالم العربي والاسلامي ليس ضد كل الغرب، وانما هو ضد السياسة الغربية بالدرجة الاولى، إلا اذا كان مصرا على ألا يرى في العالم الاسلامي سوى تنظيم «القاعدة» الداعي الى مواجهة الصليبيين والصهاينة. وذلك إن صح فإنه يعد خطأ منهجيا آخر.
اخطر من ذلك وأسوأ انه اعتبر «الممانعة» تهمة ـ تهكم عليها في اكثر من وضع في النص المنشور ـ وهي ملاحظة أسجلها بلا تعليق، تاركا للقارئ تقييمها، لكني اضيف ان شرف الممانعة ليس مقصورا على الأصوليين وحدهم، ولكنه موقف وطني تتبناه مختلف الفصائل التي لم تتلوث بعد في العالم العربي ـ حتى ان معارضة التطبيع ورفض التبعية لقوى الهيمنة الغربية، اصبحت الارضية المشتركة التي يجتمع عليها الوطنيون الشرفاء في العالم العربي، بمختلف توجهاتهم السياسية والفكرية، وللعلم، فإن مقاومة العولمة لم تعد موقفا أصوليا ولا وطنيا فحسب، وانما اصبحت حركة عالمية لها وجودها في أوروبا وامريكا اللاتينية، فضلا عن دول العالم الثالث في آسيا وأفريقيا.
بهذا المنطق المتهافت، حاكم الكاتب الاصولية الاسلامية، وخلص منه الى ان التجربة الاصولية فشلت في كل تجلياتها. «فما دخلت بلدا إلا قسمته، ودفعت به الى حرب مع طرف او اطراف في العالم» ـ وضرب لذلك مثلا بما حدث في الصومال والسودان وافغانستان وفلسطين ولبنان. ومثلما انه لم يقدم دليلا على ان الاصولية الاسلامية على اطلاقها تهدف الى «قلب دولنا ومجتمعاتنا رأسا على عقب»، فإنه لم يقدم دليلا ايضا على انها المسؤولة عن الحروب التي شهدتها تلك الدول، وبعضها نشب قبل ان تصل الجماعات الاسلامية الى السلطة، كما هو الحال في الصومال والسودان، والبعض الآخر هو من قبيل المقاومة، او الممانعة التي تهكم عليها الكاتب وأدانها، كما هو الحاصل في فلسطين ولبنان وافغانستان.
المدهش ان الكاتب في اصراره على تحميل الاصولية بكل الشرور التي شهدتها المنطقة، اسقط من حسابه التدخلات الخارجية التي اسهمت في تفجير الصراعات وتأجيج الاشتباكات؛ وفي المقدمة منها الاحتلال الاسرائيلي والمخططات الامريكية، ولم يشر بكلمة واحدة الى المأساة المروعة التي ترتبت على الغزو الامريكي للعراق.
بعد محاكمة الاصولية الاسلامية وتلطيخ صفحتها، دون أي تمييز بين الفصائل التي باتت تندرج تحت ذلك العنوان، تحول الكاتب الى ما سماه «المثقف المناضل الاصولي». فاتهمه بالعمل السياسي، الى الحد الذي غيب عن وعيه ادراك «فشل التجربة الاصولية من ألفها الى يائها». فهو مثلا يلقي اللوم على الآخرين في صراع حزب الله مع الحكومة اللبنانية، ويلقي اللوم على عاتق فتح بينما الحكومة بيد حماس، كما أنه يرسم صورة مثالية لمنجزات الجماعة الاصولية بحيث تبدو ايران على رأس دول العالم في التنمية البشرية والانسانية والتكنولوجية... ولم يشغل المناضل الاصولي نفسه بنقد ما جرى وتقييمه، ليس ذلك فحسب، وانما ظل الأصوليون العرب مناصرين لكل نظم وحركات الممانعة، مهما ارتكبت من جرائم ازاء مواطنيها.. الخ.
تلك نماذج مما ورد في صحيفة الادعاء على المثقف الاصولي والاصوليين العرب، التي عبرت عن ذات الأهمية من التسطيح والتبسيط، فهو مصر على ان الفشل المطلق هو نصيب كل تجربة اصولية، وليس مستعدا لأن يرى حزب الله حقق نجاحا في مواجهة اسرائيل، بل عجز عن رؤية ما رآه الاسرائيليون انفسهم من نتائج عدوان الصيف الماضي على لبنان. واعتبر نجاح حركة حماس في الحفاظ على خط المقاومة، ووقف التفريط في حقوق الشعب الفلسطيني، امرا مستهجنا وفشلا سياسيا. وغالط نفسه حين أدان بالمطلق تجربة حماس في الحكم وعمم الفشل عليها، في حين ان الكل يعلمون ان حماس تولت الحكومة حقا، لكن اهم الصلاحيات سحبت منها وأحيلت إلى الرئاسة، بل انه رفض ان يعترف بأن النظام الاصولي في ايران نجح على الاقل في الحفاظ على استقلال قراره السياسي، ثم انه افترض فقدان ذاكرة القارئ حين اطلق حكما آخر ادَّعى فيه أن الأصوليين العرب ناصروا نظم الممانعة، رغم ما ارتكبته بحق شعوبها من جرائم. ليس فقط لأن التعميم يهدم الادعاء من اساسه، ولكن ايضا لأن أي عقل سياسي رشيد لا يمانع في تأييد الموقف الايجابي لأي نظام ازاء قضية ما، في مسألة الممانعة أو غيرها، ثم معارضته او التحفظ على مسلكه في قضية أخرى مثل مصادرته للحريات. وذلك لا ينطبق على الاصولييين وحدهم، لأنه أيضا موقف الوطنيين الشرفاء في الأنظمة التي نعرفها في العالم العربي. بل موقف أي رؤية موضوعية ازاء مختلف التجارب السياسية في العالم.
في مقدمة الطبعة الاولى لكتابي «إيران من الداخل» ـ التي صدرت عام 1987 ـ قلت ما نصه ان التجربة الاسلامية في ايران «ليست هي الإسلام الأوحد، ولا هي بالضرورة النموذج الافضل والامثل.. وانما هي اجتهاد يصيب ويخطئ»، وحذرت من التحيز مع التجربة او ضدها، مشيرا الى انه «ليس من الضروري ان تكون مع الشيء كله او ضده كله، فقد نتفق في جانب ونرفض جانبا آخر». الموقف ذاته عبرت عنه في كتابي اللاحق «طالبان ـ جند الله في المعركة الغلط»، كما التزمت به فيما كتبت عن حكم الجبهة الاسلامية في السودان، ونشر وقتذاك في هذا المكان. مع ذلك، فإن الكاتب اصر طول الوقت على تعميم الاتهام بالعمى السياسي، ملحا على ان المناضل الاصولي في مأزق.
مشكلة هذا النموذج من المثقفين العلمانيين ـ هل نقول مأزقهم؟ ـ ان تعاطفهم مع الجذور الفكرية لقناعاتهم يدفعهم الى قراءة واقعنا بأعين غربية، الامر الذي يحولهم تلقائيا الى مستشرقين، وفي بعض الأحيان الى «محافظين جدد» على النمط الامريكي.
وهذه القراءة تغيب عنهم إدراك تمايزات الظاهرة الاسلامية على النحو الذي سبقت الاشارة اليه قبل قليل. وخطورة هذه الفئة ـ ولا أريد أن أعمم ـ التي ترى في التيارات الاسلامية شرا مطلقا وفشلا وخيبة دائمين، انها بموقفها ذاك تبرر اسلوب سحق الظاهرة، ورفع شعار «الاستئصال هو الحل». اما الأشد خطورة فهو ان هذا الفكر يهيئ تربة مواتية ويزرع بذور نازية جديدة في العالم العربي والاسلامي، تدعو الى ابادة التيارات الاسلامية بدعوى انها ميؤوس منها وضارة بالمجتمع، تماما كما فعل هتلر وصحبه من النازيين الذين دعوا الى ابادة اليهود وبعض الجماعات الاخرى أو تعقيمهم، لأنهم فئات «غير نافعة للمجتمع». وأرادوا بذلك تحقيق «النقاء العرقي»، تماما كما ان اصحابنا هؤلاء يشنون حربهم الشرسة ضد كل فصائل التيار الاسلامي، سعيا الى تحقيق «النقاء الفكري» في العالم العربي والاسلامي.
ـ هل هذا هو المطلوب حقا؟
No comments:
Post a Comment