سوزان مبارك أقوى من شجرة الدرّ المملوكية وأكثر استبداداً من ايميلدا ماركوس الفلبينية محمد عبدالحكم دياب
إن أخطر ما في التيه المصري الراهن هو غياب النظام السياسي وتلاشيه، وهذا أدي إلي أن دماء المصريين تفرقت بين جماعات مالكة وحاكمة ومتحكمة، محكومة بقيم تحض علي التدمير، وتربطها علاقات تناظر التي تحكم عصابات الجريمة المنظمة و المافيا .. هذه الجماعات تقتات من لحم المصريين وتمتص دماءهم وتصادر أرزاقهم، إلا أنها تواجه مشكلة لم يسبق أن واجهتها، وهي أنها فقدت الراعي أو العراب أو الأب الروحي الواحد، فما بين الأب والإبن والأم تفرقت بـ عائلة مبارك السبل، وأضحي ما بينها من صراع عائقا أمام طموح أي منهم، وهذا اضطرهم إلي القبول بالأدوار التي وزعت عليهم، فحسني مبارك أخذ علي عاتقه تهيئة المسرح للتوريث، وله حق استخدام كل أنواع المناورة، وممارسة كل فنون التمويه، حتي وجدناه ينقلب علي نفسه بين يوم وليلة، باتخاذ مواقف وممارسة تصرفات ضد طبيعته. فداعية الجمود، ونصير الروتين الأشهر، ينقلب إلي ناشط، يطلب التغيير ويسعي إليه، والدستور الذي كان قدس الأقداس، وأقرب إلي النص المقدس، أصبح مجالا للانتهاك والتبادل والتوافق، استجابة لمطالب الأم والإبن، وبدا وكأنه قد أصيب بإسهال دستوري وتشريعي، لا شفاء منه. وانبري مقترحا تعديل 34 مادة دستورية دفعة واحدة، ولأن هذا ضد طبيعته فقد أوقع رجاله في حيص بيص.. لا يجدون للأمر علاجا، لأنه من المتوقع، إذا ما مرت التعديلات، أن تفتح عليهم أبواب جهنم.
إذن من ينتقل من الجمود والرتابة إلي النشاط والحركة لا يمكن أن يكون نفسه.. خاصة أن الحياة لم تعرف شخصا يتغير هذا التغير الراديكالي وهو علي مشارف الثمانين من العمر، وبعد أكثر من ربع قرن في الحكم. إذن ما الذي تغير؟ الذي تغير هو أنه قد أرغم علي القبول بوضع المتلقي، والأداة في يد من هم أقوي منه.. لم يبق الرجل القوي وسط العائلة ، وصار الرجل القوي الوحيد فيها هو الزوجة، ويبدو أن التاريخ سيسجل لها أنها أقوي من شجرة الدر المملوكية، وأكثر استبدادا من إيميلدا ماركوس الفلبينية، ونعتقد أن حسني مبارك يمر بأقصي درجات ضعفه، مما قضي علي البقية الباقية للنظام السياسي، وكثيرا ما يقبل المصريون الاستبداد من الدولة، إلا أنهم لا يطيقون الحياة عندما يتحولون إلي متاع وعقار، لمملوك أو لمستبد أو جلاد أو لص أو محتل .. شعب لا يتحمل غياب النظام السياسي، فوجوده، حتي لو كان مستبدا، أحد ضمانات الحفاظ علي الدولة، التي هي بدورها أداة قوة المجتمع وتماسكه، ولم يصب غياب النظام السياسي في مجري مصلحة الجماعات المالكة والحاكمة والمتحكمة والمتصارعة، لأنها ليست جماعات، بأي من المعنيين السياسي أو الاجتماعي، فهم من أنماط الخدم والعبيد الذين يتحلقون حول عائلة ، ليس لها حضور سياسي، وبدون امتداد أسري أو كيان عشائري أو تراث تاريخي، تقطعت بها صلات الأهل والرحم، وتسبب تعاليها وانعزالها في انغلاقها، وليس في سجلها فعل تاريخي، بين الأجداد أو الأعمام أو الأقارب، يحسب لها، حتي عندمـــا حشرتها الظروف في زمرة اكتوبر، أبت إلا أن تكون انهزامية ومتعاونة مع كل ما هو صهيوني واستعماري.
لم تتعد قيمة حسني مبارك وفائدته جدران بيته، ولم يتعد دوره حدود ما يملي عليه من أمر لأي سيد ، سواء داخل الحدود أم من خارجها، وعقدته الراهنة أن السيد الجديد من صلبه وأسرته، وليس أمامه إلا أن يقبل بما يحدده له. والأم المنشغلة بالإعلام والتكويش علي خدمات التعليم والثقافة والصحة، وأنشطة النساء ذات الطابع الدولي والإقليمي، جعلت من الأب واجهة، تستقبل الوافدين والمرابين والمغامرين والمحتلين، والإبن الأكبر تركته لتخصصه في جمع المال والثروة، والأصغر جعلته يجمع بين الثروة والسياسة والحكم، و يلبد في الدرة ، كما يقول أبناء البلد، للانقضاض علي الأب ليحل محله رسميا، بعد أن استولي علي منصبه فعليا، وتحتاج تعبيرات أولاد البلد إلي التفسير، فعبارة يلبد في الدرة ، هي وصف يطلقه الفلاحون علي اللصوص والقتلة، الذين ينتهزون فرصة نمو محصول الذرة الشامية للتخفي فيها، انتظارا لوصول الفريسة المستهدفة، والانقضاض عليها، ثم العودة إلي التخفي في الحقول من جديد.
وليس جمال مبارك هو المتربص الوحيد، فرجل الأعمال، ومحتكر الحديد، وعضو مجلس الشعب، ورئيس لجنة الخطة والموازنة بالمجلس، وأمين التنظيم بالحزب الحاكم، وصبي الورشة القديم بمنطقة السبتية القاهرية، وعازف الدرمز (الطبال) السابق، أحمد عز، يبدو أنه وجدها فرصة للسيطرة علي الحزب الحاكم، ليقيم دويلته. يسمح لنفسه استخدام الدين لأغراض السياسة والحزبية والاحتكار، ويقود حملة شرسة ضد النائب الثاني للمرشد العام وعدد من رجال أعمال الإخوان، وهم من أحالهم حسني مبارك، بصفته الحاكم العسكري إلي محاكم عسكرية، متهمين باستغلال الدين، وتمويل نشاط جماعة محظورة ، وتوصيف ذلك بأنه غسيل أموال.
هذا البلاء يستدعي تجاوز التفكير التقليدي والحلول المعتادة، خاصة أن هناك حالة تمرد ذاتية داخل النخب والمثقفين والسياسيين، بعد أن اعترف أغلبهم بالفشل في معركة التواصل مع القطاعات العريضة من الشعب، وتأكد لهم عجز أو انحراف ممثلي الشعب، في المجالس التشريعية والمحلية المنتخبة. فنسبة الـ50% عمال وفلاحين، التي نص عليها الدستور، أصبحت غير ذي قيمة، فقد اتخذت غطاء لتصفية مصالح الفلاحين والعمال، وفقدت مبرر وجودها، وأتوقع أن يغضب مني المتشددون الأيديولوجيون لقولي هذا، ومع ذلك علينا أن نتخلي عن سذاجتنا وطيبتنا بعض الشيء، ونحن نخوض في عالم السياسة والاجتماع، الذي يعني بالحقائق القائمة علي أرض الواقع. والواقع يقول ان مصر تعرضت لأكبر عملية قرصنة سياسية واقتصادية واجتماعية، استهدفت تصفية الانتاج والقوي المنتجة، والتخلص من أصحاب المهن وذوي الخبرات والقدرات المتميزة، ولم يبق القراصنة إلا علي المال، في يد المترفين واللصوص، يجمدون به الحراك الاجتماعي، ويوقفون به التقدم والتنمية والدفاع عن استقلال الوطن.
ولا تبدو في الأفق مؤشرات للتراجع عن نهج القرصنة، وهذا ما أكده تصريح، نشرته صحيفة الأهرام أول أمس، منسوبا إلي جمال مبارك، يعلن فيه، بملء الفم، استمرار تصفية الشركات والمؤسسات وخصخصتها، ويدعي أنه لن يضار أي عامل ، وتصريحه يأتي في وقت يتولي هو شخصيا ترتيب الأوضاع لتنفيذ حكم الإعدام الصادر في حق الدولة المصرية، عن طريق قانون الوظيفة العامة المقترح، لتتحول وظائف الدولة إلي وظائف موسمية ومؤقتة. والهدف هو إلغاء الهيكل الوظيفي الذي تقوم عليه، ومشروع القانون يعتمد قاعدة خصخصة الإدارات الحكومية، لتمكين رجال الأعمال من الاستيلاء عليها، وبذلك تتحول مصر من دولة إلي شركة، وليست هناك دولة تصفي نفسها بالصورة التي تجري في مصر، وبعد نجاح جمال مبارك في خصخصة النظام السياسي، وشل السلطة القضائية، والقضاء علي الهياكل الاقتصادية الوطنية، وإلغاء منظومة الرعاية الاجتماعية، وسرقة أموال التأمينات المعاشات، سوف تصبح والوظيفة الوحيدة المخطط لها أن تبقي علي أنقاض الدولة، هي وظيفة الشرطة والأمن، شيء أشبه بالسلطة الفلسطينية.
وتأتي الأحزاب السياسية، في السلطة والمعارضة، لتزيد الوضع تعقيدا، وتكشف عن أزمة النخبة، فالحزب الحاكم تحول إلي جهاز للصوصية والنهب والتدليس، واستمراره مرهون بتثبيت ونشر آليات الاستبداد والفساد والتبعية. يحتكر السلطة ويدير الفساد، ويؤمرك الإدارة، ويصهين التجارة والصناعة، وأحزاب المعارضة قبلت أن تكون ذيلا للحزب الحاكم، فعجزت عن التعبير عن أي مصالح حقيقية، فئوية أو مجتمعية، إلي أن توقفت عن تعاطي السياسة، وإذا ما غابت السياسة يصبح وجود الأحزاب جزءا من المشكلة وليس جزءا من الحل، وهذا ما يجعلنا نقول ان مصر في حاجة ماسة لنظام سياسي جديد، وأول شروط النظام الجديد أن يكون وطنيا، ليتمكن من إعادة بناء دولة الشعب، والطريق مفتوحة أمام هذا التفكير الجديد، فإذا كانت النخب قد بدأت التمرد علي نفسها، وتبحث عن طرق وتبادر بمحاولات، خارج المنظومة الرسمية والمعارضة.. بداية من كفاية وأخواتها، مرورا بالتنظيمات الموازية، وانتهاء بالحراك العمالي، في الريف والمدن، بعيدا عن الرهان علي ما هو قائم.
يبقي المطلوب إيجاد اتحادات وأحزاب بديلة. وعلينا أن نجرب اتحادات وأحزاب المصالح والقوي الاجتماعية الأعرض في المجتمع، وإنشاء اتحادات وأحزاب فلاحية وعمالية وطلابية ومهنية، بعيدا عن الوصاية الرسمية، علي نمط غير نمط الجماعات الأيديولوجية (قومية ويسارية ودينية)، تؤكد وتحمي مصالح المنتمين إليها، والوقت مناسب للمناداة بظهور أحزاب عمالية، واتحادات فلاحية، ومنظمات واتحادات شبابية وطلابية، تعيد القوي الأكثر شبابا وحيوية إلي دوائر الفعل، وهذا يساعد النخبة علي النزول إلي المواقع الحقيقية لقوي الشعب، ومنها يمكن إيقاف حكم الإعدام الصادر ضد الدولة المصرية. |
No comments:
Post a Comment