Tuesday, February 20, 2007

أحوال الصحافة المصرية


بقلم د. عمار علي حسن ـ المصري اليوم ٢٠/٢/٢٠٠٧
من الحقائق الساطعة كشمس ظهيرة صيف أن الصحافة المصرية تعيش ما هو أكبر من أزمة، أو وعكة طارئة، وتمر بما هو أفدح من مشكلة ديون متراكمة، بفعل النهب المنظم والكسل الإداري والاستسلام لثقافة التكايا، خاصة بعد أن أدخلها بعض المسؤولين عنها في نفق طويل، وراحوا يطفئون الشموع واحدة تلو الأخري،
وآخرها «الفرز العكسي»، الذي يتم بمقتضاه تصعيد ضعاف المواهب، صغار الهمم، قليلي التجارب، ضيقي الصدور، محدودي العقول، ويحط من قدر الكبار في كل شيء، الجديروين بأن ينالوا ما يؤخذ منهم بحدود السرقة والطمع والاستحواذ، وحتي بحد الحياء، أو بتوسل كلمات النفاق المعسولة والنميمة وخسة الطباع، وامتلاك موهبة الدخول من الأبواب الخلفية، والنوافذ الضيقة، والرهان علي السلطان لا علي الناس.
هذا الوضع المقلوب جعل صحافتنا تعيش ثلاث حالات مرة، الأولي هي الصحافة المحنطة، التي تشعر أن من يخطون سطورها جالسون في أقفاص حديدية، أعناقهم متصلبة وعيونهم تنظر في البعيد الفارغ، لا يلتفتون يمينا ولا يسارا، فلا يرون أن العالم تغير، كيفا وكما،
وأن الصحافة المصرية تخطو إلي خارج السباق يوما بعد يوم، لتنزوي هناك في الركن القصي، متحسرة علي أيام الأساتذة الكبار، والصحف الكبيرة، التي كان ينتظرها القراء علي أول الليل ومطلع صبح كل يوم جديد، ومتحسرة كذلك علي الأيام التي كان يجوب فيها صحفيو مصر العالم العربي يعلمون ويدربون ويشيدون علي أكتافهم وبأقلامهم مؤسسات صحفية هنا وهناك، من دون كلل ولا ملل.
أما الحالة الثانية فهي تلك التي تعود بالصحافة إلي أيام طيب الذكر عبدالله النديم، حين كانت الصحيفة من أولها إلي آخرها عبارة عن مقالات رأي، وعلي النقيض من رقي ما كانت تحويه صحافة النديم فإن الصحافة الجديدة هذه تكتب بلغة أقل ما توصف به أنها مبتذلة وانفعالية، وبعضها صادر عن أناس ينظر إليهم البعض بوصفهم مرضي يعانون من متاعب نفسية لا تحصي أقلها البارانويا والعدوانية وسلاطة اللسان.
وهذه صحافة سهلة ركيكة، رغم أن القائمين عليها يحاولون أن يوهموا الناس أنها ليست كذلك، ووجه السهولة هو أنها تجعل بإمكان فرد واحد أن يملأ الجريدة من الأولي المزعجة إلي الأخيرة الباهتة، وبإمكان عشرة أفراد أن يقولوا ما يعن لهم، من دون أدلة ولا معلومات، من دون تعب علي تحصيل حجة ولا تحمل عناء التحقق من صحة كلمة ولا جملة ولا حتي من كل الصفحات، التي تطرح أمام القراء دون احترام عقولهم.
ووجه الركاكة أن مثل هذه الصحافة، تثبت المعني الذي يسود عند البعض، بمن فيهم زملاء المسيرة والمصير، أن الصحافة باتت مهنة من لا مهنة له، وأي شخص «يفك الخط» بوسعه أن يصبح صحفيا كبيرا،
أليس المطلوب منه أن يكون قادرا علي إنتاج عبارات يرددها العوام حين يتحدثون في قضايانا الكبري مثل الفساد والاستبداد والتجبر البيروقراطي والأحزاب الورقية والطبقة الطفيلية.. وهلم جرا.. أليس المطلوب منه أن يقول رأيه أو يفتي في كل ما يجري وهو جالس مكانه، علي مقعد متهالك في مقهي شعبي بحارة ضيقة، ويحاول أن يفرض هذا الرأي علي كل الزبائن.
مأساة القائمين علي هذا النوع من الصحف أنهم يتوهمون أن البسطاء لا يفهمون ما يكتبه هيكل أو فهمي هويدي، وأن من نالوا قسطا معقولا من التعليم لا يفهمون زكي نجيب محمود وحسن حنفي وفؤاد زكريا وهم يعرضون أعقد القضايا وأعمقها بأسلوب سلس بديع، ويتناسي هؤلاء أن البسطاء يفهمون ما يكتبه نجيب محفوظ، وربما يتعثرون كثيرا في فهم رواية «لبن العصفور» التي كتبها يوسف القعيد بالعامية المصرية، وأنهم يحفظون ويفهمون القصائد التي غنتها أم كلثوم وعبد الحليم حافظ.
إن القعيد نفسه لم تسعفه العامية في الدفاع عن روايته هذه، كما لم تسعف من قبل لويس عوض وهو ينافح عن قضيته في إعلاء شأن العامية لتصبح لغتنا الأساسية، وعلي الدرب ذاته نٌصح يحيي حقي حين كٌلف بالكتابة لجريدة «التعاون» ألا يكتب بالعامية لقرائها من العمال والفلاحين، لأن هذا سيجعلهم ينصرفون عنه، شاعرين أنه يحتقرهم، وقيل له وقتها إن العوام يفهمون خطب الرئيس، وهي بالفصحي، ويتابعون البرامج الإذاعية الراقية، وتفاسير القرآن والأحاديث النبوية بألسنة فقهاء فصحاء، ويحيطون بأغلب ما يسمعون.
أما النوع الثالث من الصحافة فهو تلك الغارقة في النميمة والرذيلة، لأنها تتقول علي الناس الشرفاء، ومن بينهم حتي بعض المسؤولين غير الفاسدين، فتتهمهم في ذممهم المالية بلا برهان، وتشهر بأناس لم يرتكبوا جريمة، وتصدر أحكاما علي الماثلين أمام العدالة قبل أن يقول القضاء كلمته، وتدس أنفها في حياتهم الخاصة، ابتداء مما يأكلون ويشربون ووصولا إلي ما يجري في غرف نومهم، بدون واعظ من دين، ولا كابح من ضمير، ولا رادع من قانون.
استثناء من ذلك هناك نضال صحفيين واعين في بعض «المؤسسات القومية»، وهناك تجربة بعض الصحف الحزبية، التي تبدو أفضل نسبيا من حيث المضمون والشكل، وتوجد صحف مستقلة تعزز مكانتها، وترسم خطها الفريد، محاولة أن تستعيد مجد وهيبة الصحافة المصرية، مستندة في مقصدها النبيل هذا علي الكفاية الأخلاقية والكفاءة المهنية، التي لا يمكن لمصر أن تعدمها يوما.
وهذه الصحف تؤمن بأن دفاعها عن مصالح الناس هو الفعل الأبقي والأرقي، ومحتفظة بمسافة مع السلطة، تملؤها بسطور ناصعة من النقد البناء، الذي يستهدف المصلحة العليا للوطن، وليس مصالح فئة أو شريحة أو زمرة ستنتهي يوما، وتصبح نسيا منسيا في تاريخ بلادنا المديد.

No comments: