بقلم حسين احمد امين
٧/٢/٢٠٠٧
هالني أن أسمع من أحد المحاضرين الثِّقات في مؤتمر ببيروت، أن نحو ثلاثمائة لغة ولهجة من لغات العالم ولهجاته قد اندثر خلال القرن العشرين.. وسألت نفسي عما إذا كان من المحتمل، إزاء ما نلمسه من شواهد لا تحصي، أن يشهد القرن الحادي والعشرون اندثار اللغة العربية.
وكان أول ما فعلته بعد عودتي إلي القاهرة، وتبادل التحية مع أفراد العائلة، أن أتيت بإحدي قصص كامل كيلاني للأطفال - وهي من قصصه التي كنا نقبل علي قراءتها ونحن في السابعة أو الثامنة- وطلبتُ من حفيدة لي في الرابعة عشرة، ومن حفيد في الثانية عشرة أن يقرآ فقرة منها، فتبين أنهما -وهما من المتفوقين في مدرستيهما- لم يفهما منها غير أربع كلمات أو خمس، أما المعني الإجمالي فقد غاب عنهما.
تذكرت كيف أن مدرس اللغة العربية في السنة الأولي من مدرستنا النموذجية الثانوية (وكنت في الثانية عشرة من العمر) كان يأتينا من حين لآخر بمجلد من «كتاب الأغاني» لأبي الفرج ليقرأ علي تلاميذ الفصل مختارات منه عن امرئ القيس وعمرو بن أبي ربيعة، دون أن يجد حاجة إلا إلي شرح عدد قليل من المفردات، فإن كان الوضع كذلك في صباي،
فما الذي عساه أن يكون قد حدث خلال السنوات الستين الماضية؟ هذا مع اعترافي بأنني أنا أيضاً كثيراً ما أجد صعوبة في فهم تعابير يستخدمها شباب اليوم، مثل: إحنا اللي بَهْيّظْنا الفَهايص - رِوِشْ - صباح الهرتلة - فَنِّش - شنبره - كامنَّنَّا - كاتش كادر في الألولو، إلي آخره، ناهيك عن صعوبة فهمي لغة الممثل محمد هنيدي أو المغني شعبان عبدالرحيم وأمثالهما، وهي التي تفوق ما يصادفه شبابنا اليوم من صعوبة في فهم أشعار البُحتري أو أبي تمّام.
أفي هذا وغيره ما يمكن أن نشتمّ منه افتقاراً إلي المرونة وإلي القدرة علي التكيف في العربية الفصحي؟
إن المرونة العظيمة للغة العربية الفصحي، وقدرتها علي الاشتقاق والمجاز والقلب والإبدال والنحت، هما اللتان مكنتاها من أن تكون لغة القرآن والحديث وما فيهما من معان رفيعة سامية، وتعبيرات دينية واجتماعية وتشريعية لم يكن للعرب بها عهد في جاهليتهم، كما استطاعت بعد ذلك أن تكون أداة لكل ما نُقل من علوم الفرس والهند واليونان وغيرهم.
ففي نحو ثمانين عاماً من بدء العصر العباسي كانت خلاصة كل هذه الثقافات مدونة باللغة العربية، رغم أن العرب لم يكونوا يعرفون شيئاً عن مصطلحات الحساب والهندسة والطب، ولا شيئاً من منطق أرسطو وفلسفة أفلوطين، فإذا هم وقد أصبحوا يعبّرون بعربية فصحي عن أدق نظريات إقليدس، وحساب الجيب الهندي، وما وراء المادة لأرسطو، ونظريات الهيئة لبطليموس، وطب جالينوس، وحِكَم بُزُرْجيهنر، وسياسة كسري، وما كانوا يستطيعون ذلك كله لولا ما بلسانهم من مرونة وحياة ورقي.
كان ذلك إبان العصر الذهبي للغة العربية، أما عن تباطؤ نموها وتطورها بعد ذلك فقد كان المسؤول عنه ذلك المعسكر الذي ظهر في العصر العباسي الثاني يدعو إلي التشبث بالقديم وعدم الحيدة عنه، والذي كتب له الانتصار علي المعسكر الداعي إلي التجديد والتطوير والمرونة، بفضل قوة اتصال الأول بالخلفاء، وكثرة الأتباع والأشياع، ولجوئه إلي المكر إذ صبغ دعوته صبغة دينية.. وقد أثرت هذه الدعوة تأثيراً ضاراً لا في اللغة العربية فحسب، بل في الأدب العربي كله، وفي تكييف العقلية العربية.
والغريب الشائق أن الغالبية العظمي من أصحاب الاتجاه المحافظ الرافض للتطوير والمرونة كانت من الأعاجم المستعربين. فالأعجمي إذا استعرب كان قصاري همه وغايته أن يصل في فنه إلي العربي الأصيل، ولا تحدثه نفسه أن يبتكر في القديم، أو يجدد في الشيء القائم، فكان أن قضي علي المرونة باعتبارها مستنكرة، وأغلق باب الاجتهاد في اللغة باعتباره بدعة.
ثم نلاحظ بعد ذلك أن الهمة نفسها -أو ما يقاربها- مما أبداه أناس العصر الذهبي للغة العربية، عادت إلي الظهور في العالم العربي في أواخر القرن التاسع عشر وبداية العشرين، خاصة مع بزوغ جماعة إبراهيم اليازجي (١٨٤٧ - ١٩٠٦) في الشام تدعو إلي مبدأ تنقية العربية وتطويرها، وتعترف بالحاجة إلي المرونة والتوسع في مفرداتها ومادتها اللغوية وطرائق التعبير بها، ولكن علي أساس من الذخيرة الوافرة من الجذور والأشكال والكلمات في اللغة العربية ذاتها.
ولا شك في أن جهوداً ضخمة قد بُذلت منذ ذلك الحين من أجل نحت الألفاظ والاصطلاحات والتعابير العربية الجديدة، ليس فقط من قبل اللغويين والمجامع العلمية للغة العربية، وإنما أيضاً من قبل المثقفين المشتغلين بالفروع المختلفة من العلوم.
فمعظم المتخصصين في العلوم ومؤلفي الكتب فيها أو مترجميها أدلوا بدلوهم بصدد تعريب الاصطلاحات، بحيث باتوا هم أنفسهم -إلي حد ما- لغويين خلاّقين (يكفي أن نقارن كتاباتهم بكتابات الطهطاوي وأفراد جيله الذين أفرطوا في استخدام الكلمات والتعابير الأجنبية كالتياترو، والبوستة، والبال، والسبكتاكل، والرسطورانات.. إلي آخره)،
وقد أضاف هؤلاء إلي المكتبة العربية قدراً كبيراً من المعاجم وكتب الاصطلاحات المختلفة المتصلة بشتي العلوم والفنون، كمعجم أسماء النبات لأحمد عيسي، ومعجم الحيوان لأمين المعلوف، ومعجم الألفاظ الزراعية لمصطفي الشهابي، وقاموس العلوم الطبية لمحمد أشرف.. إلخ، وكلها تحوي اقتراحات طيبة، وتعتبر مساهمة مشكورة في توسيع المادة اللغوية للفصحي وإثرائها.
أما عن السبب في أن نسبة بسيطة فحسب من الكلمات والاصطلاحات التي اقترحها هؤلاء هي التي قبلها الجمهور ودخلت الاستعمال العام، فلا يرجع إلي تقصير من الرواد، ولا إلي عجز منهم عن نحت ألفاظ عربية رصينة للتعبير عن مفاهيم غربية مستحدثة، وإنما يرجع أساساً إلي ضعف أو انعدام التنسيق بين الجهود المبذولة في هذا الصدد، وفشل محاولات الهيئات الرسمية والمجامع العربية للغة في أقطارنا المختلفة لتوحيد الاصطلاحات، وتوفير قبول عام للألفاظ المستحدثة في الميادين الفنية والعلمية..
فكل من هذه الهيئات والمجامع يوصي بتبني كلمات وتعابير جديدة، ثم لا يسعي بعد ذلك سعياً جاداً من أجل ضمان استخدام كل المتخصصين في هذه الميادين لها علي مستوي العالم العربي، أو حتي علي مستوي الدولة الواحدة. وبالتالي صار من الصعب التعبير عن الاصطلاحات المتخصصة في العلوم والتكنولوجيا بالعربية علي نحو يفهمه كل المشتغلين بهذا الفرع من فروع المعرفة أو ذاك، وساد نوع من الفوضي والارتجال في استخدام التعابير المستحدثة. فإذا بنا نجد للشيء الواحد أو المفهوم الواحد تعابير كثيرة شتي، ونجد تعبيراً واحداً يعني أشياء أو مفاهيم مختلفة لأشخاص مختلفين.
فالحل هنا إذن إنما يكمن في تنسيق الجهود.. غير أنه من الواجب التنبيه إلي أن جهود الرواد يعيبها التركيز الكلي علي الألفاظ المفردة، دون الصياغات وطرائق التعبير التي تأثرت بالصياغات الغربية تأثراً رهيباً. فلغة مؤلفينا في الاقتصاد والاجتماع والعلوم المختلفة -بله لغة الصحافة والإذاعة والتليفزيون- عليها مسحة غربية واضحة، سواء في صوغ القوالب، أو تركيب الجمل، أو طرائق التعبير، بحيث يصدق عليها قولة بعضهم: «إنه يكاد الفهم الصحيح لعباراتهم يتوقف علي قدرة القارئ علي إعادة العبارات إلي أصلها الأجنبي أولاً».
وربما كان أحد الأسباب المهمة لذلك قلة نظر مثقفينا اليوم في تراثهم العربي، وانصرافهم عنه انصرافاً يكاد يكون كلياً إلي المؤلفات الأجنبية، أو مؤلفات عربية حديثة لأمثالهم من المثقفين غير المتمكنين من اللغة. ولو أنهم ألفوا أسلوب أمثال الجاحظ وأبوحيان التوحيدي وابن المقفع من أساطين اللغة، لسهل عليهم أن يجدوا ألفاظاً فصيحة، وقوالب رصينة الصوغ، لما يريدون التعبير عنه من أفكار، حتي الأفكار والمعاني المستحدثة التي يخالون العربية عاجزة عن التعبير عنها، فينحتون عبارات مثل: كاتش كادر في الألولو!
إضافة:
أخبرتني ابنتي الآن -وبعد فراغي من كتابة هذا المقال- أن قناة تليفزيونية جديدة يملكها رجل الأعمال المصري نجيب ساويرس قد بدأت منذ يومين بث برامجها، وأن كل هذه البرامج (بما في ذلك نشرات الأخبار!) تستخدم اللغة العامية وحدها دون الفصحي، وهو ما اعتبره صاحب القناة في خطابه الافتتاحي خطوة رائعة إلي... الأمام!
ألا يمكن اعتبارها في واقع الحال خطوة من مخطط شيطاني يستهدف القضاء تدريجياً علي أشرف لغات أهل الأرض؟
هالني أن أسمع من أحد المحاضرين الثِّقات في مؤتمر ببيروت، أن نحو ثلاثمائة لغة ولهجة من لغات العالم ولهجاته قد اندثر خلال القرن العشرين.. وسألت نفسي عما إذا كان من المحتمل، إزاء ما نلمسه من شواهد لا تحصي، أن يشهد القرن الحادي والعشرون اندثار اللغة العربية.
وكان أول ما فعلته بعد عودتي إلي القاهرة، وتبادل التحية مع أفراد العائلة، أن أتيت بإحدي قصص كامل كيلاني للأطفال - وهي من قصصه التي كنا نقبل علي قراءتها ونحن في السابعة أو الثامنة- وطلبتُ من حفيدة لي في الرابعة عشرة، ومن حفيد في الثانية عشرة أن يقرآ فقرة منها، فتبين أنهما -وهما من المتفوقين في مدرستيهما- لم يفهما منها غير أربع كلمات أو خمس، أما المعني الإجمالي فقد غاب عنهما.
تذكرت كيف أن مدرس اللغة العربية في السنة الأولي من مدرستنا النموذجية الثانوية (وكنت في الثانية عشرة من العمر) كان يأتينا من حين لآخر بمجلد من «كتاب الأغاني» لأبي الفرج ليقرأ علي تلاميذ الفصل مختارات منه عن امرئ القيس وعمرو بن أبي ربيعة، دون أن يجد حاجة إلا إلي شرح عدد قليل من المفردات، فإن كان الوضع كذلك في صباي،
فما الذي عساه أن يكون قد حدث خلال السنوات الستين الماضية؟ هذا مع اعترافي بأنني أنا أيضاً كثيراً ما أجد صعوبة في فهم تعابير يستخدمها شباب اليوم، مثل: إحنا اللي بَهْيّظْنا الفَهايص - رِوِشْ - صباح الهرتلة - فَنِّش - شنبره - كامنَّنَّا - كاتش كادر في الألولو، إلي آخره، ناهيك عن صعوبة فهمي لغة الممثل محمد هنيدي أو المغني شعبان عبدالرحيم وأمثالهما، وهي التي تفوق ما يصادفه شبابنا اليوم من صعوبة في فهم أشعار البُحتري أو أبي تمّام.
أفي هذا وغيره ما يمكن أن نشتمّ منه افتقاراً إلي المرونة وإلي القدرة علي التكيف في العربية الفصحي؟
إن المرونة العظيمة للغة العربية الفصحي، وقدرتها علي الاشتقاق والمجاز والقلب والإبدال والنحت، هما اللتان مكنتاها من أن تكون لغة القرآن والحديث وما فيهما من معان رفيعة سامية، وتعبيرات دينية واجتماعية وتشريعية لم يكن للعرب بها عهد في جاهليتهم، كما استطاعت بعد ذلك أن تكون أداة لكل ما نُقل من علوم الفرس والهند واليونان وغيرهم.
ففي نحو ثمانين عاماً من بدء العصر العباسي كانت خلاصة كل هذه الثقافات مدونة باللغة العربية، رغم أن العرب لم يكونوا يعرفون شيئاً عن مصطلحات الحساب والهندسة والطب، ولا شيئاً من منطق أرسطو وفلسفة أفلوطين، فإذا هم وقد أصبحوا يعبّرون بعربية فصحي عن أدق نظريات إقليدس، وحساب الجيب الهندي، وما وراء المادة لأرسطو، ونظريات الهيئة لبطليموس، وطب جالينوس، وحِكَم بُزُرْجيهنر، وسياسة كسري، وما كانوا يستطيعون ذلك كله لولا ما بلسانهم من مرونة وحياة ورقي.
كان ذلك إبان العصر الذهبي للغة العربية، أما عن تباطؤ نموها وتطورها بعد ذلك فقد كان المسؤول عنه ذلك المعسكر الذي ظهر في العصر العباسي الثاني يدعو إلي التشبث بالقديم وعدم الحيدة عنه، والذي كتب له الانتصار علي المعسكر الداعي إلي التجديد والتطوير والمرونة، بفضل قوة اتصال الأول بالخلفاء، وكثرة الأتباع والأشياع، ولجوئه إلي المكر إذ صبغ دعوته صبغة دينية.. وقد أثرت هذه الدعوة تأثيراً ضاراً لا في اللغة العربية فحسب، بل في الأدب العربي كله، وفي تكييف العقلية العربية.
والغريب الشائق أن الغالبية العظمي من أصحاب الاتجاه المحافظ الرافض للتطوير والمرونة كانت من الأعاجم المستعربين. فالأعجمي إذا استعرب كان قصاري همه وغايته أن يصل في فنه إلي العربي الأصيل، ولا تحدثه نفسه أن يبتكر في القديم، أو يجدد في الشيء القائم، فكان أن قضي علي المرونة باعتبارها مستنكرة، وأغلق باب الاجتهاد في اللغة باعتباره بدعة.
ثم نلاحظ بعد ذلك أن الهمة نفسها -أو ما يقاربها- مما أبداه أناس العصر الذهبي للغة العربية، عادت إلي الظهور في العالم العربي في أواخر القرن التاسع عشر وبداية العشرين، خاصة مع بزوغ جماعة إبراهيم اليازجي (١٨٤٧ - ١٩٠٦) في الشام تدعو إلي مبدأ تنقية العربية وتطويرها، وتعترف بالحاجة إلي المرونة والتوسع في مفرداتها ومادتها اللغوية وطرائق التعبير بها، ولكن علي أساس من الذخيرة الوافرة من الجذور والأشكال والكلمات في اللغة العربية ذاتها.
ولا شك في أن جهوداً ضخمة قد بُذلت منذ ذلك الحين من أجل نحت الألفاظ والاصطلاحات والتعابير العربية الجديدة، ليس فقط من قبل اللغويين والمجامع العلمية للغة العربية، وإنما أيضاً من قبل المثقفين المشتغلين بالفروع المختلفة من العلوم.
فمعظم المتخصصين في العلوم ومؤلفي الكتب فيها أو مترجميها أدلوا بدلوهم بصدد تعريب الاصطلاحات، بحيث باتوا هم أنفسهم -إلي حد ما- لغويين خلاّقين (يكفي أن نقارن كتاباتهم بكتابات الطهطاوي وأفراد جيله الذين أفرطوا في استخدام الكلمات والتعابير الأجنبية كالتياترو، والبوستة، والبال، والسبكتاكل، والرسطورانات.. إلي آخره)،
وقد أضاف هؤلاء إلي المكتبة العربية قدراً كبيراً من المعاجم وكتب الاصطلاحات المختلفة المتصلة بشتي العلوم والفنون، كمعجم أسماء النبات لأحمد عيسي، ومعجم الحيوان لأمين المعلوف، ومعجم الألفاظ الزراعية لمصطفي الشهابي، وقاموس العلوم الطبية لمحمد أشرف.. إلخ، وكلها تحوي اقتراحات طيبة، وتعتبر مساهمة مشكورة في توسيع المادة اللغوية للفصحي وإثرائها.
أما عن السبب في أن نسبة بسيطة فحسب من الكلمات والاصطلاحات التي اقترحها هؤلاء هي التي قبلها الجمهور ودخلت الاستعمال العام، فلا يرجع إلي تقصير من الرواد، ولا إلي عجز منهم عن نحت ألفاظ عربية رصينة للتعبير عن مفاهيم غربية مستحدثة، وإنما يرجع أساساً إلي ضعف أو انعدام التنسيق بين الجهود المبذولة في هذا الصدد، وفشل محاولات الهيئات الرسمية والمجامع العربية للغة في أقطارنا المختلفة لتوحيد الاصطلاحات، وتوفير قبول عام للألفاظ المستحدثة في الميادين الفنية والعلمية..
فكل من هذه الهيئات والمجامع يوصي بتبني كلمات وتعابير جديدة، ثم لا يسعي بعد ذلك سعياً جاداً من أجل ضمان استخدام كل المتخصصين في هذه الميادين لها علي مستوي العالم العربي، أو حتي علي مستوي الدولة الواحدة. وبالتالي صار من الصعب التعبير عن الاصطلاحات المتخصصة في العلوم والتكنولوجيا بالعربية علي نحو يفهمه كل المشتغلين بهذا الفرع من فروع المعرفة أو ذاك، وساد نوع من الفوضي والارتجال في استخدام التعابير المستحدثة. فإذا بنا نجد للشيء الواحد أو المفهوم الواحد تعابير كثيرة شتي، ونجد تعبيراً واحداً يعني أشياء أو مفاهيم مختلفة لأشخاص مختلفين.
فالحل هنا إذن إنما يكمن في تنسيق الجهود.. غير أنه من الواجب التنبيه إلي أن جهود الرواد يعيبها التركيز الكلي علي الألفاظ المفردة، دون الصياغات وطرائق التعبير التي تأثرت بالصياغات الغربية تأثراً رهيباً. فلغة مؤلفينا في الاقتصاد والاجتماع والعلوم المختلفة -بله لغة الصحافة والإذاعة والتليفزيون- عليها مسحة غربية واضحة، سواء في صوغ القوالب، أو تركيب الجمل، أو طرائق التعبير، بحيث يصدق عليها قولة بعضهم: «إنه يكاد الفهم الصحيح لعباراتهم يتوقف علي قدرة القارئ علي إعادة العبارات إلي أصلها الأجنبي أولاً».
وربما كان أحد الأسباب المهمة لذلك قلة نظر مثقفينا اليوم في تراثهم العربي، وانصرافهم عنه انصرافاً يكاد يكون كلياً إلي المؤلفات الأجنبية، أو مؤلفات عربية حديثة لأمثالهم من المثقفين غير المتمكنين من اللغة. ولو أنهم ألفوا أسلوب أمثال الجاحظ وأبوحيان التوحيدي وابن المقفع من أساطين اللغة، لسهل عليهم أن يجدوا ألفاظاً فصيحة، وقوالب رصينة الصوغ، لما يريدون التعبير عنه من أفكار، حتي الأفكار والمعاني المستحدثة التي يخالون العربية عاجزة عن التعبير عنها، فينحتون عبارات مثل: كاتش كادر في الألولو!
إضافة:
أخبرتني ابنتي الآن -وبعد فراغي من كتابة هذا المقال- أن قناة تليفزيونية جديدة يملكها رجل الأعمال المصري نجيب ساويرس قد بدأت منذ يومين بث برامجها، وأن كل هذه البرامج (بما في ذلك نشرات الأخبار!) تستخدم اللغة العامية وحدها دون الفصحي، وهو ما اعتبره صاحب القناة في خطابه الافتتاحي خطوة رائعة إلي... الأمام!
ألا يمكن اعتبارها في واقع الحال خطوة من مخطط شيطاني يستهدف القضاء تدريجياً علي أشرف لغات أهل الأرض؟
No comments:
Post a Comment