بقلم أحمد المسلماني ـ المصري يوم ٢٠/٢/٢٠٠٧
قالت لي الفنانة الكبيرة فاتن حمامة كلاماً كثيراً وخطيراً حول مصر التي كانت ومصر التي أصبحت. تحدثت عن الوفد والنحاس وعن الثورة وعبدالناصر وعن زمن الانكسار وزمن الانتصار.
وفاجأتني سيدة الشاشة بآراء صادمة وصادقة، وقد نشرتُ جانباً من ذلك اللقاء الطويل في ست عشرة صفحة ضمن دورية «أحوال مصرية» التي يصدرها مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام.
وقد أعاد الأديب يوسف القعيد نشر أجزاء من ذلك الحوار في صحيفة «الحياة» اللندنية، أما الأستاذ إبراهيم عيسي فقد قال لي إنه أعاد نشره في سبع صحف صُودرت في المطابع.. قبل أن تصدر الدستور.
قبل ذلك الحين وأنا أفكر في تأسيس تيار فكري جديد.. الاسم: المؤرخون الجُدد، والهدف إعادة النظر، والغاية: الوطن ولا شيء غير الوطن، وهنا البداية.
قامت ثورة يوليو عام ١٩٥٢ وانتهت عام ١٩٥٤، أو أنها قامت عام ١٩٥٢ وانتهت عام ١٩٥٦.. أو أنها لا تزال قائمة حتي الآن. لقد عادت ثورة يوليو وعهد الرؤساء نجيب وعبدالناصر والسادات إلي الواجهة من جديد، وبعد أن كانت الإشادة بإنجازات الثورة أو الحفر في مخلفاتها حصراً في الفئات المثقفة، بات العوام من جملة من يعيدون النظر فيما مضي وفات.
لقد أصدرت المكتبات المصرية في الآونة الأخيرة كتباً تذكارية وأخري فكرية عن الملك فاروق والرئيس عبدالناصر والرئيس السادات، وقد سألت عن خريطة التوزيع لهذه الكتب، وفوجئت بأن كتب «الملك فاروق» يزيد توزيعها علي أضعاف كتب الرئيسين،
وأن كتب الرئيس السادات تتفوق علي كتب الرئيس عبدالناصر، وهو عكس التوقعات تماماً، إذ حظيت الثورة وقادتها باحترام كبير لعقود طويلة، وأهيل التراب علي الملك فاروق حتي لم يبق ظاهراً منه إلا أحاديث الغواني وحساء الحمام، كما لاقي الرئيس السادات هجوماً صحفياً واسعاً من قوي اليسار التي طالته في كل شيء.
الحاصل إذن أننا إزاء موجة واسعة لإعادة النظر، إعادة النظر في الثورة ذاتها، وفي كل رجالها، في المبادئ والأهداف، في الفكرة والحركة.. في كل الطريق الطويل الذي يعتقد أنصار الثورة أنه أعاد مصر إلي التاريخ، ويعتقد معارضوها أنه أخرج مصر من التاريخ.
ربما يكون مهماً في هذا المقام، أن نوجه الدعوة لعموم المؤرخين والمفكرين والصحفيين..إلي الراضين وإلي الساخطين.. إلي الذين شهدوا أو الذين سمعوا أو الذين قرأوا، أن نبدأ حركة فكرية شاملة عمادها إعادة النظر.
لقد فعلتها إسرائيل في موجة «المؤرخين الجُدد»، وهم جماعة من المعنيين بالتاريخ والسياسة في الحركة الصهيونية الذين أعادوا النظر في تاريخ الصهيونية وتاريخ إسرائيل، وقالوا كلاماً كبيراً وكثيراً.. أحسب أن ظاهره الرحمة وباطنه العذاب، وقد أشرت إلي ذلك تفصيلاً في كتابي «مابعد إسرائيل».
ليكن شأن إسرائيل والحركة الصهيونية ما يكون، أما شأننا نحن فهو أحوج ما يكون إلي المراجعة، إلي حركة «المؤرخين الجدد في مصر»، إلي طرح الأسئلة في كل شيء، دون رغبة في التخوين أو التشفي أو الإحباط أو التسلية، بل الغاية هي الإفادة من طريق طويل.. أزعم أنه كان يحمل من الخطأ أكثر مما يحمل من الصواب.
لقد ساد مثلاً أن عهد ما قبل الثورة هو عهد الملك فاروق، وجري اختصار مصر كلها فيما قبل ١٩٥٢ في ملذات الملك ومغامرات القصر، وهو تقييم قاصر، إذ أنه لا يمثل إقلالاً من شأن الملك وحطاً من قدر القصر، بقدر ما يمثل إقلالاً من شأن الوطن وحطاً من شأن مصر،
فلقد كان ذلك الزمان يشهد دولة مصرية متميزة، نخبة رفيعة وشعباً عظيماً، أسماء شاهقة في كل مكان.. عاصمة تفوق باريس، وفناً وعلماً وأدباً وفكراً يمثل وضعية جيدة في سياق العالم. وإذا كان من تدمير لمجمل ذلك لأجل تدمير صورة الملك الفاسد -وقد كان حقاً تافهاً وفاسداً- فإن التدمير في واقع الحال هو تدمير لجزء من التاريخ، تدمير للآباء والأجداد المباشرين، هو تمزيق جزء من سيرتنا الذاتية أو تمزيق أوراق من عمرنا الإنساني والحضاري.
لم يكن ذلك عصر الملك فاروق بل كان عصر سعد زغلول والنحاس باشا أو عصر طه حسين وطلعت حرب أو هو عصر مصطفي مشرفة وأم كلثوم، لكنه قطعاً لم يكن عصر فاروق.
لقد ساد أيضاً أن الثورة تعاظمت وتأكدت مبادئها بعد حرب السويس ١٩٥٦، التي أسست لأسطورة عبدالناصر، ويعلم أبسط القراء أن ذلك كان بداية الأفول لا بداية الصعود، ففي ١٩٥٨ دخلت مصر وحدة ضعيفة مع سوريا انتهت بفشل ذريع عام ١٩٦١، وفي ١٩٦٢ دخلت مصر حرباً في اليمن كانت حرب استنزاف كبري للموارد والقيم في الجيش المصري، وفي ١٩٦٧ كانت أحداث يوم القيامة، ولولا حرب ١٩٧٣.. لمات هذا الشعب كمداً علي ما كان.
سيقول السفهاء من الناس.. ولماذا نبش القبور الآن؟، وما الهدف من إعادة النظر في الثورة وما قبلها وما بعدها؟ ولماذا نترك العالم يتجه إلي المستقبل علي هذا العجل ونتعثر نحن في ثوب الذكريات؟.. وظني أن الهدف من تدشين حركة «المؤرخين الجدد» لا يتوخي نبش القبور من أجل تمزيق ملابس الأحياء،
كما أنه لا يستهدف شق صف الحركات السياسية «المشقوقة دون عناء».. وإنما الهدف، إحياء علم التاريخ وتعظيم الفائدة في علم السياسة، وتعليم الصغار أن الأشياء تتسع لأكثر من لونين وأكثر من رأيين.. وأن هذا الوطن يحتاج إلي من يدركون شخصيته ويفهمون حركته.. إلي من يقفون فوق الجغرافيا في ثبات وينظرون إلي التاريخ في هدوء.
No comments:
Post a Comment