رءوف عباس ـــ العربي الناصري 19/2
شددت الرحال إلى ماليزيا فى أواخر يناير الماضي، قرأت كثيرا عن التجربة الماليزية، وتابعت ما كتبه مهاتير محمد مهندس هذه التجربة وما جرى معه من مقابلات صحفية وتليفزيونية، نفى فيها الرجل أن ما حدث من تنمية اقتصادية وإصلاح سياسى واجتماعى كان من قبيل المعجزات، ولكن التعليم والبحث العلمى كانا حجر الزاوية فى تحقيق الإنجازات التى تمت على مدى عقدين من الزمان، وقرأت وسمعت بعض الكتاب الذين يعبرون عن التيار السياسى الإسلامى من تصوير للتجربة النموذجية باعتبارها نموذجا ناجحا لأسلمة النظام السياسي، والتبشير بما ينتظر بلاد الإسلام من خير عميم إذا سارت على النهج نفسه. ومن هنا كانت الرحلة الماليزية ضرورة لأرى رأى العين حقيقة ما سمعت وقرأت، ولأقف على أسباب تقدم ماليزيا التى كنا نسبقها منذ الستينيات بمراحل كبيرة، فأصبحنا وراءها بمسافة كبيرة، لعلى اكتشف هناك سر الخيبة التى أصابتنا على يد نظام منتهى الصلاحية، فنحن أصحاب أقدم دولة مركزية فى التاريخ، بينما ماليزيا تضم شبه جزيرة الملايو التى تمثل حدا هامشيا بين الهند والصين المفصل الذى تربط الصين ب الهند وبين الهند وعالمها الحضاري، مجرد شبه جزيرة تكسوها الغابات المطيرة ويقتات أهلها من الزراعة المحدودة والصيد، حتى جاءها الاستعمار بمختلف ألوانه: البرتغالى فالهولندى ثم الإنجليزي، فغير فيها وبدل بما يخدم مصالحه وأغراضه، وكان من أهم ما تم على أيدى الاستعمار من تغيير هو ما أصاب التركيبة السكانية. وكانت شبه الجزيرة مقسمة إلى عدد من الوحدات المستقلة عن بعضها البعض يحكم كل منها حاكم يسمى بالسلطان تحت الحماية البريطانية حتى نهاية الحرب العالمية الثانية عندما قررت بريطانيا عام 1946 ضم تلك الكيانات فى اتحاد الملايو، ومرت البلاد بتطورات سياسية يسودها الصراع والاضطراب حتى استطاع الزعيم الوطنى تنكو عبدالرحمن أن يحصل لها على الاستقلال عام 1956 باسم اتحاد ماليزيا الذى يضم سلطنات الملايو بالإضافة سرواك وصباح وبروناى التى كانت تكون بورنيو البريطانية. وقد اجتذب الوجود الاستعمارى العمالة الصينية والهندية للعمل فى مناجم التصدير، ومزارع المطاط، وغيرهم من مجالات العمل مما جعل سكان ماليزيا المستقلة متنوعى الأعراق والثقافات والأديان، يشكل الملاويون بينهم نحو 49% من السكان وغالبيتهم من المسلمين، ويأتى الصينيون فى المرتبة الثانية من حيث التركيبة السكانية 42%، ويشكل الهنود 9% بعضهم من المسلمين وبذلك تصل نسبة المسلمين إلى نحو 52% وتأتى البوذية فى المرتبة التالية للإسلام، ثم الكونفوشية والتاوية والمسيحية وغيرها من الديانات والثقافات القديمة فى جزيرة بورنيو. فنحن أمام شعب يمثل كل أعراق وثقافات آسيا لا يمثل جزرا عرقية وثقافية ودينية منعزلة، ولكن تجمعه قواسم ثقافية تراثية مشتركة، كما تربطه ببعضه البعض روابط مصاهرة، وتاريخ مشترك صنعته حركة التحرر الوطنى ضد الاستعمار. لذلك قبل الشعب الماليزى باللغة الملاوية لغة رسمية للبلاد، وتكتب بحروف لاتينية الآن بعد أن كانت تكتب بالحرف العربى الفارسى قبل الاستقلال، ونص دستور الدولة على اعتبار جميع الأعياد الدينية والتقليدية لمكونات الشعب الماليزى أعيادا وطنية رسمية يتم الاحتفال بها رسميا. ولكن النصوص الدستورية وحدها لا تحقق التلاحم الوطني، فلابد من دعم تلك الصيغ القانونية بأساس متين من المصالح المشتركة، وهنا لعبت سياسة التنمية الاقتصادية التى نقلت ماليزيا من المرتبة رقم 56 فى العالم عام 1992 إلى المرتبة رقم 16 عام 2005، ووصل معدل النمو منذ منتصف التسعينيات إلى 7.5% مع تحسن مطرد فى مستوى المعيشة هبط بنسبة من يعيشون تحت خط الفقر من 37% عام 1973 إلى 5% عام 2000، وهبطت نسبة الأمية من أكثر من 70% عند الاستقلال 1956 إلى أقل من 10% عند ختام القرن العشرين، مع نظام تعليمى مجانى عام يستوعب 95% من عدد السكان فى سن التعليم، وخدمة صحية مجانية متقدمة هبطت بمعدل وفيات الأطفال من 75 لكل ألف إلى عشرة لكل ألف، وزاد توقع العمر من أقل من خمسين عاما عند الاستقلال إلى 75 عاما عند نهاية القرن العشرين، هذا فضلا عن توفر نظام جيد للتأمين الاجتماعى والإسكان. كان مشروع التنمية الاقتصادية هو مشروع ماليزيا الوطنى الذى اتخذ من المواطنة حجر الزاوية فى تحقيق التلاحم بين مكونات الشعب الماليزى متعدد الأعراق والثقافات، حقا استفاد الملاويون من عائدات المشروع التنموى فتحسنت أحوالهم المعيشية، ولكن ذلك لم يكن على حساب الآخرين، بل جاء بالمشاركة معهم. كل ما فى الأمر أن غالبية الملاويين كانوا من الفلاحين الفقراء، فتغيرت أوضاعهم نتيجة للتعليم والاشتغال بالصناعة والانتقال إلى المدن وبحكم أغلبيتهم العددية زاد دخل الفرد منهم بنسبة 30% فى مطلع الستسعينيات، ولا يعنى ذلك أن الصينيين والهنود غبنوا، بل يعنى أنهم كانوا أفضلا حالا من الفلاحين الملاويين بحكم اشتغالهم بالتجارة والصناعة وسكنى المدن منذ ما قبل الاستقلال. لقد استطاعت النخبة السياسية التى قادت العمل الوطنى فى مرحلة الاستقلال أن تحقق بذلك التوازن والانسجام بين مكونات الشعب الماليزى بفضل حكومات المنظمة الملاوية المتحدة التى مثلت ائتلافا من الملاوين والصينين والهنود واضطلعت بعبء بناء الدولة الوطنية فى إطار احترام حقوق المواطنة دون تمييز. ولذلك كان هناك حرص دائم على أن تتولى الحكم حكومة ائتلافية تمثل ما سمى بالجبهة الوطنية التى تضم أحزابا ممثلة للجماعات العرقية فى الدولة وغالبا ما تتم مناقشة المسائل المهمة المتصلة بمصالح الوطن أمام المجلس الأعلى للمنظمة الملاوية المتحدة الذى يحتل نوابه 75% من مقاعد البرلمان، بينما تشغل أحزاب المعارضة ومعظمها ذات توجه إسلامي نسبة 25% فقط من مقاعد البرلمان. وتتمتع الأحزاب ذات التوجه الإسلامى بشعبية نسبية فى بعض الولايات وشاركت فى السلطة بقدر محدود. ولا يعنى ذلك أن النظام السياسى الماليزى قد حقق تطورا ديمقراطيا مثاليا، فالأمور نسبية فيما يتعلق بالتنافس الانتخابي، والحريات العامة وحقوق الإنسان، فالنظام يقوم على أسس توافقية بين النخبة السياسية الممثلة لمكونات الشعب الماليزي، لا على أساس المحاصصة، ولكن على أساس توازن المصالح. لقد جاءت زيارتى ل ماليزيا قبيل الاحتفال بالسنة الصينية الجديدة التقويم القمرى الصيني التى تبدأ فى 12 فبراير، ودهشت لما رأيت فى كوالا لامبور العاصمة بل وفى الريف خارجها ومدينة ملكا المركز التجارى البرتغالى الهندى القديم، فقد اكتست المحال التجارية والبنوك والإدارات الحكومية بالزينات الحمراء والعبارات الصينية المعبرة عن أمنيات العام الجديد وهو بالمناسبة عام الخنزير، وكأننى فى بكين أو غيرها من مدن الصين، بينما كنت مهيئا لمشاهدة عاصمة لدولة إسلامية! وكان من الطبيعى أن أمارس عادة لم تفارقنى فى كل زيارة لبلد أجنبى هى محاولة التعلم من الناس، سألت مواطنين صينيين وهنودا وملاوين عن سر هذه المبالغة فى الاحتفال بالسنة الصينية، فدهشت عندما جاءت الإجابة دائما: إنه عيد وطني، تحتفل به الحكومة، ويتلقى رئيس الحكومة فيه تهانى المواطنين، وأن جميع الأعياد الدينية الإسلامية والبوذية والصينية أعياد رسمية تعامل على نفس المستوى من الاحتفاء والاهتمام. لاحظت أيضا أنه ليس هناك فرز طائفى أو عرقى فى سوق العمل، أو انفراد طائفة أو عرق بمهن محددة، فالمتاجر المملوكة لصينيين يعمل بها هنود وملايون والعكس صحيح، العبرة الكفاءة والأداء، كذلك الحال فى الدوائر الحكومية، فلا تمييز بين المواطنين، وهى نتيجة توصلت إليها بعد استقصاء من العديد من المواطنين، بل إن فى ماليزيا سياسة إسكان مثالية توفر فيها الدولة وحدة سكنية مساحتها تسعين مترا مربعا تملك بالتقسيط بسعر 6000 رنجت 1800 دولار أمريكي للعامل أو الموظف الذى يحصل على أجر شهرى يتراوح بين 1000 و2000 رنجت 3000 600 دولار أمريكي أى أن المواطن يحصل على الشقة مقابل ما يعادل أجر 6 أو 3 أشهر وتغطى الدولة باقى التكاليف وتقع تلك الشقق فى مبان مكونة من 15 طابقا مزودة بالمصاعد ومحاطة بمساحات خضراء وأماكن للعب الأطفال ويتم الحصول على هذه الشقق وفق نظام خاص لا يفرق بين المواطنين ووفق ما نصت عليه شروط صندوق الإسكان. هذه ماليزيا التى رأيتها، دولة عمرها نصف قرن استطاعت أن تحقق ما حققته على أساس المواطنة والانتماء الوطنى والمشاركة فى مردود التنمية التى صنعوها بأيديهم ونظام سياسى قائم على جبهة وطنية ذات تقدير عال للمصالح الوطنية، فنحن أمام دولة مدنية مرجعيتها المصلحة الوطنية، دولة يعبد كل مواطن فيها ربه كما يشاء تتجاور المساجد والمعابد الصينية والهندية فى سلام يحدد العمل مكانة المواطن، أما معتقداته فله رب يحاسبه عليها. حزنت حقا لحالنا فنحن شعب واحد ثقافته واحدة أدرك وجود الخالق قبل الأديان السماوية بآلاف السنين عملت قوى التعصب الأعمى على مدى عقود ثلاثة على شق وحدته الوطنية فى غيبة مشروع وطنى يحشد المصريين وراءه فأصبحت المواطنة لفظا بلا معني، وأصبح هناك تمييز نلمحه فى سوق العمل الذى يشهد فرزا واضحا على أساس الدين ينذر بكارثة وطنية ما لم نسع لترميم الصدع وشتان ما بين الهدم الرتيب والبناء المرتقي، إنه البعد الشاسع بين التخلف والتقدم.
No comments:
Post a Comment