Wednesday, February 21, 2007


د.سعيد إسماعيل على ــ المصـريون : بتاريخ 21 - 2 - 2007
بداية ، لابد أن نصارح أنفسنا بكل الصدق بأن " التوجه المستقبلى " فى لغة الخطاب الإسلامى فريضة غائبة !أما أنه " فريضة " فلأن كل النصوص الإسلامية فى القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة تؤكد على أن الدنيا " دار فناء " ، وأن الآخرة " دار بقاء " ، ومن ثم وجب على المسلم " التجافى عن دار الغرور " و " الإنابة إلى دار الخلود " والقرآن الكريم نفسه طيلب من كل إنسان ، لا المسلم فقط بأن يتحسب للمستقبل ، فيقول جل شأنه ( ولتنظر نفس ما قدمت لغد ) الحشر / 18 .والترجمة العملية الحقيقية لهذا أن يستهدف المسلم ، المستقبل " الغد " فيما يعمل ، وأن يتعامل مع الحاضر على أنه " سبيله " إليه .وهى " غائبة " لأن واقع العمل الإسلامى فى مسيرته منذ قرون عديدة يعكس سوء فهم لمبدأ " التوكل " على الله ، تصورا أن " الغد " ما دام شأنا من شؤون الله ، فلا ينبغى أن نفكر فيه ، غافلين عن أن " التوكل " مرتبط " بالعزم " " وإذا عزمت فتوكل على الله " ، ولا يتأتى " العزم " إلا باتخاذ الأسباب ، سعيا لتحقيق غاية ليست قائمة ، وإنما هى مسطورة فى صفحات الغد ، ويصبح التوكل مطلوبا حتى لا نأسى على ما فتنا ، ولا نفرح بما أوتينا .ولأن " خطو " المستقبل قد بلغ من السرعة حدا كاد يلغى معه بعدا هاما من أبعاد الزمن وهو " الحاضر " ، إذ يطوى الأعوام بسرعة صاروخية كطى السجل لتصبح " ماضيا " ...ولأن درجة " التغاير " بين خطوات الزمن قد بلغت حدا يمكن أن يصبح فيه " ماض قريب " وكأنه " ماض سحيق " ...يصبح من المحتم على الإنسان أن يتحسب ويتيقظ لبعد المستقبل .وإذا كان التوجه المستقبلى فريضة إسلامية بحكم العقيدة ، فهو أيضا فريضة اجتماعية بحكم المصلحة ، وهذا تلازم منطقى تؤكده العقيدة الإسلامية نفسها من حيث استهدافها صالح الإنسان فردا وجماعة ، ولكننا أردنا إبراز جانب المصلحة الاجتماعية ، لفتا لانتباه جماهير لا تتحرك إلا بهذا النظر المباشر .ولا يستطيع المسلم ، عندما يقف وقفة صدق مع النفس ، إلا أن يعترف بأن حاضره مؤسف ، ومظاهر الأسف فيه تستدعى توجها مستقبليا يمحو هذه المظاهر ، مما يحتم على الخطاب الإسلامى أن يضع عينا على الحاضر ، كشفا عن سيئاته ، وعينا أخرى على المستقبل ، استشرافا لآماله ، وهو ما نحاول أن نقترحه فيما يلى : 1-الأسباب والنتائج ، فكثيرون يستغرقهم التفكير فيما يشاهدونه ، ويعايشونه من أحوال دون بذل جهد واع للتفرقة بين الأسباب والنتائج ، وأبرز الأمثلة على ذلك ، هذا الاحتجاج لدى جماهير إسلامية ، على هذا التدمير الحادث لهذا البلد العزيز ، الذى انفض الكثيرون عن الوقوف بجانبه تاركينه للتدمير، ألا وهو فلسطين ، فتتنادى بضرورة توقفه . ومن المؤكد أن قلب كل عربى مسلم يتمزق وهو يسمع ويشاهد نتائج هذا التدمير ، لكن التصور المستقبلى السليم لن يستقيم إلا إذا أدرك أن التدمير الحادث إنما هو " نتيجة " لسبب معروف ، وهو ما اصبح لليد الأمريكية والصهيونية من قوة وقدرة على السيطرة على الكثرة الغالبة من النظم العربية ، وبالتالى فإن اختفاء السبب هو الذى يمكن أن يؤدى إلى اختفاء النتيجة .ولن ينجح الخطاب الإسلامى فى التعامل مع متغيرات المستقبل ، إلا إذا استقام نهجه على هذا الطريق : التعامل مع المشكلات ، إنما يبدأ من الأسباب ، دون أن يقف الخطاب على أطلال النتائج زارفا عليها الدموع .2- العقلانية / الانفعالية : فالعواطف والانفعالات شحنات وجدانية تشعل الحماس ، وتؤجج المشاعر ، وتبث دفئا فى الفعل الإنسانى ، لكنها كتدفق السيول ، عمياء ، يمكن أن تدمر إذا لم يضبطها تفكير عقلى منطقى علمى ، يقودها هو ، بدلا من أن تقوده هى . إننا كثيرا ما نسمع الآخرين يصفوننا ، وكذلك نردد نحن ، بأننا " عاطفيون " ، والعاطفية ليست تهمة فى حد ذاتها ، ولكنها تصبح كذلك إذا تسيدت العمل الإسلامى ، فضلا عن الخطاب الإسلامى ، ففى ظل سيادتها يسود ضباب يحجب الرؤية ، فينتج تخبطا وخلطا ، قد يصيب مرة ، ولكنه يخطئ مرات .من هنا يصبح " الضبط العقلى " ، القائم على " الإيمان القلبى " لاجما لمثل هذه الطاقة ، موجها إليها فى اتجاه مستقيم .3- الجزئية / الكلية : فالنظر المدقق لكل عنصر من عناصر حياة الأمة فيما حولنا ، يشير إلى حقيقة هذا الترابط العضوى ، سواء على مستوى كل منظومة فرعية ( أسرة ، تعليم ، اقتصاد ، سياسة ) ، أو على مستوى الأمة كلها . بل إننا نذهب إلى ما هو أبعد من ذلك لنشير إلى الكون كله كتنظيم كلى شامل مترابط الأجزاء . ووجود هذا الترابط ، يؤكد " وظيفيته " ، وبالتالى فتناول جزء واحد واعتقال العقل فيه ، يقصر فهم هذا الجزء ، ويشل طاقة العقل عن أن يأتى بنتيجة صحيحة ، وبالتالى ، فالخطاب الإسلامى مطالب بأن يمتد فى نظر جامع شامل لجملة الحياة الإنسانية ، كى يبصرها فى كليتها .وهكذا إذا عدنا إلى مثالنا السابق ننجد أن المسألة لا ينبغى التعامل معها فقط تعاملا عسكريا ، ذلك أن لها ارتباطاتها وأبعادها السياسية والاجتماعية والجغرافية والفكرية ، لا بالنسبة لدول وأفراد الأمة الإسلامية والعربية فقط وإنما بسائر القوى والاتجاهات ذات الفاعلية فى حركة التاريخ العالمى المعاصر .4- أسر الماضى وآفاق المستقبل : فالخطاب الإسلامى متهم من قبل آخرين بأنه خطاب " ماضوى " ، يعيش فى أسر الماضى . والحق أن الماضى جملة " وقائع " و " أحداث " و" أفكار " و " تنظيمات " ، تأخذ مسراها فى مجرى الزمن ، وحركة الزمن تتخذ لها مسارا فى اتجاه واحد ، بحيث لا تتكرر لحظاته ولا تتوقف .و " رسالة الإسلام " ليست مجرد " واقعة " أو " حدثا " أو " فكرة" أو " تنظيما " ، وإنما هى " منهج " ، والمنهج " طاقة تحريك " و " بوصلة توجيه " ، وبالتالى فلا معنى لهذا الإصرار لدى البعض فى خطابه على الوقوع فى أسر الماضى ، وهما منه بأنه التزام بالطريق ، والخطاب الإسلامى يطالبنا بأن نفك أسره لينطلق إلى آفاق المستقبل مستكشفا وبانيا ، بينما أسير الماضى ، لا يستطيع أن يبنى ، كما لا يستطيع أن يستكشف أن هذا لا ينغى بأى حال من الأحوال أن يعنى أن يطرح الخطاب الماضى جانبا ، إنما هو مطالب بأن يتعامل معه تعاملا نقديا ، وهو ما توضحه النقطة التالية .5- الثوابت والمتغيرات : ولعل هذا الجانب يرتبط ارتباطا وثيقا بما قبله مباشرة ، فالخطاب " الماضوى " يعبر عن عملية خلط بين " ثوابت " لابد من الاهتداء والتأسى بها بحيث تحكم مسيرتنا ، وبين " متغيرات " لنا أن نأخذ منها ونترك وفقا لما تقتضيه الثوابت نفسها وتستلزمه حركة الأمة الإسلامية فى حاضرها ومستقبلها ، فرسالة الإسلام فى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ثوابت ، لها الحكم ، وعلينا الاتباع ، وما قاله وفعله هذا وذاك من المفكرين والفقهاء والفلاسفة والعلماء " متغير " ليس له علينا حق الاتباع إلا بعديد من القواعد والضوابط .وهذا يحتم على الخطاب المستقبلى أن يقصر القدسية على كتاب الله وسنة رسوله ، وينزعها عما سواهما ، ليخضعه لمحك العقيدة ودليل العقل واتجاه المصلحة .إن هناك خلطا شديدا متعدد المظاهر فى الخطاب الإسلامى فى هذا الشأن بصفة خاصة ، ومن هذا الخلط تضيع المقاييس وتتبدد المعايير للتمييز بين الصحيح والزائف ، وتدلف إلى العقل الإسلامى كثير من الأفكار التى هى من نبت أصحابها ، يلبسونها زى المقدسات ، فتضيع مصالح الأمة وتستبد بها مصالح مستغلين ، سواء من داخل الأمة نفسها أو من خارجها .6- الذات والآخر : فبعض صور الخطاب الإسلامى المعاصر تعكس تضخيما للذات ، وتصغيرا للآخر. تبرئة النفس ، وتكفيرا للآخر ! إن الثقة بالنفس قاعدة أساسية لابد منها حتى يتم " العزم " على العمل والمضى فيه ، لكن حدوده ، إذا تجاوزناها وأصيب مفهوم الذات بالتضخم ، فإننا نقع فى أسر الوهم ونتصور أن أحلام اليقظة هى وقائع ، ومن ثم تجئ أهمية هذا التمييز الدقيق المطلوب بين التعبير عن الثقة بالذات وبين الغرور الكاذب .إن ضرورة هذا الجانب للخطاب المستقبلى واضحة ، فماذا تجدى كثرة الحديث عن أننا كنا كذا أو كذا ؟ ونحن أصحاب الفضل فى كشف هذا والقول بذاك ؟ إنه ضرورى للتسجيل التاريخى ، وغرس الثقة فى إمكاننا أن نفعل اليوم ما فعلناه بالأمس من عمل عظيم ، لكن الأكثر أهمية ، أن نجيب عن سؤال يقول : وماذا فعلت اليوم ؟ وماذا يمكن أن تفعل مستقبلا ؟ وما برامج لذلك ؟ وما إمكاناتك لعمله ؟ ويقابل هذا ، ضرورة الوعى فى الخطاب الإسلامى بأن الحقيقة ما دامت ملكا لله وحده ، وأننا جميعا مجتهدون على الطريق ، فقد نصيب وقد نخطئ . إذن ، فالرأى الآخر ليس من الضرورى أن نتعامل معه من منطلق أننا " قضاة " دائما ، وهو " متهم " دائما ، وإلا أصبح من حق الآخر أن يتعامل معنا بنفس المنطق ، فماذا تكون النتيجة ؟ 7- الحوار بالرصاص أم بالكلمات ؟ إن غياب الوعى بحق الآخر فى أن يجتهد وأن نعترف له باحتمال صواب اجتهاده ، واحتمال خطأ اجتهادنا ، هو الذى قد يؤدى إلى أن تضيق صدور بعضنا بالبعض بحيث نصل إلى مرحلة من الإفلاس العقلى ونعجز عن عرض فكرنا بحججه وأسانيده الشرعية والعقلية ، وتفنيد الفكر الآخر بروح تتسم بالجدال بالتى هى أحسن والتسامح العقلى ...وعندها لا يصبح أمام المفلس الفكرى إلا أن يضع يده على زناد مسدسه أو بندقيته ليسكت عقل الآخر . ونحن نستطيع أن نؤكد ، من استقراء سنن العمران البشرى على مدى العصور ، أن اغتيال العقل ، إنما هو طلقة رصاص فى قلب الأمة ‍‍!إن الخطاب الإسلامى ، لا نقول فى عصرنا الحاضر وحده ، وإنما نقول ، فى كل عصر ، مطالب بأن يرفع شعارا مؤداه ، أن هذه المقولة الرائعة المأثورة عن الإمام الشافعى والتى تقول أن رأينا صواب يحتمل الخطأ ، ورأى غيرنا خطأ يحتمل الصواب . 8- من العدو ومن الصديق ؟ ليس هذا سؤالا ساذجا كما قد يتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى ، فوسط مظاهر الخلط الشائعة بين الأسباب والنتائج ، بين الثوابت والمتغيرات ، وسيادة النظر الجزئى ، وغلبة الانفعالية ...إلخ ، لابد أن نخطئ الحساب ، فنفتقد القدرة على التمييز بين العدو والصديق ! ولو شئنا أمثلة لهذا من حياة أمتنا لاحتجنا إلى عدد خاص ! ويكفى أن نعود إلى مثالنا الأول : ألسنا نختلف اليوم بالنسبة لطرف بعينه ، ففريق يراه صديقا يعين ، وفريق آخر يراه عدوا يميت ؟ فما الصواب بين هذا الرأى وذاك ؟ ليست مهمة هذا المقال أن يجيب عن مثل هذا السؤال فى هذا الحيز وبسرعة ، لأن رائدنا " رؤية منهجية " تسعى إلى أن تنطلق بمسار التفكير بحيث يملك من المقاييس الدقيقة والمعايير الصحيحة ما يمكن له التمييز بين العدو ، فيناضل ضده ، وبين الصديق فيناضل معه ، فينقذ الحاضر ويضع أسس بناء المستقبل . أما إذا أخطأ هذا التمييز فيفقد الحاضر ويخسر المستقبل معا ، فإذا أنقذ وبنى ، فإنما ينقذ ويبنى لعدو خطير!!وفى يقيننا أن البصر الواعى الدقيق بالمعايير القرآنية والمقاييس النبوية ، تضع الخطاب الإسلامى . إذا صح العزم وصدقت النية ودق الفهم – على طريق مستقبل مشرف لنهضة إسلامية حقيقية .

No comments: