Wednesday, February 28, 2007

آخـر زمن


محمد الخولى

د. جابر عصفور لم يخترع الكهرباء فهو أول من يعرف أنه تم اكتشافها منذ أكثر من 100 سنة، ود. عصفور أستاذ فى علوم اللغة والنقد الأدبى ومن ثم فهو ضليع، بحكم الصنعة على الأقل، فى ضبط المفاهيم وتحرير المصطلحات إلى درجة المطابقة المنضبطة بين المعنى والمصطلح والمفهوم المطروح. وعندما كتب د. جابر عن الدولة الدينية كان يستخدم مصطلحا أصبح متداولا وأقرب إلى الاستقرار فى معجم العلوم السياسية، ولم يكن يمارس سياحة فى بحر التنظير ولا فى سبك العبارات.. كان يحذر على سبيل عبرة التمثيل بالدولة التى أقامتها جماعة طالبان فى أفغانستان، أو الدولة التى حاول أن يقيمها جعفر نميرى فى السودان أو ضياء الحق فى باكستان، أو الدولة الكيان السياسى الذى لا يفتأ يروج له هذا الفصيل الهجين المستجد على ثقافة المجتمع وعلى اهتمامات الناس متمثلا فى الدعاة السوبر بالفضائيات الذين يفرضون وصاية جاهلة على قضايا الواقع الراهن من خلال استيراد تجارب وتنظيرات وتصورات كانت رائجة وفاعلة وصالحة فى عصور سبقت منذ قرون وفى بيئات وظروف انقضت وتحولت إلى سطور فى كتب التاريخ. لسنا نتحدث بداهة عن قدسية العقيدة ولا عن ديمومة تعاليم الدين الحنيف. الحديث هنا عن نماذج محددة تشكلت وتجسدت سواء فى نظم سياسية قامت بالفعل، أو فى دعوات وكتابات انهمرت كسيل الطوفان ولاتزال فكان أن ملأت الدنيا وما برحت تؤرق الناس. من هنا يحذر فريق من مثقفى الأمة، وهو أيضا فريق مؤمن بالله ورسله وآياته ورسالاته من مخاطر ما استقر عليه وما أصبح يشير إليه مصطلح الدولة الدينية فى مقابل الدولة المدنية الحديثة باعتبار الأخيرة هى الكيان السياسى الذى يعرف للإيمان حقه، ولكن يفتح الآفاق رحبة واسعة لاجتهاد الإنسان ولاستنارة المعرفة وللتعامل البشرى مع ما يستجد على الناس من قضايا ومشكلات على أسس القاعدة النبوية الجليلة أنتم أعلم بشئون دنياكم. ولنا فى تاريخ الأمم التى أنجزت مراحل من التقدم الاقتصادى والاستنارة الفكرية والإبداع الفنى والابتكار العلمى لنا فى هذا كله أسوة إيجابية ومفيدة حقا.. وهى بالمصادفة التاريخية دول وأمم فى غربى أوروبا.. والسبب الموضوعى لهذه التحولات التى مازالت الإنسانية قاطبة تنعم بثمارها أن الناس فى غرب أوروبا اكتووا بنار الدولة الدينية فى القرون الوسطى، وكانت هى الكيان السياسى التى قام تحت سطوة الباباوات فى روما، وعانت من وصاية فرضها سلك الكهان فى المؤسسة الكنسية الكاثوليكية على وجه الخصوص. هنالك كانوا يرفعون الكتاب المقدس على أسنّة رماح الإرهاب والتكفير والحرْم الكنسى باسم الدين، والدين بريء.. وكانوا يحتكرون التفكير والتفسير ويصادرون الاجتهاد العلمى.. حتى فى مجال الفيزياء والطبيعيات، وهكذا أحلوا سيف التكفير محل حرية التفكير.. وكان أن دفع الثمن فادحا فى بعض الأحيان علماء ومفكرون ومنظرون من أمثال كوبرنيكوس أو جاليليو أو توماس مور وغيرهم كثير. لكن البشرية جنت من معاناتهم خيرا عميما.. فقد مهدوا الطريق إلى عصور من الاستنارة.. والانفتاح الفكرى وتكريس العقل وحرية الاجتهاد وكسر الاحتكار الذى كان يستأثر به أرباب المؤسسة الرعوية فى روما وفروعها، فكان أن وضعت العقيدة الدينية على اختلاف مصادرها ومنابعها فى الشرق والغرب فى موقعها الصحيح لتظل مصدرا جليلا ونبعا روحانيا فياضا بالمحبة وهاديا للبشر ومرجعا نبيلا يحال إليه فى أمور الدنيا والآخرة، دون أن تكون سيفا مصلتا على اجتهاد العقل البشرى، فما بالنا فى إطار ثقافتنا القومية المعاصرة، ونحن نستظل بدين يكرّس الاجتهاد ويثيب عليه فى حالتى الخطأ الصواب، ويضع نبى الأمة صلوات الله عليه فى موقع المذكّر من التذكير وليس المسيطر فليس له من الأمر شيء ولله الأمر جميعا. وعندنا أن الإمام الأكبر شيخ الأزهر الشريف وله كل الاحترام بحكم الموقع الجليل وبفضل الاجتهاد الفكرى قد أحسن صنعا حين اختار لحواره المنشور مع د. عصفور عنوان المناقشة الهادئة. وتلك فضيلة نرجو أن يتسع نطاقها فى الحوار العلمى المحترم بين الفرقاء فكل يبغى المصلحة ولا أحد يدعى أنه يمتلك الحقيقة بأكملها. ومع ذلك فمازلنا نتصور من منظورنا المتواضع على الأقل أن مقالة الشيخ الجليل الأهرام 21/2 هى فى التحليل الأخير تكميل وتوضيح وتعميق دون أن تكون ردا ولا دحضا ولا تفنيدا لما ذهب إليه د. عصفور.. يقول الشيخ طنطاوى لا وجود للدولة الدينية فى الإسلام هذا تصريح يبعث الاطمئنان فى النفوس الحادبة على مصلحة الوطن، مسلميه وأقباطه على السواء.. لكن د. عصفور كان يحذر من نموذج الدولة الدينية على نحو ما تجسد عمليا عند طالبان أو على نحو ما تحفل به دعوات غير مسئولة أحيانا وغير بريئة أحيانا أو غير مدركة لعواقب الأمور فى أحيان أخرى.. هى دعوات تمارس نوعا مقيتا ومرفوضا من قَصْر الاجتهاد فى الشأن الدينى على خريجى المدارس الدينية، وفى هذا تكريس لكهانة مرفوضة فى الإسلام.. أو على دعوات تبادر إلى سلاح التكفير فى حالة الاختلاف مهما يبلغ الأمر من شطط الاختلاف.. إننا أمة تعتز بانتمائها إلى تراث: وقل الحق من ربكم، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. ونحن أمة رفع فيها علماء الكلام فى نهضة العباسيين اجتهاد البشر إلى ذروة وصفوها بأنها مقام العقل أمة تعرف بيقين إيمانى عميق أن حياة البشر، فى مستواها العقيدى، تميز بين الحق والباطل، ولكنها تدرك، فى مستواها الإنسانى، الفرق بين الخطأ والصواب.. ومناطها فى ذلك قاعدة من أثمن ما يكون اسمها: إعمال العقل وحرية الاجتهاد.

No comments: