Tuesday, February 20, 2007

العدالة الاجتماعية روح الدستور الديمقراطي

الأهرام 21/2 بقلم‏:‏ صلاح الدين حافظ
لايزال حديث الاصلاح الديمقراطي والتعديل الدستوري صاخبا‏,‏ وبرغم أهميته فإنك لاتجد إلا منطقتنا في هذا العالم الواسع‏,‏ التي تجمع التناقض بكل معانيه‏,‏ فهي الأعلي حديثا عن الديمقراطية‏,‏ وهي في الوقت نفسه الأشد عداء للديمقراطية‏,‏ حيث الفعل يناقض القول‏..‏ورغم ايماننا الثابت بضرورة الإصلاح الديمقراطي والدستوري‏,‏ فإن صخب الحديث عنه‏,‏ دون الفعل‏,‏ أصبح كالسحابة الدخانية السوداء‏,‏ التي تخفي وراءها أهدافا أخري‏,‏ ونظن أنها تخفي الاندفاع في إجراءات اقتصادية وسياسات متسرعة‏,‏ تصيب الكيان الاجتماعي بالتمزق والإفقار‏!‏وفي ظل هذه السياسات‏,‏ أصبحت الخصخصة‏,‏ وبيع ركائز الاقتصاد مهما كانت أهميتها الاستراتيجية‏,‏ كالبنوك والصناعات المهمة ومصادر الثروات الطبيعية‏,‏ نمطا ثابتا لحكوماتنا الرشيدة‏,‏ سواء بسبب حاجتها لموارد عاجلة والتخلص من أعبائها‏,‏ أو بسبب الخضوع للضغوط الأجنبية ونصائح البنك الدولي وصندوق النقد الدولي‏..‏ والنتيجة المؤكدة هي زيادة الأعباء الاقتصادية والاجتماعية علي الفقراء‏,‏ الذين يزدادون كل يوم عددا وفقرا‏,‏ لصالح قلة من الأغنياء يزدادون ثراء ويقلون عددا‏..‏ تلك هي المفارقة القاتلة حقا‏!.‏وبالمقابل‏,‏ فقد أطلقت الأمم المتحدة‏,‏ صيحة مضادة‏,‏ تحذر من اندفاع الدول نحو هذه السياسات الاقتصادية غير المتوازنة‏,‏ واندفاع الشعوب في الغرق في بحور البطالة والفقر والاحباط‏,‏ في ظل نظم حكم استبدادية قهرية‏,‏ وسمت هذه الصيحة بالحكم الصالح الرشيد‏..‏فما هو هذا الحكم الصالح الرشيد‏,‏ وما هي قواعده؟‏!‏الحكم الرشيد ببساطة يقوم علي جناحين‏,‏ أولا جناح الاصلاح الديمقراطي‏,‏ واطلاق الحريات العامة والمساواة وتداول السلطة عبر انتخابات عامة نظيفة ونزيهة‏,‏ وقيام برلمانات وحكومات تلتزم بحكم القانون‏,‏ ويخضع الجميع لقضاء عادل‏,‏ وصحافة حرة مستنيرة تراقب وتسائل وتحاسب‏,‏ وثانيا جناح العدالة الاجتماعية‏,‏ التي تكفل للمواطنين الحاجيات المعيشية الأساسية‏,‏ وفي مقدمتها الغذاء والمسكن والملبس والعلاج والتعليم‏,‏ بل وحق الترفيه‏,‏ بصرف النظر عن طبيعة النظام الاقتصادي‏,‏ سواء كان رأسماليا او غير ذلك‏!‏فإن كان ذلك كذلك‏,‏ فمن الخطأ القاتل والخلل الصريح‏,‏ أن تأخذ حكوماتنا بجزء بسيط من هذه الحزمة السياسية الاقتصادية الاجتماعية‏,‏ وتترك الباقي‏,‏ بحجة التدرج والتمهل والتعقل‏!!‏ معتبرة أن التحول السريع إلي الاقتصاد الحر والليبرالية‏,‏ لا يتحقق إلا ببيع مصادر الثروة لأصحاب المال والقدرة من المواطنين‏,‏ وهم قلائل‏,‏ ومن الأجانب وهم كثرة‏,‏ يمثلون احتكارات عابرة للقارات والجنسيات‏,‏ ثم تنسي وتتجاهل حكوماتنا كل ما يتعلق بالجوهر‏,‏ ونعني الاصلاح الديمقراطي الحقيقي‏,‏ وكفالة العدالة الاجتماعية‏,‏ ومد شبكة الأمان فوق ملايين الفقراء‏!‏وكيف لا وقد أصبحت قوة المال هي مصدر النفوذ‏,‏ في صياغة السياسات الحكومية‏,‏ ووضع التشريعات القانونية وتمريرها عبر البرلمان‏,‏ بل وفي توجيه الصحف والإعلام‏,‏ وفي التحكم في عديد من الأحزاب والنقابات المهنية‏,‏ وربما مراكز البحوث والدراسات والجامعات‏,‏ ولم يبق مستعصيا من التنظيمات سوي النقابات العمالية‏,‏ التي لجأت زخيرا في مصر إلي سلاح الاضراب عن العمل‏,‏ للحصول علي المطالب والحقوق‏,‏ ويكفي أن تعرف أن مصر شهدت خلال النصف الثاني من عام‏2006‏ المنصرم‏,‏ وفق دراسة لمركز الأرض صدرت قبل أيام ـ‏79‏ اعتصاما و‏47‏ إضرابا و‏96‏ مظاهرة وتجمهرا‏!‏‏***‏وقد لفتت ظاهرة تصاعد الاضرابات والاعتصامات العمالية خلال الشهور الأخيرة‏,‏ أنظار الجميع‏,‏ إلي أن الأوضاع الاجتماعية المتردية‏,‏ في ظل السياسات الاقتصادية المتبعة‏,‏ وتحت ضغوط البطالة السافرة والمقنعة وارتفاع الاسعار وتدني الأجور‏,‏ أصبحت تهدد الاستقرار‏,‏ ولم يعد صخب الحديث والقول دون الفعل‏,‏ عن الاصلاح السياسي وتعديلات الدستور‏,‏ يخفي وراء دخانه الكثيف‏,‏ حقيقة أن العدالة الاجتماعية غائبة أو مغيبة‏,‏ مثلما أن الحريات متراجعة‏!‏ولا نظن أن العاكفين علي مناقشة‏,‏ ثم إقرار‏,‏ التعديلات الدستورية المطروحة الآن‏,‏ في‏34‏ مادة‏,‏ سواء في الحزب الحاكم أو في البرلمان بشعبيته‏,‏ مجلس الشعب ومجلس الشوري‏,‏ قد سمعوا واستوعبوا معني تصاعد الاضرابات العمالية‏,‏ واحتمال انتقال عدواها إلي فئات شعبية مطحونة أخري‏,‏ حتي وإن كانوا قد سمعوا واستوعبوا‏,‏ فإنهم في الواقع غير قادرين‏,‏ علي إدخال تعديلات أخري في الدستور‏,‏ تضمن هذه العدالة الاجتماعية‏,‏ بعد أن أصبح ممثلو ونواب قوة المال الأعلي صوتا في الحكومة‏,‏ كما في البرلمان‏!‏ولقد يتصور أحد المتفلسفين من أنصار الرأسمالية الشرسة‏,‏ أننا نأسي علي حذف المصكوكات الاشتراكية التي كانت في الدستور‏,‏ وربما نتمني بقاءها‏,‏ وجوابنا هو النفي‏,‏ إنما نحن نأسي علي مستقبل الوطن وأمنه الاقتصادي وأمانه الاجتماعي‏,‏ إن تركنا مصير دستوره وتشريعاته وسياساته الحكومية‏,‏ في أيدي تلاميذ البنك الدولي وأبناء المتأمركين العرب وحفنة الرأسماليين الجدد‏,‏ بالتعاون مع فرقة ترزية القوانين ضعيفي الصنعة وفاقدي الرؤية الاجتماعية العادلة والسلمية‏!‏ونكرر هنا من باب التذكير‏,‏ أن الدستور ليس كهنوتا غامضا‏,‏ ولا طلسما غيبيا يستعصي علي البشر‏,‏ وهو ليس نصا قانونيا مجردا‏,‏ لكن الدستور هو عقد اجتماعي ووثيقة سياسية قانونية‏,‏ يضع أسس التعاقد بين الحاكم والمحكوم‏,‏ ويصوغ مباديء تنظيم العمل والحياة والتعايش بين البشر‏,‏ ويكفل الحريات ويصون الحقوق‏,‏ للكافة دون تفرقة أو تمييز طبقي أو ديني‏,‏ اجتماعي أو سياسي أو اقتصادي‏.‏أما حين لا يضمن الدستور ذلك كله‏,‏ فتنتفي ضروراته وتسقط شرعيته بين الناس‏,‏ حتي لو أقره البرلمان ورفعه الحاكم سلاحا في وجه المحكومين‏!‏وفي بلد مثل مصر كبيرة المكان والمكانة‏,‏ غزيرة الخصوبة والسكان‏,75‏ مليونا‏,‏ تاريخية الحضارة‏,‏ عرفت البرلمانات والدساتير منذ منتصف القرن التاسع عشر‏,‏ ضمن الموجة الثانية من الحكم الديمقراطي في العالم‏,‏ يصعب الضحك عليها الآن بأي دستور وأي قانون وأي حكومة وأي حديث عن الديمقراطية‏.‏إنما ما تحتاجه مصر الآن‏,‏ وهي في مرحلة انتقال تفور بالمتغيرات وتزدحم بالمشاكل وتغلي بالاحتقان السياسي والغضب الاجتماعي‏,‏ هو اصلاح ديمقراطي حقيقي‏,‏ يلتزم بمباديء الحكم الصالح الرشيد‏,‏ وهو ضمان العدالة الاجتماعية‏,‏ جنبا الي جنب مع ضمان الحرية في ظل دولة القانون والمؤسسات‏,‏ وليس دولة الطواريء ونرجسية الأشخاص‏!‏ولقد عكفت خلال الأيام الماضية‏,‏ علي قراءة عدة دراسات وتقارير مهمة صادرة عن جهات رسمية وأخري عن منظمات للمجتمع المدني‏,‏ تناولت الحالة المحتقنة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا‏,‏ مثل الدراسات المطروحة للتعديلات الدستورية‏,‏ وتقرير التنمية البشرية‏,‏ وتقرير مركز الأرض‏,‏ وتقرير الاتجاهات الاقتصادية الاستراتيجية باشراف الدكتور أحمد النجار والصادر عن مؤسسة الأهرام‏,‏ واستطلاع للرأي أجراه مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء‏,‏ فضلا عن كتاب مهم عنوانه ضحايا العولمة‏,‏ ألفه عالم اقتصاد أمريكي حائز علي جائزة نوبل هو جوزيف ستجليتز‏,‏ لفت نظري اليه المستشار الفاضل حسين عبد الله ابراهيم‏.‏‏***‏كنت أبحث عن مخرج لهذه الحالة المحتقنة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا‏,‏ بصرف النظر عن الضجيج السياسي والصخب الاعلامي‏,‏ المدافع دوما عن السياسات الحكومية‏,‏ وخلاصة ما وصلت إليه‏,‏ وأرجو ألا يكون مبتسرا أو متسرعا‏,‏ هو أننا‏..‏ نحتاج أكثر من أي وقت مضي‏,‏ إلي مزاوجة حتمية‏,‏ بين تنمية دائمة وعادلة‏,‏ وديمقراطية حقيقية‏,‏ تنعكس إيجابا علي جموع الناس‏,‏ ولا تحتكرها قلة من الصفوة المحتكرة لسلطة الحكم وقوة المال علي حساب الضعفاء الفقراء المقهورين‏,‏ قلة تحتمي دائما بشعارات العولمة‏,‏ وأوامر صندوق النقد الدولي وضغوط الحكومات الأجنبية فتطيع صاغرة‏,‏ مقابل أن تبقي في الحكم قابضة علي الثروة‏!‏باختصار شديد‏,‏ يقول تقرير الاتجاهات الاقتصادية الاستراتيجية‏,‏ إن الانحيازات الصارخة للنظام السياسي في مصر‏,‏ إلي الطبقة العليا ومصالحها‏,‏ وسيطرة رأس المال علي السلطة يسهم في زيادة الفوارق بين الطبقات وانعدام العدل والتهميش الشامل‏,‏ فضلا عن انتشار الفساد الذي يؤدي إلي تحويل أموال عامة الي أموال خاصة‏,‏ وبصورة غير مشروعة‏,‏ وهذا كله يسهم بصورة كبيرة في توليد الفقر والاحتقان‏.‏ويضيف ستجليتز حامل نوبل‏,‏ ان التنمية الحقيقية ليست مساعدة حفنة صغيرة من الناس علي الثراء‏,‏ ولا إقامة عدد من الصناعات التي تحظي بحماية حمقاء تستغلها الصفوة‏,‏ ولا تعني جلب السلع الاستهلاكية لأثرياء المدن‏,‏ وترك فقراء الريف في بؤسهم‏,‏ إنما التنمية تعني تغيير المجتمع وتحسين أحوال الفقراء وتوفير الرعاية الصحية والتعليمية‏,‏ والمشاركة الشعبية في وضع السياسات واتخاذ القرار‏.‏وهذا مانريده حقا‏,‏ تنمية تكفل العدالة الاجتماعية للأغلبية الساحقة في المجتمع‏,‏ وديمقراطية تضمن المشاركة الحقيقية في إتخاذ القرار‏.‏وليس أولي من الدستور‏,‏ في تحقيق هذين الهدفين‏,‏ وإلا انتفي سبب وجوده‏,‏ وسقطت شرعية بقائه‏,‏ وأصبح من حق الفقراء والمهمشين والمقهورين البحث عن طريق آخر‏!!‏‏***‏‏**‏ خيرالكلام‏:‏يقول أبوالعلاء المعري‏:‏إذا فعل الفتي ما عنه ينهيفمن جهتين لا جهة أساء

No comments: