Saturday, February 17, 2007

ماذا حدث للمصريين ؟ (جلال أمين) ـ عرض د.أيمن محمد الجندي



حينما نشر هذا الكتاب القيم عام 1998 لمؤلفه الأستاذ جلال أمين في مطبوعات الهلال أثار اهتماما واسعا بين المهتمين بالوجع الوطني وذلك لمكانة المؤلف الكبيرة الذي أستطاع وضع يده على جرح الأمة في مهارة فراح يرصد ويحلل ويفسر التغيرات التي ألمت بالمجتمع المصري خلال نصف قرن (1945-1995) . والحقيقة أن الكتاب من فرط أهميته يستحيل عرضه في مقال واحد لذلك آثرت عرض الفصل الأول " الحراك الاجتماعي " في هذا المقال على وعد باستكمال عرض باقي الكتاب في مقال قادم إن شاء الله . في هذا الجزء من الكتاب أهتم المؤلف بالرصد والتحليل أكثر من طرح الحلول وكنت أتمنى لو فعل ..وفي كل الأحوال فإن التشخيص السليم للمرض ( أي مرض ) هو الخطوة الصحيحة للعلاج .
.....................
الكل يتكلم عن أزمة :
1- الاقتصاديون يشكون من اختلال الإنتاج لصالح الاستيراد ( خصوصا السلع الترفيهية ) بما يترتب عليه من اختلال ميزان المدفوعات..
2- علماء الاجتماع يشكون من شيوع الفساد والتسيب والعنف وتفكك الأسرة وانتشار قيم تعلي من الكسب السريع على حساب العمل المنتج ( مثلا أتصل برقم كذا تكسب كذا ).
3- السياسيون يشتكون من ضعف الانتماء للوطن وانتشار اللا مبالاة بالقضايا الكبرى لانشغالهم بمعاناة الحياة اليومية وازدياد التبعية للغرب والتخاذل صوب إسرائيل .
4- المثقفون يشكون من انحدار المنتج الثقافي المصري وتدهور مكانة اللغة العربية وانحطاط التعليم .
وما دام الكل يعترف بوجود أزمة فما أسبابها المحتملة ؟ أهي سياسة الانفتاح بكل ما ترتب عليها من فتح الباب أمام السلع الأجنبية وإطلاق حرية الاستهلاك وتخاذل الدولة عن القيام بمسئولياتها الاقتصادية ؟ أم هي الهجرة للدول النفطية بما ترتب عليها ميل للاستيراد وتفاوت في الدخول وتفكك الأسرة ؟
والإجابة : أن كلا هذين السببين يعتبران - مع الاعتراف بآثارهما العميقة- تفسيرا جزئيا لأن قوانين الانفتاح تسمح بحرية الاستيراد لكنها لا تجبر أحدا عليه ما لم يكن هناك تغير في قيم الأفراد جعلهم يتعلقون بالسلع الأجنبية ( يقول المثل الانجليزي " تستطيع أن تقود حصانك للنهر لكنك لا تستطيع إجباره على الشرب ") . فلولا أن دوافع المجتمع المصري توافقت مع قوانين الانفتاح الاقتصادي لما حدثت تلك الأزمة . ولذلك فلا عجب أن تؤدي نفس القوانين إلى نتائج مختلفة في المجتمعات المختلفة ..فانفتاح الصين على سبيل المثال لم يؤد إلى نفس نتائج انفتاح مصر لتغير الدوافع النفسية هنا وهناك .
إذا ما التفسير ؟
يقول الأستاذ جلال أمين إنه الحراك الاجتماعي أي ما يطرأ على المركز النسبي للطبقات والشرائح الاجتماعية المختلفة صعودا أو هبوطا .
1- في منتصف القرن الماضي تربعت الارستقراطية الزراعية وبعض البرجوازية الصناعية والمالية على قمة الهرم الاجتماعي بينما كان صغار المزارعين في قاع المجتمع ..وكان هناك استقرار نسبي وقتها .
2- مع التوسع في التعليم وتطبيق المجانية والسياسة الناصرية انخفضت المراكز الاقتصادية للارستقراطية الزراعية والصناعية وارتفع المستوى الاقتصادي لطوائف واسعة من مستأجري الأرض وأصحاب المهن ..
3- ثم جاءت السبعينات (السبعينيات) بثلاثة أشياء مهمة :
الأول : انحسار دور الدولة .
الثاني : العمل في خدمة الأجنبي ( شركات – بنوك – كتاب بحوث ) بما يتيحه من ارتفاع الدخل واستخدام لغة الأجنبي وعاداته .
الثالث : هجرة المصريين إلى دول النفط وأغلبهم من الحرفيين وعمال البناء وترتب على ذلك ما يلي :
1- إرسال تحويلات نقدية غيرت من مركزهم في السلم الاجتماعي.
2- اكتساب أنماط استهلاكية جديدة .
3- ارتفاع معدل التضخم ( وهو تدفق السيولة النقدية بنسبة أكبر من معدل الزيادة في السلع والخدمات ) والذي أدى بدوره لارتفاع أسعار أراضي البناء واستفادة طوائف واسعة من الحرفيين والإضرار بالطبقة الوسطى من موظفي الحكومة وأصحاب المعاشات والمزارعين البسطاء .
.............................
وقد أحدث هذا المعدل غير المسبوق في الحراك الاجتماعي تقلبات عنيفة في المركز النسبي للطبقات ترتب عليه ما يلي :
1- صعود شرائح دنيا في السلم الاجتماعي لتنافس وتتفوق على الطبقات الوسطى والعليا في نمط معيشتها .
2- محاولة تقليد الأقل دخلا للأعلى دخلا في نمط معيشته رغبة منها في الانتماء لطبقة أعلى فانتشرت الرموز الطبقية كالإصرار على اقتناء سيارة خاصة أو جهاز موبيل معين لتأكيد الانتماء لطبقة أعلى ..
3- صعوبة كبح هذا النمط من الاستهلاك ذي الدافع النفسي لأن السيارة في هذا الحالة ليست مجرد وسيلة للمواصلات ولكنها رمز للصعود الاجتماعي ..
4- ارتباط الاختلال في ميزان المدفوعات بارتفاع معدل الحراك الاجتماعي فارتفاع قيمة الواردات المصرية وصعوبة ترشيدها وتراخي النمو في الصادرات يرجع في جزء منه لانعكاس الحراك الاجتماعي
5- أصبح الاستثمار غير المنتج رمزا للصعود الطبقي ( كمساكن الطوب الأحمر في القرية والاستثمار في سيارات الأجرة وإقامة البوتيكات والمشروبات الغازية) ..
6- النمو المذهل في نوع جديد من السكن يعتبر رمزا مهما للترقي الاجتماعي ..
7- طبيعة الاستثمار غير المنتج الأسرع في العائد والأقل في المخاطرة يعتبر أكثر ملائمة لأفراد يستعجلون إثبات رقيهم الاجتماعي .
8- انصراف أبناء الحرفيين عن حرف أجدادهم إلى الوظائف المكتبية مما تسبب في تضخم سرطاني للخدمات على حساب الإنتاج.
9- زيادة إنفاق الدولة على المرافق بالمدن على حساب القرية وإهمال الأراضي الزراعية نتيجة لزيادة الهجرة من الريف للمدن .
10- التهرب من الضرائب لأنهم لا يشعرون بدين الدولة عليهم في حصولهم على رزقهم الجديد الذي اكتسبوه عن طريق أعمال السمسرة وتأجير الشقق المفروشة أو الهجرة بعكس الرأسمالية الزراعية / الصناعية القديمة التي كانت تشعر بدور الدولة لارتباطها بمشروعات الري وصيانة المرافق ...
11- ضعف التمسك بالأخلاق - الذي صار ترفا في تلك الظروف- لتعلو قيم الشطارة وانتهاز الفرص وتنمية العلاقات الشخصية بأصحاب النفوذ وتهون فضائل احترام الكلمة والتمسك بالكرامة الشخصية وظهور أنواع جديدة من الجرائم كانهيار العمارات حديثة البناء وشيوع الرشوة وقتل الوالدين .
12- دخول أفراد لم يتلقوا تربية خلقية كافية مناصب محافظة بطبعها كالتعليم بدت لهم قيم الأمانة العلمية في التأليف الجامعي - مثلاً ـ مبالغة في التحذلق ..
13- تفكك روابط الأسرة فالكسب السريع لأحد الزوجين قد يهدد الانسجام القديم أو يحدث الزواج بين طرفين متقاربين لكن هذا التقارب المادي الطاريء يخفي اختلافا بينا في ظروف النشأة الأولى ..أو تتاح للأولاد فرص جديدة في مستوى التعليم والاتصال ببيئات جديدة لم تتح للوالدين يترتب عليها فقدان احترامهما لعدم الثقة في خبراتهما أو لاتصالهما ببيئة منبتة الصلة بعالمهم الجديد..فتطالب البنت بمزيد من التحرر لا تستسيغه عقلية الوالدين ويشعر بعجزه عن ممارسة سلطانه وتلبيه مطالبهم فيشيع التساهل مع الأبناء والخضوع لهم على نحو كان يعتبر منذ ثلاثين عاما تدليلا مفرطا.
14- ذيوع التغريب في المجتمع المصري وتقليد نمط الحياة الأمريكية من قبل طبقات حديثة العهد بمستوى الدخل العالي والتعليم الأجنبي مع هجمة الإعلام الغربي فاختلف نمط التغريب الجديد عن ذلك الذي مارسته الارستقراطية الزراعية والرأسمالية الكبيرة فقد صار أكثر سطحية وأشد تعجلا متصلا بالمظاهر الخارجية أكثر من القيم والعقائد ..ويتعلق بسلع الاستهلاك أكثر من أنماط التفكير ..فيزداد تفضيل كل ما هو أجنبي أمريكي على كل ما هو وطني مصري إقبالا على تقليد الإهمال المخطط في الزي الأمريكي وأنماط قص الشعر والرقص على الطريقة الأميركية وتفضيل المأكولات السريعة وغيرها .
15- تغير المناخ الثقافي فاعترى اللغة الدارجة تغير لافت للنظر ودخلت تعبيرات حرفية جديدة ( مثل لفظ الريس والباشمهندس للكهربائي والدكتور للميكانيكي ... إلخ) تعبر عن هذا التغيير في التركيب الطبقي ..وشاعت كلمات ( طنش وفوت وماشي ) وزاد إقحام كلمات انجليزية بلا مبرر مع الإفراط في استخدامها في تسمية المتاجر والمأكولات . وحتى الموسيقى دخلتها معان وألحان سوقية لم يكن يقبلها الذوق العام وقدمت السينما أنماطا تستجيب لرغبات الطبقات الجديدة وصارت أكثر الأفلام نجاحا هي تلك التي تسخر من القيم الراسخة ..
16- تحول السياسة المصرية إلى التبعية التي لم تتعلق فقط بتغير اتجاه السلطة السياسية وإنما باستعداد المحكومين لقبولها أو السكوت عليها ( وهو الأمر الأهم لدى القوى الخارجية ) نتيجة لظاهرة الحراك الاجتماعي ..فقد اتسقت سياسات الاستعمار مع الارستقراطية الزراعية والرأسمالية واتسقت سياسات عبد الناصر مع ضباط الجيش وشرائح واسعة من المهنيين وعمال الصناعة الذين أفادوا من التأميم وصغار المزارعين المستفيدين من قوانين الإصلاح الزراعي ..وحينما حدثت التبعية للغرب كان هناك من أفراد الطبقات الدنيا الآخذة في الصعود من لا يتخذ موقفا معاديا للتبعية الاقتصادية ( لأن صعودهم كان ناتجا من سياسات الانفتاح والتبعية ) ولذلك دعموها بالصمت والقابلية للتبعية فانصرفوا عن الحماس لقضايا وطنية مجردة إلى الشئون المعيشية واعتبار الوطن مصدرا للرزق لا أكثر ..وبلغت الخطورة أقصاها حينما تولى السلطة السياسة من لديهم قابلية للتبعية فعكست مواقفهم ضعفا في الوطنية ولا مبالاة بالقضايا القومية والمبدئية ..وانتشرت القابلية للتبعية – كما العدوى – إلى أصحاب المصالح الحقيقية في الوطن كالطبقات الفقيرة والطلاب الذين انشغلوا بمتابعة المباريات بدلا من الحراك السياسي الذي كانوا وقوده قبل الثورة ..تحولات نفسية مؤسفة لكنها حدثت ..وأصبح ضعف الاهتمام بدور مصر العربي وقصره على النواحي الاقتصادية لا يرجع لألاعيب القوى الخارجية أو لتبعية السلطة السياسية فحسب وإنما لميل الطبقات الاجتماعية الصاعدة إلى إعلاء الاعتبارات الاقتصادية وقلة صبرها على قضايا الانتماء والتضامن العربي .
إن الأزمة ليست في غياب المشروع الحضاري أو القومي بقدر ما تنبع من تغير مضمونه بتغير الطبقات المؤثرة المهمومة بالرقي المادي وتثبيت وضعها الجديد على حساب المشروعات القديمة المندثرة كالكرامة الوطنية والتضامن مع العرب .
............................
إذا فالحراك الاجتماعي هو الحلقة المفقودة في التفسيرات المطروحة لأزمة المجتمع المصري..لم يكن ما حدث مجرد ارتفاع أو انخفاض دخل طبقة بل تحركها إلى طبقة أعلى أو أدنى بمعدل لم يسبق له مثيل في تاريخ مصر الحديث .. وأدى هذا الانقلاب في البناء الطبقي للمجتمع المصري إلى آثار بعيدة الغور في السلوك الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي على النحو الذي تم تفصيله سابقا ..ويبقى السؤال عن الحلول الممكنة لتجاوز هذه الآثار السلبية قائما..وهو سؤال أكبر من أن يجيب عنه واحد منفردا بل يجب أن تضطلع به كوكبة من الصفوة المصرية المخلصة لبلادها .

No comments: