عبد المنعم سعيد ــ الشرق الأوسط 21/2
شاهدت ربما مع ملايين غيري بانتباه واهتمام، ذلك الحوار الذي أجرته قناة الجزيرة في قطر بين العلامة الإسلامي الإيراني «الشيعي» آية الله علي أكبر هاشمي رفسنجاني رئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام في إيران حاليا ورئيس الجمهورية الإيراني سابقا، والعلامة الإسلامي المصري الأصل القطري الإقامة «السني» الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي. وبدون مبالغة فربما لم يحدث في التاريخ الإسلامي كله أن جرى مثل هذا الحوار بين الشيعة والسنة على مرأى من جماهير واسعة ممتدة بامتداد العالم الإسلامي؛ فلم يكن فيما مضى من قرون هذا التطور التكنولوجي، الذي يخرج المواقف الفقهية والسياسية إلى العلن وأمام الناس بمثل ما جرى على الشاشة منذ أيام.
ولم يكن ذلك يعني أنه لم تكن هناك خلافات ومساجلات واتفاقات وتحالفات وحروب فكرية وفعلية من قبل، ولكن الذيوع والانتشار والعلنية لم يسبق أن وصلت إلى هذه الدرجة؛ فقد كان على صاحب الحجة أن يكتبها ثم بعد ذلك يتم نسخها حتى يتم تداولها ونقلها عبر عقود وقرون، أما الآن فقد كان كل ذلك فور حدوثه بين يدي الرأي العام ينظر فيها ما يرى ويحكم.
وببساطة كان بعض من الديمقراطية تتم ممارسته على شاشة الجزيرة، حتى من دون وعى من المشاركين كما سوف نرى بعد قليل؛ ولكن حسبنا هنا القول إن الديمقراطية هي عصر كامل له تكنولوجياته وأدواته وممارساته والتي لم يكن ممكنا حدوثها عندما كانت أدوات المعرفة عقلا وقلما وقرطاسا، وحينما كانت تنعدم العلاقة بين صاحب الفكر والعامة، لأنهم لم يكونوا يعرفون القراءة والكتابة من الأصل. كانت المعرفة واقعة بين يدي قلة القلة، ومن ثم كان الطبيعي أن يكون نظام الحكم قائما على فرد أو جماعة قليلة يمثل لهم أهل العلم نوعا من المستشارين أو الكهنة أو المبررين لأفعال السلطان، ورابطين بينها حقا أو خداعا بقواعد الدين الحنيف. وكان طبيعيا وسط ذلك كله أن يقوم الفكر السياسي على الغلبة والعصبية وتداول السلطة بالانقلاب والثورة والدم، بعيدا عن رغبة «الرعية» كما فصل ابن خلدون في مقدمته الشهيرة.
ولكن ما جمع رفسنجاني وقرضاوي لم يكن الديمقراطية أو لرغبة في توصيل الحقيقة إلى الناس، وإنما أن كل واحد منهما أصولي في مجاله، فالأول واحد من النجوم اللامعة للثورة الإسلامية في إيران، والثاني هو الأكثر شهرة بين كل الدعاة، الذين خرجوا من عباءة الإخوان المسلمين. والأول يمثل الأصولية «الشيعية» بامتياز، فالوصول إلى مراتب آيات الله ومصاحبة الخميني ومرافقة المرتب العليا لأهل الحوزة، لا يكون من دون علم ومعرفة؛ أما الثاني فهو فقيه فقهاء العصر والجماعة «السنية» بما ألفه وحدثه بين إمامة الصلاة وشاشات التليفزيون. كلاهما أصولي على طريقته، ويجمعهما ما يرونه أن أصل الشرور في المنطقة يتجسد في الولايات المتحدة وإسرائيل، وكانت المواجهة معهما في فلسطين والعراق وأخيرا إيران هي الدافعة إلى حوار المذاهب في مؤتمر الدوحة الأخير حول التقريب بين السنة والشيعة، وهي الحافزة على لقاء القطبين الشيعي والسني على شاشات الجزيرة.
ولكن ما جمع رفسنجاني والقرضاوي ـ الأصولية والمواجهة مع أمريكا ـ كانت هي ذاتها في النهاية التي فرقت بينهما عندما اقترب الحديث من السياسة العملية حتى أنك لا تعلم عما إذا كان أهل الشيعة قد صاروا أقرب إلى أهل السنة بعد انتهاء اللقاء عما كان عليه الحال قبله؟ فكلاهما متردد في الإفضاء بالمعلومات الصريحة التي يشكو منها، وكلاهما مكتف بالإشارة عندما وجب التفصيل، وبالسكوت عندما لزم الكلام، وبالتلميح عندما جاء وقت الصراحة. وظهر ذلك جليا عندما أشار كلا منهما إلى أن الآخر «يعلم» ما هو واجب العلم من دون عرض لما هو معلوم لكليهما على الناس، فعندما أصر رفسنجاني على السؤال: من الذي بدأ بالقتل والعدوان في العراق، ظل السؤال معلقا حائرا رغم مركزيته لدى الشيعة على الأقل، ولن يعلم أحد بعدها عما إذا كان ذلك عمليا يعطي مبررا للمجازر والتصفية العرقية الجارية الآن ضد السنة في العراق.
وبالطبع فقد هرب القرضاوي من الحقيقة المرة إلى تسجيل قيام علماء السنة، وهو شخصيا بإدانة العمليات الإرهابية التي قام بها الزرقاوي ورفاقه؛ وهو الأمر الذي فعله رفسنجاني بسهولة ويسر هو الآخر فقد سجل قيام علماء الشيعة بإدانة واستنكار جرائم الجماعات الشيعية مع التأكيد على أنهم لم يكونوا هم البادئين، ومن ثم حمل الحديث إشارة ساكتة إلى أنه على الباغي تدور الدوائر، وأنه لولا التفوق الشيعي ربما لما اهتم علماء السنة كثيرا. فكلاهما ظل مترددا في الإدانة الأخلاقية وحتى الدينية إزاء عمليات العنف مخافة الوقوع في فخ الجريمة الأمريكية بوصم «المقاومة» بالإرهاب، وعندما حاول القرضاوي حل القضية حلا إحصائيا بأن «الإرهابيين» لا يتجاوزوا 5 أو 10% من القائمين بالعنف في العراق، أما الغالبية الساحقة فهم من المعارضين للاحتلال فقد تجاهل الحقيقة المرة، وهي أنه إذا كان ذلك كذلك، فلماذا كان عدد القتلى الأمريكيين من المقاومة، لا يزيد كثيرا عن ثلاثة آلاف قتيل، بينما عدد القتلى من العراقيين يقترب من المليون غالبيتهم من الشيعة.
وعلى أي الأحوال فقد وجد كلاهما ملاذا في الولايات المتحدة للخلاص من المأزق الأصولي، فعندما طرح القرضاوي حقيقة أن هناك قرابة خمسة عشر مليونا من السنة في إيران، لا يوجد منهم وزير واحد في الحكم هرب رفسنجاني إلى أن لديه معلومات يريد أن يقولها، ولكنه يخشى ألا يحقق ذلك هدف اللقاء والحوار وهو الوحدة والتقريب بين السنة والشيعة في المواجهة مع الأمريكيين ومن تحالف معهم. ومن المرجح تماما أن صاحبنا لم يكن لديه معلومات عن إيران يقدمها للقرضاوي وجمهوره، لأنه لن يوجد فيها ما يعيب طهران، ولكن ما كان لديه هو معلومات عن الدول العربية ذات الأغلبية السنية، والتي لا تعطي وزارة ولا سفارة لا لشيعة أو لمسيحيين، فضلا عن سياسات أخرى تعزل الأقليات في العموم عن المناصب العامة. وهكذا وقف الطرفان أمام المرآة مباشرة مع قضية الأقليات في العالم الإسلامي، ولكن عارضيها لم يكونوا على استعداد للاعتراف بها، طالما أن الأصولية هي مرجعيتهم وليست الديمقراطية التي تكفل لجميع الناس، بغض النظر عن الدين والعرق، حقوقا متساوية.
ومن المدهش أن القرضاوي الداعي للمصارحة، كان هو الذي طالب بالحوار في الغرف المغلقة بعيدا عن «الإثارة والغوغائية»، وهي المظاهر الذائعة في الفكر الأصولي عامة عن «الرعية» و«الرعاع» و«العامة». فالقضية هنا ليست «الشفافية» كما تتبناها المرجعية الديمقراطية، كما أنها ليست الاعتدال في القول، والحصافة في التفكير، والكياسة فى العرض، وكلها من الفضائل اللازمة لحياة ديمقراطية صحيحة. أما الفكر الأصولي القائم على «الإثارة» و«التحريض» والتعبئة ونشر الغضب بين المسلمين ـ وهي دعوة قرضاوية مستمرة ـ وبث الحماسة بغض النظر عن معاني القول، فإنه يجد نفسه حينما يجد جد الحديث، بعيدا عن الناس بعقولهم الصغيرة وأحلامهم الغثة. والحقيقة أنه لا يبدو هناك مخرج للطرفين من المسلمين إلا من خلال الشفافية والتقاليد والفضائل الديمقراطية، التي تحض على المساواة والاعتراف بالآخر ومواجهة المشكلات بصراحة.
شاهدت ربما مع ملايين غيري بانتباه واهتمام، ذلك الحوار الذي أجرته قناة الجزيرة في قطر بين العلامة الإسلامي الإيراني «الشيعي» آية الله علي أكبر هاشمي رفسنجاني رئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام في إيران حاليا ورئيس الجمهورية الإيراني سابقا، والعلامة الإسلامي المصري الأصل القطري الإقامة «السني» الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي. وبدون مبالغة فربما لم يحدث في التاريخ الإسلامي كله أن جرى مثل هذا الحوار بين الشيعة والسنة على مرأى من جماهير واسعة ممتدة بامتداد العالم الإسلامي؛ فلم يكن فيما مضى من قرون هذا التطور التكنولوجي، الذي يخرج المواقف الفقهية والسياسية إلى العلن وأمام الناس بمثل ما جرى على الشاشة منذ أيام.
ولم يكن ذلك يعني أنه لم تكن هناك خلافات ومساجلات واتفاقات وتحالفات وحروب فكرية وفعلية من قبل، ولكن الذيوع والانتشار والعلنية لم يسبق أن وصلت إلى هذه الدرجة؛ فقد كان على صاحب الحجة أن يكتبها ثم بعد ذلك يتم نسخها حتى يتم تداولها ونقلها عبر عقود وقرون، أما الآن فقد كان كل ذلك فور حدوثه بين يدي الرأي العام ينظر فيها ما يرى ويحكم.
وببساطة كان بعض من الديمقراطية تتم ممارسته على شاشة الجزيرة، حتى من دون وعى من المشاركين كما سوف نرى بعد قليل؛ ولكن حسبنا هنا القول إن الديمقراطية هي عصر كامل له تكنولوجياته وأدواته وممارساته والتي لم يكن ممكنا حدوثها عندما كانت أدوات المعرفة عقلا وقلما وقرطاسا، وحينما كانت تنعدم العلاقة بين صاحب الفكر والعامة، لأنهم لم يكونوا يعرفون القراءة والكتابة من الأصل. كانت المعرفة واقعة بين يدي قلة القلة، ومن ثم كان الطبيعي أن يكون نظام الحكم قائما على فرد أو جماعة قليلة يمثل لهم أهل العلم نوعا من المستشارين أو الكهنة أو المبررين لأفعال السلطان، ورابطين بينها حقا أو خداعا بقواعد الدين الحنيف. وكان طبيعيا وسط ذلك كله أن يقوم الفكر السياسي على الغلبة والعصبية وتداول السلطة بالانقلاب والثورة والدم، بعيدا عن رغبة «الرعية» كما فصل ابن خلدون في مقدمته الشهيرة.
ولكن ما جمع رفسنجاني وقرضاوي لم يكن الديمقراطية أو لرغبة في توصيل الحقيقة إلى الناس، وإنما أن كل واحد منهما أصولي في مجاله، فالأول واحد من النجوم اللامعة للثورة الإسلامية في إيران، والثاني هو الأكثر شهرة بين كل الدعاة، الذين خرجوا من عباءة الإخوان المسلمين. والأول يمثل الأصولية «الشيعية» بامتياز، فالوصول إلى مراتب آيات الله ومصاحبة الخميني ومرافقة المرتب العليا لأهل الحوزة، لا يكون من دون علم ومعرفة؛ أما الثاني فهو فقيه فقهاء العصر والجماعة «السنية» بما ألفه وحدثه بين إمامة الصلاة وشاشات التليفزيون. كلاهما أصولي على طريقته، ويجمعهما ما يرونه أن أصل الشرور في المنطقة يتجسد في الولايات المتحدة وإسرائيل، وكانت المواجهة معهما في فلسطين والعراق وأخيرا إيران هي الدافعة إلى حوار المذاهب في مؤتمر الدوحة الأخير حول التقريب بين السنة والشيعة، وهي الحافزة على لقاء القطبين الشيعي والسني على شاشات الجزيرة.
ولكن ما جمع رفسنجاني والقرضاوي ـ الأصولية والمواجهة مع أمريكا ـ كانت هي ذاتها في النهاية التي فرقت بينهما عندما اقترب الحديث من السياسة العملية حتى أنك لا تعلم عما إذا كان أهل الشيعة قد صاروا أقرب إلى أهل السنة بعد انتهاء اللقاء عما كان عليه الحال قبله؟ فكلاهما متردد في الإفضاء بالمعلومات الصريحة التي يشكو منها، وكلاهما مكتف بالإشارة عندما وجب التفصيل، وبالسكوت عندما لزم الكلام، وبالتلميح عندما جاء وقت الصراحة. وظهر ذلك جليا عندما أشار كلا منهما إلى أن الآخر «يعلم» ما هو واجب العلم من دون عرض لما هو معلوم لكليهما على الناس، فعندما أصر رفسنجاني على السؤال: من الذي بدأ بالقتل والعدوان في العراق، ظل السؤال معلقا حائرا رغم مركزيته لدى الشيعة على الأقل، ولن يعلم أحد بعدها عما إذا كان ذلك عمليا يعطي مبررا للمجازر والتصفية العرقية الجارية الآن ضد السنة في العراق.
وبالطبع فقد هرب القرضاوي من الحقيقة المرة إلى تسجيل قيام علماء السنة، وهو شخصيا بإدانة العمليات الإرهابية التي قام بها الزرقاوي ورفاقه؛ وهو الأمر الذي فعله رفسنجاني بسهولة ويسر هو الآخر فقد سجل قيام علماء الشيعة بإدانة واستنكار جرائم الجماعات الشيعية مع التأكيد على أنهم لم يكونوا هم البادئين، ومن ثم حمل الحديث إشارة ساكتة إلى أنه على الباغي تدور الدوائر، وأنه لولا التفوق الشيعي ربما لما اهتم علماء السنة كثيرا. فكلاهما ظل مترددا في الإدانة الأخلاقية وحتى الدينية إزاء عمليات العنف مخافة الوقوع في فخ الجريمة الأمريكية بوصم «المقاومة» بالإرهاب، وعندما حاول القرضاوي حل القضية حلا إحصائيا بأن «الإرهابيين» لا يتجاوزوا 5 أو 10% من القائمين بالعنف في العراق، أما الغالبية الساحقة فهم من المعارضين للاحتلال فقد تجاهل الحقيقة المرة، وهي أنه إذا كان ذلك كذلك، فلماذا كان عدد القتلى الأمريكيين من المقاومة، لا يزيد كثيرا عن ثلاثة آلاف قتيل، بينما عدد القتلى من العراقيين يقترب من المليون غالبيتهم من الشيعة.
وعلى أي الأحوال فقد وجد كلاهما ملاذا في الولايات المتحدة للخلاص من المأزق الأصولي، فعندما طرح القرضاوي حقيقة أن هناك قرابة خمسة عشر مليونا من السنة في إيران، لا يوجد منهم وزير واحد في الحكم هرب رفسنجاني إلى أن لديه معلومات يريد أن يقولها، ولكنه يخشى ألا يحقق ذلك هدف اللقاء والحوار وهو الوحدة والتقريب بين السنة والشيعة في المواجهة مع الأمريكيين ومن تحالف معهم. ومن المرجح تماما أن صاحبنا لم يكن لديه معلومات عن إيران يقدمها للقرضاوي وجمهوره، لأنه لن يوجد فيها ما يعيب طهران، ولكن ما كان لديه هو معلومات عن الدول العربية ذات الأغلبية السنية، والتي لا تعطي وزارة ولا سفارة لا لشيعة أو لمسيحيين، فضلا عن سياسات أخرى تعزل الأقليات في العموم عن المناصب العامة. وهكذا وقف الطرفان أمام المرآة مباشرة مع قضية الأقليات في العالم الإسلامي، ولكن عارضيها لم يكونوا على استعداد للاعتراف بها، طالما أن الأصولية هي مرجعيتهم وليست الديمقراطية التي تكفل لجميع الناس، بغض النظر عن الدين والعرق، حقوقا متساوية.
ومن المدهش أن القرضاوي الداعي للمصارحة، كان هو الذي طالب بالحوار في الغرف المغلقة بعيدا عن «الإثارة والغوغائية»، وهي المظاهر الذائعة في الفكر الأصولي عامة عن «الرعية» و«الرعاع» و«العامة». فالقضية هنا ليست «الشفافية» كما تتبناها المرجعية الديمقراطية، كما أنها ليست الاعتدال في القول، والحصافة في التفكير، والكياسة فى العرض، وكلها من الفضائل اللازمة لحياة ديمقراطية صحيحة. أما الفكر الأصولي القائم على «الإثارة» و«التحريض» والتعبئة ونشر الغضب بين المسلمين ـ وهي دعوة قرضاوية مستمرة ـ وبث الحماسة بغض النظر عن معاني القول، فإنه يجد نفسه حينما يجد جد الحديث، بعيدا عن الناس بعقولهم الصغيرة وأحلامهم الغثة. والحقيقة أنه لا يبدو هناك مخرج للطرفين من المسلمين إلا من خلال الشفافية والتقاليد والفضائل الديمقراطية، التي تحض على المساواة والاعتراف بالآخر ومواجهة المشكلات بصراحة.
No comments:
Post a Comment