Thursday, February 15, 2007

النظام والإخوان والدولة المدنية

د. حسام عيسى


تحت عنوان إحالة الشاطر وندا و38 من قيدات الإخوان إلى القضاء العسكري كتبت جريدة الأهرام فى عددها الصادر بتاريخ 7 فبراير: إن احالة المتهمين من قيادات الجماعة الى القضاء العسكرى جاء لسرعة الفصل فى القضية فى ظل عدم اعتراف الجماعة بالقضاء المدني، حيث تعتبره قضاء وضعيا. قرأت هذا التصريح الذى نسبته الاهرام الى مصدر مسئول، دون اى تحديد آخر، واعدت قراءته عدة مرات، وأنا لا أصدق ما اقرأ.. فالاهرام العتيد - ديوان الحياة المعاصرة فى مصر - كما يسميه المؤرخ العظيم يونان لبيب رزق، يقول لنا ببساطة مذهلة ان القضاء العسكرى اصبح اليوم مختصا بمحاكمة المدنيين لانه اسرع.. وهو ما يعنى ان تحديد الاختصاص الولائى فى مصر اصبح يتم فى مصر اليوم بحسب مدى تكدس القضايا لدى الهيئات الفضائية المختلفة، وهو ما يشكل تجديدا مذهلا فى فقه قانون المرافعات لم نسمع به من قبل.
اما الامر الاشد غرابة فهو ما جاء فى تصريح المصدر المسئول من ان احالة المتهمين من قيادات الجماعة المحظورة إلى القضاء العسكرى قد جاء بسبب عدم اعتراف الجماعة بالقضاء المدنى حيث تعتبره قضاء وضعيا.
هل هذا معقول؟ وهل هكذا تتم مواجهة الرأى العام لتبرير إجراء خطير مثل إحالة مدنيين الى القضاء العسكري؟
هل معنى ذلك انه اذا أعلنت الجماعة المحظورة عدم اعترافها بالقضاء العسكرى لانه قضاء وضعى فسوف تتم احالة المتهمين من اعضائها الى قضاء آخر.. القضاء الانجليزى أو الفرنسى مثلا.
ما هذا العبث؟ ومن هو هذا المصدر المسئول عنه؟
هل هو واحد من عباقرة لجنة السياسات اصحاب الفكر الجديد.. هل هو نفس عضو لجنة السياسات الذى خرج علينا فى اليوم نفسه بمحاضرة ساذجة عن مفهوم الدولة المدنية.. وكيف ان هذه الدولة المدنية تختلف عن الدولة العلمانية دون ان يحدد طبعا ما هو الفرق بين الدولة المدنية والدولة العلمانية؟
المهم هنا هو ان هذا العبث يتم فى اطار معركة كبيرة بدأها النظام الحاكم لتصفية جماعة الإخوان المسلمين أو على الاقل لاضعافها وشل حركتها مؤقتا.. وان هذه المعركة تجرى تحت شعار الدفاع عن الدولة المدنية ضد خطر الخلط بين الدين والسياسة وهى معركة جند لها النظام الحاكم كل رجاله ومنظريه المفكرين وكل اجهزته الاعلامية بحيث يمكن القول بأنها اصبحت اليوم بالنسبة للنظام ام المعارك حسب التعبير الشهير.
وأود هنا ان اقف قليلا امام هذه المعركة.. لأناقش الاساطير التى استدعاها انصار النظام وابواقه.. لا دفاعا عن مشروع الاخوان المسلمين.. فأنا لست من انصاره لانى انتمى لمدرسة فكرية مختلفة تماما عن المدرسة التى تنتمى اليها الاخوان.. رغم اننى ادافع وسأدافع دوما عن حق الاخوان المسلمين فى الوجود على الساحة السياسية كجماعة سياسية وعن حقهم فى ان يحاكم المتهمون منهم امام قاضيهم الطبيعي.. القاضى المدني.. احتراما للدستور القائم وللتشريعات السارية الامر إذًا ليس دفاعا عن مشروع الإخوان السياسي.. ذلك ان هدفى ببساطة هو ان اضع هذه المعركة التى بدأها النظام فى اطارها الصحيح.. وافضح اساطيرها حتى بين لنا بجلاء من هو المسئول عن اضعاف الدولة المدنية فى مصر، ومن هو الذى بدأ خلط الدين بالسياسة.
ولنبدأ من البداية:
عندما تولى الرئيس الراحل أنور السادات واضع أسس النظام الحالى - حكم مصر فى بداية السبعينيات من القرن الماضي- بدا هذا الحكم بأن اطلق على نفسه لقب الرئيس المؤمن.. وبدا هذا الامر غريبا بعض الشيء فلم يطلق رئيس دولة كل سكانها شديدو الايمان بالاديان السماوية.. وكانوا دائما مؤمنين عبر التاريخ.. وحتى من قبل الاديان السماوية مثل هذا اللقب.
حقيقة الامر ان الهدف كان فى البداية وفى النهاية سياسيا، فقد جاء السادات يحمل معه مشروعا جديدا يقوم بالكامل على تصفية المشروع الناصرى مشروع البناء الوطنى المستقل القائم على العدل الاجتماعي.. والدور الفاعل للدولة فى البناء الاقتصادي.. والانتماء العروبي.
ولم يجد السادات افضل من الدين واجهة.. يخفى وراءها مشروعه.. ومبررا لتصفية مشروع عبدالناصر.. فكان لقب الرئيس المؤمن.. بما يعنيه من انه يهتدى فى كل خطواته بإيمانه.. اى بالدين.. على عكس ما كان عليه الحال فى الماضي.
ومن هنا فان استدعاء رأس المال الاجنبي.. وفتح الأبواب واسعة لفساد الرأسمالية المحلية القادمة بكل مشاعر الثأر فى ثورة يوليو.. ثم الصلح مع اسرائيل.. هو ما يقضى به الدين.. ولابد ان ينفذه الرئيس المؤمن.
ومن هنا كان من الطبيعى ان تتم تصفية قانون الاصلاح الزراعى بفتوى من شيخ الازهر.. وان يجرى الصلح مع اسرائيل بمباركة من المؤسسة الدينية بكل رموزها.. والتى استدعت لتبرير هذا الصلح مع الدولة العبرية المستنسخة نازيا.. تاريخ صلح الرسول عليه الصلاة والسلام مع اليهود رغم اختلاف الظروف تماما.. ولكن كله يهون من أجل الرئيس المؤمن.
وكان ذلك خلطا بين الدين والسياسة.. وبداية لتصفية أركان الدولة المدنية.
ثم كانت المادة الثانية من دستور عام 1971 ثم تعديلها لتجعل الشريعة الاسلامية المصدر الرئيسى للتشريع فى مصر.. وهى التى جرى تفسيرها فى العمل على ان الشريعة هى المصدر الوحيد للتشريع.. لتكون غطاء السادات ثم النظام القائم الان لتصفية المشروع الناصرى بشكل نهائى باسم الدين.
وكان ذلك خلطا للدين بالسياسة.. ولم يكن الاخوان المسلمون هم الذين فعلوا ذلك.
ولم يكن هدف السادات او النظام القائم هو تقنين الشريعة.. وهى مدرسة قانونية هائلة بكل المعاني.. ولكن الهدف كان ببساطة البحث عن غطاء دينى لسياسات التبعية والظلم الاجتماعى والفساد الشامل.
ولاشك لدينا ان المادة الثانية من الدستور قد وضعت اساسا صلبا للدولة الدينية فى مصر.. بكل مخاطر هذه الدولة الدينية.. ولذلك فان شعار الاسلام هو الحل.. الذى طرحه الاخوان المسلمون والذى تبارى وجال النظام القائم فى نقده هو نتاج طبيعى للغاية للمادة الثانية من الدستور.. ومن ثم فمن السخف تماما محاكمة الاخوان اليوم بتهمة محاولة الانقضاض على الدستور.. وتهديد الدولة المدنية.. وإلا لوجب ايضا محاكمة من ادخلوا نص المادة الثانية الى الدستور امام المحاكم العسكرية.
ويبقى بعد ذلك ان نتساءل: لماذا يسمح النظام القائم لنفسه بالخلط بين الدين والسياسة ولا يسمح بذلك للاخوان.
لماذا تصرخ صحافة الحزب الوطنى ولجنة السياسات بفكرها الجديد عندما قال مرشد الاخوان طظ فى مصر.. وهو امر شديد البشاعة بالفعل ولم تصرخ هذه الصحافة عندما كان الرئيس مبارك يستقبل المرحوم الشيخ الشعراوى ويحيطه بكل مظاهر التبجيل والاحترام وهو الذى صرح بأنه سجد لله شكرا على هزيمة الجيش المصرى فى عام 1967، وكيف امكن للرئيس مبارك وهو بطل من ابطال حرب اكتوبر والقائد الاعلى للقوات المسلحة ان يستقبل رجلا صلى لله شكرا على قتل الآلاف من ابنائه الجنود على يد جنود العدو الإسرائيلى الغادر؟
السبب بسيط للغاية وهو ان النظام فرح لتصريحات الشيخ الشعراوى لانه رأى فيها ضربا فى عبدالناصر والناصرية، والحقيقة انها كانت تقويضا للدولة المصرية ذاتها.. لانها تضمنت امتهانا لتضحيات جنودها أيا كان الرأى فى نظام عبدالناصر.
وبعبارة اخرى فقد سمح النظام بتقويض أهم أسس الدولة المدنية المصرية.. فلماذا يصرخ اليوم فزعا من الإخوان.
ويبقى قبل ذلك ومن بعده.. ان مواجهة مشروع الاخوان المسلمين بالطرق الامنية والمحاكمات العسكرية لن يؤدى بأى حال إلى هزيمة هذا المشروع ولا الى استبعاد الاسلام السياسى من الساحة السياسية وذلك لاسباب كثيرة:
أولها: إن الإسلام السياسى - وكما أوضح أنور عبدالملك فى رسالته الرائعة للدكتوراه فى جامعة باريس - هو اتجاه اصيل فى الحياة السياسية.. أو بتعبيره الجميل هو احدى مدارس الفكر والعمل الاصيل فى مصر منذ نهايات القرن التاسع عشر.. والاخوان المسلمون هم احد روافد هذه المدرسة.. وليسوا بالطبع الرافد الوحيد.
ثانيا: ونتيجة لذلك فان هذا الاتجاه ليس نتاج أزمة اقتصادية او اجتماعية عارضة.. ولكنه نتاج لمدرسة سياسية ايديولوجية.. هى من مكونات الفكر المصرى الحديث.
ويعنى ذلك ان علينا التعايش مع هذه المدرسة والاعتراف بوجودها بكل روافدها.. ولكن هذا التعايش لا يعنى أبدا الاستسلام لمشروعها خاصة فى شكله الاخواني.. فأنا ممن يؤمنون بضرورة مواجهته وهزيمته سياسيا.. وهو أمر ممكن.. والتاريخ شاهد على ذلك.
فقد استطاع الوفد بقيادة مصطفى النحاس هزيمة الاخوان عندما كان للوفد مشروع للاستقلال والديمقراطية.
واستطاع عبدالناصر بمشروعه للبناء الوطنى المستقل والعدل الاجتماعى ومواجهة الاستعمار والصهيونية هزيمة الاخوان على أرض الواقع.
والمشكلة اليوم ان الحزب الوطنى باعتباره احد اجهزة الدولة القائمة غير قادر على مثل هذه المواجهة.
فهو لا يملك ديمقراطية الوفد القديم، ويقيم دولة بوليسية بالغة الضراوة فكيف يمكن له ان يصم الاخوان بالفاشية.. وكيف يمكن للجماهير ان تصدقه، وهو لا يملك سلاح العدل الاجتماعي.. بعد اتساع الفقر فى قطاعات واسعة فى المجتمع المصري.. ووصل بالتفاوت بين الطبقات الى مستوى لم تعرفه مصر فى تاريخها كله.
وهو لا يملك سلاح المدافع عن الاستقلال الوطني.. ولا سلاح العزة الوطنية.. وهو الذى سلم مفاتيح القرار الوطنى للخارج.. ورضخ ويرضخ كل يوم لمتطلبات السوق العالمي.. ومتطلبات الولايات المتحدة واسرائيل ويجعل من ذلك سياسة معلنة له.
باختصار ان النظام القائم هو أكبر حليف موضوعى للاخوان المسلمين وبقاء سياساته الحالية تعطى كل يوم املا جديدا للاخوان المسلمين فى نجاح مشروعهم.

No comments: