مصــر فـي فوضـي «١» بقلم أسامة أنور عكاشة ١٣/١/٢٠٠٧ |
قررت منذ أسابيع عدة أن أتوقف عن كتابة مقالي الأسبوعي والذي كنت أناقش خلاله ما أراه حادثًا علي الساحة من أمور السياسة والثقافة والفنون ولا أريد أن أضيع وقت قارئ «المصري اليوم» في سرد أسباب قراري وهي كثيرة وأكتفي بذكر أهمها لأنه يتصل مباشرة بما أريد أن أتعرض له اليوم وهو «اليأس»! نعم اليأس! يئست من جدوي الكلام والكتابة.. ووصلت بعد إبحار طال لسنوات إلي شاطئ قفر تملؤه الصخور والهوام ولا يخفق فيه قلب بشر، وقد التزمت بقرار الابتعاد عن السياسة وسفسطة الحوارات البيزنطية عن التغيير والإصلاح والتحول الديمقراطي حتي فوجئت بالمشهد حولي وقد تحول إلي فوضي شاملة ومرعبة لا يمكن تجاهلها أو التعامل معها بالصمت والحياد فقررت التحلل من التزامي ولو لهذه المرة فقط... معتذرًا لكل الأحباء الذين وافقوني علي قراري الأول وكانت حجتهم التي أقنعتني في النهاية أنني روائي وكاتب دراما في الأساس... ويجب أن أظل في هذه المنطقة دون أن أسمح للسياسة- ولو كانت مجرد كتابة مقال- بأن تسحبني خارجها... وكان السبب المباشر في تفجير إحساسي بالفوضي التي تحيط بي وبالمصريين جميعًا هو مشهد تنفيذ حكم الإعدام في الرئيس العراقي السابق صدام حسين وقد حاولت منذ بدأت «المحزنة» أن أكتفي بالمشاهدة وأكبت داخل عقلي أي اعتراضات أو ملاحظات تجري عكس التيار الكاسح الذي أقام مراسم اعتماد صدام حسين شهيدًا وبطلاً ورمزًا؛ وكان هذا يستلزم أن أعطل ملكة التفكير والمنطق والعقل وكل ما اقتنعت به واعتنقته من رفض النهج الديكتاتوري وحكم القهر والاستبداد سواء كان حكمًا ملكيا قبليا أو جمهوريا عسكريا أو رئاسيا متوحدًا وسواء كان لفرد أو حزب أو جماعة! وأسوأ ما في الأمر أن يتصل هذا المركب «المازوخي» المرضي القائم علي حب وتلذذ الجماهير «القطيع» بما تلقاه من عسف وإذلال علي أيدي جلاديها- ويختلط بالنعرة الطائفية والمذهبية التي فرضها مناخ التردي والضعف العام الذي أعاد قسمة العرب دينيا: إلي عرب يدينون بالإسلام السني... وعرب آخرين يدينون بالإسلام الشيعي.. هذا الفخ الذي اصطيد فيه الجميع وكانت بداية نصبه في الحقيقة تلك الحرب الحمقاء التي شنها صدام حسين علي جارته «إيران» بتحريض من المخابرات المركزية الأمريكية التي أرادت أن تنتقم من فشلها في إيران ومن المهانة التي لحقت بإدارة كارتر في أزمة الرهائن المحتجزين بالسفارة الأمريكية في طهران التي احتلها الطلاب الثائرون.. ورغبة منها في استغلال تفكك الجيش الإمبراطوري بعد سقوط ملكية آل بهلوي ودخول الخوميني، فأوحت لرجلها في بغداد أن فرصته قد حانت ليضرب ضربته ويجتاح جارته «الشيعية» التي تلاصق مواطنيه الشيعة ويمكن أن تنقل لهم عدوي «الخومينية». وفور تنفيذ الإعدام في صدام انطلقت حناجر «الهتيفة» وخبراء «التهييج» الحنجوري تصرخ مزلزلة الأرض حول كل المصريين أن اشهدوا علي الجريمة البشعة التي قدم فيها جزارو الشيعة في بغداد أضحية العيد الأكبر في صبيحته: رأس القائد البطل الذي تصدي للأمريكان وقال: لا.. للطغيان ! وانتفخت أوداج واحد منهم وهو يجأر زاعقًا: يحيا صدام حسين البطل الشهيد... واستمرت هيستيريا الحزن الديماجوجي تتغزل في مناقب كبير الأشاوس الذي كان صاحب الفضل الأول في تقديم الغطاء للاجتياح الأمريكي والذي هرب وترك عاصمة وطنه مفتوحة بلا طلقة رصاص تدافع عنها بينما كان رجل إعلامه الصحاف مازال يردد هراءاته الجوفاء علي شاشات الفضائيات ويقسم للناس أن النصر قد حل وأن العلوج قد تمت إبادتهم وأن القائد «الضرورة» يعتلي متن الانتصار... وكما تشدق إبان الحرب التي شنها علي إيران بالمفردات الطائفية التعصبية مفتشًا في جراح الماضي السحيق بين عرب الإسلام والفرس المجوس... وأعلن نفسه بطلاً للقادسية الجديدة، ناسخًا صورة سعد بن أبي وقاص أو المثني بن حارثة الشيباني! انتحل هذه المرة مسوح صلاح الدين الذي يتهيأ لنصرة الفلسطينيين وإبادة «الفرنجة الجدد» من بني إسرائيل في حين أنه لم يجرؤ علي اطلاق رصاصة واحدة ضدهم كما فعل مع إيران مثلاً. والفخ الذي أتحدث عنه لم يسقط فيه عامة المصريين ممن يتم شحنهم منذ أحداث الجنوب اللبناني بالعداء للشيعة والتهوين من شأن حسن نصر الله والمقاومة التي يقودها حزب الله... لم يسقط في الفخ البسطاء وحدهم بل انزلق إليه النخبة أيضًا ومنهم كتاب نحترم أفكارهم وأقلامهم نحسبهم علي قوة التنوير وكوادر النهضة وكأنهم وقد أرهبهم صراخ «الحناجرة» وغوغائية «الهتيفة» اضطروا للمشي في الجنازة أو التطوح في حضرة الشهيد.. وإن حاول بعضهم إمساك العصا من المنتصف فرددوا في تلعثم وركاكة أنهم ضد الطاغية وحكمه الديكتاتوري للعراق ولكنهم «يأسفون» لبشاعة التنفيذ وسقم الرمز في اختيار يوم العيد... وهرب بعضهم إلي تعليق المسؤولية علي الشماعة الجاهزة «الاحتلال الأمريكي» وتشجع البعض الآخر فتمني أن يتعظ الطغاة الآخرون في العالم العربي وقد رأوا رأس الذئب الطائر... وقد نعذر ونرجع الأمر لحالة «الفوضي» السائدة ولكن ما أدهشني وأصابني بما يشبه الصدمة حقيقة هو ما قرأته بأقلام لم أتصور أبدًا أن ينزلق أصحابها إلي منحدر المزايدات التي تنافق مشاعر العامة وتلعب علي أوتار التعصب المذهبي كمثل ما قرأته لكاتب صحفي صديق أعرف عنه استنارته وتوازنه ففوجئت بما كتبه منذ أيام وانتهي فيه إلي أنه كان من مؤيدي نضال حزب الله وقائده الشيعي السيد حسن نصر الله ضد إسرائيل في حرب الصيف الماضي ولكنه بعد أن رأي ميليشيا الشيعة تهتف مهللة عند إعدام صدام غير رأيه وقرر إخراج الشيعة جميعًا من ملة الإسلام. حقيقة لم أصدق الحروف التي قرأتها مكونة لهذه الكلمات... لم أصدق أن يقولها صاحب هذا القلم الذي أعرفه جيدًا... وللحق فإن هناك كثيرين مثله انزلقوا بكتاباتهم إلي نفس المنحدر حتي وقر في ذهني للحظات أنهم يواكبون معزوفة «شياطين الشيعة» التي يعزفها شيوخ السنة الوهابية هناك في المملكة والذين كفروا من قبل حسن نصر الله وكل من يساعده... وها نحن أولاء نزايد عليهم بتكفير كل الشيعة وتكفير كل من يلتمس لهم عذرًا في إعدام الطاغية الذي نكل بهم وقتل الآلاف منهم إبان سنوات حكمه «المجيد».. وربما يطلع علينا غدًا قلم آخر يكفر كل من لم يشارك في الهيستيريا الجماعية التي شقت الجيوب ولطمت الخدود حزنًا علي الشهيد الرمز.. الذي سيظل كما قال أحدهم: أعظم أبطال تاريخ العرب المعاصر!.. مرحي... وأهلاً بعرب النصف الأول من العقد الأول من القرن الواحد والعشرين... كنت أظن- واهمًا- أن حروب الفتنة الكبري قد انتهت بقيام دولة بني أمية ونجاح خلفائها في استئصال كل جذور آل البيت النبوي الشريف... وأن الكارثة التي فرقت المسلمين بين سنة وشيعة قد استقرت في حدود هذا الفصل المذهبي الذي صار قدرًا تاريخيا لا راد له وأصبح غاية الأمل هو «التقريب» بين المذاهب لا توحيدها فدون ذلك خرط القتاد كما يقال.. وها هي الأمور تتدهور بشكل يثير الرعب ويجعل رؤية المستقبل مسرجة بضبابية قاتمة... وتلوح الفوضي الدامية في الأفق... وتتدافع الأسئلة الجزعة يأخذ بعضها بمناكب البعض لتطرح أسوأ الرؤي المتشائمة... أتراها بقية فصول الانهيار التام للنظام العربي؟ أم تكون مقدمة لحرب وهابية طلبانية تعيد المنطقة كلها إلي الكهف لتصبح أمثولة تاريخية... وتعيد للذاكرة الإنسانية مذابح العنصرية والصراع الديني ونصنع لأنفسنا «سان بارثلوميو» جديدة لنكون بحق «العرب البائدة» وليس هؤلاء القدامي الذين طوتهم رمال الربع الخالي فكانوا أثرًا بعد عين؟... وللفوضي بقية.. |
No comments:
Post a Comment