ثقافة الإهمال وثقافة العمل الجاد
بقلم : نبيل عبدالفتاح
انكسرت روح الأمة بلا زيادة أو نقصان عندما اشتعلت نيران الاهمال في أروقة مجلس الشوري. أحد أبرز المعالم التاريخية والمعمارية والأثرية علي التطور الدستوري والسياسي. المباني التاريخية لها قيم معمارية وتاريخية وثقافية ورمزية, وتحمل تواريخ وعلامات وأفكارا, والمبني يمثل وبكثافة تأسيس الهندسات الدستورية والقانونية والمعمارية ـ الكلاسيكية الجديدة الأوروبية ـ والتي ارتبطت ببناء الدولة الحديثة ومؤسساتها وتنظيمها الاداري. النيران حملت معها ذكريات مؤلمة عن حريقي الأوبرا, والقلعة ومحمولاتهام الرمزية والقيم التاريخية والمعمارية والأثرية التي تبددت, واستدعت معها مظاهر الفوضي واللامبالاة والاهمال وعدم الكفاءة وكراهية العمل والانجاز الذي بات يمثل سمت ثقافة تعيق تطورنا السياسي والاجتماعي الحديث بما يدعم مطالب وضغوط ودعاية بعض القوي السياسية الأكثر محافظة التي توظف سنن الاهمال وعدم الكفاءة المهنية في دعم خطابها السياسي الساعي للوصول الي الدولة والسلطة. تشير وقائع الحريق الدامي والملاحظات الميدانية التي رصدها المتابعون للحادث, إلي مجموعة من الظواهر والسلوكيات الاجتماعية والمهنية والادارية تشكل نمو واتساع الاهمال والكسل والتراخي, ووهن الحيوية, وعدم الجدية, والتبصر في أداء العمل عموما كظاهرة في حياتنا السياسية والادارية وفي غالبية المرافق العامة, وبعض مؤسسات القطاع الخاص, والمنظمات غير الحكومية والسؤال الذي نطرحه هنا ما دلالة هذا التسيب والاهمال وضعف الرقابة والمحاسبة, وتراخي الاحساس بالمسئولية لدي غالب المواطنين المصريين؟ نستطيع ان نوصف الظواهر الممتدة لتجليات الاهمال وعدم الجدية في أداء العمل ومتابعته الي بروز نمط ثقافي شائع يمكن أن نطلق عليه ثقافة الاهمال وعدم الجدية والمسئولية, ونقصد بذلك ما يلي: بروز مجموعة من العادات والسلوكيات الوظيفية والمهنية والادارية والأمنية تتمثل في اللامبالاة بأداء العمل المنوط ببعض المهن والأعمال ـ أيا كانت ـ بالكم والنوعية والكفاءة المطلوبة في كل أو بعض مراحل هذا العمل. من ناحية ثانية: شيوع بعض العادات الذهنية والسلوكية تتمثل في الكسل الذهني والترهل والتراخي والبطء السلوكي في أداء العمل ومتابعته في إطار شروطه ومعاييره, ناهيك عن التعود علي عدم التبصر واليقظة في متابعة العمل بعد أدائه, وملاحظة مدي قدرة العمل, أو الجهاز أو النظم أو العمالة علي الوفاء بالمهام المنوطة بهم, وبها. الوجه الآخر لثقافة الاهمال وعدم المسئولية والتراخي, هو ضعف ثقافة العمل ومحبته والتفاني في أدائه, واعتباره قيمة عليا دالة علي الوجود والحضور الانساني الفاعل للفرد ومكانته في المجتمع أيا كانت. أن مقارنة بين مصر في بعض مراحل تطورها السياسي والاجتماعي ـ في المرحلة شبه الليبرالية والناصرية وحتي حرب أكتوبر1973, وبين المراحل التالية ـ تشير إلي الفارق المائز بين غلبة ثقافة العمل والمسئولية وهيمنة ثقافة الاهمال والكسل وعدم الكفاءة. إن ضعف الانتاجية أو حادثا ذا دلالة يؤدي إلي استقالة المسئول الأول عن الحكومة أو عن الوزارة أو المؤسسة في اليابان وقد يدفع للانتحار تعبيرا عن مدي الاحساس بالمسئولية وتبعاتها؟ لكن مصر ليست اليابان, ولا الطبقة السياسية هنا, كما هناك, ولأن المسألة باتت أعقد من مجرد إلقاء اللوم علي السلطة السياسية الحاكمة, وإنما نحن إزاء مرض اجتماعي وسياسي عضال يمس المجتمع والدولة معا, من هنا لابد من جراحات عميقة تمس أمراضنا السياسية والاجتماعية. وتعالجها عند الجذور بنجاعة. ثمة تراجع لثقافة العمل كمجموعة من القيم والتقاليد والعادات التي تمثل موقفا ايجابيا من العمل كقيمة فردية واجتماعية ومهنية ووظيفية وقومية, من حيث المبادرات, وإعادة التأهيل لأداء العمل المطلوب كما ونوعا وفق الشروط والمعايير القياسية المرتبطة بالعمل ومجاله, وعلي نحو يتسم بالكفاءة والمهنية. من ناحية ثانية: تراجعت الدافعية الشخصية علي نحو كبير لدي بعض ـ إن لم نقل غالب ـ المصريين في العمل وأدائه, والأهم تراجع الموقف الجمعي الايجابي إزاء تقدير العمل في ذاته ايا كان نوعه ومستواه, ومن يقوم بإنجازه لدي بعض المواطنين. والسؤال الذي نطرحه كيف تحول الاهمال إلي حالة غالبة في حياة المصريين وممارستهم الأعمال المنوطة بهم؟ ثمة أسباب عديدة أدت إلي بروز الظاهرة يمكن رصدها فيما يلي: ـ أولها: انتشار بؤر ودوائر الاهمال في الحكومة ومرافقها العامة, وضعف الرقابة الادارية والفنية, وشيوع روح التواطؤ المتبادل علي الاهمال والكسل بين غالب الموظفين العموميين وغياب مباديء الثواب والعقاب وتطبيقها, وذلك لانتشار ظواهر الفساد الاداري والسياسي. من ناحية ثانية: شيوع مسوغات وتبريرات للاهمال تتمثل في ضعف الأجور, وتزايد تكاليف وأعباء المعيشة, ومحاباة غير الأكفاء وتعيينهم وترقيتهم, وشيوع المحاباة والمحسوبية والنفاق الاداري علي حساب الجدية والكفاءة والموهبة. من ماحية ثالثة: شيوع المحاكاة للاهمال وسلوكياته بين غالب العاملين في الحكومة ومؤسساتها وقطاع الدولة, والنقابات المهنية والعمالية والجمعيات الأهلية. من ناحية رابعة: عدم التناسب بين حجم ونوعية العمل, والعائد المادي الذي يستخدم كمبرر للتراخي والكسل وعدم الدقة والاهمال, في ظل غياب أنظمة ومعايير موضوعية للترقي للوظائف الأعلي تعتمد علي الكفاءة والجدية والتفاني في العمل, ولاسيما في ظل غياب أنظمة للتدريب والتأهيل الوظيفي وإعادة التكوين للموظفين والعمال. أدي ذلك إلي تحول الاهمال إلي عقاب مضاد في بعض الأحيان للسلطات السياسية والادارية.. إلخ من قبل غالب العاملين, من ناحية أخري يعد الاهمال تعبيرا عن الفجوات بين السلطة السياسية والبيروقراطية وأجهزة الدولة الادارية والخدمية والأمنية. وفي هذا الصدد يبدو من ثنايا الاهمال الانفصام النفسي والاجتماعي بين القمة القيادية للهرم الاداري والوظيفي, وبين بقية مستوياته, وأبرز تجليات ذلك ترهل وعدم فاعلية قانون الدولة في حكم العلاقات القانونية والادارية, وهو ما يتجسد في انتشار قوانين الرشوة والفساد. إن العوامل السابقة شكلت بيئة إدارية واجتماعية ملائمة لنمو ثقافة الاهمال, والحرائق التي مست أماكن وقيما أثرية ومعمارية وسياسية, وساعد علي تفاقمها بعض الأسباب نرصدها تمثيلا لا حصرا فيما يلي: ـ * عدم تحديث الأجهزة الادارية من حيث أنظمة العمل ومعاييره, وضعف تقنيات مكافحة الحرائق وأجهزة الانذار المبكر التكنولوجية والرقابية في ظل تدني كفاءة وتكوين وتدريب غالبية العاملين في أجهزة المكافحة والدفاع المدني, فضلا عن غياب الرقابة الدورية علي الأجهزة والأدوات المستخدمة في المكافحة. *ضعف الوعي التاريخي والأثري لدي بعض البيروقراطية السياسية, ومن ثم لدي الأجهزة الادارية والرقابية, ومن ثم يفتقر بعضهم للحس التاريخي والأثري والمعماري في التعامل مع الأبنية والقاعات والوثائق والرموز التي تحملها المباني التاريخية وطرزها المعمارية. أدي ذلك إلي ظاهرة الجهل بالقيم المعمارية والسياسية والرمزية, ومن ثم إلي تحولها إلي مجرد أبنية قديمة لا تعني شيئا لدي بعض عوام وخاصة البيروقراطية السياسية والإداريين وبعض أعضاء مجلسي الشعب والشوري. إن عدم السرعة في التصدي للحريق وغيره من الحرائق يعود إلي ظاهرة الانفجار السكاني واختلال العلاقة بين الحيز والكثافة السكانية, ومن ثم التأثير علي حرية وسرعة حركة أجهزة الانقاذ والمكافحة. *غياب الوعي التاريخي وتخلف أنظمة التوثيق والحفظ العلمية للوثائق الرسمية وغيرها من أماكن مجهزة تقنيا, وفق أحدث الأجهزة والمعايير الفنية والعلمية حفاظا علي ذاكرة الأمة المصرية, وتاريخها. *شكلت حرائق الأوبرا, والمسافر خانة والقلعة جرحا عميقا وغائرا في الضمير الجمعي لبعض المصريين, ومع ذلك لم يؤد ذلك إلي مراجعة لأنظمة مكافحة الحرائق علي نحو جذري ومتطور بين الحين والآخر وفق أحدث الأساليب المستخدمة عالميا. ويعود ذلك إلي شيوع ذهنية الاهمال التي تعالج أعراض الأمراض الادارية والسياسية والاجتماعية, لاجذورها وأسبابها التكوينية. ولاشك أن ذلك يعود إلي ظاهرة عدم الاستقرار الوزاري, وكثرة التعديلات أحيانا في عهد الرئيس السادات, ثم الجمود الوزاري والسياسي بعدئذ منذ ثمانينيات القرن الماضي وحتي الآن. الأمر الذي أدي إلي نزوع بعض الوزراء والحكومات لتعظيم الربحية السياسية والوظيفية من العمل الوزاري أو القيادي, والميل إلي إستراتيجية المسكنات لا الحلول الجذرية, وذلك حتي لاتقع أخطاء فادحة يتم المحاسبة عليها ولاشك ان هذا الاتجاه السلوكي من الوزراء وكبار الموظفين الاداريين يعكس إحساسا بعدم الأمان والشك في إمكانية الاستمرار في مواقعهم لفترات طويلة, وإنما يحاول بعضهم تعظيم مكاسبه وذويه وبطانته في أقل فترة قبل التغيير أو الاقالة, أو تعيين آخرين في مواقعهم. لاشك أن ذلك أدي إلي شيوع استراتيجية المسكنات وتخفيف الآلام الناتجة عن أمراض البيروقراطية السياسية والادارية المختصة في أجهزة الدولة المصرية. ومن ثم نستطيع أن نقول إن حريق مجلس الشوري يستدعي الألم. لا الشماتة لدي بعض العوام والخاصة لأنه يمثل جزءا من مكونات ذاكرة الدولة الحديثة, وقيمة معمارية وأثرية تشكل جزءا من تاريخنا ورموزه. ومن ثم لابد من مواجهة جذور الحادث وتغدو محاسبة المسئولين عنه واجبة, حتي ولو كان ذلك أحد نواتج ثقافة الاهمال التي تنتشر مرضيا في خلايانا وأعصابنا الحساسة, والمسألة أخطر من مجرد حريق لأثر سياسي ومعماري وتاريخي. | |||||
No comments:
Post a Comment