الطريق إلى الحريق ـ د. أحمد دراج |
د. أحمد دراج المصريون : بتاريخ 27 - 8 - 2008 |
مرت مصر عبر تاريخها القديم والحديث بعدة أنواع من الحرائق المادية منها: حرائق الجرد السنوي ( اللصوصية )، وحرائق الفشل السياسي مثل حريق قطار الصعيد، وحريق مسرح بني سويف، أما الحريق الأخير في مجلسي الشعب الشوى الذي دمر مقار 18 لجنة، فهو حريق سياسي بدلالات جديدة تثبت أمرين: أولهما: فشل مؤسسات النظام الحاكم ورسوبها في أسهل اختبار، وثانيهما: سقوط منظومة التلفيق والتلبيس في شر أعمالها. إذا كان من الممكن التغلب على آثار الحرائق المادية المتكررة بفرض الضرائب والإتاوات على الفقراء ومحدودي الدخل، فإنه من المستحيل إطفاء الحرائق المعنوية المشتعلة في قلوب الشعب المصري بنفس الوسائل، ولم تدرك معظم النخب السياسية والثقافية أن هذه النيران تزداد اشتعالا كل يوم طيلة السنوات والشهور الماضية وتتغذى على ظلم الأبرياء والزج بهم في أتون المعتقلات وأقسام الشرطة ويزيد من أوارها أحكام البراءة في قضايا الرأي العام الكبرى مثل: هيدلينا وضحايا عبارات ممدوح إسماعيل، ثم يحولها حريق الأسعار إلى بركان ثائر تحت الجلد يلتهم أكباد الشعب وثمرات كده وعمله انتظارا ليوم مشهود، يوم ترد فيه المظالم وتنطفيء جذوة الحرائق المادية والمعنوية، ولا يخرج فيه عتاة المجرمين أبرياء مرفوعي الرأس لم يمسسهم سوء، ولا يقدم صغار الموظفين وعابرو السبيل كباش فداء لمماليك اليوم. وإذ كان المثل الشعبي يقول " إن مصائب قوم عند قوم فوائد " يفهم منه أن هناك مستفيدين من هذه الكارثة التي لحقت بالقاعات التاريخية والمستندات الخطيرة، ولكي نتوصل إلى الجناة الفعليين لابد من التفتيش والبحث عن كبار وصغار المستفيدين الذين يدافعون بالروح والدم عن المستشار الرسمي لنظام التخريب. والآن، ترى من المستفيد المباشر وغير المباشر من إشعال حريق مجلسي الشعب والشورى الذي جدد منذ شهور قليلة بما يقارب مائة مليون جنيه ؟ أم أن المسألة برمتها إهمال فادح وفشل ذريع لنظام أغلق نوافذ التداول السلمي للسلطة وتفرغ لتصفية حساباته مع الشعب بينما هو عاجز عن إطفاء حريق في مؤسساته التشريعية ؟ وهل هناك خيط يربط بين هذا الحريق المادي والحريق المعنوي المشتعل في قلوب الناس وحياتهم وأرزاقهم جراء الظلم والهوان ؟ وكيف تمكن المستفيدون استمرار إشتعال النار لوقت طويل في الوثائق والمستندات خطيرة في غيبة أو حراسة أمن الدولة ؟ أم أن هذا الحريق غطاء لجريمة أو حريق أكبر ؟ وما العلاقة بين كبار المستفيدين من الخراب وأذنابهم بالمقصرين في أداء واجبهم لحماية المنشآت والملفات والوثائق الحساسة ؟ أما الحديث عن المتضررين فلا أهمية له، لماذا ؟ لأنهم يغطون في السلبية المقيتة مع أنهم الخاسر الأكبر في كل الأحوال فهم يدفعون دائما من عرقهم وكدهم وفقرهم بلا تأوه أو تأفف، لم لا وكل ما يعرفونه عن هذين المجلسين أنهما رموز تزوير إرادتهم ونهب أموالهم وفرض الضرائب عليهم ومحلل بيع المصانع والمؤسسات وثروات الشعب لأعدائه بأبخس الأسعار!!. إن توجيه الاتهام إلى السيد الماس الكهربائي من وزير الداخلية وكبار المسئولين فور وقوع الحريق لأمر يدعو إلى السخرية والشفقة معا لأن النيران كانت تحت رماد مخلفات الحريق الكبير ولم تستطع الكلاب البوليسية اجتياز المكان المحترق، فكيف عرف الوزير وخبراء وجهابذة التلفيق نتائج عينات ودراسات لم تجر بعد، بل لم يقترب منها أحد بعد ؟! وهل هذا الماس الكهربائي من شهود الزور الواقفين على أهبة الاستعداد لتحمل جرائم الفوضي والإهمال بأنواعه ؟. هذه التصريحات المتعجلة تصادر على نتائج البحث الجنائي من وزير يسيطر على هذا الجهاز وتؤكد جهل جهات التحقيق وفقدانها للمصداقية لأنها تري في علوم البحث الجنائي الحديثة مجرد واجهة رسمية لإغلاق الملفات إما لعدم كفاية الأدلة أو بتحميل الكارثة لأقرب كبش على طريقة " الماس الكهربائي أو لمختل عقليا ". ورغم اشتراك هذه الحرائق المادية والمعنوية في المسمى وتخريب وتدمير ثروات هذا البلد وطاقاته الشرية إلا أن الجناة في كل حريق الأمس القريب يمثلون شريحة مختلفة من أصحاب المصالح، فإذا كنا نعرف أن حرائق المخازن في موسم الجرد يشعلها صغار اللصوص في المؤسسات والشركات والمصالح الحكومية للتستر على جرائم السرقة وتبديد المال العام، وأن المتهم الأول في حريق قطار الصعيد ومسرح بني سويف هي إدارة الإهمال والفشل السياسي في مؤسسات الدولة والهيئات التابعة لها، فإلى من توجه أصابع الاتهام في الحريق الكبير لجزء من مجلسي الشعب والشورى وحرائق أسعار السلع والخدمات التي مازالت مشتعلة في جيوب الفقراء ومتوسطي الحال من أبناء الشعب المصري ؟ ياسادة، لقد بدأ الحريق الأكبر منذ سنوات وشهور وما زال مشتعلا في قلوب الفقراء ومعدومي الدخل وامتدت آثار الحريق لتعبر عن نفسها في مواقف متعددة منها تلك التعليقات وردود الأفعال في الشارع ومن المواطنين البسطاء على الحريق في مواقع مختلفة، من هذه التعليقات التي رصدتها ( حريق القاهرة.. عاد من جديد )، و( ياخسارة... النواب كانوا في مارينا ) و ( الحمد لله... بشرة خير ) و( من أعمالكم سلط عليكم ) و( يمهل ولا يهمل ) و( هي دي بلد الأمن والأمان ؟ ) و( اللهم لا شماتة ) وأختتمها بتعليق مصري محروق دمه ( ألف مبروك عقبال الباقي ) " نقلا عن مصراوي " هذه التعليقات المغلولة تدعو العقلاء إلى مراجعة أنفسهم فما تضمره قلوب ونفوس الشعب المصري تنبيء عن حجم رهيب للدخان المكبوت في إناء يحترق، وهي تقول ببساطة إن الأسوأ قادم، وإذا لم تنطفيء نار الظلم المشتعلة في قلوب كل المظلومين ونار الأسعار الحارقة لآمال الناس وأحلامهم إن لم تستقم المعادلة الوطنية مرة أحرى فإن مصر مرشحة – في القريب العاجل- لأكبر حريق يأتي على الأخضر واليابس ولايعلم مداه ولا نتائجه إلا الله، وهذا الرأي ليس ضربا بالغيب ولكنه استشراف للمستقبل القريب الذي تلوح بوادره في الأفق، وعندها فقط لا ينفع الندم !!!. |
Thursday, August 28, 2008
الطريق إلى الحريق ـ د. أحمد دراج
ثقافة الإهمال وثقافة العمل الجاد
ثقافة الإهمال وثقافة العمل الجاد
بقلم : نبيل عبدالفتاح
انكسرت روح الأمة بلا زيادة أو نقصان عندما اشتعلت نيران الاهمال في أروقة مجلس الشوري. أحد أبرز المعالم التاريخية والمعمارية والأثرية علي التطور الدستوري والسياسي. المباني التاريخية لها قيم معمارية وتاريخية وثقافية ورمزية, وتحمل تواريخ وعلامات وأفكارا, والمبني يمثل وبكثافة تأسيس الهندسات الدستورية والقانونية والمعمارية ـ الكلاسيكية الجديدة الأوروبية ـ والتي ارتبطت ببناء الدولة الحديثة ومؤسساتها وتنظيمها الاداري. النيران حملت معها ذكريات مؤلمة عن حريقي الأوبرا, والقلعة ومحمولاتهام الرمزية والقيم التاريخية والمعمارية والأثرية التي تبددت, واستدعت معها مظاهر الفوضي واللامبالاة والاهمال وعدم الكفاءة وكراهية العمل والانجاز الذي بات يمثل سمت ثقافة تعيق تطورنا السياسي والاجتماعي الحديث بما يدعم مطالب وضغوط ودعاية بعض القوي السياسية الأكثر محافظة التي توظف سنن الاهمال وعدم الكفاءة المهنية في دعم خطابها السياسي الساعي للوصول الي الدولة والسلطة. تشير وقائع الحريق الدامي والملاحظات الميدانية التي رصدها المتابعون للحادث, إلي مجموعة من الظواهر والسلوكيات الاجتماعية والمهنية والادارية تشكل نمو واتساع الاهمال والكسل والتراخي, ووهن الحيوية, وعدم الجدية, والتبصر في أداء العمل عموما كظاهرة في حياتنا السياسية والادارية وفي غالبية المرافق العامة, وبعض مؤسسات القطاع الخاص, والمنظمات غير الحكومية والسؤال الذي نطرحه هنا ما دلالة هذا التسيب والاهمال وضعف الرقابة والمحاسبة, وتراخي الاحساس بالمسئولية لدي غالب المواطنين المصريين؟ نستطيع ان نوصف الظواهر الممتدة لتجليات الاهمال وعدم الجدية في أداء العمل ومتابعته الي بروز نمط ثقافي شائع يمكن أن نطلق عليه ثقافة الاهمال وعدم الجدية والمسئولية, ونقصد بذلك ما يلي: بروز مجموعة من العادات والسلوكيات الوظيفية والمهنية والادارية والأمنية تتمثل في اللامبالاة بأداء العمل المنوط ببعض المهن والأعمال ـ أيا كانت ـ بالكم والنوعية والكفاءة المطلوبة في كل أو بعض مراحل هذا العمل. من ناحية ثانية: شيوع بعض العادات الذهنية والسلوكية تتمثل في الكسل الذهني والترهل والتراخي والبطء السلوكي في أداء العمل ومتابعته في إطار شروطه ومعاييره, ناهيك عن التعود علي عدم التبصر واليقظة في متابعة العمل بعد أدائه, وملاحظة مدي قدرة العمل, أو الجهاز أو النظم أو العمالة علي الوفاء بالمهام المنوطة بهم, وبها. الوجه الآخر لثقافة الاهمال وعدم المسئولية والتراخي, هو ضعف ثقافة العمل ومحبته والتفاني في أدائه, واعتباره قيمة عليا دالة علي الوجود والحضور الانساني الفاعل للفرد ومكانته في المجتمع أيا كانت. أن مقارنة بين مصر في بعض مراحل تطورها السياسي والاجتماعي ـ في المرحلة شبه الليبرالية والناصرية وحتي حرب أكتوبر1973, وبين المراحل التالية ـ تشير إلي الفارق المائز بين غلبة ثقافة العمل والمسئولية وهيمنة ثقافة الاهمال والكسل وعدم الكفاءة. إن ضعف الانتاجية أو حادثا ذا دلالة يؤدي إلي استقالة المسئول الأول عن الحكومة أو عن الوزارة أو المؤسسة في اليابان وقد يدفع للانتحار تعبيرا عن مدي الاحساس بالمسئولية وتبعاتها؟ لكن مصر ليست اليابان, ولا الطبقة السياسية هنا, كما هناك, ولأن المسألة باتت أعقد من مجرد إلقاء اللوم علي السلطة السياسية الحاكمة, وإنما نحن إزاء مرض اجتماعي وسياسي عضال يمس المجتمع والدولة معا, من هنا لابد من جراحات عميقة تمس أمراضنا السياسية والاجتماعية. وتعالجها عند الجذور بنجاعة. ثمة تراجع لثقافة العمل كمجموعة من القيم والتقاليد والعادات التي تمثل موقفا ايجابيا من العمل كقيمة فردية واجتماعية ومهنية ووظيفية وقومية, من حيث المبادرات, وإعادة التأهيل لأداء العمل المطلوب كما ونوعا وفق الشروط والمعايير القياسية المرتبطة بالعمل ومجاله, وعلي نحو يتسم بالكفاءة والمهنية. من ناحية ثانية: تراجعت الدافعية الشخصية علي نحو كبير لدي بعض ـ إن لم نقل غالب ـ المصريين في العمل وأدائه, والأهم تراجع الموقف الجمعي الايجابي إزاء تقدير العمل في ذاته ايا كان نوعه ومستواه, ومن يقوم بإنجازه لدي بعض المواطنين. والسؤال الذي نطرحه كيف تحول الاهمال إلي حالة غالبة في حياة المصريين وممارستهم الأعمال المنوطة بهم؟ ثمة أسباب عديدة أدت إلي بروز الظاهرة يمكن رصدها فيما يلي: ـ أولها: انتشار بؤر ودوائر الاهمال في الحكومة ومرافقها العامة, وضعف الرقابة الادارية والفنية, وشيوع روح التواطؤ المتبادل علي الاهمال والكسل بين غالب الموظفين العموميين وغياب مباديء الثواب والعقاب وتطبيقها, وذلك لانتشار ظواهر الفساد الاداري والسياسي. من ناحية ثانية: شيوع مسوغات وتبريرات للاهمال تتمثل في ضعف الأجور, وتزايد تكاليف وأعباء المعيشة, ومحاباة غير الأكفاء وتعيينهم وترقيتهم, وشيوع المحاباة والمحسوبية والنفاق الاداري علي حساب الجدية والكفاءة والموهبة. من ماحية ثالثة: شيوع المحاكاة للاهمال وسلوكياته بين غالب العاملين في الحكومة ومؤسساتها وقطاع الدولة, والنقابات المهنية والعمالية والجمعيات الأهلية. من ناحية رابعة: عدم التناسب بين حجم ونوعية العمل, والعائد المادي الذي يستخدم كمبرر للتراخي والكسل وعدم الدقة والاهمال, في ظل غياب أنظمة ومعايير موضوعية للترقي للوظائف الأعلي تعتمد علي الكفاءة والجدية والتفاني في العمل, ولاسيما في ظل غياب أنظمة للتدريب والتأهيل الوظيفي وإعادة التكوين للموظفين والعمال. أدي ذلك إلي تحول الاهمال إلي عقاب مضاد في بعض الأحيان للسلطات السياسية والادارية.. إلخ من قبل غالب العاملين, من ناحية أخري يعد الاهمال تعبيرا عن الفجوات بين السلطة السياسية والبيروقراطية وأجهزة الدولة الادارية والخدمية والأمنية. وفي هذا الصدد يبدو من ثنايا الاهمال الانفصام النفسي والاجتماعي بين القمة القيادية للهرم الاداري والوظيفي, وبين بقية مستوياته, وأبرز تجليات ذلك ترهل وعدم فاعلية قانون الدولة في حكم العلاقات القانونية والادارية, وهو ما يتجسد في انتشار قوانين الرشوة والفساد. إن العوامل السابقة شكلت بيئة إدارية واجتماعية ملائمة لنمو ثقافة الاهمال, والحرائق التي مست أماكن وقيما أثرية ومعمارية وسياسية, وساعد علي تفاقمها بعض الأسباب نرصدها تمثيلا لا حصرا فيما يلي: ـ * عدم تحديث الأجهزة الادارية من حيث أنظمة العمل ومعاييره, وضعف تقنيات مكافحة الحرائق وأجهزة الانذار المبكر التكنولوجية والرقابية في ظل تدني كفاءة وتكوين وتدريب غالبية العاملين في أجهزة المكافحة والدفاع المدني, فضلا عن غياب الرقابة الدورية علي الأجهزة والأدوات المستخدمة في المكافحة. *ضعف الوعي التاريخي والأثري لدي بعض البيروقراطية السياسية, ومن ثم لدي الأجهزة الادارية والرقابية, ومن ثم يفتقر بعضهم للحس التاريخي والأثري والمعماري في التعامل مع الأبنية والقاعات والوثائق والرموز التي تحملها المباني التاريخية وطرزها المعمارية. أدي ذلك إلي ظاهرة الجهل بالقيم المعمارية والسياسية والرمزية, ومن ثم إلي تحولها إلي مجرد أبنية قديمة لا تعني شيئا لدي بعض عوام وخاصة البيروقراطية السياسية والإداريين وبعض أعضاء مجلسي الشعب والشوري. إن عدم السرعة في التصدي للحريق وغيره من الحرائق يعود إلي ظاهرة الانفجار السكاني واختلال العلاقة بين الحيز والكثافة السكانية, ومن ثم التأثير علي حرية وسرعة حركة أجهزة الانقاذ والمكافحة. *غياب الوعي التاريخي وتخلف أنظمة التوثيق والحفظ العلمية للوثائق الرسمية وغيرها من أماكن مجهزة تقنيا, وفق أحدث الأجهزة والمعايير الفنية والعلمية حفاظا علي ذاكرة الأمة المصرية, وتاريخها. *شكلت حرائق الأوبرا, والمسافر خانة والقلعة جرحا عميقا وغائرا في الضمير الجمعي لبعض المصريين, ومع ذلك لم يؤد ذلك إلي مراجعة لأنظمة مكافحة الحرائق علي نحو جذري ومتطور بين الحين والآخر وفق أحدث الأساليب المستخدمة عالميا. ويعود ذلك إلي شيوع ذهنية الاهمال التي تعالج أعراض الأمراض الادارية والسياسية والاجتماعية, لاجذورها وأسبابها التكوينية. ولاشك أن ذلك يعود إلي ظاهرة عدم الاستقرار الوزاري, وكثرة التعديلات أحيانا في عهد الرئيس السادات, ثم الجمود الوزاري والسياسي بعدئذ منذ ثمانينيات القرن الماضي وحتي الآن. الأمر الذي أدي إلي نزوع بعض الوزراء والحكومات لتعظيم الربحية السياسية والوظيفية من العمل الوزاري أو القيادي, والميل إلي إستراتيجية المسكنات لا الحلول الجذرية, وذلك حتي لاتقع أخطاء فادحة يتم المحاسبة عليها ولاشك ان هذا الاتجاه السلوكي من الوزراء وكبار الموظفين الاداريين يعكس إحساسا بعدم الأمان والشك في إمكانية الاستمرار في مواقعهم لفترات طويلة, وإنما يحاول بعضهم تعظيم مكاسبه وذويه وبطانته في أقل فترة قبل التغيير أو الاقالة, أو تعيين آخرين في مواقعهم. لاشك أن ذلك أدي إلي شيوع استراتيجية المسكنات وتخفيف الآلام الناتجة عن أمراض البيروقراطية السياسية والادارية المختصة في أجهزة الدولة المصرية. ومن ثم نستطيع أن نقول إن حريق مجلس الشوري يستدعي الألم. لا الشماتة لدي بعض العوام والخاصة لأنه يمثل جزءا من مكونات ذاكرة الدولة الحديثة, وقيمة معمارية وأثرية تشكل جزءا من تاريخنا ورموزه. ومن ثم لابد من مواجهة جذور الحادث وتغدو محاسبة المسئولين عنه واجبة, حتي ولو كان ذلك أحد نواتج ثقافة الاهمال التي تنتشر مرضيا في خلايانا وأعصابنا الحساسة, والمسألة أخطر من مجرد حريق لأثر سياسي ومعماري وتاريخي. | |||||
حريق القاهرة: من يطفئ النار؟
حريق القاهرة: من يطفئ النار؟
الأربعاء 27 أغسطس الاتحاد الاماراتية
وحيد عبد المجيد
كثيرة هي التباينات بين الحريق الذي دمر مبنى مجلس الشورى المصري قبل أيام، وذلك الذي اشتهر باسم حريق القاهرة في 26 يناير 1952. وفضلاً عن أن الأخير لم يحدث بفعل فاعل بخلاف الأول، فالزمن الذي يفصلهما يباعد بينهما من حيث الظروف المحيطة والسياق العام لكل منهما. ومع ذلك، تظل المقارنة بينهما واجبة من حيث دلالتهما على تدهور الأداء العام والعجز عن إصلاح اختلالات تضعف هذا الأداء، وتجعل النار قابلة للاشتعال في المجتمع.
ففي الوضع الراهن، كما كان في يناير 1952، شعور متزايد بعدم الرضا في أوساط قطاعات يُعتد بها في المجتمع، على نحو يخلق توتراً واحتقاناً يصعب إخفاؤهما. لذلك فإذا كان قطاع من المصريين قد رأى في الحريق القديم نتيجة أُعتُبرت ضرورية لجمود نظام الحكم، وانغلاقه اجتماعياً، فقد نظرت فئات منهم إلى الحريق الجديد باعتباره دليلاً على ضعف أداء النظام السياسي وعجزه عن الاضطلاع بمهماته.
وفي الحالتين، اعتبرت فئات يُعتد بها في المجتمع ما حدث حرقاً لرموز سلطة انفصلت عن بسطاء الناس، رغم أن أياً من الحريقين لم يطَل مواقع ذات دلالة رمزية على سلطة الحكم أو التنفيذ، وخصوصاً تلك التي تصبح موضعاً للنقمة في حالة انتشار عدم الرضا العام مثل المراكز الأمنية، أو حتى المقار الحكومية الرسمية.
ثمة قاسم مشترك بين حريقي 1952 و2008، خصوصاً من حيث مغزى كل منهما بالنسبة للعلاقة بين السلطة وفئات واسعة من المجتمع!
ولا تخفى دلالة النظرإلى أحد مجلسي البرلمان باعتباره رمزاً لسلطة الحكم، وعدم إدراك أنه يتولى سلطة تشريعية ورقابية يفترض أنه ينوب فيها عن الشعب.
والمغزى، هنا، هو أن فئات المجتمع التي فقدت الثقة في البرلمان منذ زمن، وامتنعت عن المشاركة في انتخابه، باتت تنظر إليه ليس فقط بصفته تعبيراً غير صادق عن إرادتها، وإنما امتداد لسلطة الحكم التي تستخدمه لتمرير تشريعات يشيع الاعتقاد في أنها من أسباب تدني مستوى حياة الفئات الدنيا وجزء كبير من الفئات الوسطى.
وعندما تنتشر، عبر بعض المدونات و"اليوتيوب" و"الفيس بوك" و"اس.ام.اس" وغيرها، تعليقات ورسائل تقول: "خليها تولع من الظلم" و"الظلم له نهاية" و"ربك منتقم جبار" و"من عمايل أهاليهم النار ولعت فيهم"... ومصحوبة بصور منتقاة للحريق تدل على التشفي، فهذا مؤشر يدق جرس إنذار جديد لكنه أقوى من ذي قبل.
ولا يختلف مغزى رد الفعل المجتمعي هذا، في جوهره وبغض النظر عن حجمه، عن ذلك الذي حدث إزاء حريق يناير 1952 رغم الاختلاف البيّن في سياق وتفاصيل كل منهما. فقد اعتبرت فئات واسعة من المجتمع حريق يناير 1952 حرقاً لرموز سلطوية رغم أن كل ما أُشعلت فيه النار كان أملاكاً خاصة وليست عامة.
ولكن شدة الاحتقان الاجتماعي وقتها دفعت قطاعات في الفئات الفقيرة التي كان غضبها يتصاعد إلى الربط بين ممتلكات فردية وسلطة حكم شاع الاعتقاد في أنها تعمل في خدمة أصحاب تلك الممتلكات وغيرها من المصالح الخاصة وليست المصلحة العامة. ويمكن أن نجد، هنا، قاسماً مشتركاً بين نظرة قطاعات واسعة في المجتمع إلى نظام الحكم في يناير 1952 وأغسطس 2008. لذلك يصعب إغفال أوجه الشبه المهمة بين الحدثين الجللين، خصوصاً من حيث مغزى كل منهما بالنسبة للعلاقة بين نظام الحكم وفئات واسعة في المجتمع.
ولا يقلل الاختلاف بينهما من أهمية هذا التشابه في المغزى، وما يفترض أن يؤدي إليه إذا أحسن نظام الحكم الحالي في مصر قراءته واستوعب الرسالة المتضمنة في ردة فعل قطاع واسع من المجتمع على حريق 2008. كما أنه في هذا الاختلاف ما يدعم الاعتقاد في أن حريق 2008 يبرز مدى عمق أزمة نظام الحكم الحالي في مصر، مثلما دل حريق 1952 على حدة أزمة النظام الذي كان قائماً حينئذ.
وإذا كان حرق وسط القاهرة 1952 في عمل تخريبي دليلاً على عجز النظام عن حماية البلاد، فقد قدم اشتعال النار تلقائياً في مجلس الشورى لأكثر من 15 ساعة، دليلاً جديداً على تدهور أداء أجهزة الدولة ومرافقها العامة، فقد كانت محاولة إطفاء النار ومحاصرة ألسنة اللهب اختباراً جديداً لأحد المرافق العامة الرئيسية أخفق في اجتيازه وفشل في عبوره، فانكشف قصوره الشديد الذي ظهر أيضاً في مواقف عدة خلال السنوات الأخيرة.
وقد نتج ذلك عن إهمال تطوير وتحديث الكثير من المرافق العامة بعد ثورة 1952 التي توسعت في الإنفاق على عملية التغيير الاجتماعي لخلق قاعدة مجتمعية تستند إليها من ناحية، وعلى دور مصر الخارجي الذي ابتلع موارد كبيرة من ناحية أخرى.
وجاء ذلك على حساب المرافق العامة، التي تسلمها قادة ثورة 1952 في حالة جيدة، لكن في حدود مجتمع لا يزيد سكانه على 20 مليوناً. فكان طبيعياً أن يؤدي ازدياد السكان إلى تدهورها تباعاً، بدءاً بمرفق الاتصالات الذي أصابه الشلل مبكراً.
وفيما جرى إصلاح هذا المرفق وتطويره وتحديثه، ضمن جهود إقامة بنية أساسية ضرورية للاستثمار الخاص اعتباراً من ثمانينيات القرن الماضي، ظل معظم المرافق الأخرى خارج نطاق الاهتمام رغم سوء حالة بعضها. لكن هذا الإدراك بقي غائباً في ظل سياسة ذات بُعد واحد ركزت على الاهتمام بما هو ضروري للاستثمار الاقتصادي قبل كل شيء.
وأدت السياسة الاجتماعية ضيقة الأفق، والتي ركزت على الكم أكثر من الكيف وتوسعت في الإنفاق العام بشكل عشوائي، إلى استمرار تدهور معظم المرافق العامة ذات البعد الاجتماعي، بينما تم التركيز منذ الثمانينيات على إصلاح تلك المتعلقة بالاستثمار الاقتصادي دون غيره.
وإذا كان ضعف الاهتمام بكثير من المرافق الأساسية ذات البعد الاجتماعي، على هذا النحو، كافياً لتدهور الأداء العام، فقد اشتد هذا التدهور نتيجة انعكاس الجمود السياسي الذي شهدته مصر منذ منتصف الثمانينيات على ذلك الأداء.
ففي ظل هذا الجمود، لم يحدث تغيير في قيادة أغلب أجهزة وهيئات الدولة، مما حرمها من دماء جديدة لم يكن ثمة ما يغني عنها. لقد حدث ذلك في كثير من المواقع في مصر، خلال ربع القرن الأخير، أي في الوقت الذي كانت فيه عواقب إهمال المرافق العامة تتراكم. وتزامن ذلك، أيضاً، مع تراجع مستوى التعليم، وانحسار التفاؤل بالمستقبل وانعكاسه على المجتمع فقداناً للحماس وغياباً للروح المعنوية. وحين يحدث مثل ذلك، في أي مجتمع، لابد أن تضعف قدرة أفراده على أداء الأعمال التي يقومون بها، مهما كانت بساطتها، لأنهم لم يتلقوا تعليماً أو تدريباً معقولاً، ولا يحصلون على أجر يضمن لهم حداً أدنى من الحياة الكريمة، وهم بالتالي يفتقدون الروح التي تدفع إلى السعي لإتقان العمل.
وقد رأينا ما دل على ذلك في عملية إطفاء حريق مجلس الشورى، إذ بدا كما لو أنها تعتمد على جهود متطوعين وليسوا محترفين يؤدون عملاً يعرفونه ويفترض أنهم يجيدونه. ومن أخطر ما كشفه هذا الحريق، غياب الروح والحماس، مما حال دون الاقتحام الضروري لمواجهته من داخل المبني وليس من خارجه، في بداية العملية وليس في نهايتها. ولو كان هذا الاقتحام حدث في الوقت المناسب، لأمكنت السيطرة على النار قبل أن تمتد وتنتشر. وكان هذا أحد أهم مصادر ضعف الأداء في عملية الإطفاء، إلي جانب مصادره الأخرى، وفي مقدمتها غياب التدريب الكافي وضعف الإلمام بطابع هذا الحريق الذي لا يفيد فيه استخدام الطائرات، بخلاف الحرائق التي تحدث في أماكن مفتوحة.
لذلك كله، لا يصح فهم حريق 2008، من حيث مغزاه ودلالته على الحالة الراهنة في مصر، باعتباره مجرد حادث مؤلم وقع بسبب تماس كهربائى أو غيره. فهو جرس إنذار جديد ينبّه إلى أن في مصر اليوم من الاختلالات، ما يوجب معالجة عاجلة لإطفاء نيران كامنة في ثنايا الوضع الناجم عن العلاقة الراهنة بين الدولة والمجتمع وازدياد التوتر الاجتماعي وتدهور الأداء العام.
احتراق مبني وتاريخ.. أم احتراق نظام؟
كمال مغيث ـ المصري يوم 28/8 عن طريق البث المباشر، شهد العالم كله علي الهواء، احتراق أقدم مؤسسة نيابية عربية، مجلس شوري النواب، والذي صدر المرسوم الخديوي بإنشائه في نوفمبر سنة ١٨٦٦، قبل أن يخرج إلي الوجود أصلاً، العديد من الدول العربية والأوروبية ـ بأسمائها التي عرفت بها فيما بعد ـ، وكانت لائحة المجلس الأول تتكون من ثماني عشرة مادة تتضمن طريقة تشكيله والشروط القانونية الواجب توافرها في العضو، وحقوق الأعضاء وواجباتهم، وفترات انعقاد المجلس الذي كانت مدة دورته البرلمانية ثلاث سنوات، وكان أعضاؤه الخمسة والسبعون ينتخبون لأول مرة في البلاد من أعيان وعمد المديريات المصرية المختلفة. وقد سرت حول ذلك البرلمان الأول قصة «سخيفة مفادها أن الخديو إسماعيل، منشئ البرلمان، طلب إلي الأعضاء أن ترتب مقاعد البرلمان، بحيث يبين من منهم المعارضون له ومن المؤيدون ـ كبرلمانات أوروبا ـ فجلس جميع الأعضاء في مقاعد المؤيدين للخديو، فلما قيل لهم إن وجود معارضين أمر يطلبه الخديو، فجلس جميع الأعضاء في مقاعد المعارضين». هكذا حاول بعض المستبدين تشويه قصة أول برلمان مصري، وقد سألت عن صحة تلك القصة المرحومين الثقات، يونان لبيب رزق، ورؤوف عباس، فأكدا أنها مختلقة لا ظل لها من الحقيقة. ولعله من عبقرية الاستقبال والتمثل المصري، أن ذلك البرلمان ـ المحدود ـ الذي أنشأه الخديو إسماعيل بإرادته المنفردة في إطار سياسته جعل مصر قطعة من أوروبا، هو نفسه البرلمان الذي وقف زعيم الشعب أحمد عرابي، في مظاهرة عابدين الثانية ـ ٩ سبتمبر سنة ١٨٨١ ـ مطالبا الخديو توفيق، بأن يكون له جميع الصلاحيات التي تتمتع بها البرلمانات الأوروبية من مراقبة الميزانية، ومساءلة الوزارة، وسحب الثقة عنها إن لزم الأمر. هذه هي لمحة من تاريخ البرلمان الذي احترق، لعلها تكون قد غابت عن رؤساء التحرير، الذين راحوا يبشروننا بأن الحريق «فأل طيب»، وأنه فرصة ممتازة لإعادة تخطيط ميدان التحرير، أو عن النواب الذين راحوا يتبرعون بالأموال لبناء مجلس علي الطراز الحديث، بدلا من المجلس الذي عفا عليه الزمان وصار «دقة قديمة» أو عن رئيسه الذي أعلن تصميمه علي عقد جلساته في موعدها حتي ولو كان ذلك علي قهوة «علي بابا» القريبة، مع السحلب والشيشة. ومع كل هذا فقد رحت أسأل نفسي: لماذا لم يحزن الناس علي برلمانهم وتاريخهم بالشكل اللائق، والذي يناسب أقدم برلمانات الشرق، وقد كتب بعض الكتاب، بل بعض المشاهدين، أن الأمر لم يكن يخلو من شماتة. وأغلب الظن أن الناس لم تجد مبرراً للإيمان بأن مبني المجلس وتاريخه وتقاليده تمثل ركنا أساسيا للنظام الحاكم، ببساطة شديدة، لأن كل الشواهد تؤكد أن هذا النظام الحاكم قد احترق من زمان. احترق، لأنه لم يجد لرئاسة المجلسين النيابيين سوي شيوخ عجائز، أكلوا علي كل الموائد وخدموا كل الأنظمة، تجاوزوا الثمانين من أعمارهم وانتهي عمرهم الافتراضي منذ أمد بعيد. |
واحترق النظام عندما غرقت عبارة الموت، وترك ركابها المواطنين يصارعون الموت ووحوش البحر لساعات طويلة، ثم يخرج الصهر والشريك حاملا أمواله المنهوبة من قاعة كبار الزوار، ويشرب رجاله نخب البراءة، من قتل أكثر من ألف مواطن عبر فساد الحكم وفساد الإحالة.
ثقافة العجز
بقلم حلمي النمنم ٢٨/٨/٢٠٠٨
وقُدر للناقد الراحل د. علي الراعي أن يكون شاهد عيان علي حريق دار الأوبرا المصرية سنة ١٩٧١، ورأي يومها عموم المواطنين من العتبة والأزبكية تجمعوا وراحوا يرقبون النار بحسرة وألم وبعضهم بكي مما يحدث، واندفع البعض الآخر للمساهمة في معاونة رجال الإطفاء،
وكانت ملاحظة الناقد أن هؤلاء المواطنين لم يدخل أحدهم الأوبرا يومًا ولا شاهد عرضًا من عروضها، ولو استمرت الأوبرا فإن أحدًا منهم لم يكن يسعي أو يتطلع لدخولها والاستمتاع بما تقدمه، وفسر حزنهم علي احتراقها بأنه وعي المصري البسيط بأهمية وقيمة الثقافة الرفيعة، حتي لو لم يتح له التعرف علي تفاصيلها وتذوق إبداعاتها،
ويمكن أن نضيف إلي استنتاج أستاذنا معني آخر، وهو أن المصري يدرك بخبرته أن الحريق يعني الخراب والدمار.. لذا ففي الثقافة العامة لدي المصريين الاندفاع التلقائي لإطفاء أي حريق مشتعل.. لذا لا أميل إلي تفسير تعليقات المواطنين علي حريق مجلس الشوري بأنه نوع من الشماتة أو السعادة بالحريق.. فإذا حللنا جيدًا مضمون العبارات وما حدث ليلة الحريق لا يمكن أن نعتبرها شماتة، بل هي شيء آخر تمامًا.
حين وقع الحريق، وذكر شهود العيان أن رجال الإطفاء تباطأوا في البداية، فهمها هؤلاء الشهود علي أنها حالة من الإهمال أو التقاعس، وفسرها رجال الإطفاء بأنهم كانوا متخوفين علي المبني من المياه،
وفرض رجال الأمن كردونًا يمنع المواطنين من الاقتراب، وتعامل بعضهم مع هؤلاء المواطنين بقدر من الغلظة، حدث شيء من هذا مع الصحفيين، فما بالنا بما يمكن أن يكون وقع مع المواطنين العاديين؟
وبعد ذلك كله لم يوفق رجال الأمن في التعامل مع الحريق، وفرضوا علي الجمهور أن يكونوا متفرجين فقط، لذا فإن جانبًا من التعليقات عكس السخرية المريرة من عجز رجال الإطفاء وليس شماتة، رجال الإطفاء في هذه اللحظة هم رمز الدولة ويحب المصري أن يشعر بقوة الدولة وقت الأزمة، لا أن يراها مرتبكة وعاجزة!!
جزء آخر من التعليقات يعكس غضبًا شديدًا من الحكومة ورجالها، وهذه التعليقات كانت أقرب إلي الأمنية لو أن الحريق تم والاجتماعات مستمرة، وهذه التعليقات صدرت من شبان وشيوخ.. نساء ورجال..
فقراء وأغنياء، وهذا يعكس حالة من الرفض لسياسات الحكومة ومسلك رجالها، ولا يجب أن نفهمها بالمعني الحرفي، وهو أن يحترق رجال الحكومة، لكنها حالة من الغضب الشديد، وهو غضب تستحقه الحكومة، ذلك أنها حكومة تحمل من اللحظة الأولي خطابًا من الاستعلاء علي المواطنين،
وأحيانًا يكون خطابًا مهينًا بالمعني المباشر، كانت الحكومات السابقة تواجه أزمات ولا تحقق للمواطن أحلامه، لكن كان الخطاب المعتاد لتلك الحكومات «أن العين بصيرة والإيد قصيرة»، أي أن المواطن يعاني ونحن نعرف ذلك، ولا نتمكن من رفع المعاناة عنه، لكننا نبذل الجهد، إلي أن جاءت الحكومة الحالية لتبدأ عملية «المن» علي المواطن برغيف العيش، والسخرية من ذلك المواطن
ومطالبه من الحكومة، ولنتذكر العبارة السخيفة «الحكومة ماما وبابا وتيته و...» ثم اتجهت الحكومة إلي سياسة البيع، معلنة علي الملأ أنه لا قدسية ولا قيمة لأي شيء، حتي لو كانت قناة السويس، كله مطروح للبيع أو محتمل بيعه، ولا شيء يعود فعليا علي المواطن، وهكذا اختزن المواطن المرارة والكراهية تجاه الحكومة ومن أحاط بها أو ارتبط بها، وكان الحريق فرصة للتعبير وإبداء المشاعر بلا مواربة تجاه هؤلاء المسؤولين.
هذه التعليقات تكشف جانبًا من ثقافة العجز لدي المواطن، ثقافة اللافعل، أقصي ما يستطيعه أن يطلق بضع كلمات قاسية، وهي ثقافة ترسخت في السنوات الأخيرة بلا مبرر حقيقي، لا يخرج المواطن إلي الانتخابات ويقدم اختياره ويدافع عنه، وهو كذلك ليس مستعدًا أن يدخل في احتجاج سلمي واسع ضد سياسات الحكومة أو حتي إسقاطها..
وحينما غضب من الحكومة وشعر بالامتهان، انتظر حريقًا ساقه القدر، كي يعبر عن رأيه وغضبه علي جميع المسؤولين، ليست شماتة، ولكنها حالة العجز التي أصيب بها المواطن.. لا يحب الحكومة ولا يقبل بسياساتها، وليس مستعدًا أن يناضل سلميا ضدها لانتزاع حقوقه.. حتي لو صح أنه شعور بالشماتة، فالشماتة نفسيا هي شعور العاجز تمامًا، والضعيف إلي أقصي درجة، وافتقاد الفعل والمبادرة.
ثقافة العجز، هي التي تكشفت ليلة الحريق وما بعدها، والقضية الآن كيف نواجه تلك الثقافة ونحد منها.
كشف الحريق ثقافة العجز وحالة العجز التي عليها الجميع، وعلينا أن نعمل علي تخطي تلك الحالة.. وإلا فإن الحريق لن ينطفئ.
حريق القـاهرة الثاني ...
عمرو الشوبكي ـ المصري يوم 28/8
لا يمكن مقارنة حريق مجلس الشوري بحريق القاهرة من حيث الحجم والخسائر، ولكن يمكن مقارنتهما من حيث الدلالات والنتائج، التي جعلت المقارنة بين حريق «نهايات عهد» في ٢٦ يناير ١٩٥٢، وبين نظيره الذي جري بعد ظهر الأربعاء ٢١ أغسطس ٢٠٠٨ أمراً وارداً.
وإذا عدنا بالمشهد إلي يناير١٩٥٢، فسنجد أن حريق القاهرة الأول كان هائلاً والتهم في ساعات قلائل نحو ٧٠٠ محل وسينما وكازينو وفندق ومكتب ونادٍ في شوارع وميادين وسط المدينة.
بينها أكبر وأشهر المحال التجارية في مصر، و٣٠ مكتبًا لشركات كبري، و١١٧ مكتب أعمال وشققا سكنية، و١٣ فندقًا كبيرًا منها: شبرد ومتروبوليتان وفيكتوريا، و٤٠ دار سينما بينها ريفولي وراديو ومترو وديانا وميامي،
و٨ محال ومعارض كبري للسيارات، و١٠ متاجر للسلاح، و٧٣ مقهي ومطعمًا وصالة منها «جروبي» و«الأمريكيين»، و٩٢ حانة، و١٦ ناديا. وقد أسفرت حوادث ذلك اليوم عن مقتل ٢٦ شخصًا، وبلغ عدد المصابين بالحروق والكسور ٥٥٢ شخصًا.
وأدي حريق القاهرة الأول إلي تشريد آلاف من العاملين في المنشآت، وأجمعت المصادر الرسمية وشهود العيان علي أن الحادث كان مدبرًا، وأن المجموعات التي قامت بتنفيذه كانت علي مستوي عالٍ من التدريب والمهارة،
فقد اتضح أنهم كانوا علي معرفة جيدة بأسرع الوسائل لإشعال الحرائق، وأنهم كانوا علي درجة عالية من الدقة والسرعة في تنفيذ العمليات التي كلفوا بها، كما كانوا يحملون معهم أدوات لفتح الأبواب المغلقة ومواقد لصهر الحواجز الصلبة علي النوافذ والأبواب،
واستخدموا نحو ٣٠ سيارة لتنفيذ عملياتهم في وقت قياسي، كما أن اختيار التوقيت يعد دليلاً آخر علي مدي دقة التنظيم والتخطيط لتلك العمليات، فقد اختارت هذه العناصر بعد ظهر يوم السبت، حيث تكون المكاتب والمحال الكبري مغلقة بمناسبة عطلة نهاية الأسبوع، وتكون دور السينما مغلقة بعد الحفلة الصباحية.
هذه في الحقيقة واحدة من أهم التعليقات التي رصدت حريق القاهرة الأول، ونلحظ أنه كان مدبراً وقامت به عناصر مدربة، اختلف المؤرخون حول انتماءاتهم السياسية، وهوية من حركهم (القصر، الاحتلال البريطاني)، وأن نجاحهم في حرق كل هذه الأماكن دل علي قدرتهم التنظيمية المرتفعة وبداية نهاية النظام السياسي القائم.
ومن المؤكد أن أوزان التنظيمات السياسية والجماعات السرية كانت كبيرة مقارنة بالوضع الحالي الذي اختفت منه تقريبا هذه الجماعات، وبالتالي فإن الخطر قبل ثورة يوليو كان من جماعات وتنظيمات سياسية واجهت النظام القائم في السر والعلن، أما في العصر الحالي فإن «جماعات» الفوضي والعشوائية وسوء الأداء هي التي تهدد النظام القائم.
والحقيقة أن وصف الخسائر التي حدثت في يناير ١٩٥٢، وشكل القوي والجماعات المنظمة التي وقفت وراء حريق القاهرة، يكشف كيف أن الأخطار التي واجهت المجتمع المصري كانت من جماعات شديدة التنظيم والكفاءة، أما ما جري في حرائق القاهرة الثانية، فكان من «جماعات الفوضي العشوائية» التي هيمنت علي الدولة والمجتمع والنظام السياسي، وأظهرت «قدرتها» العالية في التعامل مع حريق مجلس الشوري،
فلم نجد جهازاً واحداً قام بالحد الأدني من واجبه أثناء الحريق أو في التعامل معه، ولا توجد جهة واحدة حوسبت علي الإهمال الجسيم الذي أدي إلي احتراق واحد من أهم وأعرق المباني التاريخية في مصر، ولولا «ستر الله» (وليس كفاءة أجهزة الإطفاء) لكان هذا الحريق انتشر في منطقة قلب القاهرة بأكملها.
والمؤكد أن مصر واجهت تحديات كبيرة قبل ثورة يوليو تتمثل في عجز النظام السياسي القائم علي تلبية احتياجات وطموحات عموم المصريين، فكان تأثير القوي والجماعات غير الشرعية أكبر بكثير من تأثير القوي الشرعية، وكان حريق القاهرة التعبير الأخير عن انفلات قوي الاحتجاج والتمرد من عقال الشرعية القانونية والدستورية إلي عقال الحرق والتخريب.
والمفارقة أن مصر بعد ٥٦ عاماً علي حريق القاهرة لم تعد فيها قوي سياسية شرعية أو غير شرعية قادرة علي تهديد النظام، وأن الخلل الأكبر جاء من داخل النظام الذي أصبح «عدو نفسه» في كثير من الأحيان، وصار ضعفه ناتجاً عن فشله الداخلي وخيبة أدائه.
لقد أدي البقاء الطويل في السلطة إلي الجمود والتكلس، والعجز عن محاسبة أي تقصير أو انحراف، وأصبح أداء الحكم العشوائي هو مصدر التهديد الرئيسي له، علي عكس ما كان عليه الحال قبل الثورة، حين كان ضعف النظام راجعاً لقوة معارضيه، أما الآن فصار بسبب ضعفه هو وليس قوة معارضيه.
فالأداء العام في السنوات الأخيرة عنوانه الفشل الكامل، فحوادث القطارات هي نتاج العشوائية والاستهانة بأهم خدمة عامة تقدم للمصريين، وحوادث الطرق تجاوزت المعدلات العالمية، ومواجهتها كانت بقانون فاشل للمرور، عكس تغلغل «جماعات الجباية» وهيمنتها علي عقل الحكم في مصر، وليس «جماعات» تطبيق القانون،
أما حوادث البحر، التي كان آخرها ضحايا العبارة وراح ضحيتها ١٠٣٥ مواطناً مصرياً بسبب تأخر فرق الإنقاذ ١٤ ساعة، فلم تحاسب الدولة جهة واحدة عن هذه الكارثة، ولا يمكن أن ينصلح حال هذا البلد، إلا إذا جاء اليوم الذي يصحو فيه ضمير بعض المصريين ليفتحوا بجرأة وشفافية ملف جريمة العبارة.
بالتأكيد لم يكن وراء كل تلك «الحرائق» أي تنظيمات أو جماعات مدربة، كتلك التي قامت بحريق القاهرة الأول، فليس هناك تنظيم وراء أزمة الخبز، أو خلط مياه الشرب بمياه الصرف الصحي، ولا في انهيار العمارات علي رؤوس أصحابها كل صباح، ولا في تقدم السودان والبحرين علينا في أوليمبياد بكين، إنما بالتأكيد هناك جماعات الفشل داخل الحكم المتكلس بفعل البقاء الطويل في السلطة، بعد أن فشلت الجماعات المنظمة في التأثير في النظام العشوائي.
من المؤكد أن طريقة تعامل الدولة مع حريق مجلس الشوري ليست منفصلة عن طريقة تعاملها مع باقي الملفات والأزمات، فالفشل كان شعارها، وأن انهيار مستوي أدائها في بلد اقترب من الـ ٨٠ مليون نسمة بات يهدد بكارثة حقيقية،
وأن حريق القاهرة الأول كانت وراءه قوي منظمة وأخري مدربة، أما حرائق القاهرة الجديدة فكان وراءها عشوائية النظام وكل «القوي» غير المدربة التي نجح الحكم، ببراعة نحسده عليها، في استقطابها لتقود مؤسسات الدولة، وتصبح هي المسؤولة عن الكوارث السابقة والقادمة.
تأملات حول الحريق: الحدث.. والدلالة
27/08/2008
أحمد بهاء الدين شعبان ـــ البديل
لبعض الأحداث دلالات تتجاوز الوقائع المادية للحدث نفسه، وتكتسي أحياناً أهمية أكبر، وتعكس أعماقاً أبعد غوراً. ومن هذه الأحداث، علي سبيل المثال حدث غرق عبارة الموت: «السلام 98» وملابساته، والنتائج المترتبة علي تداعياته، والتفسيرات التي تكمن خلفها وفي فترة أسبق فإن وقائع «حريق القاهرة»، (يوم 26 يناير 1952)، يصبح أن يوضع علي طاولة البحث لدلالاته بالغة الأهمية، ولأنه كان عنواناً لمرحلة فاصلة من تاريخ مصر، كان لها «ما قبل وما بعد»، و «ما بعد» هنا كان سقوط النظام برمته، وتقدم نظام جديد للحكم، علي أنقاض ما أصبح يطلق عليه «العهد البائد!»، أي عهد الملكية الذي دام لأسرة محمد علي، منذ ولي الحكم عام 1805، وحتي صباح 23 يوليو 1952، الذي كان إيذاناً بأفول عصر ورحيل نظام.
ولعلي لا أبالغ أو أخطئ في التقدير حين أقول إنني أقرأ دلالات حدث احتراق مجلس الشوري كواحد من أهم الأحداث التي تقف علي مستوي الأهمية مع حريق القاهرة عام 1952، إن لم يكن في مستوي أعلي، لأن الحريق هنا لا يطال محلات وكباريهات ودور سينما وما شابه، وإنما يتجاوزها إلي صلب النظام ذاته، وفي قلب «مجمع السلطة» الذي يضم مؤسسات السيادة: السلطة التشريعية والتنفيذية، وفي «سرة العاصمة» وعلي مرأي ومسمع من العالم بأسره!
وليست واقعة الحريق في حد ذاتها هي المشكلة، فكل مواقع الدنيا ومبانيها قابلة لأن تمر بهذه التجربة، المشكلة كانت في مستوي أداء جهاز الدولة، وهو يتعامل مع أحد أهم هيئات النظام ورموزه، بدءاً من رداءة نظم التأمين لقاعات تحتوي كماً كبيراً من أهم وثائق الدولة وتاريخ المجتمع (وفي الحقيقة، الأصح: انعدامها!!)، ومروراً بالفشل الذريع في محاصرة النيران، ومنعها من التهام هذه القطعة النادرة من تاريخ الوطن ومن ذاكرته، بالرغم من كل مزاعم «التطوير» و «التحديث».. وخلافه، وبدأ عجز أجهزة «الأمن المدني»، وفي مقدمتها جهاز الإطفاء ومكافحة الحرائق، فادحاً إن لم يكن فاضحاً، بالرغم من الجهد المخلص الذي بذله المنتسبون لهذا الجهاز، وتضحياتهم التي وصلت لاستشهاد بعضهم وإصابة آخرين، لكن ماذا تفعل بطولة الأفراد في مواجهة هذه النيران الضاربة، مع فقر الإمكانات، وبؤس الاستعداد، وبيروقراطية التنظيم؟!
وجوهر المأساة، أو الكارثة، في تصوري، أن «الأمن السياسي» بمفهومه السطحي، أي حماية نظام الحكم، والذي تقلص - في النهاية- إلي حماية رمز الحكم، أي رئيس الدولة، استنزف جميع جهد وإمكانات سلطة الدولة، بحيث لم يعد يتبقي إلا النزر اليسير من الطاقة والإمكانيات لحماية وجود وحياة وأمن نحو ثمانين مليون مصري، منتشرين بطول وعرض أرض المحروسة، ولم تتوقف المأساة عند هذا الحد، بل إن النظام الحاكم لجأ إلي أسوأ الخيارات في إدارة الدولة، ومن أجل إحكام السيطرة علي إيقاع الحركة منها: «الخيار الأمني»، الذي يصدر جهاز الأمن لحل كل مشكلات المجتمع والدولة ويهمش دور «السياسة» و «الكياسة» في عمليات التفاوض الاجتماعي دفاعاً عن مصالح الفئات والطبقات.. فرأينا «القبضة الأمنية» هي التي تتعامل مع الفرقاء السياسيين، حتي مع الأحزاب (الرسمية!) الصادرة بقرار من السلطة ذاتها، وهي التي تواجه كل أشكال الاحتجاج الاجتماعي والتململ الطبقي، وغضب الأقباط وأهل سيناء، واعتراضات المهنيين والفلاحين، وتدخل في صراع دام مع القوي السياسية والحركات ودوائر المثقفين والأكاديميين.. إلخ، ومن هنا فليس صدفة أن يتورم جهاز «الأمن المركزي» ليبلغ مليوناً وأربعمائة ألف فرد، كما نشر في الصحف مؤخراً، وأن تبلغ موازنة وزارة الداخلية 11 مليار جنيه (مطلوب زيادتها لمواجهة تزايد الدور وأعبائه!).
وفي المقابل كان من الطبيعي، أن تتراخي قبضة «الأمن المجتمعي» فسادت البلطجة وانتشرت الفوضي في الشارع المصري، وغاب الأمان، وتضاعفت الجرائم، وأصبح أمراً عادياً أن يستأجر (الكبار) والأغنياء (Body Guards)، «قبضايات» أو «فتوات» لتأمين الحماية الشخصية، ولعب الفساد دوراً مهماً في «تزييت» تروس آلة «التخريب الوطني»، أي ذلك الحلف الجهنمي الذي يربط بين المال والسلطة في رباط مدنس، كان له أكبر الأثر في تدمير «المناعة العامة»، وإشاعة روح الإحباط واللامبالاة في المجتمع.
ولذلك كان منطقياً أنه في كل اختبار تتعرض له السلطة أو يواجهه النظام، تنكشف عوراته، وتظهر نقائصه.. (احتراق قطار الصعيد- احتراق قصر ثقافة بني سويف- كارثة العبارة- سقوط العمارات في القاهرة والإسكندرية- حوادث الطرق.. إلخ)، وتتبدي مظاهر ترهل جهاز الدولة، وشيخوخة الحكم:الشيخوخة بمعناها المباشر والمجازي!
ولذلك فمن الواجب أن نري إلي ما حدث في «مجلس شوري النظام»، ليس باعتباره مجرد حريق عابر لمبني قديم يمكن استعواضه، وبناء أحدث منه بسرعة الصاروخ حتي يتسني له أن يشهد افتتاح الدورة القادمة للمجلس في نوفمبر القادم (!)، وإنما بكونه دلالة علي أفول عهد وغروب نظام ونهاية سلطة، إنه ليس حريقاً لمبني متهالك، وإنما احتراق لنظام حكم، يقدم لنا كل يوم تأكيداً علي أنه بلغ سن الاستيداع، ووصل إلي أوان الأفول
Tuesday, August 26, 2008
تغريد خارج السرب
تغريد خارج السرب
GMT 22:15:00 2008 إثنين 25 أغسطس
الوطن الكويتية
فهمي هويدي
لا اعرف الى اى مدى يحتل المزاج العربي دعوة لاحداث نقلة نوعية في الوجهة السياسية، تستهدف توثيق العرب مع الاتراك والايرانيين، لكني على يقين من ان ذلك يعد تغريدا خارج السرب.
(1)
في حين يحظى مسلسل «نور» التلفزيوني التركي بمتابعة غير عادية في انحاء العالم العربي، ازعم انها احدثت انقلابا في رؤية العرب لتركيا، فان المراصد السياسية باتت مشدودة الى الدور التركي الصاعد الذي يتحرك بجدية على مستويات عدة، من القمة التركية الافريقية، الى استقبال الرئيس الايراني احمدي نجاد في استنبول وقبله استقبال الرئيس السوري بشار الاسد، وزيارة اردوغان لبغداد، ودخوله على الخط بين روسيا وجورجيا، وتحركه لتطبيع العلاقات مع خصومه التاريخيين في ارمينيا واليونان، وتوسط حكومته بين سورية واسرائيل. كل ذلك خلال الاشهر القليلة الماضية.
في وقت متزامن، كانت ايران تطور علاقاتها مع روسيا باتفاق على التعاون في مجال الفضاء بعدما قطعت شوطا في تعاونها معها في بناء مفاعلها النووي في بوشهر. وتمد جسورَ مع الجزائر اثناء زيارة الرئيس بوتفليقة لطهران، وتستقبل رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي. واثارت الانتباه في هذا السياق، الزيارة التي قام بها الرئيس احمدي نجاد لاستنبول، والتي غادرها متجها الى دمشق. ثم زيارة امير قطر الشيخ حمد بن خليفة راعي اتفاق الفصائل اللبنانية في الدولة لطهران.
هذا القدر المعلن من الاتصالات دفع بعض المحللين الى الحديث عن ظهور نظام اقليمي جديد في المنطقة، تلعب فيه ايران وتركيا الدور الاساسي، كما دفعتهم الى مقارنة هذه التحركات بالسكون المخيم على العالم العربي، واستغراقه اما في الخلافات بين دوله او في مشاكلها الداخلية، التي استصحبت حالة من الانكفاء القطري اذهلت العواصم على ما يجري في الساحتين الاقليمية والدولية.
(2)
ما هو جديد في هذه التحركات انها تتم بين دول لها مشاكلها ومراراتها فيما بينها، لكنها انطلقت من رؤية استراتيجية تجاوزت بها عقد الحاضر فضلا عن اوزارالتاريخ. ان شئت فقل ان هذه الدول طوت صفحة التاريخ واستعلت فوق المشاكل الادنى لكي تحقق المصالح العليا.
فتركيا وايران على طرف نقيض على صعيد التحالفات السياسية. فالاولى لها ارتباطاتها مع الولايات المتحدة واسرائيل، وهما الخصمان اللدودان لايرانـ وممثلو النظام الاسلامي في طهران يرفضون في زياراتهم الرسمية زيارة قبر اتاتورك مؤسس الجمهورية العلمانية في تركيا كما يقضي البروتوكول. ولذلك فان زيارة احمدي نجاد ولقاءاته تمت في استنبول وكان الاتراك هم الذين رتبوا العملية، ولم يعتبروا ذلك اهانة لمؤسسة الجمهورية، لان هناك مصالح اكبر من البروتوكول. وفي الذاكرة التركية ان ايران اقامت علاقة مع حزب العمال الكردستاني في التسعينيات للضغط على انقرة. كما ان الصراع المرير بين الدولتين الصفوية والعثمانية لا يزال له مكانة في ذاكرة الاتراك، وفي الوقت ذاته فان انقرة قلقة من التمدد الايراني في العراق، وتعتبره اخلالا بالتوازن المفترض بين قوى الجناح الشرقي للمنطقة.
وتركيا التي تتمتع الان بعلاقات ممتازة مع سورية حتى تجاوز حجم التبادل التجاري بين البلدين 900 مليون دولار سنة 2007 ـ وهو يزيد على اربعة اضعاف التبادل التجاري بين تركيا ومصر (200 مليون) ـ كانت على وشك الدخول في حرب مع سورية وهددت بغزو دمشق عام 1998، بسبب دعمها لحزب العمال الكردستاني وايواء زعيمه عبد الله اوجلان. وبين البلدين تاريخ مسكون بالعداء والتوتر، منذ عام 1939، عشية الحرب العالمية الثانية حين اقتطعت فرنسا لواء الاسكندرون من سورية ومنحته لتركيا. وبعد ذلك حين اقامت تركيا مجموعة من السدود التي اثرت على حصة سورية من المياه. ذلك غير اعتراف طهران باسرائيل في وقت مبكر (عام 1948) الامر الذي صنفها ضمن المعسكر المعادي لسورية. وهو ما تغير الان 180 درجة، بحيث اصبحت انقرة وسيطا في المحادثات بين سورية واسرائيل.
(3)
ليست هذه معلومات مما نطالعه في الصحف ونحن نتثاءب، ثم نتحول عنها لنتسلى باخبار العالم الاخر. لان هذه التحركات تتم في شمال العالم العربي وشرقه، وبالتالي فانها تدخل بامتياز في اطار منظومة الامن العربي التي اصبح وجودها محل تساؤل وشك، في ظل غياب الرؤية الاستراتيجية لمصالح المنطقة، على النحو الذي سبقت الاشارة اليه. وللاسف فان ذلك الغياب سمح باطلاق العنان لاسرائيل لكي تتمدد وتعبث في جنوب العالم العربي ما بين وادي النيل والبحر الاحمر.
ان تركيا وايران مع العالم العربي (مصر بوجه اخص) يشكلون «مثلث القوة» في منطقة الشرق الاوسط، الذي تحدث عنه الدكتور جمال حمدان، عالم الجغرافيا السياسية المرموق، في كتابه «استراتيجية الاستعمار والتحرير». ولان الامر كذلك فاننا نخطئ كثيرا حين نعتبر تركيا وايران مجرد «جيران» فرضتهما ظروف الجغرافيا، وتشاركنا معهما في التاريخ زمنا، ثم ذهب كل الى حال سبيله بعد ذلك، ذلك ان الدولة العباسية التي ورثت الخلافة الاموية قامت على اكتاف العناصر الفارسية، وفي زمانها تأسست اعظم المراكز الحضارية الاسلامية على قاعدة التفاعل بين الفرس والعرب، وبعد اقل من قرنين اصبحت العناصر التركية تلعب دورا بارزا في تاريخ المنطقة خصوصا تحت مظلة الدولة العثمانية. ولكن دار الاسلام المشرقية انقسمت منذ القرن السادس عشر بين الصفويين في ايران والعثمانيين في تركيا. وقدر لذلك الفصام النكد ان يمهد لتجزئة المشرق الى اقطار شتى في اعقاب الحرب العالمية الاولى، حين اتفق المنتصرون في الحرب على تمزيق المنطقة وتقطيع اوصالها في ظل اتفاقية سايكس ـبيكو (عام 1916).
لم يبق من ذلك التاريخ الذي تراجع في الواقع وحفظته الكتب، سوى رابطة العقيدة، وبعض آثار التداخل بين الشعوب التي تمثلت في انتشار الحرف العربي في ايران وتركيا (كمال اتاتورك استبدله بالحروف اللاتينية في العشرينيات) وفي تسرب الكلمات العربية الى اللغات المحلية باعتبارها مفردات لغة القرآن، حتى اصبحت تمثل %40 على الاقل من مفردات اللغتين الفارسية والتركية. كما انتشرت الكلمات الفارسية والتركية في المجتمعات العربية التي عرفت الكباب والكفتة والمسقعة والكشك والكحك والبقلاوة والخشاف والشوربة والطرشي والبقسمات والسميط، وهي كلمات فارسية وتركية. وتداولت ألسنة الناس كلمات فارسية اخرى مثل البيجامة والدوبارة والفوطة والبراوز والجنزير والدبوس والدورق والشمعدان والكاسة والشاكوش والكباية والكنكة والكوز والدرابزين.. ولا تزال كثير من الاسماء الشائعة ورتب العساكر محتفظة باصولها التركية مثل نشأت وعصمت وو دولت وعفت وعزت، ومثل اومباشي وشاويش ويوزباشي وبكباشي وكراكون و ياور وباشا. كما اننا ما زلنا نتداول في بيوتنا كلمات تركية مثل الاودة والسفرة والبطانية والشنطة والشراب والجزمةـ ونينة وابيه وابلة (الاخ والاخت الكبيران). ولاساتذة اللغات الشرقية المصريين جهد طيب في هذا المجال استفدت منه، خصوصا ابحاث الدكتور حسين مجيب المصري والدكتور محمد نور الدين عبد المنعم والدكتورة ماجدة مخلوف.
هذه البصمات الباهتة للتاريخ لا تكاد تقارن بالحضور القوي لحقائق الجغرافيا، التي لم تتغير بفعل الزمن، وانما اصبحت اكثر رسوخا واهمية.
(4)
لا يزال العرب والايرانيون والاتراك يمثلون كتلة جغرافية متماسكة، تقع في خاصرة العالم وتمثل شريحة افقية تمتد من المغرب في اقصى الغرب حتى مشهد في ايران شرقا. ومن تركيا في الشمال وحتى اليمن في الجنوب. وهي في موقعها المتمدد في افريقيا وآسيا وجزء من اوروبا، تسيطر على اخطر الممرات البحرية في العالم، مضائق هرمز وباب المندب والبسفور والدردانيل وقناة السويس. كما انها تملك اكبر احتياطي عالمي في النفط، الى جانب احتياطات هائلة من الغاز تكاد تحتل المرتبة الاولى في العالم. وتمر عبرها شبكة انابيب النفط والغاز الذي يغذي العالم الصناعي بأسره. ولا يزال القاسم المشترك الاعظم بين شعوب المنطقة انها في اغلبيتها الساحقة يشدها رابط العقيدة الاسلامية.
هذه الخلفية التي توفر فرصة ممتازة لاقامة كتلة بشرية حية تغني حاضر الامة ومستقبلها لا تبدو حاضرة في الاستراتيجية العربية، وفي غياب تلك الاستراتيجية فقد العالم العربي «بوصلته» الهادية. ولم يكن مفاجئا بعد ذلك ان يضل طريقه وتتخبط مسيرته، فيتمزق صفه تارة ولا يعرف حلفاءه من اعدائه تارة اخرى، وان يستدرج للانخراط في مخططات الاخرين واستراتيجياتهم في حين ثالثة، الامر الذي فرض على الواقع العربي مجموعة من المفارقات بينها ما يلي:
ان العلاقات الامريكية العربية اصبحت اوثق وامتن من العلاقات العربية العربية.
ان الولايات المتحدة اصبحت لها كلمة في خرائط المنطقة، وفرت لها فرصة تقسيمها الى معتدلين ومتطرفين، بل وفرت لها جرأة التدخل في صياغة اوضاعها الاقتصادية والثقافية، اضافة الى سياساتها الخارجية.
ان بعض الدول العربية تصالحت مع اسرائيل في حين خاصمت دولا عربية اخرى، كما خاصمت ايران.
ان البعض اصبح يرى ان ايران هي العدو الاول للعرب وليس اسرائيل.
ان اسرائيل اصبحت لاعبا مهما في تركيا وايران (قبل الثورة) في حين ظل العالم العربي غائبا عن البلدين الجارين.
ان اسرائيل اصبحت تمثل في بعض الاجتماعات الامنية المهمة التي تعقدها دول ما سمي بمعسكر الاعتدال العربي، في حين استهجن بعض العرب حضور ايران اجتماع مجلس التعاون الخليجي، واستنكر آخرون طلب تركيا الانضمام كمراقب الى الجامعة العربية.
ان بعض المثقفين المنتسبين الى التفكير الاستراتيجي اسقطوا تركيا وايران من دوائر الانتماء الثقافي والحضاري، وتحدثوا عن اضافة الدائرة الامريكية كمجال لحركة مصر والعالم العربي.
كيف يستعيد مثلث القوة عافيته؟ نحاول الاجابة على السؤال في الاسبوع القادم باذن الل