Monday, June 11, 2007

إذ صــار الجـرح أكــبر مـن الجريــح

إذ صــار الجـرح أكــبر مـن الجريــح
بقلم‏:‏ فهمـي هـويـــدي ثلاثــــاء 12/6 الأهرام
حينما تمر أربعين عاما علي النكسة‏,‏ يحق لنا أن نتساءل عن مواقع أقدامنا الآن‏,‏ ذلك أن النكسة في حينها كانت وصفا لهزيمة الجيش والنظام‏,‏ إلا أن الهزيمة حين تتجاوز تلك الحدود‏,‏ بحيث تضرب ركائز الأمة وتؤدي إلي تفكيك عراها‏,‏ فإنها تستحق وصفا آخر‏.‏(1)‏قبل عدة أسابيع‏(‏ في‏4/3)‏ كتبت مقالة نشرت تحت عنوان عقدنا الذي انفرط‏,‏ تحدثت فيها عن الشرخ الذي أصاب العلاقات الإسلامية ـ المسيحية‏,‏ في أثناء الجدل الذي ثار خلال مناقشات التعديلات الدستورية‏,‏ خصوصا ما تعلق بالمادة الثانية المتعلقة بمرجعية مبادئ الشريعة الإسلامية في النظام السياسي المصري‏,‏ وهي المقالة التي تعددت الردود عليها سواء في الأهرام أو في الصحف الأخري‏,‏ لكنني لم أجد فيها ما أقنعني بأن الشرخ غير موجود‏,‏ وهو الانطباع الذي لايزال مستمرا عندي للأسف‏,‏ بل إنني أزعم الآن أن الشرخ قد اتسع‏,‏ وأن التوتر الذي تحدثت عنه في بداية شهر ابريل الماضي لا تزداد مؤشراته فحسب‏,‏ وانما أيضا تتعقد ظروفه‏,‏ حتي قلت في إحدي الندوات التي أثير فيها موضوع حقوق الأقباط إننا تراجعنا كثيرا الي الوراء في التعامل مع ذلك الملف‏,‏ لأن الكلام عن الحقوق يصبح واردا اذا كان هناك توافق علي ضرورة العيش المشترك‏,‏ حيث لا محل للبحث في حقوق وواجبات الشركاء في أي مشروع قبل الاتفاق علي إقامة المشاركة أولا‏,‏ وفي الوضع الراهن في مصر فإن الرغبة في العيش المشترك باتت محل تحفظ من جانب البعض لأسباب يطول شرحها‏,‏ لذلك فمن الأهمية بمكان أن يتم التوافق أولا علي تلك الرغبة‏,‏ مع ما تستصحبه من ثقة واحترام متبادل يقدر لكل طرف حجمه وقدره ويحفظ له مكانته‏,‏ وبعد ذلك يصبح الكلام عن الواجبات والحقوق واردا‏.‏ليس ذلك موضوعي علي أي حال‏,‏ لكني أوردت النموذج‏,‏ لا لكي ألفت النظر فحسب إلي أن قضية الوحدة الوطنية في مصر تراجعت أشواطا إلي الوراء‏,‏ ولكن لكي أنبه إلي أن الانفراط الذي زعمته قبل أسابيع أوسع بكثير من مسألة العلاقات الإسلامية ـ المسيحية‏,‏ وأن التراجع شمل عناوين أخري بنفس الدرجة من الأهمية‏,‏ حيث تعددت الشروخ وبلغ التفكيك مداه‏,‏ حتي لم يعد في مصر إجماع وطني علي أغلب القضايا الرئيسية‏,‏ الأمر الذي حول البلد الواحد إلي مجموعة من الجزر المتنافر‏.‏‏(2)‏خذ مثلا ذلك الجدل البيزنطي حول انتماء مصر العربي‏,‏ وهل هو مجرد انتماء ثقافي أم أنه عرقي وعنصري في الأساس‏,‏ وهل القومية العربية المعبرة عن ذلك الانتماء شيء أصيل في مصر‏,‏ أم أنها بدعة وخرافة جري تلفيقها وإطلاقها في المرحلة الناصرية‏,‏ لتحقيق طموحات بذاتها أضرت بأكثر مما نفعت‏,‏ فلا صار العرب موحدين ولا بقيت مصر علي مصريتها الخالصة‏,‏ وبرغم أن المرجعية الإسلامية تقيس الانتماء العربي بمعيار اللغة وليس العنصر‏,‏ وتعتبر كل من تمكن من الفصحي عربيا أصيلا‏(‏ ثمة حديث نبوي بهذا المعني‏)‏ أستغرب فتح ذلك الملف الآن‏,‏ في حين تسعي قوي عدة لطمس هوية المنطقة وتقليص المحيط العربي فيها‏(‏ الدستور العراقي الجديد نموذج لذلك‏,‏ إذ نص علي أن الشعب العربي في العراق ـ وليس كل العراق ـ جزء من الأمة العربية‏),‏ كما أن أفكارا عدة تطرح لإعادة تشكيل المنطقة التي يراد لها أن تنسي كونها عالما عربيا أو أمة عربية‏,‏ لتنخرط في إطار جديد يستوعب إسرائيل‏,‏ ويسمي بالشرق الأوسط الجديد أو الكبير‏.‏لا أستطيع أن أشكك في نيات كل الذين أعادوا فتح ملف عروبة مصر في الظروف الراهنة‏,‏ لكنني لست واثقا من جدوي ذلك الحوار وفائدته‏,‏ كما أنني لا أستطيع أن أعزله عن أجواء الاستقالة من العروبة أو إضعاف وشائجها‏,‏ التي هبت رياحها علي المنطقة عقب الحقبة الناصرية‏,‏ إما لمحو آثارها أو لتصفية الحساب معها‏,‏ لكنني في الوقت ذاته لا أستطيع أن أحسن الظن بكل الذين روجوا لتلك الاستقالة‏,‏ سواء من خلال تصفية فكرة القومية العربية والدعوة إلي الكفر بها‏,‏ أو من خلال رفع شعار بلدنا أولا‏,‏ ولا شأن لنا بأعباء الهم العربي‏,‏ وأذهب في ذلك إلي أن الترجمة العملية لتسويق هذه الأفكار تتمثل في إضعاف كل دولة عربية علي حدة‏,‏ وتسليم الفلسطينيين للإسرائيليين بالكامل‏,‏ وتشجيع إسرائيل علي اجتياح العالم العربي وتركيعه‏,‏ وإخضاع المنطقة كلها للهيمنة الأمريكية‏.‏هذه الاستقالة من العروبة المثيرة للجدل في مصر ـ التي لها صداها في أقطار عربية أخري ـ ليست كابوسا مؤرقا يلوح في الأفق‏,‏ ولكن لها شواهدها القائمة علي أرض الواقع منذ عقدين من الزمان علي الأقل‏,‏ بالتالي فليس فيها جديد‏,‏ باستثناء أن البعض يسعي في الوقت الراهن لتأصيلها وإضفاء الشرعية عليها‏.‏سأضرب مثلا لتلك الاستقالة بعيدا عن السياسة والاقتصاد وينصب علي مسألة اللغة‏,‏ التي أصبحت تجسد الكارثة العربية‏,‏ مسجلة في ذلك تدهورا وانحطاطا غير مسبوقين في تاريخ الأمة‏,‏ بل مسجلة درجة مخجلة من الشعور بالعار إزاء استخدام ليس فقط العربية الفصحي‏,‏ وإنما أيضا العامية الراقية التي تعد ابنة شرعية للفصحي‏,‏ حتي أصبحت مشكلتنا الآن ليس فقط أن ننقذ الفصحي من الغارة الخبيثة التي تشن عليها‏,‏ وإنما أن ننقذ العامية من السوقية والابتذال‏,‏ ومن أسف أن تلك العامية المبتذلة أصبحت لغة معتمدة في مختلف وسائل الإعلام‏,‏ بل صارت مع الانجليزية‏,‏ لغة إحدي القنوات التليفزيونية الجديدة في مصر‏,‏ ويزيد الأمر غرابة أن تستخدم العامية في اعلانات المؤسسات الحكومية‏,‏ التي لجأ بعضها إلي نشر إعلانات بالانجليزية في صحف عربية تخاطب المواطن العربي‏,‏ ولا يقف الأمر عند ذلك الحد‏,‏ وإنما وصلت عدوي الوباء إلي المجتمع المصري‏,‏ الذي أصبح يشارك في هجران العربية وازدرائها‏,‏ حتي أصبحت أمنية كل أب أن يلحق أبناءه بأي مدرسة تدرس الانجليزية أو الفرنسية‏,‏ أو أي لغةغير العربية‏.‏‏(3)‏لم يكن الإسلام أفضل حظا من العروبة‏,‏ إذ لاحقته بدوره دعوات الإلغاء والإضعاف‏,‏ وبرغم أن هذه الدعوات ليست جديدة‏,‏ وإنما هي إحدي ساحات المواجهة والصراع بين التيارين الإسلامي والعلماني‏,‏ فإن أجواء الحديث عن التعديلات الدستورية التي شهدتها مصر في مستهل هذا العام وفرت ظرفا مواتيا لتجديد الدعوة‏,‏ بجرأة غير مسبوقة‏,‏ دفعت نفرا من المثقفين والمتعصبين إلي المطالبة بإلغاء كل مرجعية للإسلام أو وجود له في الدستور المصري‏,‏ فضلا عن الحياة العامة بطبيعة الحال‏,‏ من ثم فإن ما كان يقال بحذر من جانب البعض‏,‏ وفي المنتديات والمجالس الخاصة من جانب آخرين‏,‏ أصبح يتردد في العلن‏,‏ ويصاغ في بيانات تنشرها الصحف وتجمع عليها توقيعات المثقفين‏,‏ بل وتعقد لأجلها حوارات تليفزيونية تنفر المشاهدين من الانتماء الإسلامي‏,‏ وتحرض المجتمع علي كل من يرفع صوته معبرا عن ذلك الانتماء‏,‏ كل ذلك بدعوي مكافحة التطرف والإرهاب وقطع الطريق علي إقامة الدولة الدينية واحترام حقوق غير المسلمين‏,‏ وقد حاولت في عدة كتابات نشرت حينذاك أن أنبه إلي مخاطر ذلك المنزلق‏,‏ الذي يحاول إقناع الرأي العام بأن الإسلام هو المشكلة‏.‏خطورة هذه الرؤية تتمثل في ثلاثة أمور‏,‏ أولها أنها تحدث شرخا عميقا في المجتمع المصري المتدين بطبيعته‏,‏ وثانيها أنها تشكل أرضية مواتية لأصحاب الفكر المتطرف الذين يستخدمون أطروحاتها لإقناع الشباب برفض المجتمع والانقلاب عليه‏,‏ بحجة أنه ضد الدين‏.‏أما الأمر الثالث فهو أن إضعاف التدين يسهل من مهمة رياح التغريب العاتية التي تتطلع إلي اقتلاع كل ثوابت الأمة‏,‏ التي تحفظ لها كيانها واستقلالها واستمرارها‏.‏‏(4)‏تطول القائمة اذا ما حاولت أن أحصي العناوين الخلافية الأخري‏,‏ التي غاب عنها الإجماع الوطني‏,‏ وتدلل علي المدي الذي بلغه انفراط العقد‏,‏ واذا جاز لي أن أضرب أمثلة لتلك العناوين فإنني أذكر منها ما يلي‏:‏في الشأن الداخلي‏,‏ نحن مختلفون حول استحقاقات الأمن القومي المصري وحول خطوات الإصلاح السياسي‏,‏ وحول مشاركة التيار الإسلامي في الحياة السياسية‏,‏ وحول بيع القطاع العام وبيع أراضي مصر للأجانب‏,‏ وحول خصخصة الخدمات ومجانية التعليم‏,‏ وحول الانحياز للمستثمرين والأغنياء علي حساب الفقراء‏.‏في الشأن الخارجي‏,‏ نحن مختلفون حول الموقف من القضية الفلسطينية‏,‏ وإقامة السلام المجاني مع إسرائيل‏,‏ وحول التحالف مع الولايات المتحدة‏,‏ وحول الموقف من الاحتلال الأمريكي للعراق‏,‏ والصمت المصري علي ما يجري في السودان‏,‏ والضغوط الشرسة التي تمارس ضده مما يؤثر في الأمن القومي المصري‏,‏ كما أننا مختلفون حول القطيعة المصرية غير المبررة لإيران التي تجاوزت‏25‏ عاما‏,‏ وأضعفت من موقف الطرفين في مواجهة التحديات المشتركة بينهما‏.‏أختم بتلخيص تقرير موجع يسجل اتساع رقعة الانفراط تلقيته من رام الله‏,‏ قبل أيام قليلة‏,‏ يصور المدي الذي وصلت إليه علاقات بعض الأنظمة مع إسرائيل بعد‏40‏ عاما من النكسة‏,‏ وفيه إشارة إلي حديث مع وزير الدفاع عمير بيريتس بثته القناة العاشرة للتليفزيون الإسرائيلي‏,‏ ذكر فيه أنه حين يلتقي مسئولين عربا يشعر بالدهشة من حجم امتعاضهم من وجود حركة حماس في الحكم‏,‏ هذا المعني رددته وزيرة الخارجية تسيبي ليفني في تصريحات نقلتها الإذاعة العبرية في‏(5/18)‏ قالت فيها إن جميع الرسائل التي تتلقاها إسرائيل من الحكومات العربية تؤكد أن الزعماء العرب معنيون أكثر من إسرائيل بغياب حركة حماس بأسرع ما يمكن عن دائرة الفعل السياسي الفلسطيني‏,‏ وأضافت ما نصه‏:‏ كلهم يعيبون علينا وعلي الإدارة الأمريكية السماح بمشاركة حماس في الانتخابات الأخيرة‏,‏ ويتساءلون لماذا نكون نحن أكثر مرونة في التعامل مع الحركات الإسلامية من الأنظمة العربية التي تفعل المستحيل لمنعها من المشاركة في العملية السياسية‏,‏ في هذا السياق أشاد شمعون بيريز القائم بأعمال رئيس الحكومة‏,‏ في مقابلة مع إذاعة الجيش الإسرائيلي‏,‏ بالدور العربي الرسمي في الحفاظ علي حصار الفلسطينيين‏,‏ وأضاف‏:‏ الأنظمة العربية مثلنا معنية بعدم نجاح تجربة حماس في الحكم‏.‏الطريف أن معلقا إسرائيليا بارزا‏,‏ هو عنان كريستال‏,‏ شدد علي أن إسرائيل معنية بإسقاط حكومة حماس دون أن تبدي أي مرونة في موقفها السياسي‏,‏ وقال‏:‏ لو قام العرب وأبومازن بتقديم رءوس حركة حماس علي طبق من فضة لإسرائيل‏,‏ فإن أولمرت لن يقدم علي أي خطوة في مجال تسوية القضية الفلسطينية‏.‏ لقد أصبح الجرح أكبر من الجريح‏!‏

No comments: