إذ صــار الجـرح أكــبر مـن الجريــح
بقلم: فهمـي هـويـــدي ثلاثــــاء 12/6 الأهرام
حينما تمر أربعين عاما علي النكسة, يحق لنا أن نتساءل عن مواقع أقدامنا الآن, ذلك أن النكسة في حينها كانت وصفا لهزيمة الجيش والنظام, إلا أن الهزيمة حين تتجاوز تلك الحدود, بحيث تضرب ركائز الأمة وتؤدي إلي تفكيك عراها, فإنها تستحق وصفا آخر.(1)قبل عدة أسابيع( في4/3) كتبت مقالة نشرت تحت عنوان عقدنا الذي انفرط, تحدثت فيها عن الشرخ الذي أصاب العلاقات الإسلامية ـ المسيحية, في أثناء الجدل الذي ثار خلال مناقشات التعديلات الدستورية, خصوصا ما تعلق بالمادة الثانية المتعلقة بمرجعية مبادئ الشريعة الإسلامية في النظام السياسي المصري, وهي المقالة التي تعددت الردود عليها سواء في الأهرام أو في الصحف الأخري, لكنني لم أجد فيها ما أقنعني بأن الشرخ غير موجود, وهو الانطباع الذي لايزال مستمرا عندي للأسف, بل إنني أزعم الآن أن الشرخ قد اتسع, وأن التوتر الذي تحدثت عنه في بداية شهر ابريل الماضي لا تزداد مؤشراته فحسب, وانما أيضا تتعقد ظروفه, حتي قلت في إحدي الندوات التي أثير فيها موضوع حقوق الأقباط إننا تراجعنا كثيرا الي الوراء في التعامل مع ذلك الملف, لأن الكلام عن الحقوق يصبح واردا اذا كان هناك توافق علي ضرورة العيش المشترك, حيث لا محل للبحث في حقوق وواجبات الشركاء في أي مشروع قبل الاتفاق علي إقامة المشاركة أولا, وفي الوضع الراهن في مصر فإن الرغبة في العيش المشترك باتت محل تحفظ من جانب البعض لأسباب يطول شرحها, لذلك فمن الأهمية بمكان أن يتم التوافق أولا علي تلك الرغبة, مع ما تستصحبه من ثقة واحترام متبادل يقدر لكل طرف حجمه وقدره ويحفظ له مكانته, وبعد ذلك يصبح الكلام عن الواجبات والحقوق واردا.ليس ذلك موضوعي علي أي حال, لكني أوردت النموذج, لا لكي ألفت النظر فحسب إلي أن قضية الوحدة الوطنية في مصر تراجعت أشواطا إلي الوراء, ولكن لكي أنبه إلي أن الانفراط الذي زعمته قبل أسابيع أوسع بكثير من مسألة العلاقات الإسلامية ـ المسيحية, وأن التراجع شمل عناوين أخري بنفس الدرجة من الأهمية, حيث تعددت الشروخ وبلغ التفكيك مداه, حتي لم يعد في مصر إجماع وطني علي أغلب القضايا الرئيسية, الأمر الذي حول البلد الواحد إلي مجموعة من الجزر المتنافر.(2)خذ مثلا ذلك الجدل البيزنطي حول انتماء مصر العربي, وهل هو مجرد انتماء ثقافي أم أنه عرقي وعنصري في الأساس, وهل القومية العربية المعبرة عن ذلك الانتماء شيء أصيل في مصر, أم أنها بدعة وخرافة جري تلفيقها وإطلاقها في المرحلة الناصرية, لتحقيق طموحات بذاتها أضرت بأكثر مما نفعت, فلا صار العرب موحدين ولا بقيت مصر علي مصريتها الخالصة, وبرغم أن المرجعية الإسلامية تقيس الانتماء العربي بمعيار اللغة وليس العنصر, وتعتبر كل من تمكن من الفصحي عربيا أصيلا( ثمة حديث نبوي بهذا المعني) أستغرب فتح ذلك الملف الآن, في حين تسعي قوي عدة لطمس هوية المنطقة وتقليص المحيط العربي فيها( الدستور العراقي الجديد نموذج لذلك, إذ نص علي أن الشعب العربي في العراق ـ وليس كل العراق ـ جزء من الأمة العربية), كما أن أفكارا عدة تطرح لإعادة تشكيل المنطقة التي يراد لها أن تنسي كونها عالما عربيا أو أمة عربية, لتنخرط في إطار جديد يستوعب إسرائيل, ويسمي بالشرق الأوسط الجديد أو الكبير.لا أستطيع أن أشكك في نيات كل الذين أعادوا فتح ملف عروبة مصر في الظروف الراهنة, لكنني لست واثقا من جدوي ذلك الحوار وفائدته, كما أنني لا أستطيع أن أعزله عن أجواء الاستقالة من العروبة أو إضعاف وشائجها, التي هبت رياحها علي المنطقة عقب الحقبة الناصرية, إما لمحو آثارها أو لتصفية الحساب معها, لكنني في الوقت ذاته لا أستطيع أن أحسن الظن بكل الذين روجوا لتلك الاستقالة, سواء من خلال تصفية فكرة القومية العربية والدعوة إلي الكفر بها, أو من خلال رفع شعار بلدنا أولا, ولا شأن لنا بأعباء الهم العربي, وأذهب في ذلك إلي أن الترجمة العملية لتسويق هذه الأفكار تتمثل في إضعاف كل دولة عربية علي حدة, وتسليم الفلسطينيين للإسرائيليين بالكامل, وتشجيع إسرائيل علي اجتياح العالم العربي وتركيعه, وإخضاع المنطقة كلها للهيمنة الأمريكية.هذه الاستقالة من العروبة المثيرة للجدل في مصر ـ التي لها صداها في أقطار عربية أخري ـ ليست كابوسا مؤرقا يلوح في الأفق, ولكن لها شواهدها القائمة علي أرض الواقع منذ عقدين من الزمان علي الأقل, بالتالي فليس فيها جديد, باستثناء أن البعض يسعي في الوقت الراهن لتأصيلها وإضفاء الشرعية عليها.سأضرب مثلا لتلك الاستقالة بعيدا عن السياسة والاقتصاد وينصب علي مسألة اللغة, التي أصبحت تجسد الكارثة العربية, مسجلة في ذلك تدهورا وانحطاطا غير مسبوقين في تاريخ الأمة, بل مسجلة درجة مخجلة من الشعور بالعار إزاء استخدام ليس فقط العربية الفصحي, وإنما أيضا العامية الراقية التي تعد ابنة شرعية للفصحي, حتي أصبحت مشكلتنا الآن ليس فقط أن ننقذ الفصحي من الغارة الخبيثة التي تشن عليها, وإنما أن ننقذ العامية من السوقية والابتذال, ومن أسف أن تلك العامية المبتذلة أصبحت لغة معتمدة في مختلف وسائل الإعلام, بل صارت مع الانجليزية, لغة إحدي القنوات التليفزيونية الجديدة في مصر, ويزيد الأمر غرابة أن تستخدم العامية في اعلانات المؤسسات الحكومية, التي لجأ بعضها إلي نشر إعلانات بالانجليزية في صحف عربية تخاطب المواطن العربي, ولا يقف الأمر عند ذلك الحد, وإنما وصلت عدوي الوباء إلي المجتمع المصري, الذي أصبح يشارك في هجران العربية وازدرائها, حتي أصبحت أمنية كل أب أن يلحق أبناءه بأي مدرسة تدرس الانجليزية أو الفرنسية, أو أي لغةغير العربية.(3)لم يكن الإسلام أفضل حظا من العروبة, إذ لاحقته بدوره دعوات الإلغاء والإضعاف, وبرغم أن هذه الدعوات ليست جديدة, وإنما هي إحدي ساحات المواجهة والصراع بين التيارين الإسلامي والعلماني, فإن أجواء الحديث عن التعديلات الدستورية التي شهدتها مصر في مستهل هذا العام وفرت ظرفا مواتيا لتجديد الدعوة, بجرأة غير مسبوقة, دفعت نفرا من المثقفين والمتعصبين إلي المطالبة بإلغاء كل مرجعية للإسلام أو وجود له في الدستور المصري, فضلا عن الحياة العامة بطبيعة الحال, من ثم فإن ما كان يقال بحذر من جانب البعض, وفي المنتديات والمجالس الخاصة من جانب آخرين, أصبح يتردد في العلن, ويصاغ في بيانات تنشرها الصحف وتجمع عليها توقيعات المثقفين, بل وتعقد لأجلها حوارات تليفزيونية تنفر المشاهدين من الانتماء الإسلامي, وتحرض المجتمع علي كل من يرفع صوته معبرا عن ذلك الانتماء, كل ذلك بدعوي مكافحة التطرف والإرهاب وقطع الطريق علي إقامة الدولة الدينية واحترام حقوق غير المسلمين, وقد حاولت في عدة كتابات نشرت حينذاك أن أنبه إلي مخاطر ذلك المنزلق, الذي يحاول إقناع الرأي العام بأن الإسلام هو المشكلة.خطورة هذه الرؤية تتمثل في ثلاثة أمور, أولها أنها تحدث شرخا عميقا في المجتمع المصري المتدين بطبيعته, وثانيها أنها تشكل أرضية مواتية لأصحاب الفكر المتطرف الذين يستخدمون أطروحاتها لإقناع الشباب برفض المجتمع والانقلاب عليه, بحجة أنه ضد الدين.أما الأمر الثالث فهو أن إضعاف التدين يسهل من مهمة رياح التغريب العاتية التي تتطلع إلي اقتلاع كل ثوابت الأمة, التي تحفظ لها كيانها واستقلالها واستمرارها.(4)تطول القائمة اذا ما حاولت أن أحصي العناوين الخلافية الأخري, التي غاب عنها الإجماع الوطني, وتدلل علي المدي الذي بلغه انفراط العقد, واذا جاز لي أن أضرب أمثلة لتلك العناوين فإنني أذكر منها ما يلي:في الشأن الداخلي, نحن مختلفون حول استحقاقات الأمن القومي المصري وحول خطوات الإصلاح السياسي, وحول مشاركة التيار الإسلامي في الحياة السياسية, وحول بيع القطاع العام وبيع أراضي مصر للأجانب, وحول خصخصة الخدمات ومجانية التعليم, وحول الانحياز للمستثمرين والأغنياء علي حساب الفقراء.في الشأن الخارجي, نحن مختلفون حول الموقف من القضية الفلسطينية, وإقامة السلام المجاني مع إسرائيل, وحول التحالف مع الولايات المتحدة, وحول الموقف من الاحتلال الأمريكي للعراق, والصمت المصري علي ما يجري في السودان, والضغوط الشرسة التي تمارس ضده مما يؤثر في الأمن القومي المصري, كما أننا مختلفون حول القطيعة المصرية غير المبررة لإيران التي تجاوزت25 عاما, وأضعفت من موقف الطرفين في مواجهة التحديات المشتركة بينهما.أختم بتلخيص تقرير موجع يسجل اتساع رقعة الانفراط تلقيته من رام الله, قبل أيام قليلة, يصور المدي الذي وصلت إليه علاقات بعض الأنظمة مع إسرائيل بعد40 عاما من النكسة, وفيه إشارة إلي حديث مع وزير الدفاع عمير بيريتس بثته القناة العاشرة للتليفزيون الإسرائيلي, ذكر فيه أنه حين يلتقي مسئولين عربا يشعر بالدهشة من حجم امتعاضهم من وجود حركة حماس في الحكم, هذا المعني رددته وزيرة الخارجية تسيبي ليفني في تصريحات نقلتها الإذاعة العبرية في(5/18) قالت فيها إن جميع الرسائل التي تتلقاها إسرائيل من الحكومات العربية تؤكد أن الزعماء العرب معنيون أكثر من إسرائيل بغياب حركة حماس بأسرع ما يمكن عن دائرة الفعل السياسي الفلسطيني, وأضافت ما نصه: كلهم يعيبون علينا وعلي الإدارة الأمريكية السماح بمشاركة حماس في الانتخابات الأخيرة, ويتساءلون لماذا نكون نحن أكثر مرونة في التعامل مع الحركات الإسلامية من الأنظمة العربية التي تفعل المستحيل لمنعها من المشاركة في العملية السياسية, في هذا السياق أشاد شمعون بيريز القائم بأعمال رئيس الحكومة, في مقابلة مع إذاعة الجيش الإسرائيلي, بالدور العربي الرسمي في الحفاظ علي حصار الفلسطينيين, وأضاف: الأنظمة العربية مثلنا معنية بعدم نجاح تجربة حماس في الحكم.الطريف أن معلقا إسرائيليا بارزا, هو عنان كريستال, شدد علي أن إسرائيل معنية بإسقاط حكومة حماس دون أن تبدي أي مرونة في موقفها السياسي, وقال: لو قام العرب وأبومازن بتقديم رءوس حركة حماس علي طبق من فضة لإسرائيل, فإن أولمرت لن يقدم علي أي خطوة في مجال تسوية القضية الفلسطينية. لقد أصبح الجرح أكبر من الجريح!
حينما تمر أربعين عاما علي النكسة, يحق لنا أن نتساءل عن مواقع أقدامنا الآن, ذلك أن النكسة في حينها كانت وصفا لهزيمة الجيش والنظام, إلا أن الهزيمة حين تتجاوز تلك الحدود, بحيث تضرب ركائز الأمة وتؤدي إلي تفكيك عراها, فإنها تستحق وصفا آخر.(1)قبل عدة أسابيع( في4/3) كتبت مقالة نشرت تحت عنوان عقدنا الذي انفرط, تحدثت فيها عن الشرخ الذي أصاب العلاقات الإسلامية ـ المسيحية, في أثناء الجدل الذي ثار خلال مناقشات التعديلات الدستورية, خصوصا ما تعلق بالمادة الثانية المتعلقة بمرجعية مبادئ الشريعة الإسلامية في النظام السياسي المصري, وهي المقالة التي تعددت الردود عليها سواء في الأهرام أو في الصحف الأخري, لكنني لم أجد فيها ما أقنعني بأن الشرخ غير موجود, وهو الانطباع الذي لايزال مستمرا عندي للأسف, بل إنني أزعم الآن أن الشرخ قد اتسع, وأن التوتر الذي تحدثت عنه في بداية شهر ابريل الماضي لا تزداد مؤشراته فحسب, وانما أيضا تتعقد ظروفه, حتي قلت في إحدي الندوات التي أثير فيها موضوع حقوق الأقباط إننا تراجعنا كثيرا الي الوراء في التعامل مع ذلك الملف, لأن الكلام عن الحقوق يصبح واردا اذا كان هناك توافق علي ضرورة العيش المشترك, حيث لا محل للبحث في حقوق وواجبات الشركاء في أي مشروع قبل الاتفاق علي إقامة المشاركة أولا, وفي الوضع الراهن في مصر فإن الرغبة في العيش المشترك باتت محل تحفظ من جانب البعض لأسباب يطول شرحها, لذلك فمن الأهمية بمكان أن يتم التوافق أولا علي تلك الرغبة, مع ما تستصحبه من ثقة واحترام متبادل يقدر لكل طرف حجمه وقدره ويحفظ له مكانته, وبعد ذلك يصبح الكلام عن الواجبات والحقوق واردا.ليس ذلك موضوعي علي أي حال, لكني أوردت النموذج, لا لكي ألفت النظر فحسب إلي أن قضية الوحدة الوطنية في مصر تراجعت أشواطا إلي الوراء, ولكن لكي أنبه إلي أن الانفراط الذي زعمته قبل أسابيع أوسع بكثير من مسألة العلاقات الإسلامية ـ المسيحية, وأن التراجع شمل عناوين أخري بنفس الدرجة من الأهمية, حيث تعددت الشروخ وبلغ التفكيك مداه, حتي لم يعد في مصر إجماع وطني علي أغلب القضايا الرئيسية, الأمر الذي حول البلد الواحد إلي مجموعة من الجزر المتنافر.(2)خذ مثلا ذلك الجدل البيزنطي حول انتماء مصر العربي, وهل هو مجرد انتماء ثقافي أم أنه عرقي وعنصري في الأساس, وهل القومية العربية المعبرة عن ذلك الانتماء شيء أصيل في مصر, أم أنها بدعة وخرافة جري تلفيقها وإطلاقها في المرحلة الناصرية, لتحقيق طموحات بذاتها أضرت بأكثر مما نفعت, فلا صار العرب موحدين ولا بقيت مصر علي مصريتها الخالصة, وبرغم أن المرجعية الإسلامية تقيس الانتماء العربي بمعيار اللغة وليس العنصر, وتعتبر كل من تمكن من الفصحي عربيا أصيلا( ثمة حديث نبوي بهذا المعني) أستغرب فتح ذلك الملف الآن, في حين تسعي قوي عدة لطمس هوية المنطقة وتقليص المحيط العربي فيها( الدستور العراقي الجديد نموذج لذلك, إذ نص علي أن الشعب العربي في العراق ـ وليس كل العراق ـ جزء من الأمة العربية), كما أن أفكارا عدة تطرح لإعادة تشكيل المنطقة التي يراد لها أن تنسي كونها عالما عربيا أو أمة عربية, لتنخرط في إطار جديد يستوعب إسرائيل, ويسمي بالشرق الأوسط الجديد أو الكبير.لا أستطيع أن أشكك في نيات كل الذين أعادوا فتح ملف عروبة مصر في الظروف الراهنة, لكنني لست واثقا من جدوي ذلك الحوار وفائدته, كما أنني لا أستطيع أن أعزله عن أجواء الاستقالة من العروبة أو إضعاف وشائجها, التي هبت رياحها علي المنطقة عقب الحقبة الناصرية, إما لمحو آثارها أو لتصفية الحساب معها, لكنني في الوقت ذاته لا أستطيع أن أحسن الظن بكل الذين روجوا لتلك الاستقالة, سواء من خلال تصفية فكرة القومية العربية والدعوة إلي الكفر بها, أو من خلال رفع شعار بلدنا أولا, ولا شأن لنا بأعباء الهم العربي, وأذهب في ذلك إلي أن الترجمة العملية لتسويق هذه الأفكار تتمثل في إضعاف كل دولة عربية علي حدة, وتسليم الفلسطينيين للإسرائيليين بالكامل, وتشجيع إسرائيل علي اجتياح العالم العربي وتركيعه, وإخضاع المنطقة كلها للهيمنة الأمريكية.هذه الاستقالة من العروبة المثيرة للجدل في مصر ـ التي لها صداها في أقطار عربية أخري ـ ليست كابوسا مؤرقا يلوح في الأفق, ولكن لها شواهدها القائمة علي أرض الواقع منذ عقدين من الزمان علي الأقل, بالتالي فليس فيها جديد, باستثناء أن البعض يسعي في الوقت الراهن لتأصيلها وإضفاء الشرعية عليها.سأضرب مثلا لتلك الاستقالة بعيدا عن السياسة والاقتصاد وينصب علي مسألة اللغة, التي أصبحت تجسد الكارثة العربية, مسجلة في ذلك تدهورا وانحطاطا غير مسبوقين في تاريخ الأمة, بل مسجلة درجة مخجلة من الشعور بالعار إزاء استخدام ليس فقط العربية الفصحي, وإنما أيضا العامية الراقية التي تعد ابنة شرعية للفصحي, حتي أصبحت مشكلتنا الآن ليس فقط أن ننقذ الفصحي من الغارة الخبيثة التي تشن عليها, وإنما أن ننقذ العامية من السوقية والابتذال, ومن أسف أن تلك العامية المبتذلة أصبحت لغة معتمدة في مختلف وسائل الإعلام, بل صارت مع الانجليزية, لغة إحدي القنوات التليفزيونية الجديدة في مصر, ويزيد الأمر غرابة أن تستخدم العامية في اعلانات المؤسسات الحكومية, التي لجأ بعضها إلي نشر إعلانات بالانجليزية في صحف عربية تخاطب المواطن العربي, ولا يقف الأمر عند ذلك الحد, وإنما وصلت عدوي الوباء إلي المجتمع المصري, الذي أصبح يشارك في هجران العربية وازدرائها, حتي أصبحت أمنية كل أب أن يلحق أبناءه بأي مدرسة تدرس الانجليزية أو الفرنسية, أو أي لغةغير العربية.(3)لم يكن الإسلام أفضل حظا من العروبة, إذ لاحقته بدوره دعوات الإلغاء والإضعاف, وبرغم أن هذه الدعوات ليست جديدة, وإنما هي إحدي ساحات المواجهة والصراع بين التيارين الإسلامي والعلماني, فإن أجواء الحديث عن التعديلات الدستورية التي شهدتها مصر في مستهل هذا العام وفرت ظرفا مواتيا لتجديد الدعوة, بجرأة غير مسبوقة, دفعت نفرا من المثقفين والمتعصبين إلي المطالبة بإلغاء كل مرجعية للإسلام أو وجود له في الدستور المصري, فضلا عن الحياة العامة بطبيعة الحال, من ثم فإن ما كان يقال بحذر من جانب البعض, وفي المنتديات والمجالس الخاصة من جانب آخرين, أصبح يتردد في العلن, ويصاغ في بيانات تنشرها الصحف وتجمع عليها توقيعات المثقفين, بل وتعقد لأجلها حوارات تليفزيونية تنفر المشاهدين من الانتماء الإسلامي, وتحرض المجتمع علي كل من يرفع صوته معبرا عن ذلك الانتماء, كل ذلك بدعوي مكافحة التطرف والإرهاب وقطع الطريق علي إقامة الدولة الدينية واحترام حقوق غير المسلمين, وقد حاولت في عدة كتابات نشرت حينذاك أن أنبه إلي مخاطر ذلك المنزلق, الذي يحاول إقناع الرأي العام بأن الإسلام هو المشكلة.خطورة هذه الرؤية تتمثل في ثلاثة أمور, أولها أنها تحدث شرخا عميقا في المجتمع المصري المتدين بطبيعته, وثانيها أنها تشكل أرضية مواتية لأصحاب الفكر المتطرف الذين يستخدمون أطروحاتها لإقناع الشباب برفض المجتمع والانقلاب عليه, بحجة أنه ضد الدين.أما الأمر الثالث فهو أن إضعاف التدين يسهل من مهمة رياح التغريب العاتية التي تتطلع إلي اقتلاع كل ثوابت الأمة, التي تحفظ لها كيانها واستقلالها واستمرارها.(4)تطول القائمة اذا ما حاولت أن أحصي العناوين الخلافية الأخري, التي غاب عنها الإجماع الوطني, وتدلل علي المدي الذي بلغه انفراط العقد, واذا جاز لي أن أضرب أمثلة لتلك العناوين فإنني أذكر منها ما يلي:في الشأن الداخلي, نحن مختلفون حول استحقاقات الأمن القومي المصري وحول خطوات الإصلاح السياسي, وحول مشاركة التيار الإسلامي في الحياة السياسية, وحول بيع القطاع العام وبيع أراضي مصر للأجانب, وحول خصخصة الخدمات ومجانية التعليم, وحول الانحياز للمستثمرين والأغنياء علي حساب الفقراء.في الشأن الخارجي, نحن مختلفون حول الموقف من القضية الفلسطينية, وإقامة السلام المجاني مع إسرائيل, وحول التحالف مع الولايات المتحدة, وحول الموقف من الاحتلال الأمريكي للعراق, والصمت المصري علي ما يجري في السودان, والضغوط الشرسة التي تمارس ضده مما يؤثر في الأمن القومي المصري, كما أننا مختلفون حول القطيعة المصرية غير المبررة لإيران التي تجاوزت25 عاما, وأضعفت من موقف الطرفين في مواجهة التحديات المشتركة بينهما.أختم بتلخيص تقرير موجع يسجل اتساع رقعة الانفراط تلقيته من رام الله, قبل أيام قليلة, يصور المدي الذي وصلت إليه علاقات بعض الأنظمة مع إسرائيل بعد40 عاما من النكسة, وفيه إشارة إلي حديث مع وزير الدفاع عمير بيريتس بثته القناة العاشرة للتليفزيون الإسرائيلي, ذكر فيه أنه حين يلتقي مسئولين عربا يشعر بالدهشة من حجم امتعاضهم من وجود حركة حماس في الحكم, هذا المعني رددته وزيرة الخارجية تسيبي ليفني في تصريحات نقلتها الإذاعة العبرية في(5/18) قالت فيها إن جميع الرسائل التي تتلقاها إسرائيل من الحكومات العربية تؤكد أن الزعماء العرب معنيون أكثر من إسرائيل بغياب حركة حماس بأسرع ما يمكن عن دائرة الفعل السياسي الفلسطيني, وأضافت ما نصه: كلهم يعيبون علينا وعلي الإدارة الأمريكية السماح بمشاركة حماس في الانتخابات الأخيرة, ويتساءلون لماذا نكون نحن أكثر مرونة في التعامل مع الحركات الإسلامية من الأنظمة العربية التي تفعل المستحيل لمنعها من المشاركة في العملية السياسية, في هذا السياق أشاد شمعون بيريز القائم بأعمال رئيس الحكومة, في مقابلة مع إذاعة الجيش الإسرائيلي, بالدور العربي الرسمي في الحفاظ علي حصار الفلسطينيين, وأضاف: الأنظمة العربية مثلنا معنية بعدم نجاح تجربة حماس في الحكم.الطريف أن معلقا إسرائيليا بارزا, هو عنان كريستال, شدد علي أن إسرائيل معنية بإسقاط حكومة حماس دون أن تبدي أي مرونة في موقفها السياسي, وقال: لو قام العرب وأبومازن بتقديم رءوس حركة حماس علي طبق من فضة لإسرائيل, فإن أولمرت لن يقدم علي أي خطوة في مجال تسوية القضية الفلسطينية. لقد أصبح الجرح أكبر من الجريح!
No comments:
Post a Comment