Monday, June 25, 2007

قبــل أن نفـاجـأ بـزلـزال جـديــد

قبــل أن نفـاجـأ بـزلـزال جـديــد
بقلم‏:‏ فهمـي هـويـــدي ـ أهرام الثلاثاء 26 / 6
إذا أردنا أن نخرج سالمين من الزلزال الذي شهدته غزة‏,‏ فينبغي أن ننحي الانفعال جانبا‏,‏ وأن نتخلص من الأوهام والأساطير التي راجت حول ما جري‏,‏ لأن الخطأ في التشخيص يمكن أن يرتب أخطاء في العلاج‏,‏ قد تستدعي زلزالا آخر لم يخطر علي البال‏.
‏‏(1)‏من مفارقات المشهد وسخريات الأقدار أن الزلزال فاجأ كل القريبين منه‏,‏ بينما لم يستغربه البعيدون عنه‏.‏ فقد أدلي الجنرال كيت دايتون مسئول الاتصال العسكري المقيم في تل أبيب بشهادة أمام لجنة الشرق الأوسط في الكونجرس الأمريكي‏,‏ في شهر مايو الماضي‏.‏ وتحدث فيها عن انفجار قريب للأوضاع في غزة‏,‏ وعن دور الإدارة الأمريكية في تعزيز وتسليح القوي الأمنية في مواجهة القوة التنفيذية التي أنشأتها حماس لضبط النظام في القطاع‏,‏ وهذا الذي قاله الجنرال دايتون لم يختلف كثيرا عما تضمنه التقرير السري الذي قدم إلي الأمين العام للأمم المتحدة من نائبه‏,‏ ومبعوثه إلي الشرق الأوسط الفارودي سوتو‏.‏ وقد تسرب محتوي التقرير إلي صحيفة الجارديان البريطانية التي نشرت بعض مقتطفاته في عدد‏6/20,‏ وهو ما فعلته أيضا صحيفة ها آرتس الإسرائيلية في عدد‏6/19,‏ وفيه قال صراحة إن الإدارة الأمريكية عملت منذ البداية‏,‏ بالتواطؤ مع بعض عناصر السلطة علي إسقاط الحكومة الفلسطينية التي تشكلت بعد الانتخابات التشريعية بأي ثمن‏,‏ حتي إذا كان الثمن حربا أهلية دامية‏.‏ وأضاف المبعوث الدولي أنه كان من الممكن تشكيل حكومة وحدة وطنية عقب الانتخابات‏,‏ لولا أن الولايات المتحدة دفعت الرباعية إلي وضع شروط مستحيلة للاعتراف بها‏,‏ فضلا عن أنها عارضت مبدأ تشكيل حكومة من ذلك القبيل‏.‏ وأشار الرجل إلي أنه خلال اجتماع اللجنة الرباعية الذي عقد قبل أسبوع من لقاء مكة‏,‏ حين كانت المواجهات علي أشدها بين حركتي فتح وحماس‏,‏ فإن المندوب الأمريكي في الرباعية قال مرتين في الاجتماع‏:‏ إنني أحب ذلك العنف‏,‏ لأنه يعني أن ثمة فلسطينيين يقاومون حكومة حماس‏.‏لا أريد أن أستطرد في عرض الشهادات المحايدة والوثائق التي سلطت الضوء علي العناصر الأساسية في خلفية ما جري في غزة‏,‏ إلا أنني أنبه مجددا إلي حقيقتين غيبهما خطابنا السياسي والإعلامي‏,‏ الأولي أن الأصابع الأمريكية التي تحركها المصالح الإسرائيلية‏,‏ سعت جاهدة إلي تفجير الوضع في غزة منذ ظهرت نتائج الانتخابات التشريعية في بدايات العام الماضي‏,‏ الحقيقة الثانية أن الحكومة التي تشكلت عقب الانتخابات كانت لها مصلحة في تهدئة الأوضاع في القطاع‏,‏ علي الأقل لكي تنجح في مهمتها‏,‏ لذلك فإنها عملت طوال الوقت علي إبطال مفعول محاولات التفجير التي تمثلت في استمرار إشاعة الفوضي والفلتان الأمني‏.
‏‏(2)‏الالتباس في قراءة وفهم ما جري قبل الأحداث استمر بعدها بنفس الوتيرة تحت عناوين عدة‏.‏ وكانت حكاية الإمارة الإسلامية في غزة من بين تلك العناوين‏.‏ ذلك أن القراءة الموضوعية والمتأنية لما حدث في القطاع تشير إلي أن المشهد حركته أجندة أمنية بامتياز‏,‏ ولم تكن وراءه أي أجندة سياسية‏,‏ علي العكس تماما من الأسطورة التي يروج لها الإعلام الآن‏.‏ ذلك أن خبرة‏15‏ شهرا أقنعت الحكومة بأنه طالما بقيت الأجهزة الأمنية خارجة عن السيطرة‏,‏ وتؤدي دورها في إثارة البلبلة والفوضي‏,‏ فإنها لن تستطيع أن تنجز شيئا علي الأرض‏,‏ وحين لم تسفر استقالة ثلاثة وزراء للداخلية لهذا السبب عن إحراز أي تقدم إيجابي يخدم التعاون بين تلك الأجهزة والحكومة‏,‏ فإن رئيسها السيد إسماعيل هنية قدم مشروعا من ثماني نقاط لإعادة هيكلة تلك الأجهزة‏,‏ واخضاعها لسلطة الحكومة الشرعية‏.‏ وحين كانت الاجتماعات مستمرة لبحث المشروع‏,‏ فإن اشتباكا وقع في منتصف الأسبوع الماضي في رفح بين مجموعتين‏.‏ إحداهما تمثل القوة التنفيذية التي شكلتها حماس‏,‏ والثانية من عناصر الأمن الوقائي‏.‏ وأدي الاشتباك إلي قتل أحد عناصر القوة التنفيذية‏,‏ واثنين من الأمن الوقائي‏.‏ وكان الظن أن الحادث سيمر شأن غيره من الحوادث المماثلة التي وقعت خلال الأيام الأخيرة‏,‏ وتم تجاوزها بصورة أو أخري‏.‏ غير أن الأمر اختلف هذه المرة‏.‏ فقد أعقب الاشتباك انتشار لقوات الأمن الوقائي في الشوارع‏.‏ استصحب وضع الحواجز واعتلاء المسلحين للأبراج السكنية‏,‏ والإقدام علي إعدام اثنين من حماس‏,‏ وخطف آخرين‏.‏ وهو تحرك أيقظ شكوكا كثيرة لدي الحكومة التي لم تجد مفرا من اتخاذ قرار بالسيطرة علي مقار الأجهزة الأمنية‏,‏ لإنهاء الفلتان والفوضي في القطاع‏.‏المفاجأة التي حدثت أن تلك الأجهزة انهارت بسرعة لم تخطر علي بال أحد‏,‏ في حين استسلم بعض قادتها‏,‏ وهرب البعض الآخر‏,‏ منهم عبر الحدود‏,‏ وغادر القطاع‏,‏ ومنهم من لجأ إلي بيت رئيس الوفد الأمني المصري ليحتمي به‏.‏ثمة تفاصيل مثيرة في هذا الشق لا مجال للخوض فيها الآن‏,‏ لكن أهم ما يستخلصه المرء من وقائع تلك المواجهة أن تحرك الحكومة لم يكن موجها لا ضد أبومازن‏,‏ ولا ضد السلطة‏,‏ بل ولا ضد حركة فتح ذاتها‏.‏ وإنما كان موجها فقط ضد مقار الأجهزة الأمنية‏,‏ بهدف اخضاعها لسلطة الحكومة‏,‏ بعدما فاض الكيل وفشلت المساعي طيلة‏15‏ شهرا في التفاهم حول الموضوع‏.‏المدهش في الأمر أن الإجراء الذي اتخذ قرئ علي نحو مختلف تماما‏,‏ وجري تسييسه علي الفور‏,‏ وكأن الأجهزة الأمنية هي السلطة والدولة‏.‏ فتحدث كثيرون عن انقلاب في القطاع‏,‏ وذهب آخرون إلي حد الادعاء بأن ما جري في غزة يمهد لإقامة إمارة إسلامية‏,‏ أطلق عليها البعض اسم حماستان‏,‏ وتطوع نفر من المحرضين فتساءلوا عن الخطر الذي يهدد أمن مصر من جراء إقامة إمارة إسلامية علي حدودها‏,‏ وصفها أحدهم بأنها قنبلة موقوتة‏,‏ إلي آخر تلك الأساطير المسرفة في الخيال‏,‏ حتي بدا مضحكا أن يجري تخويف المصريين وإثارة فزعهم من قنبلة موهومة في غزة بدعوي أن مصر لا تحتمل وضعا كهذا‏,‏ في حين أنها احتملت‏200‏ قنبلة نووية حقيقية قامت إسرائيل بتخزينها علي حدودها‏,‏ ولم ير أولئك المتحدثون في ذلك أمرا يثير القلق أو يهدد أمن مصر‏.
‏(3)‏في استعراض ما جري وفهمه علي نحو صحيح‏,‏ تقتضي الموضوعية أن نفرق بين عناصره الجوهرية والممارسات التفصيلية‏,‏ وفي تتبعي للمناقشات والمساجلات التي جرت حول الموضوع‏,‏ لاحظت أن التفاصيل الفرعية استحوذت علي الاهتمام بأكثر من المسائل الجوهرية والكلية‏.‏ وأحسب أن الدور الأمريكي والإسرائيلي في إذكاء الصراع وتفكيره من تلك القضايا الجوهرية‏,‏ كما أن الموقف الذي اتخذته الأجهزة الأمنية التي صممت لتكون فتحاوية وفصائلية‏,‏ قبل أن تكون فلسطينية‏,‏ وتحولت بمقتضاه إلي أداة لإثارة الفوضي‏,‏ واسقاط الحكومة‏.‏ هذا الموقف هو مسألة جوهرية أخري تحتاج إلي تحقيق وتحرير‏.‏ يسري ذلك أيضا علي الهدف من تحرك الحكومة‏,‏ وهل كان أمنيا كما ذكرت أم أنه كان سياسيا؟‏.‏وهل كان إجراء حكوميا لاخضاع الأجهزة الأمنية لسلطة الحكومة الشرعية‏,‏ أم أنه كان انقلابا من جانب الحكومة الشرعية؟ حتي مسألة الشرعية ذاتها تحتاج إلي تحرير من زاويتين‏,‏ إحداهما ما إذا كانت مظلة الشرعية تغطي الرئاسة المنتخبة فقط أم أنها تتسع للحكومة المنتخبة بدورها من جانب الشعب الفلسطيني‏.‏ أما الزاوية الثانية فتتمثل في مدي شرعية القرارات التي أصدرها الرئيس أبومازن بما في ذلك قراره بتعطيل ثلاث مواد من القانون الأساسي الفلسطيني‏.‏هذه الأمور المهمة لم تنل حقها من الاهتمام والتمحيص‏,‏ في حين أن كثيرين تعلقوا بالتفاصيل المتفرعة عن تلك الكليات‏.‏ وهي التفاصيل الحافلة بعناصر الإثارة وبالأخطاء علي الجانبين‏,‏ خصوصا إذا لاحظنا أن كل طرف أراد أن يشوه صورة الآخر لكسب المعركة الاعلامية التي صارت موضوع الصراع الراهن‏,‏ بعدما حسمت المعركة عسكريا في غزة‏,‏ حتي الآن علي الأقل‏.‏ فجري الحديث عن جرائم ارتكبها كل طرف بحق الآخر‏,‏ والتنديد بالممارسات الانفعالية والتصريحات التي اتسمت بالرعونة التي صدرت عن بعض عناصر حماس بوجه أخص‏.‏ حتي وجدنا أن بيان المجلس المركزي لمنظمة التحرير‏,‏ وبعض الأبواق الإعلامية‏,‏ تتحدث عن حوادث القتل وإنزال العلم الفلسطيني من فوق بعض المباني‏,‏ والاعتداء علي مقر أبومازن‏,‏ وبيت أبو عمار‏,‏ ونهب بعض الممتلكات إلي غير ذلك من الممارسات التي لا تستغرب في أجواء الاشتباك والفوضي‏,‏ ويظل من الصعب للغاية تحديد فاعلها أو محاسبته‏.
‏‏(4)‏الآن يشهر كل طرف اتهامه للطرف الآخر‏.‏ فثمة حديث من جانب بعض قيادات فتح عن انقلاب حدث في غزة ومؤامرة لاغتيال أبومازن‏.‏ وثمة أحاديث صادرة عن حماس تتحدث عن انقلاب في رام الله‏,‏ وعن وثائق تم العثور عليها تكشف عن دور خطير وتخريب قامت به الأجهزة الأمنية‏.‏ ولا سبيل إلي حسم هذا التراشق إلا بعرض الموضوع برمته علي لجنة تقصي الحقائق التي قررها مجلس وزراء الخارجية العرب‏,‏ ولم أجد سببا مقنعا لاعتراض بعض ممثلي السلطة عليها‏.‏المثير للانتباه أن ثمة جدلا واسعا حول الموضوع في الصحف الإسرائيلية‏,‏ التي تعددت فيها الآراء بصدده‏.‏ ولكننا لا نكاد نري هذا التعدد في ساحاتنا الإعلامية‏,‏ التي تتبني أغلبها رأيا واحدا ينطلق من الاتجاه إلي التصعيد والدعوة إلي قمع حماس‏,‏ وإقصائها من المشهد السياسي الفلسطيني‏.‏ واستئصالها بالكلية من غزة والضفة‏,‏ وهو الرأي الذي يتبناه المتطرفون في فتح‏,‏ ويشجعه الإسرائيليون‏,‏ ويصفق له الأمريكيون بشدة‏.‏ ولست أعرف إن كان ذلك ممكنا علي أرض الواقع أم لا‏,‏ ولا ما هو الثمن الذي يمكن أن يدفع لقاء ذلك‏,‏ ولا ما هي النتائج التي يمكن أن تترتب عليه‏.‏ وفي هذه النقطة الأخيرة استوقفني تعليق لمحرر الشئون العربية في صحيفة هاآرتس‏,‏ داني روبنشتاين‏,‏ قال فيه إن من يرفض الحديث مع حماس اليوم‏,‏ سيجد نفسه غدا في مواجهة تنظيم القاعدة‏,‏ وهي ملاحظة مهمة للغاية لها شواهدها علي أرض الواقع‏,‏ ذلك أن القاعدة بدأت تتسلل إلي غزة والقطاع خلال العام الأخير‏,‏ ولم يحل دون انتشار تنظيمها سوي الوجود القوي لحماس في الشارع الفلسطيني‏,‏ وتقليص ذلك الوجود هو أثمن هدية تقدم إلي القاعدة‏,‏ التي ظهرت طلائعها في العراق‏,‏ ولبنان‏,‏ والمغرب‏,‏ والجزائر‏,‏ والأردن‏,‏ واليمن‏,‏ فهل نحن وداعون ومستعدون لذلك الاحتمال‏.‏أما كلمتي الأخيرة فهي تتمثل في السؤال التالي‏:‏ لماذا لم يعد هناك ذكر لاتفاق مكة‏,‏ ولماذا لا يتم تفعيله والاحتكام إليه فيما جري‏,‏ لعلنا نجد فيه مخرجا وطوق نجاة من آثار الزلزال الحالي‏,‏ والآخر القادم‏.‏

No comments: