قبــل أن نفـاجـأ بـزلـزال جـديــد
بقلم: فهمـي هـويـــدي ـ أهرام الثلاثاء 26 / 6
إذا أردنا أن نخرج سالمين من الزلزال الذي شهدته غزة, فينبغي أن ننحي الانفعال جانبا, وأن نتخلص من الأوهام والأساطير التي راجت حول ما جري, لأن الخطأ في التشخيص يمكن أن يرتب أخطاء في العلاج, قد تستدعي زلزالا آخر لم يخطر علي البال.
إذا أردنا أن نخرج سالمين من الزلزال الذي شهدته غزة, فينبغي أن ننحي الانفعال جانبا, وأن نتخلص من الأوهام والأساطير التي راجت حول ما جري, لأن الخطأ في التشخيص يمكن أن يرتب أخطاء في العلاج, قد تستدعي زلزالا آخر لم يخطر علي البال.
(1)من مفارقات المشهد وسخريات الأقدار أن الزلزال فاجأ كل القريبين منه, بينما لم يستغربه البعيدون عنه. فقد أدلي الجنرال كيت دايتون مسئول الاتصال العسكري المقيم في تل أبيب بشهادة أمام لجنة الشرق الأوسط في الكونجرس الأمريكي, في شهر مايو الماضي. وتحدث فيها عن انفجار قريب للأوضاع في غزة, وعن دور الإدارة الأمريكية في تعزيز وتسليح القوي الأمنية في مواجهة القوة التنفيذية التي أنشأتها حماس لضبط النظام في القطاع, وهذا الذي قاله الجنرال دايتون لم يختلف كثيرا عما تضمنه التقرير السري الذي قدم إلي الأمين العام للأمم المتحدة من نائبه, ومبعوثه إلي الشرق الأوسط الفارودي سوتو. وقد تسرب محتوي التقرير إلي صحيفة الجارديان البريطانية التي نشرت بعض مقتطفاته في عدد6/20, وهو ما فعلته أيضا صحيفة ها آرتس الإسرائيلية في عدد6/19, وفيه قال صراحة إن الإدارة الأمريكية عملت منذ البداية, بالتواطؤ مع بعض عناصر السلطة علي إسقاط الحكومة الفلسطينية التي تشكلت بعد الانتخابات التشريعية بأي ثمن, حتي إذا كان الثمن حربا أهلية دامية. وأضاف المبعوث الدولي أنه كان من الممكن تشكيل حكومة وحدة وطنية عقب الانتخابات, لولا أن الولايات المتحدة دفعت الرباعية إلي وضع شروط مستحيلة للاعتراف بها, فضلا عن أنها عارضت مبدأ تشكيل حكومة من ذلك القبيل. وأشار الرجل إلي أنه خلال اجتماع اللجنة الرباعية الذي عقد قبل أسبوع من لقاء مكة, حين كانت المواجهات علي أشدها بين حركتي فتح وحماس, فإن المندوب الأمريكي في الرباعية قال مرتين في الاجتماع: إنني أحب ذلك العنف, لأنه يعني أن ثمة فلسطينيين يقاومون حكومة حماس.لا أريد أن أستطرد في عرض الشهادات المحايدة والوثائق التي سلطت الضوء علي العناصر الأساسية في خلفية ما جري في غزة, إلا أنني أنبه مجددا إلي حقيقتين غيبهما خطابنا السياسي والإعلامي, الأولي أن الأصابع الأمريكية التي تحركها المصالح الإسرائيلية, سعت جاهدة إلي تفجير الوضع في غزة منذ ظهرت نتائج الانتخابات التشريعية في بدايات العام الماضي, الحقيقة الثانية أن الحكومة التي تشكلت عقب الانتخابات كانت لها مصلحة في تهدئة الأوضاع في القطاع, علي الأقل لكي تنجح في مهمتها, لذلك فإنها عملت طوال الوقت علي إبطال مفعول محاولات التفجير التي تمثلت في استمرار إشاعة الفوضي والفلتان الأمني.
(2)الالتباس في قراءة وفهم ما جري قبل الأحداث استمر بعدها بنفس الوتيرة تحت عناوين عدة. وكانت حكاية الإمارة الإسلامية في غزة من بين تلك العناوين. ذلك أن القراءة الموضوعية والمتأنية لما حدث في القطاع تشير إلي أن المشهد حركته أجندة أمنية بامتياز, ولم تكن وراءه أي أجندة سياسية, علي العكس تماما من الأسطورة التي يروج لها الإعلام الآن. ذلك أن خبرة15 شهرا أقنعت الحكومة بأنه طالما بقيت الأجهزة الأمنية خارجة عن السيطرة, وتؤدي دورها في إثارة البلبلة والفوضي, فإنها لن تستطيع أن تنجز شيئا علي الأرض, وحين لم تسفر استقالة ثلاثة وزراء للداخلية لهذا السبب عن إحراز أي تقدم إيجابي يخدم التعاون بين تلك الأجهزة والحكومة, فإن رئيسها السيد إسماعيل هنية قدم مشروعا من ثماني نقاط لإعادة هيكلة تلك الأجهزة, واخضاعها لسلطة الحكومة الشرعية. وحين كانت الاجتماعات مستمرة لبحث المشروع, فإن اشتباكا وقع في منتصف الأسبوع الماضي في رفح بين مجموعتين. إحداهما تمثل القوة التنفيذية التي شكلتها حماس, والثانية من عناصر الأمن الوقائي. وأدي الاشتباك إلي قتل أحد عناصر القوة التنفيذية, واثنين من الأمن الوقائي. وكان الظن أن الحادث سيمر شأن غيره من الحوادث المماثلة التي وقعت خلال الأيام الأخيرة, وتم تجاوزها بصورة أو أخري. غير أن الأمر اختلف هذه المرة. فقد أعقب الاشتباك انتشار لقوات الأمن الوقائي في الشوارع. استصحب وضع الحواجز واعتلاء المسلحين للأبراج السكنية, والإقدام علي إعدام اثنين من حماس, وخطف آخرين. وهو تحرك أيقظ شكوكا كثيرة لدي الحكومة التي لم تجد مفرا من اتخاذ قرار بالسيطرة علي مقار الأجهزة الأمنية, لإنهاء الفلتان والفوضي في القطاع.المفاجأة التي حدثت أن تلك الأجهزة انهارت بسرعة لم تخطر علي بال أحد, في حين استسلم بعض قادتها, وهرب البعض الآخر, منهم عبر الحدود, وغادر القطاع, ومنهم من لجأ إلي بيت رئيس الوفد الأمني المصري ليحتمي به.ثمة تفاصيل مثيرة في هذا الشق لا مجال للخوض فيها الآن, لكن أهم ما يستخلصه المرء من وقائع تلك المواجهة أن تحرك الحكومة لم يكن موجها لا ضد أبومازن, ولا ضد السلطة, بل ولا ضد حركة فتح ذاتها. وإنما كان موجها فقط ضد مقار الأجهزة الأمنية, بهدف اخضاعها لسلطة الحكومة, بعدما فاض الكيل وفشلت المساعي طيلة15 شهرا في التفاهم حول الموضوع.المدهش في الأمر أن الإجراء الذي اتخذ قرئ علي نحو مختلف تماما, وجري تسييسه علي الفور, وكأن الأجهزة الأمنية هي السلطة والدولة. فتحدث كثيرون عن انقلاب في القطاع, وذهب آخرون إلي حد الادعاء بأن ما جري في غزة يمهد لإقامة إمارة إسلامية, أطلق عليها البعض اسم حماستان, وتطوع نفر من المحرضين فتساءلوا عن الخطر الذي يهدد أمن مصر من جراء إقامة إمارة إسلامية علي حدودها, وصفها أحدهم بأنها قنبلة موقوتة, إلي آخر تلك الأساطير المسرفة في الخيال, حتي بدا مضحكا أن يجري تخويف المصريين وإثارة فزعهم من قنبلة موهومة في غزة بدعوي أن مصر لا تحتمل وضعا كهذا, في حين أنها احتملت200 قنبلة نووية حقيقية قامت إسرائيل بتخزينها علي حدودها, ولم ير أولئك المتحدثون في ذلك أمرا يثير القلق أو يهدد أمن مصر.
(3)في استعراض ما جري وفهمه علي نحو صحيح, تقتضي الموضوعية أن نفرق بين عناصره الجوهرية والممارسات التفصيلية, وفي تتبعي للمناقشات والمساجلات التي جرت حول الموضوع, لاحظت أن التفاصيل الفرعية استحوذت علي الاهتمام بأكثر من المسائل الجوهرية والكلية. وأحسب أن الدور الأمريكي والإسرائيلي في إذكاء الصراع وتفكيره من تلك القضايا الجوهرية, كما أن الموقف الذي اتخذته الأجهزة الأمنية التي صممت لتكون فتحاوية وفصائلية, قبل أن تكون فلسطينية, وتحولت بمقتضاه إلي أداة لإثارة الفوضي, واسقاط الحكومة. هذا الموقف هو مسألة جوهرية أخري تحتاج إلي تحقيق وتحرير. يسري ذلك أيضا علي الهدف من تحرك الحكومة, وهل كان أمنيا كما ذكرت أم أنه كان سياسيا؟.وهل كان إجراء حكوميا لاخضاع الأجهزة الأمنية لسلطة الحكومة الشرعية, أم أنه كان انقلابا من جانب الحكومة الشرعية؟ حتي مسألة الشرعية ذاتها تحتاج إلي تحرير من زاويتين, إحداهما ما إذا كانت مظلة الشرعية تغطي الرئاسة المنتخبة فقط أم أنها تتسع للحكومة المنتخبة بدورها من جانب الشعب الفلسطيني. أما الزاوية الثانية فتتمثل في مدي شرعية القرارات التي أصدرها الرئيس أبومازن بما في ذلك قراره بتعطيل ثلاث مواد من القانون الأساسي الفلسطيني.هذه الأمور المهمة لم تنل حقها من الاهتمام والتمحيص, في حين أن كثيرين تعلقوا بالتفاصيل المتفرعة عن تلك الكليات. وهي التفاصيل الحافلة بعناصر الإثارة وبالأخطاء علي الجانبين, خصوصا إذا لاحظنا أن كل طرف أراد أن يشوه صورة الآخر لكسب المعركة الاعلامية التي صارت موضوع الصراع الراهن, بعدما حسمت المعركة عسكريا في غزة, حتي الآن علي الأقل. فجري الحديث عن جرائم ارتكبها كل طرف بحق الآخر, والتنديد بالممارسات الانفعالية والتصريحات التي اتسمت بالرعونة التي صدرت عن بعض عناصر حماس بوجه أخص. حتي وجدنا أن بيان المجلس المركزي لمنظمة التحرير, وبعض الأبواق الإعلامية, تتحدث عن حوادث القتل وإنزال العلم الفلسطيني من فوق بعض المباني, والاعتداء علي مقر أبومازن, وبيت أبو عمار, ونهب بعض الممتلكات إلي غير ذلك من الممارسات التي لا تستغرب في أجواء الاشتباك والفوضي, ويظل من الصعب للغاية تحديد فاعلها أو محاسبته.
(4)الآن يشهر كل طرف اتهامه للطرف الآخر. فثمة حديث من جانب بعض قيادات فتح عن انقلاب حدث في غزة ومؤامرة لاغتيال أبومازن. وثمة أحاديث صادرة عن حماس تتحدث عن انقلاب في رام الله, وعن وثائق تم العثور عليها تكشف عن دور خطير وتخريب قامت به الأجهزة الأمنية. ولا سبيل إلي حسم هذا التراشق إلا بعرض الموضوع برمته علي لجنة تقصي الحقائق التي قررها مجلس وزراء الخارجية العرب, ولم أجد سببا مقنعا لاعتراض بعض ممثلي السلطة عليها.المثير للانتباه أن ثمة جدلا واسعا حول الموضوع في الصحف الإسرائيلية, التي تعددت فيها الآراء بصدده. ولكننا لا نكاد نري هذا التعدد في ساحاتنا الإعلامية, التي تتبني أغلبها رأيا واحدا ينطلق من الاتجاه إلي التصعيد والدعوة إلي قمع حماس, وإقصائها من المشهد السياسي الفلسطيني. واستئصالها بالكلية من غزة والضفة, وهو الرأي الذي يتبناه المتطرفون في فتح, ويشجعه الإسرائيليون, ويصفق له الأمريكيون بشدة. ولست أعرف إن كان ذلك ممكنا علي أرض الواقع أم لا, ولا ما هو الثمن الذي يمكن أن يدفع لقاء ذلك, ولا ما هي النتائج التي يمكن أن تترتب عليه. وفي هذه النقطة الأخيرة استوقفني تعليق لمحرر الشئون العربية في صحيفة هاآرتس, داني روبنشتاين, قال فيه إن من يرفض الحديث مع حماس اليوم, سيجد نفسه غدا في مواجهة تنظيم القاعدة, وهي ملاحظة مهمة للغاية لها شواهدها علي أرض الواقع, ذلك أن القاعدة بدأت تتسلل إلي غزة والقطاع خلال العام الأخير, ولم يحل دون انتشار تنظيمها سوي الوجود القوي لحماس في الشارع الفلسطيني, وتقليص ذلك الوجود هو أثمن هدية تقدم إلي القاعدة, التي ظهرت طلائعها في العراق, ولبنان, والمغرب, والجزائر, والأردن, واليمن, فهل نحن وداعون ومستعدون لذلك الاحتمال.أما كلمتي الأخيرة فهي تتمثل في السؤال التالي: لماذا لم يعد هناك ذكر لاتفاق مكة, ولماذا لا يتم تفعيله والاحتكام إليه فيما جري, لعلنا نجد فيه مخرجا وطوق نجاة من آثار الزلزال الحالي, والآخر القادم.
No comments:
Post a Comment