إنهم يتلاعبون بالشرعية الفلسطينية
فهمي هويدي ـ الشرق الأوسـط : أربعاء 27 / 6
أما وقد أصبح الجميع يتحدثون عن الشرعية الفلسطينية، فإن ذلك يغدو مبرراً لتحرير المسألة وتقصي حقيقتها.. ذلك اننا تعلمنا من دراسة الفقه الدستوري أن للشرعية ركنين، أولهما قبول الأغلبية التي تعبِّر عن رأيها من خلال الانتخاب الحر، وثانيهما احترام الدستور والقانون. وبهذا المفهوم، فان الشرعية الفلسطينية تصبح حاصل جمع رئيس السلطة المنتخب، ورئيس الحكومة التي تمثل الاغلبية، والمجلس التشريعي المنتخب، وهو ما يعني أن اختزال الشرعية في رئاسة السلطة دون غيره يعد خطأ محضاً، وربما كان حقاً أريد به باطل. رئيس السلطة له شرعيته لا ريبَ، ولكنه يظل جزءاً من الشرعية وليس كلا لها. وحصر الشرعية فيه وحده، لسحب الشرعية عن الحكومة والمجلس التشريعي هو من قبيل التغليط والباطل الذي يُرَادُ الترويج له. بسبب من ذلك فإننا حين نتطرق الى المسألة الشرعية فينبغي ان يظل حاضراً في الأذهان ان لها ثلاثة أعمدة، وليس لواحد فيها أن يهدم أو يلغي شرعية العمودين الآخرين.
الركن الآخر في الشرعية المتمثل في احترام الدستور والقانون شابَهُ لبس كبير، ويتطلب وقفة أطولَ. لكن قبل أن أتحدث عن هذا الجانب ألفت الانتباه إلى مسألة شكلية ذات مغزى. ذلك ان الطريق التي تمت بها صياغة المراسيم الرئاسية التي صدرت تباعاً في الآونة الأخيرة تبعث على الدهشة حقاً. فرئيس السلطة صدق نفسه وتصرف كأنه رئيس حقيقي في دولة مستقلة، وليس مجرد موظف كبير في نظام خاضع للاحتلال. كما ان صياغة تلك المراسيم استخدمت لغة غامضة، اندثرت في أدبيات الخطاب السياسي والقانوني. من ناحية لأن الرئيس عباس في مراسيمه احال الى «الصلاحيات المخولة لنا». ولم يشر الى طبيعة تلك الصلاحيات ومرجعيتها، لسبب جوهري هو انه ليس في القانون الاساسي (الدستور) اية نصوص يمكن الاستناد إليها فيما ذهب إليه. وحتى مصطلح تحقيق المصلحة العامة لا قيمة له من الناحية القانونية، لأنه مطاط ولا حدود له، ثم انه يرهن مستقبل المجتمع لتقدير المسؤول ومزاجه الخاص. وكان ملاحظاً في صياغة تلك المراسيم، أنها استخدمت عبارة «رسمياً بما هو آت»، وتلك لغة تعبر عن انتفاخ لا مبرر له في قاموس الصياغة السياسية والوطنية، منذ اكثر من مائة عام في الأقل.
اذا انتقلنا من الشكل الى الموضوع، فان الاجراء الدستوري الوحيد الذي اتخذه رئيس السلطة الفلسطينية هو إقالة الحكومة، وهو الحق الذي مارسه طبقاً للمادة 45 من القانون الاساسي، أما كل ما تلا ذلك من مراسيم، فانها لا تستند إلى أية مرجعية دستورية أو قانونية. وفي ظل أي نظام قانوني وسلطة قضائية مستقلة، فان هذه المراسيم يمكن الطعن فيها وإبطال مفعولها. وحتى نكون أكثر دقة، فربما استثنينا مرسومه باعلان حالة الطوارئ، لأن ذلك من حقه دستورياً «عند وجود تهديد للأمن القومي بسبب حرب او غزو او عصيان مسلح او حدوث كارثة طبيعية»، هذا اذا افترضنا ان ما جرى في غزة يمثل تطوراً ينطبق عليه أحد تلك العناوين. ومع ذلك، فنص المادة 110 من الدستور تشترط ان تتحدد مدة الطوارئ التي يعلنها رئيس السلطة في ثلاثين يوماً، يجوز تمديدها ثلاثين يوماً أخرى بعد موافقة ثلثي اعضاء المجلس التشريعي (وهو ما يلتزم به الرئيس ابو مازن). (لقد نص المرسوم الذي اصدره رئيس السلطة في 14/6 على تشكيل حكومة مكلفة بتنفيذ أنظمة وتعليمات حالة الطوارئ)، وتزاول هذه الحكومة مهمتها بعد تأدية اليمين القانونية أمام رئيس السلطة الفلسطينية. وذلك كله لا أصل ولا سند له في الدستور أو القانون. وما أقدم عليه أبو مازن في هذا الصدد تصرف خارج القانون بإطلاق، لماذا؟
أولا: لأنه ليس من حق رئيس السلطة تشكيل حكومة جديدة من جانبه، وطبقاً للدستور، فان حق الرئيس في إقالة الحكومة لا يمنحه أية صلاحية لتشكيل حكومة جديدة من تلقاء نفسه، وانما يؤكد الدستور مسؤولية الحكومة المنتهية ولايتها في القيام بعملها لتسيير الاعمال التنفيذية، الى حين تشكيل حكومة جديدة، يمنحها المجلس التشريعي ثقته.
ثانيا: لأنه لا يوجد في الدستور او القانون الفلسطيني شيء يمكن تسميته بحكومة إنفاذ الطوارئ، وليست هناك اية اشارة الى ما سمي انظمة وتعليمات حالة الطوارئ، وانما هذه المسميات الجديدة من اختراع
«فقهاء السلطان» الذين يطلق عليهم في مصر «ترزية القوانين»، الذين يقومون بتفصيل النصوص القانونية على النحو الذي يستجيب للهوى السياسي، بصرف النظر عن الاصول والمبادئ الواجب الالتزام بها في التقنين. وللعلم، فان نص المادة 114 من القانون الاساسي ينص صراحة على إلغاء جميع الأحكام التي تنظم حالات الطوارئ المعمول بها في فلسطين قبل نفاذ القانون الاساسي، بما في ذلك جميع احكام انظمة الدفاع (الطوارئ) الانتدابية لعام 1945.
ثالثاً: لانه في غياب اية مرجعية قانونية لما سمي أنظمة وتعليمات الطوارئ، فلا مفر من الاعتراف بان البديل في هذه الحالة هو أن يقوم رئيس السلطة باصدارها، ثم تقوم الحكومة المذكورة بتنفيذها، وهو ما يثير سؤالاً آخر هو: هل يعقل من الناحية الدستورية والقانونية ان يقوم رئيس السلطة الوطنية باصدار أنظمة تكلف الحكومة باصدارها، أم أن الحكومة التي تشكل وفقاً لأحكام بإصدار الأنظمة واللوائح، وهو ما تقضي به المادة 70 من الدستور.
رابعاً: لأن ابتكار صلاحيات دستورية اضافية لرئيس السلطة الفلسطينية، من خلال مرسوم رئاسي بتشكيل حكومة بمسمى إنفاذ أحكام الطوارئ، يعد مخالفاً لاحكام نص المادة 38 من القانون الاساسي، التي اكدت الصلاحيات الدستورية الحصرية لرئيس السلطة الوطنية، حين نصت على انه: يمارس رئيس السلطة الوطنية مهامه التنفيذية على الوجه المبين في هذا القانون.
لا يفوتنا في هذا الصدد ان نذكر ان ابتكار صلاحيات دستورية اضافية لرئيس السلطة الوطنية من خلال المرسوم المذكور، وعلى نحو مخالف لأحكام ونصوص القانون الاساسي يعد مخالفاً لجوهر ومضمون القسم الدستوري لرئيس السلطة، الذي ألزم نفسه بمقتضاه باحترام النظام الدستوري والقانوني. وفي ذلك الوقت، فإن نص الدستور على أن رئيس الوزراء وأعضاء حكومته يرددون ذلك القسم، يعني ان اية حكومة جديدة تشكل بخلاف الأصول الدستورية المتفق عليها تكون قد خرقت القانون الاساسي الفلسطيني واعتدت عليه في لحظة اداء القسم.
ذلك كله في كفة، والمرسوم الذي اصدره ابو مازن لاحقا في (15/6) بتعليق بعض احكام الدستور في كفة أخرى، ذلك ان اي معنيٍّ بالشأن القانوني أو حتى بالعمل السياسي الرشيد حين يطلع على ذلك المرسوم، سوف يدرك على الفور انه يمثل سابقة هي الاخطر في نوعها بتاريخ العمل التشريعي في عهد السلطة الوطنية، ذلك انه كفيل بان يؤدي إلى انهيار النظام الدستوري وإهدار قيمة القانون في فلسطين. ولعلها المرة الاولى التي ستوثق فيها الجريدة الرسمية (الوقائع الفلسطينية) من خلال المرسوم المذكور ـ وللأجيال القادمة، ان رئيس السلطة الوطنية سجل انعطافاً خطيراً في مسيرة التجربة الديمقراطية التي قدرها الجميع في فلسطين، فتجرأ على القانون الاساسي، وهو التشريع الأسمى، بما يحمل في طياته من قيم ومبادئ وأحكام دستورية سامية، ومن ثم رسم طريق النهاية لمستقبل الديمقراطية والحكم الصالح في فلسطين.
ولان ديباجة المرسوم اشارت الى احكام الباب السابع من القانون الاساسي، التي نصت على انه: لا يجوز حل المجلس التشريعي الفلسطيني أو تعطيله خلال فترة حالة الطوارئ او تعطيل احكام هذا الباب، فأغلب الظن أن فقهاء السلطان سوغوا هذه الخطوة بواحدة من الحيل التي يجيدونها. ذلك انه اذا كان النص الدستوري المشار اليه يقول انه لا يجوز تعليق أحكام الباب السابع خلال فترة الطوارئ، فان مفهوم مخالفة النص يعني انه يجوز تعليق جميع ابواب القانون الاساسي باستثناء احكام الباب السابع، وهو ذات المنطق الذي روج له بعض ترزية القوانين ذاتهم، الذين أفتوا بأنه إذا كان نص الدستور يقضي بأنه لا يجوز حل المجلس التشريعي الفلسطيني خلال فترة الطوارئ، فإن مفهوم المخالفة يعني انه يجوز حل المجلس التشريعي في الظروف والاحوال العادية!
ان السؤال المهم الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو: مَنْ الذي أعطى رئيس السلطة الوطنية الصلاحية الدستورية التي تسمح له بأن يعلق مواد القانون الأساسي، علماً بأنه ليس في نصوص الدستور ما يخوله ذلك الحق من أي باب، كما ان صلاحياته المذكورة في الدستور واردة على سبيل الحصر، وليست بينها ثغرة يمكن النفاذ منها للانقلاب على الدستور على النحو الذي تم.
خطورة هذه الخطوة التي تسمح لرئيس السلطة بان يعلق بعض مواد الدستور، انها تفتح الباب واسعاً لتعليق مواد اخرى، الأمر الذي يفقده قيمته واحترامه، ويحوله في نهاية المطاف الى لعبة يمكن العبث بها في اي وقت، وتلك من آيات انهيار النظام الدستوري والقانوني، بل من علامات الانقلاب على الدستور، لانه اذا كانت يد رئيس السلطة ملتزمة بأية مرجعية أو إطار قانوني، فان الامر كله يصبح مرهوناً بارادته وحساباته، فضلاً عن انه يغلق تماماً باب الحديث عن الشرعية.
ذلك كله أمر غريب ومدهش لا ريب، لكن الأشد غرابة منه ان تستقبل تلك الخطى الموغلة في العدوان على الدستور والقانون، بحفاوة من جانب الاغلبية الساحقة من الديمقراطيات الغربية، الامر الذي يكشف لنا عن وجه آخر في السياسة الدولية، شديد القبح والكآبة، إذ نرى في هذا الوجه المبادئ والتضحية بها، في مقابل المصالح والمنافع. ونرى فيه حماساً شديداً لإهدار قيمة القانون والدستور والاطاحة بهما، ومن ثم العبث بالشرعية طالما أنها تنتهي بحصار المقاومة وضربها، وتعزيز موقف اسرائيل واستعلائها ـ وا اسفاه.
No comments:
Post a Comment